- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم المقدّسة
الفصل
الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور. 14
الفصل
الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 15
الفصل
الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 19
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين : 21
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 25
3 ـ بشارة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته. 26
الفصل
الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام. 27
الفصل
الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه الجواد عليهماالسلام. 28
الشيعة وإمامة الجواد
عليهالسلام. 29
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي... 33
زواج الإمام الجواد
عليهالسلام. 34
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم. 35
نصوص الإمام الجواد
عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام. 36
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام. 39
الفصل
الأوّل : المسيرة الرسالية
لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام
الهادي (ع) . 41
عقبات وأخطار أمام
عملية التغيير الشاملة. 42
مضاعفات الانحراف
بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. 42
انهيار الدولة الإسلامية
ومضاعفاته. 43
المهامّ الرساليّة
للأئمّة الطاهرين. 45
موقف أهل البيت
عليهمالسلام من انحراف الحكّام. 46
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة. 46
مراحل الحركة الرسالية
للائمّة الراشدين عليهمالسلام. 47
موقع الإمام الهادي
عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة. 48
الفصل
الثاني : عصر الإمام علي
بن محمّد الهادي عليهالسلام. 49
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي... 50
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير. 52
موقف الإمام الهادي
عليهالسلام من مسألة خلق القرآن. 54
إخبار الإمام الهادي
عليهالسلام بموت الواثق. 54
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي... 57
الإمام في طريقه
إلى سامراء. 61
الإمام عليهالسلام في سامراء. 62
تفتيش دار الإمام
عليهالسلام. 65
اعتقال الإمام الهادي
عليهالسلام. 67
محاولة اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام. 68
دعاء الإمام عليهالسلام
على المتوكّل.. 69
المنتصر بالله
(247 ـ 248 هـ) 70
الفصل
الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 74
1 ـ الحالة السياسية
العامّة. 74
إنّ عواطف المسلمين
وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام. 79
الفصل
الأوّل : متطلّبات عصر
الإمام الهادي عليهالسلام. 82
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 89
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم. 89
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية. 90
3 ـ التحدّي العلمي
للسلطة وعلمائها 90
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة. 94
الفصل
الثاني : الإمام الهادي
عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها 95
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة. 100
الموقف من الغلاة
والفرق المنحرفة. 103
ظاهرة الزيارة ودورها
في التحصين العقائدي.. 104
أوّلاً
: الزيارة الجامعة الكبيرة 104
3 ـ الأُسس الفكريّة
للتشيّع. 105
وكلاء الإمام الهادي
عليهالسلام. 118
الفصل
الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود 120
تجهيزه وحضور الخاصّة
والعامّة لتشييعه. 122
انتشار خبر استشهاد
الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد 124
تاريخ استشهاده
عليهالسلام. 124
الفصل
الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه. 126
البحث
الأوّل : أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه. 126
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري : 127
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني : 127
4 ـ احمد بن إسحاق
بن عبد الله الأشعري القمّي : 128
5 ـ أحمد بن محمد
بن عيسى الأشعري القمّي : 128
6 ـ أيّوب بن نوح
بن درّاج : 128
10 ـ داود بن القاسم
الجعفري : 130
13 ـ عثمان بن سعيد
العمري السمّان : 132
14 ـ علي بن مهزيار
الأهوازي الدورقي : 133
15 ـ الفضل بن شاذان
النيشابوري : 133
16 ـ محمد بن أحمد
المحمودي : 134
17 ـ محمد بن الحسن
بن أبي الخطّاب الزيّات : 135
18 ـ محمد بن الفرج
الرخجي : 135
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي : 135
البحث الثاني : نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام. 136
4 ـ من أدعية الإمام
الهادي عليهالسلام. 145
5 ـ من تراثه التربوي
والأخلاقي. 146
اسم الكتاب : أعلام الهداية (ج11) الإمام
علي بن محمد الهادي عليهالسلام .
المؤلّف : لجنة التأليف .
الموضوع : كلام وتاريخ .
الناشر : مركز الطباعة والنشر للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام .
الطبعة الأولى : 1422 هـ ق .
الطبعة الثانية : 1425 هـ ق .
الطبعة الثالثة : 1427 هـ ق .
المطبعة : ليلى .
الكمية : 5000 .
شابك : -28-5688-964
حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
أهل البيت في القرآن الكريم
(إنّما
يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)
سورة الأحزاب / آية : 33
أهل البيت في السنّة النبوية
( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً )
( الصحاح والمسانيد )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى
، ثم الصلاة والسلام على مَن اختارهم هداةً لعباده ، لا سيّما خاتم الأنبياء وسيّد
الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلى آله الميامين النجباء .
لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري
العقل والإرادة ، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل ، وبالإرادة يختار
ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه .
وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له
على خلقه ، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم
الإنسان ما لم يعلم ، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به ، وعرّفه الغاية التي خلقه
من أجلها ، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها .
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة
معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها ، كما بيّن لنا عللها
وأسبابها من جهة ، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى .
قال تعالى :
(قُلْ
إنّ هُدى الله هو الهُدى)
(الأنعام (6) : 71) .
(والله
يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم)
(البقرة (2) : 213) .
(والله
يقول الحقّ وهو يهدي السبيل)
(الأحزاب (33) : 4) .
(ومَن
يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم) (آل
عمران (3) : 101) .
(قُلِ
اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس
(10) : 35) .
(وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ (34) : 6) .
(ومَن
أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله) (القصص (28) : 50) . فالله تعالى هو
مصدر الهداية .
وهدايته هي الهداية الحقيقية ، وهو الذي
يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم .
وهذه الحقائق يؤيّدها العلم ويدركها
العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم .
ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع
إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به ، وأسبغ عليه نعمة
التعرّف على طريق الكمال ، ومن هنا قال تعالى : (وما خلقتُ
الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)
(الذاريات
(51) : 56) .
وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون
المعرفة ، صارت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة
الكمال .
وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب
والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال ; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة
; والهوى الناشئ منهما ، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله
وسائر أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية ; كي تتمّ عليه الحجّة
، وتكمل نعمة الهداية ، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير
والسعادة ، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته .
ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية
أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي ، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله
لتولِّي مسؤولية هداية العباد ؛ وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء
الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة .
وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية
الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون ، ولم يترك الله عباده مهملين
دون حجّة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء ، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل
العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه ؛ لئلاّ يكون للناس على الله
حجّة ، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان
لكان أحدهما الحجّة ، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً : (إنّما أنت منذر
ولكلّ قومٍ هاد)
(الرعد
(13) : 7) .
ويتولّى أنبياء الله ورسله
وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها ، والتي تتلخّص في :
1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب
الرسالة الإلهية بصورة دقيقة .
وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام
لتلقّي الرسالة ، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه ، كما أفصح
بذلك الذكر الحكيم قائلاً : (الله
أعلم حيث يجعل رسالته)
(الأنعام (6) : 124) و(الله يجتبي من
رسله مَن يشاء)
(آل عمران (3) : 179) .
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية
ولمَن أُرسلوا إليه ، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (
الاستيعاب والإحاطة اللازمة ) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها ، و ( العصمة
) عن الخطأ والانحراف معاً ، قال تعالى : (كان
الناسُ أُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ
بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة
(2) : 213) .
3 ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية ،
وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة ،
وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً
عنواني التزكية والتعليم ، قال تعالى : (يزكّيهم
ويعلّمهم الكتابَ والحكمة)
(الجمعة
(62) : 2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان .
وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي
تتمتّع بكلّ عناصر الكمال ، كما قال تعالى : (لقد
كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)
(الأحزاب
(33) : 21) .
4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف
والضياع في الفترة المقرّرة لها ، وهذه المهمّة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية
والنفسية ، والتي تُسمّى بالعصمة .
5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية
وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية ؛ وذلك بتنفيذ
الأطروحة الربّانية ، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال
تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية ،
ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً ، وشجاعةً فائقةً ، وثباتاً كبيراً ، ومعرفةً تامةً
بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة
والتربية وسنن الحياة ، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية ،
هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من
كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة
وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها .
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم
المصطفون طريق الهداية الدامي ، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ ، وتحمّلوا في سبيل
أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب ، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية
كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته ، ولم يتراجعوا لحظة ،
ولم يتلكأوا طرفة عين .
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ ـ
على مدى العصور ـ برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحمّله الأمانة
الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها ، طالباً منه تحقيق أهدافها .
وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الطريق
الوعر خطوات مدهشة ، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات
التغييرية والرسالات الثورية ، وكانت حصيلة جهاده
وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي :
1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على
عناصر الديمومة والبقاء .
2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ
والانحراف .
3 ـ تكوين أُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً
، وبالرسول قائداً ، وبالشريعة قانوناً للحياة .
4 ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ
يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء .
5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة
الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولتحقيق أهداف الرسالة
بشكل كامل كان من الضروري :
أ ـ أن
تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر .
ب ـ أن
تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال ; على يد مربٍّ كفوء علمياً
ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته .
ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعداد الصفوة من أهل بيته ، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم ; لتسلّم مقاليد الحركة
النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة
الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين ، وتربية
للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها
وذخائرها على مرّ العصور ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ
عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقوله : ( إنّي تارك فيكم
الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى
يردا عليّ الحوض ) .
وكان أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم
خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده .
إنّ سيرة الأئمّة الاثنى عشر من أهل
البيت عليهمالسلام
تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودراسة
حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ
طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ الأئمة
المعصومون عليهمالسلام
يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ
للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة
والأمة جمعاء .
وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في
استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام
للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم ، فكانوا هم الأدلاّء
على الله وعلى مرضاته ، والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّته ،
والذائبين في الشوق إليه ، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود .
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر
على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام
الله تعالى ، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ ، حتى فازوا بلقاء
الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير .
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا
بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل ، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه
إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم ، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها
المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق ، عسى الله أن ينفع
بها إنّه وليّ التوفيق .
إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام الرسالية تبدأ
برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنتهي بخاتم
الأوصياء ، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار
الأرض بعدله .
ويختص هذا الكتاب بدراسة
حياة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام عاشر أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وهو المعصوم الثاني عشر من أعلام الهداية الذي جسّد الإسلام
العظيم في القول والعمل كآبائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ
الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك
وإخراجه إلى عالم النور ، لاسيّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر
الحكيم حفظه الله تعالى .
ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى
بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنّه حسبنا ونعم النصير
.
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم المقدّسة
الباب الأوّل : وفيه فصول :
الفصل الأول : الإمام الهادي عليهالسلام في سطور .
الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام الهادي عليهالسلام.
الفصل الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام الهادي عليهالسلام.
الفصل الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور
الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام هو عاشر أئمة أهل البيت عليهمالسلام الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
فمعدنه هو معدن الرسالة
والنبوّة وهو فرع هذا البيت النبوي الطاهر الذي جسّد
للإنسانية خطّ محمد خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجمع كل المكارم والمآثر الزاخرة بالعطاء والهداية الربّانية مؤثراً رضا الله
تعالى على كل شيء في الحياة .
ولد الإمام الهادي علي بن
محمد عليهماالسلام محاطاً بالعناية الإلهية .
فأبوه هو الإمام
المعصوم والمسدَّد من الله محمّد الجواد عليهالسلام
وأُمّه الطاهرة التقيّة سمانة المغربية .
ونشأ على مائدة القرآن المجيد وخلق النبي
العظيم المتجسّد في أبيه الكريم خير تجسيد .
لقد بدت عليه آيات الذكاء الخارق والنبوغ
المبكّر الذي كان ينبئ عن الرعاية الإلهية التي خُصّ بها هذا الإمام العظيم منذ
نعومة أظفاره .
وقد تقلّد منصب الإمامة
الإلهي بعد أبيه في الثامنة من عمره الشريف فكان مثالاً آخر للإمامة المبكّرة التي
أصبحت أوضح دليل على حقّانية خط أهل البيت الرسالي في دعوى الوصيّة والزعامة
الدينية والدنيوية للأمة الإسلامية خلافة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونيابة عنه في
كل مناصبه القيادية والرسالية .
وتنقسم حياة هذا الإمام
العظيم إلى حقبتين متميّزتين : أمضى الأولى منهما مع أبيه الجواد عليهالسلام
وهي أقلّ من عقد واحد .
بينما أمضى الثانية وهي
تزيد عن ثلاثة عقود ، عاصر خلالها ستّة من ملوك الدولة العبّاسية وهم : المعتصم
والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتز .
واستشهد في أيام حكم
المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين .
وقد عانى من ظلم العباسيين
كما عانى آباؤه الكرام حيث أحكموا قبضتهم على الحكم واتخذوا كل
وسيلة لإقصاء أهل البيت النبوي وإبعادهم عن الساحة السياسية والدينية ، وإن كلّفهم ذلك تصفيتهم جسديّاً كما فعل الرشيد مع الإمام
الكاظم
، والمأمون مع الإمام
الرضا ،
والمعتصم مع الإمام
الجواد عليهمالسلام .
وتميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بقربه من عصر الغيبة المرتقب ، فكان عليه أن يهيّئ الجماعة
الصالحة لاستقبال هذا العصر الجديد الذي لم يُعهد من قبل ، حيث لم يمارس الشيعة
حياتهم إلاّ في ظل الارتباط المباشر بالأئمة المعصومين خلال قرنين من الزمن .
ومن هنا كان دور الإمام
الهادي عليهالسلام في هذا المجال مهمّاً وتأسيسيّاً وصعباً بالرغم من كل
التصريحات التي كانت تتداول بين المسلمين عامّةً ، وبين شيعة أهل البيت خاصّةً حول غيبة
الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهمالسلام أي المهدي المنتظر الذي وعد الله
به الأمم .
وبالرغم من العزلة التي كانت قد فرضتها
السلطة العباسية على هذا الإمام حيث أحكمت الرقابة عليه في عاصمتها سامراء ولكنّ
الإمام كان يمارس دوره المطلوب ونشاطه التوجيهي بكل دقّة وحذر ، وكان يستعين بجهاز
الوكلاء الذي أسّسه الإمام الصادق عليهالسلام
وأحكم دعائمه أبوه الإمام الجواد عليهالسلام
وسعى من خلال هذا الجهاز المحكم أن يقدّم لشيعته أهمّ ما تحتاج إليه في ظرفها
العصيب .
وبهذا أخذ يتّجه بالخط
الشيعي أتباع أهل البيت عليهمالسلام نحو
الاستقلال الذي كان يتطلّبه عصر الغيبة الكبرى ،
فسعى الإمام علي الهادي عليهالسلام بكل جدّ في تربية العلماء والفقهاء إلى جانب رفده المسلمين
بالعطاء الفكري والديني ـ العقائدي والفقهي والأخلاقي .
ويمثّل لنا مسند الإمام الهادي عليهالسلام جملة من تراثه الذي وصل إلينا
بالرغم من قساوة الظروف التي عاشها هو ومَن بعده من الأئمة الأطهار عليهمالسلام .
فسلام عليه يوم وُلد ويوم
تقلّد الإمامة وهو صبيّ لم يبلغ الحلم ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً .
الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام
تعطي كلمات العلماء والعظماء في الإمام
أبي الحسن علي بن محمّد الهادي عليهالسلام ،
صورة من إكبار المؤالف والمخالف له عليهالسلام ،
وإجماع المسلمين على جلالته وعظمته . وإليك
بعض الانطباعات التي وصلتنا من معاصريه ومَن تلاهم من العلماء والمؤرّخين عن هذه
الشخصية الفريدة .
1 ـ من كتاب للمتوكل
العباسي إلى الإمام الهادي عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد : إنّ
أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راعٍ لقرابتك ، موجب لحقّك ، مؤثر في الأمور فيك وفي
أهل بيتك لما فيه صلاح حالك وحالهم ، وتثبيت عِزّك وعِزّهم ، وإدخال الأمر عليك
وعليهم ، يبتغي بذلك رضى الله وأداء ما افترضه عليه فيك وفيهم .
ثمّ ختمه بقوله : وأمير
المؤمنين مشتاق إليك ، ويحب إحداث العهد بقربك والتيمّن بالنظر إلى ميمون طلعتك
المباركة (أصول الكافي : 1/502 ، الفصول المهمّة : 265 .)
.
2 ـ
قال يحيى بن هرثمة ـ الذي أرسله المتوكل لإشخاص الإمام عليهالسلام إلى سُرّ مَن رأى ـ :
فذهبت إلى المدينة فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً
على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً
إليهم ، ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا ، ثم فتّشت منزله فلم أجد
فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني ، وتولّيت خدمته بنفسي ، وأحسنت
عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد وبدأت بإسحاق الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال
لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمتوكل مَن
تعلم فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
خصمك يوم القيامة ، فقلت له : والله ما وقفت منه إلاّ على كل أمر جميل (1) .
3 ـ قال أبو عبد الله
الجنيدي : والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله
تعالى (2) .
4 ـ قال يزداد الطبيب : إذا
كان مخلوق يعلم الغيب فهو (3) .
5 ـ وقال ابن شهرآشوب :
وكان أطيب الناس بهجةً وأصدقهم لهجة وأملحهم من قريب وأكملهم من بعيد ، إذا صمت
علته هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء ، وهو من بيت الرسالة والإمامة ومقرّ
الوصية والخلافة ، شعبة من دوحة النبوّة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرسالة
مجتناة مجتباة (4) .
6 ـ قال كمال الدين محمد
بن طلحة الشافعي : وأمّا مناقبه : فمنها ما حلّ في الأذان
محل حلاها بأشنافها واكتنفته شغفاً به اكتناف اللآلئ الثمينة بأصدافها وشهد لأبي
الحسن أنّ نفسه موصوفة بنفائس أوصافها ، وأنّها نازلة من الدوحة النبوية في ذرى
أشرافها ، وشرفات أعرافها (5) .
7 ـ قال أحمد بن محمد بن
أبي بكر بن خلكان : أبو الحسن علي الهادي ابن محمد الجواد بن
علي الرضا عليهمالسلام ،
وهو أحد الأئمة الاثنى عشر ، وكان قد سعي به إلى المتوكل وقيل : إنّ في منزله
سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، وأوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه فوجّه إليه بعدّة
من الأتراك ليلاً فهجموا عليه في منزله على غفلة ، فوجدوه في بيت مغلق عليه ،
وعليه مدرعة من شعر ، وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنّم بآيات من
القرآن والوعد والوعيد ، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصى (وفيات الأعيان : 2/435 .) .
ــــــــــــــ
(1) تذكرة
الخواص : 202 .
(2) مآثر
الكبراء : 3/96 .
(3) بحار
الأنوار : 50/161 .
(4)
المناقب : 4 / 432 .
(5) مطالب السؤول : 88 .
8 ـ قال عبد الله بن أسعد
اليافعي : أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا
بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني ، عاش اربعين سنة ، وكان متعبداً
فقيهاً إماماً (مرآة الجنان : 2/160 .) .
9 ـ قال الحافظ عماد الدين
إسماعيل بن عمر بن كثير : وأمّا أبو الحسن علي الهادي فهو ابن محمد
الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين
العابدين بن الحسين الشهيد ابن علي بن أبي طالب ، أحد الأئمة الاثنى عشر ، وهو
والد الحسن بن علي العسكري ، وقد كان عابداً زاهداً ، نقله المتوكل إلى سامراء فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر ، ومات
بها في هذه السنة ـ سنة أربع وخمسين ومائتين ـ وقد ذُكر
للمتوكل أنّ بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس ، فبعث كبسة فوجدوه جالساً
مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف ، وهو على التراب ليس دونه حائل ، فأخذوه كذلك
فحملوه إلى المتوكل ... (البداية والنهاية : 11/15 .)
.
10 ـ قال محمد سراج الدين
الرفاعي : الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد ولقبه
النقي والعالم والفقيه والأمير والدليل والعسكري والنجيب ، ولد في المدينة سنة
اثنتي عشرة ومائتين من الهجرة ، وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي يوم الاثنين
لثلاث خلون من رجب سنة اربع وخمسين ومائتين وكان له خمسة أولاد : الإمام الحسن
العسكري ، والحسين ، ومحمد ، وجعفر ، وعائشة . فالحسن العسكري أعقب صاحب السرداب
الحجّة المنتظر ولي الله محمد المهدي (1) .
11 ـ قال أحمد بن حجر
الهيثمي : علي العسكري سُمّي بذلك لأنّه لمّا وجّه لإشخاصه من
المدينة النبوية إلى سُرّ مَن رأى وأسكنه بها ، كانت تسمّى العسكر فعرف بالعسكري ،
وكان وارث أبيه علماً وسخاءً (2) .
12 ـ قال أحمد بن يوسف بن
أحمد الدمشقي القرماني : الفصل التاسع في ذكر بيت الحلم والعلم
والأيادي ، الإمام علي بن محمد الهادي ، رضي الله عنه : ولد بالمدينة وأُمّه أُمّ
ولد ، وكنيته أبو الحسن ، ولقبه الهادي والمتوكل ، وكان اسمر ، نقش خاتمه (
الله ربّي وعصمتي من خلقه ) وأمّا مناقبه فنفيسة ، وأوصافه شريفة (3) .
13 ـ قال عبد الله
الشبراوي الشافعي : العاشر من الأئمة علي الهادي ، وُلد رضياللهعنه
بالمدينة في رجب سنة أربع عشرة ومائتين ، وكراماته كثيرة (الإتحاف بحب الأشراف : 176 .) .
14 ـ قال محمد أمين
السويدي البغدادي : وُلد بالمدينة ، وكنيته أبو الحسن ،
ولقبه الهادي ، وكان أسمر اللون ، نقش خاتمه (
الله ربّي وهو عصمتي من خلقه ) ومناقبه كثيرة (سبائك الذهب : 57 .) .
15 ـ قال مؤمن الشبلنجي :
ومناقبه رضياللهعنه كثيرة ، قال
في الصواعق : كان
ــــــــــــــ
(1) صحاح
الأخبار : 56 .
(2)
الصواعق المحرقة : 205 .
(3) أخبار
الدول : 117 .
أبو الحسن العسكري وارث أبيه علماً
وسخاءً ، وفي حياة الحيوان : سُمّي العسكري لأنّ المتوكّل لما كثرت السعاية فيه
عنده أحضره من المدينة وأقرّه بسُرّ مَن رأى (نور الابصار : 149 .) .
16 ـ قال محمد أمين غالب
الطويل : كان حسن الخلق حتى لم يكن أحد يشك في عصمته ، ولكن
خطر الإمامة أوهم الخليفة المتوكل بالخطر ، وقد وشي به إليه أنّه جمع في بيته
معدّات وأسلحة استعداداً للخروج عليه ، والادعاء بالخلافة ، فأرسل الخليفة حينئذٍ
عساكره التركية فهجموا ليلاً على بيته ، وقد اختار الخليفة العساكر التركية لسوء
ظنّه بالعرب المسلمين ؛ لأنّهم يعرفون مَن الأحق بالخلافة ، أمّا الأتراك فكانوا
حديثي عهد بالإسلامية ، وكانوا لا يعرفون غوامضها ، بل كانوا يناصرون العباسيين
الذين اعتادوا التزوّج من بنات الأتراك .
ذهبت العساكر التركية ليلاً إلى بيت
الإمام ، ورأوه جالساً على التراب ، ملتفّاً برداء صوف ، وهو يقرأ القرآن وبعد
تفتيش جميع زوايا بيته أحضروه إلى الخليفة وأخبروه بالقصّة ، وكيف أنّهم رأوا
الإمام زاهداً ، وأنّهم لم يجدوا عنده شيئاً من العدّة (تاريخ العلويين : 167 .) .
17 ـ قال السيد عبد الوهاب
البدري : وبقي الإمام الهادي يتنقّل في مجالس سامراء ، يواسي
ذوي المصاب ويساعد المحتاج ، ويرحم المساكين ، ويشفق على اليتيم ويدلف ليلاً إلى
الأرامل والثكالى وثوبه كلّه ( صرر ) فينثرها عليهم ( لا نريد منكم
جزاءً ولا شكوراً )
يذهب نهاره إلى عمله فيقف تحت الشمس يعمل في مزرعته حتى يتصبّب العرق من جسمه ،
وعندما يقبل الليل يتّجه إلى ربّه ساجداً راكعاً خاشعاً ليس بين جبينه الوضاح وبين
الأرض سوى الرمل والحصى ، وأنّه يردّد دعاءه المشهور (
إلهي مسيء قد ورد ، وفقير قد قصد ، لا تخيب مسعاه وارحمه واغفر له خطأه )
(سيرة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 59 .) .
18 ـ قال خير الدين
الزركلي : أبو الحسن العسكري علي الملقّب بالهادي ابن محمد
الجواد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر ، الحسيني الطالبي ، عاشر الأئمة الاثنى عشر
، وأحد الأتقياء الصلحاء ، وُلد بالمدينة ، ووشي به إلى المتوكل العباسي فاستقدمه
إلى بغداد ، وأنزله في سامراء (الأعلام : 5/140 .) .
19 ـ قال دوايت م رونلدسن
بعد أن فصّل الحديث عنه عليهالسلام : قصده كثيرون للأخذ عنه من البلاد التي
يكثر فيها شيعة آل محمد ، وهي : العراق وإيران ومصر (عقيدة الشيعة : 215 .) .
20 ـ وقال فضل الله بن
روزبهان الشافعي : اللّهمّ صلِّ وسلّم على الإمام العاشر
مقتدى الحيّ والنادي سيّد الحاضر والبادي ، حارز نتيجة الوصاية والإمامة من
المبادي ، السيف الغاضب على رقبة كلّ مخالف معادي ، كهف الملهوفين في النوائب
والعوادي ، قاطع العطش من الأكباد الصوادي ، الشاهد بكمال فضله الأحباب والأعادي ،
ملجأ أوليائه بولائه يوم ينادي المنادي أبي الحسن عليّ النقي الهادي بن محمّد
الشهيد بكيد الأعداء ، المقبور بسرّ مَن رأى (وسيلة الخادم إلى المخدوم : صلوات الإمام الهادي عليهالسلام .) .
الفصل الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام
لقد تحلّى الإمام الهادي عليهالسلام بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه
الرسول الأعظم لتتميمها ، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا
الإحاطة بها ولا تصويرها ، ولكن هذا لا يمنع أن نشير إلى جملة من مكارم أخلاقه
التي تجلّت في صور من سلوكه .
وإليك بعض هذه المكارم التي
نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ .
كان عليهالسلام من أبسط الناس كفّاً ، وأنداهم
يداً ، وكان على غرار آبائه الذين أطعموا الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً
، وكانوا يطعمون الطعام حتى لا يبقى لأهلهم طعام ، ويكسونهم حتى لا يبقى لهم كسوة (صفة الصفوة : 2/98 .)
.
وقد روى المؤرّخون بوادر
كثيرة من برّ الإمام الهادي عليهالسلام وإحسانه إلى الفقراء وإكرامه البائسين ، نقتصر منها على ما يلي :
1 ـ وفد جماعة من أعلام
الشيعة على الإمام الهادي عليهالسلام وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وأحمد بن
إسحاق الأشعري ، وعلي بن جعفر الحمداني ، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ،
فالتفت عليهالسلام إلى
وكيله عمرو ، وقال له : ادفع له ثلاثين ألف دينار ، والى علي بن جعفر ثلاثين ألف
دينار ، كما أعطى وكيله مثل هذا المبلغ .
وعلّق ابن شهرآشوب على هذه
المكرمة العلوية بقوله : ( فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك
، وما سمعنا بمثل هذا العطاء ) (المناقب : 4/409 .) .
2 ـ اشترى
إسحاق الجلاب لأبي الحسن الهادي عليهالسلام
غنماً كثيرة يوم التروية ، فقسمها في أقاربه (مناقب آل أبي طالب : 4 / 443 .) .
3 ـ
وكان قد خرج من سامراء إلى قرية له ، فقصده رجل من الأعراب ، فلم يجده في منزله
فأخبره أهله بأنّه ذهب إلى ضيعة له ، فقصده ، ولمّا مثل عنده سأله الإمام عن حاجته
، فقال بنبرات خافتة : يا بن رسول الله ، أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين
بولاية جدّك علي بن أبي طالب ، وقد ركبني فادح ـ أي دين ـ أثقلني حمله ، ولم أرَ
مَن أقصده سواك .
فرقّ الإمام لحاله ، وأكبر ما توسّل به ،
وكان عليهالسلام في
ضائقة لا يجد ما يسعفه به ، فكتب عليهالسلام
ورقة بخطّه جاء فيها : أنّ للأعرابي ديناً عليَّ ، وعيّن مقداره
، وقال له : خذ هذه الورقة ، فإذا وصلت إلى سُرّ مَن رأى ، وحضر عندي جماعة
فطالبني بالدين الذي في الورقة ، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك ، ولا تخالفني فيما
أقول لك .
فأخذ الأعرابي الورقة ، ولمّا قفل الإمام
إلى سرّ مَن رأى حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن ، فجاء الأعرابي
فأبرز الورقة ، وطالب الإمام بتسديد دينه الذي في الورقة فجعل الإمام عليهالسلام يعتذر إليه ، والأعرابي يغلظ له
في القول ، ولما تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلى المتوكل فأخبروه بالأمر فأمر
بحمل ثلاثين ألف درهم إلى الإمام فحملت له ، ولما جاء الأعرابي قال له الإمام عليهالسلام : (
خذ هذا المال واقضِ منه دينك ، وانفق الباقي على عيالك وأهلك واعذرنا ... )
.
وأكبر الأعرابي ذلك ، وقال للإمام : إنّ
ديني يقصر على ثلث هذا المبلغ .
فأبى الإمام عليهالسلام
أن يستردّ منه من الثلاثين شيئاً ، فولّى الأعرابي وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل
رسالته (الإتحاف بحبّ الأشراف : 176 . والفصول المهمّة لابن الصباغ : 274 .
والصواعق المحرقة : 312 .)
.
لقد عزف الإمام
الهادي عليهالسلام
عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشةً زاهدة إلى أقصى حدّ ، لقد واظب على
العبادة والورع والزهد ، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة ، وآثر طاعة الله على
كل شيء ، وقد كان منزله في يثرب وسُرّ مَن رأى خالياً من كل أثاث ، فقد داهمت
منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة ،
وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سُرّ مَن رأى ، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق ،
وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى ، ليس بينه وبين الأرض فراش (أصول الكافي : 1/499 وعنه في الإرشاد : 2/302 ، 303 وعن الكليني في
إعلام الورى : 2/119 . والفصول المهمّة : 377 .)
.
وتجرّد الإمام العظيم من
الأنانية ، حتى ذكروا أنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله ، فقد روى عليّ
بن حمزة حيث قال : ( رأيت أبا
الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له : جُعلت فداك أين
الرجال ؟ فقال الإمام : يا علي قد عمل
بالمسحاة مَن هو خير منّي ومن أبي في أرضه
. قلت : مَن هو ؟ قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيّين والمرسلين
والأوصياء الصالحين ) (كتاب مَن لا يحضره الفقيه : 3 / 162 .)
.
واهتمّ
الإمام الهادي عليهالسلام اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم إلى
سواء السبيل ، وكان من بين مَن أرشدهم الإمام وهداهم : أبو
الحسن البصري المعروف بالملاح ، فقد كان واقفياً يقتصر على إمامة الإمام موسى بن
جعفر عليهماالسلام
ولا يعترف بإمامة أبنائه الطاهرين ، فالتقى به الإمام الهادي فقال له : (
إلى متى هذه النومة ؟ أما آن لك أن تنتبه منها ؟! )
. وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحقّ ، والرشاد (إعلام الورى : 2/123 عن كتاب الواحدة للعمي ، وعن الأعلام في بحار
الأنوار : 50/189 .)
.
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين :
وحذّر الإمام الهادي عليهالسلام
أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم ؛
لأنّهم مصدر غواية وضلال للناس ، فهم يظهرون التقشّف والزهد لإغراء البسطاء
والسذّج وغوايتهم.
فلقد شدّد الإمام الهادي عليهالسلام
في التحذير من الاختلاط بهم حتى روى الحسين بن أبي الخطاب قال : كنت
مع أبي الحسن الهادي عليهالسلام في
مسجد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري ، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند
الإمام عليهالسلام ،
وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه ، وأخذوا
بالتهليل ، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم : (
لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين ، ومخرّبو قواعد الدين ،
يتزهّدون لإراحة الأجسام ، ويتهجّدون لصيد الأنعام ، يتجرّعون عمراً حتى يديخوا
للايكاف (1) حمراً ، لا يهللون إلاّ لغرور الناس ،
ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس (2) ، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ ،
ويطرحونهم بإذلالهم في الجب ، أورادهم الرقص والتصدية ، وأذكارهم الترنّم والتغنية
، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء ، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء ، فمَن ذهب إلى زيارة
أحدهم حياً أو ميتاً ، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان ، ومَن أعان
واحداً منهم فكأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان ) .
فقال أحد أصحابه : وإن كان معترفاً
بحقوقكم ؟ .
فزجره الإمام وصاح به قائلاً : ( دع ذا عنك ، مَن اعترف بحقوقنا لم
يذهب في عقوقنا ، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية ، والصوفية كلّهم مخالفونا ،
وطريقتهم مغايرة لطريقتنا ، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأُمّة ، أُولئك الذين
يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون )
(3) .
ــــــــــــــ
(1) يديخوا
: أي يذلوها ويقهروها .
(2)
الدفناس : الغبيّ والأحمق ، كما في مجمع البحرين : 4/71 .
(3) حديقة الشيعة للأردبيلي :
602 ، 603 عن المرتضى الرازي في كتاب الفصول ، وابن حمزة في كتاب الهادي إلى
النجاة ، كلاهما عن الشيخ المفيد ، وعنه في روضات الجنّات : 3/134 .
وكان الإمام الهادي عليهالسلام يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي
بهم ويقدّمهم على بقية الناس ؛ لأنّهم مصدر النور في الأرض ، وكان من بين مَن
كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم ، وكان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبياً فأفحمه
وتغلّب عليه فسرّ الإمام عليهالسلام
بذلك ، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم ، وكان مجلسه مكتظّاً
بالعلويين والعباسيين ، فأجلسه الإمام على دست ، وأقبل عليه يحدّثه ، ويسأل عن
حاله سؤالاً حفياً ، وشقّ ذلك على حضّار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام ،
وقالوا له : كيف تقدّمه على سادات بني هاشم ؟ فقال لهم الإمام : ( إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله
تعالى فيهم : ( أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (آل عمران (3) : 23 .) أترضون بكتاب الله عزّ وجلّ حكماً ؟ )
فقالوا جميعاً : بلى يا ابن رسول الله (كذا ، والصحيح : ألا ترضون ، وإلاّ فالجواب بنعم
وليس ببلى .) .
وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه
قائلاً : أليس الله قال : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ـ إلى قوله ـ : وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (المجادلة (58) : 11 .)
فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن
إلاّ أن يرفع على مَن ليس بمؤمن ، أخبروني عنه قال تعالى : ( يرفع الله
الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات) أو قال : يرفع الله الذين
أُوتوا شرف النسب درجات ؟! أو ليس قال الله :
( ...
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ... )
(الزمر (35)
: 9 .)
.
فكيف تنكرون رفعي
لهذا لما رفعه الله ، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علّمه إيّاها لأشرف
من كل شرف في النسب .
وسكت الحاضرون ، فقد ردّ عليهم الإمام
ببالغ حجّته ، إلاّ أنّ بعض العبّاسيين انبرى قائلاً : يا ابن رسول الله لقد شرّفت
هذا علينا ، وقصرتنا عمّن ليس له نسب كنسبنا ، وما زال منذ أول الإسلام يقدّم
الأفضل في الشرف على مَن دونه .
وهذا منطق رخيص فإنّ الإسلام لا يخضع بموازينه إلاّ للقيم الصحيحة التي لم يعِها
هذا العباسي ، وقد ردّ عليه الإمام عليهالسلام قائلاً : سبحان
الله ! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي ، والعباس هاشمي ، أو ليس عبد الله بن
عباس كان يخدم عمر بن الخطاب ، وهو هاشمي أبو الخلفاء ، وعمر عدوي ، وما بال عمر
أدخل البعداء من قريش في الشورى ، ولم يدخل العباس ؟! فإن كان رفعاً لمَن ليس
بهاشمي على هاشمي منكراً ، فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن
عباس بخدمته لعمر ، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز
(الاحتجاج للطبرسي : 2 / 259 .)
.
إنّ الإقبال على الله والإنابة إليه
وإحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل
البيت عليهمالسلام .
أمّا الإمام الهادي عليهالسلام فلم يرَ الناس
في عصره مثله في عبادته وتقواه
وشدّة تحرّجه في الدين ، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتى بها ، وكان يقرأ في
الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأوّل سورة الحديد إلى قوله تعالى : ( انّه عليم بذات
الصدور )
وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات (وسائل الشيعة : 4/750 .)
.
وقد ذكرت بوادر كثيرة من
استجابة دعاء الإمام عليهالسلام عند الله كان منها :
1 ـ ما رواه المنصوري عن
عمّ أبيه ، قال : قصدت الإمام عليّاً الهادي ، فقلت له :
يا سيّدي إنّ هذا الرجل ـ يعني المتوكّل ـ قد اطرحني ، وقطع رزقي ، وملّني وما
أُتّهم به في ذلك هو علمه بملازمتي بك ، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند
المتوكّل ، فقال عليهالسلام : تُكفى إن شاء الله ، ولما
صار الليل طرقته رسل المتوكل فخفّ معهم مسرعاً إليه ، فلما انتهى إلى باب القصر
رأى الفتح واقفاً على الباب فاستقبله وجعل يوبّخه على تأخيره ثم أدخله على
المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً : يا أبا موسى تنشغل عنّا ، وتنسانا
؟! أي شيء لك عندي ؟ وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه ، فأمر المتوكّل
بها وبضعفها له ، وخرج الرجل مسروراً .
وانصرف الرجل فتبعه الفتح فأسرع إليه
قائلاً : لست أشكّ أنّك التمست منه ـ أي من الإمام ـ الدعاء ، فالتمس لي منه
الدعاء .
ومضى ميمّماً وجهه نحو الإمام عليهالسلام فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه قال
عليهالسلام له
: يا أبا موسى هذا وجه الرضا
.
فقال الرجل بخضوع : ببركتك يا سيّدي ،
ولكن قالوا لي : إنّك ما مضيت إليه ولا سألته .
فأجابه الإمام ببسمات قائلاً : إنّ الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ
في المهمات إلاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه
الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا .
وفطن الرجل إلى أنّ الإمام قد دعا له
بظهر الغيب ، وتذكّر ما سأله الفتح فقال : يا سيّدي إنّ الفتح يلتمس منك الدعاء .
فلم يستجب الإمام له وقال : إنّ الفتح يوالينا بظاهره ، ويجانبنا
بباطنه ، الدعاء إنّما يدعى له إذا أخلص في طاعة الله ، واعترف برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبحقّنا أهل البيت (أمالي الطوسي : 285 ح 555 وعنه في بحار الأنوار : 50/127 وفي المناقب :
4/442 .) .
2 ـ روي أنّ عليّ بن جعفر
كان من وكلاء الإمام عليهالسلام فسعي به إلى المتوكّل فحبسه ، وبقي في ظلمات
السجون مدّة من الزمن ، وقد ضاق به الأمر فتكلّم مع بعض عملاء السلطة في إطلاق
سراحه ، وقد ضمن أن يعطيه عوض ذلك ثلاثة آلاف دينار ، فأسرع إلى عبيد الله وهو من
المقرّبين عند المتوكّل ، وطلب منه التوسّط في شأن عليّ بن جعفر ، فاستجاب له ،
وعرض الأمر على المتوكل ، فأنكر عليه ذلك وقال له : لو شككت فيك لقلت : إنّك رافضي
، هذا وكيل أبي الحسن الهادي وأنا على قتله عازم .
وندم عبيد الله على التوسّط في شأنه ،
وأخبر صاحبه بالأمر ، فبادر إلى عليّ بن جعفر وعرّفه أنّ المتوكّل عازم على قتله
ولا سبيل إلى إطلاق سراحه ، فضاق الأمر بعليّ بن جعفر ، فكتب رسالة إلى الإمام جاء
فيها : ( يا سيّدي الله الله فيَّ ، فقد خفت أن أرتاب ، فوقّع الإمام على رسالته :
( أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد
الله فيك ) ، وأصبح المتوكّل محموماً دنفاً ، وازدادت به الحمّى
فأمر بإطلاق جميع المساجين ، وأمر بإطلاق سراح علي بن جعفر بالخصوص ، وقال لعبيد
الله : لِمَ لَمْ تعرض عليَّ اسمه ؟ فقال : لا أعود إلى ذكره أبداً ، فأمره بأن
يخلّي عنه ، وأن يلتمس منه أن يجعله في حلّ ممّا ارتكبه منه ، وأطلق سراحه ، ثم
نزح إلى مكّة فأقام بها بأمر من الإمام ) (1) .
هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من
استجابة دعاء الإمام ، ومن المؤكّد أنّ استجابة الدعاء ليس من عمل الإنسان وصنعه ،
وإنّما هو بيد الله تعالى فهو الذي يستجيب دعاء مَن يشاء من عباده ، وممّا لا شبهة
فيه أنّ لأئمّة أهل البيت عليهمالسلام
منزلة كريمة عنده تعالى ؛ لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الإخلاص ، وأطاعوه حقّ
طاعته وقد خصّهم تعالى باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي
يستجاب فيها الدعاء (2) .
ــــــــــــــ
(1) رجال
الكشي : 606 ح 1129 وعنه في بحار الأنوار : 50/183 .
(2) راجع حياة الإمام علي
الهادي عليهالسلام : 42 ـ 62 .
الباب الثاني : فيه فصول :
الفصل الأوّل : نشأة الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثالث : الإمام الهادي في ظلِّ أبيه عليهماالسلام .
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام
هو أبو
الحسن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد
الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب عليهمالسلام وهو العاشر من
أئمة أهل البيت عليهمالسلام .
أُمّه أُمّ ولد
يقال لها سمانة المغربية (1)
وعُرفت بأُمّ الفضل (2)
.
وُلد عليهالسلام للنصف من ذي الحجّة أو ثاني رجب
سنة اثنتي عشرة أو أربع عشرة ومائتين (3)
.
وكانت ولادته عليهالسلام في قرية ( صريا ) التي تبعد عن
المدينة ثلاثة أميال (4)
.
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 298 .
(2) مناقب
آل أبي طالب : 4 / 433 ، وعنه في بحار الأنوار : 50 / 114 .
(3) أصول
الكافي : 1 / 497 ، والإرشاد : 368 ، والمصباح : 523 .
(4) مناقب آل أبي طالب : 4 /
433 ، وثلاثة أميال تعادل خمسة كيلومترات .
3 ـ بشارة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته
وبشرّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بولادته في حديث طويل حول الأئمة عليهمالسلام
بقوله : ( ... وإنّ الله ركّب
في صلبه ـ إشارة إلى الإمام
الجواد عليهالسلام
ـ نطفة لا باغية ولا طاغية ، بارّة مباركة
، طيّبة طاهرة ، سمّاها عنده علي بن محمد فألبسها السكينة والوقار ، وأودعها
العلوم ، وكل سرّ مكتوم ، من كفّيه ، وفي صدره شيء أنبأه به ، وحذّره من عدوّه ...
) (1)
.
يُكنّى
الإمام عليهالسلام بأبي الحسن ، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا عليهماالسلام
يقال له أبو الحسن الثالث .
أمّا ألقابه فهي : الهادي
والنقيّ وهما أشهر ألقابه ، والمرتضى ، والفتّاح ، والناصح ، والمتوكّل ، وقد منع
شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العباسي كان يُلقّب به (2) .
وفي المناقب ذكر الألقاب
التالية : النجيب ، الهادي ، المرتضى ، النقي ، العالم ،
الفقيه ، الأمين ، المؤتَمن ، الطيّب ، العسكري ، وقد عرف هو وابنه بالعسكريين عليهماالسلام (3) .
ــــــــــــــ
(1) عيون أخبار الرضا عليهالسلام : 1 / 62 ، ح 29 .
(2) كشف الغمّة
: 2 / 374 .
(3) المناقب : 4 / 432 .
الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام
يمكن تقسيم حياة الإمام الهادي
عليهالسلام التي ناهزت الأربعين سنة إلى مراحل متعدّدة بلحاظ طبيعة مواقفه وطبيعة
الظروف التي كانت تحيط به .
غير أنّ التقسيم الثنائي يتواءم والمنهج
الذي اتّبعناه في دراسة حياة الأئمة عليهمالسلام ،
والذي يرتكز على تنوّع مسؤولياتهم وأدوارهم بحسب الظروف والملابسات السياسية
والاجتماعية التي كانت تحيط بكل واحد منهم ووحدة الهدف الذي يعدّ جامعاً مشتركاً
لكل مواقفهم عليهمالسلام
والذي يتمثّل في صيانة الشريعة من التحريف وحفظ الأمة الإسلامية من الانحراف عن
عقيدتها ومبادئها وصيانة دولة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
التردّي ما أمكن والتمهيد لاستلام زمام الحكم حينما لا يتنافى مع القيم التي شُرّع
الحكم من أجل تطبيقها وصيانتها .
والمرحلة الأولى من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام تتمثّل في الحقبة الزمنية التي عاشها في
ظلال إمامة أبيه الجواد عليهالسلام وهي
بين (212 هـ) إلى (220 هـ) ويبلغ أقصاها ثمان سنوات
تقريباً .
وقد عاصر فيها كلاًّ من : المأمون
والمعتصم العباسيين .
والمرحلة الثانية تتمثّل
في الفترة الزمنية بين تولّيه عليهالسلام
لمنصب الإمامة في نهاية سنة (220 هـ) والى حين استشهاده عليهالسلام في سنة (254 هـ) وهي أربع وثلاثون سنة تقريباً .
وقد عاصر في هذه الفترة
ستة من ملوك بني العباس ، وهم على الترتيب :
1 ـ المعتصم (218 ـ 227 هـ) .
2 ـ الواثق (227 ـ 232 هـ) .
3 ـ المتوكّل (232 ـ 247 هـ) .
4 ـ المنتصر (247 ـ 248 هـ) .
5 ـ المستعين (248 ـ 252 هـ) .
6 ـ المعتز (252 ـ 255 هـ) .
وسوف نتابع المرحلة الأولى
من حياة هذا الإمام العظيم في الفصل الثالث من الباب الثاني ، ونقف
عند أهم الأحداث التي ترتبط به في فترة حياته في ظل أبيه عليهالسلام .
وأمّا المرحلة الثانية من
حياته المباركة فسوف ندرس ظروفها ونقف عند ملامحها ومتطلّباتها خلال الأبواب
الثلاثة الأخيرة .
الفصل الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه
الجواد عليهماالسلام
لقد تقلّد الإمام محمد الجواد عليهالسلام الزعامة الدينية والمرجعية
الفكرية والروحية للشيعة بعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام سنة (202 هـ) (1) .
وكان عمره الشريف حوالى سبع سنوات وكان
مع حداثته يدبّر أمر الرضا عليهالسلام
بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم لا يخالف عليه أحد منهم (2) .
وقال صفوان بن يحيى : قلت للرضا عليهالسلام : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله
لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاماً فقد وهب الله وأقرَّ عيوننا فلا أرانا
الله يومك فإذا كان كون فإلى مَن ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليهالسلام وهو نائم بين يديه .
فقلت : جُعلت فداك هو ابن ثلاث سنين ! (3)
فقال له أبو الحسن عليهالسلام : إنّ
الله بعث عيسى بن مريم قائماً بشريعته وهو في دون السنّ التي يقوم فيها أبو جعفر
على شريعتنا (4) .
وعاش بعد أبيه تسع
عشرة سنة إلاّ خمساً وعشرين يوماً (5) وهي مدّة إمامته عليهالسلام .
ــــــــــــــ
(1) إثبات
الوصية : 184 .
(2) إثبات
الوصية : 185 .
(3) إثبات
الوصية : 185 و186 .
(4) إثبات
الوصية : 185 و186 .
(5) الكافي : 1 / 572 ، ح 12 .
الشيعة وإمامة
الجواد عليهالسلام
بعد التحاق الإمام الرضا عليهالسلام بالرفيق الأعلى ، كان عمر الإمام
الجواد عليهالسلام سبع
سنوات وهذه الإمامة المبكّرة كانت أول ظاهرة ملفتة للنظر عند الشيعة أنفسهم فضلاً
عن غيرهم .
واحتار بعض رموز الشيعة فضلاً عن غيرهم
بالرغم من التمهيد لهذه الظاهرة من قِبل الإمام الرضا عليهالسلام قبل إشخاصه إلى خراسان وبعده .
من هنا اجتمع جملة من كبار
الشيعة في بيت أحدهم يتداولون في أمر الإمامة ، وكان من بين هؤلاء المجتمعين ، الريّان
بن الصلت ، ويونس ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن الحجاج ،
فجعلوا يبكون ، فقال لهم يونس : دعوا البكاء
حتى يكبر هذا الصبي ـ أي الإمام الجواد عليهالسلام ـ فردّ عليه الريان بن الصلت قائلاً :
( إن كان أمر من الله جلّ وعلا ، فابن
يومين مثل ابن مائة سنة ، وإن لم يكن من عند الله فلو عمَّر الواحد من الناس خمسة
آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه ، وهذا ممّا ينبغي أن ينظر
فيه ... ) (دلائل الإمامة : 205 .) .
ويتّضح من النص السابق تأكيد الريّان على
مفهوم الإمامة باعتبارها منصباً إلهياً كالنبوّة من حيث الاختيار والانتخاب لهذا
المنصب .
فإنّه بيد الله سبحانه ، قال تعالى : (الله أعلم حيث
يجعل رسالته)
وليس للناس فيها أمر واختيار .
عاصر الإمام الجواد عليهالسلام من خلفاء بني العباس المأمون
(198 ـ 218 هـ) والمعتصم (218 ـ 227 هـ) ، وكان المأمون يتظاهر بالتودّد للإمام
الجواد عليهالسلام ،
وزوّجه ابنته أم الفضل ، ومن قبل قد صاهر المأمون الإمام الرضا عليهالسلام وولاّه عهده وقرّب العلويين (تاريخ الإسلام : 2 / 66 ـ 67 للدكتور حسن إبراهيم
حسن .) .
أمّا حكم المعتصم فكان حكماً استبدادياً
مقروناً بشيء من العطف وحسن التدبير ، وقد وصفه المسعودي (مروج الذهب : 3 / 476 .)
بحسن السيرة واستقامة الطريقة .
وقد اعتمد الخلفاء العباسيون الأوائل في
إنشاء حكومتهم واستمرارها على الفرس دون العرب وأسندوا إليهم المناصب المدنيّة
والعسكرية ، ممّا أدّى إلى سيادة الفرس في مختلف الميادين وضمور دور العرب في
الدولة العباسية ومؤسّساتها المختلفة ، وأثمرت هذه الظاهرة التنافس بين العرب
والفرس ، حتى جاء المعتصم ـ وكانت أُمّه تركيّة ـ فاعتمد على العنصر التركي
واتّخذهم حرساً له ، وأسند إليهم مناصب الدولة وقلّدهم ولاية الأقاليم البعيدة عن
مركز الخلافة وأخرج العرب من ديوان العطاء وأحلّ محلّهم الترك فحقد العرب والفرس
عليهم جميعاً .
ولم يقتصر الصراع على ما كان بين العرب
والفرس والترك بل تعدّاه إلى قيام المنافسة بين العنصر العربي نفسه ، فاشتعلت
نيران العصبية بين عرب الشمال المضريين ، وعرب الجنوب اليمنيين (تاريخ الإسلام : 395 .)
.
وهذا يوضح لنا شدّة الصراع
داخل الأسرة الحاكمة نفسها .
فكان شعب الدولة العباسية
في نهاية العصر الأوّل يتكوّن من :
1 ـ العرب ( المضريين واليمنيين ) .
2 ـ الفرس ( الخراسانيين ) الذين ساعدوا
العباسيين في إنشاء حكومتهم .
3 ـ الترك ، الذين آلت إليهم إدارة
الدولة .
4 ـ أهل الذمّة ( أهل الكتاب ) وهم :
اليهود والنصارى .
وكانت الطوائف الدينية منفصلة بعضها عن
بعض تمام الانفصال ، وكان لا يجوز للمسيحي أن يتهوّد ولا لليهودي أن يتنصّر ،
واقتصر تغيير الدين على الدخول في الإسلام ، وكان الرقيق يكوّنون طبقة كبيرة من
طبقات المجتمع الإسلامي ، وكانت سمرقند تُعدّ من أكبر أسواق الرقيق ؛ إذ كان أهلها
يتخذون ذلك صناعة لهم يعيشون منها .
وكان لاتساع رقعة الدولة
العباسية ، ووفرة ثرواتها ، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها
الشرق من قبل حتى لقد غدا الناس جميعاً من الخليفة إلى العامة
طلاّباً للعلم أو على الأقلّ أنصاراً للأدب ، وكان
الناس في عهد هذه الدولة يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان
ليعودوا إلى بلادهم وهم يحملون أصنافاً من العلم ، ثم يصنّفون ما
بذلوه من جهد متصل بمصنّفات هي أشبه شيء بدوائر المعارف ، والتي كان لها أكبر
الفضل في إيصال هذه العلوم إلينا بصورة لم تكن متوقّعة من قبل (تاريخ الإسلام : 2 / 321 ـ 323 .) .
هذا في
الشرق الإسلامي ، وأمّا
في الغرب فقد نافست قرطبة بغداد والبصرة والكوفة ودمشق
والفسطاط فأصبحت حاضرة الأندلس حتى جذبت مساجدها الأوربيين الذين وفدوا لارتشاف
العلم من مناهله والتزوّد من الثقافة الإسلامية ، ومن ثم ظهرت فيها طائفة من
العلماء والشعراء والأُدباء والفلاسفة والمترجمين والفقهاء وغيرهم .
ولم يقتصر اهتمام العلماء المسلمين على العلوم النقلية مثل علم التفسير
، والقراءات وعلم الحديث والفقه والكلام ، بل
شمل اهتمامهم العلوم العقلية ، كالفلسفة ، والهندسة ، وعلم النجوم ، والطب ،
والكيمياء ، وغيرها .
وفي العصر العباسي الأوّل
اشتغل الناس بالعلوم الدينية وظهر المتكلّمون
وتكلّم الناس في مسألة خلق القرآن ، وتدخّل المأمون
في ذلك ، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته ؛ ولهذا عاب الناس عليه
تدخّله في الأمور الدينية كما عابوا عليه تفضيل علي بن أبي طالب عليهالسلام على سائر الخلفاء (تاريخ الإسلام : 2 / 321 ـ 323 .) .
وفي هذا العصر ظهر صنفان
من العلماء :
الصنف الأول : هم
الذين كان يغلب على ثقافتهم النقل والاستيعاب ويسمون أهل علم .
والصنف الثاني : هم
الذين كان يغلب على ثقافتهم الابتداع والاستنباط ويسمون أهل عقل (تاريخ الإسلام : 2 / 324 .) .
كما نشطت في هذا العصر
أيضاً ، في ميدان الفقه مدرستان : مدرسة أهل الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق .
كانت تولية العهد إلى أكثر من شخص واحد
عاملاً مهمّاً في اختلال الوضع الأمني داخل الدولة الإسلامية نتيجة التنازع
والصراع على السلطة بين ولاة العهد ؛ لأنّ أحدهما كان يرى أن يولّي العهد ابنه
بدلاً عن أخيه الذي سبق أن عهد إليه أبوه بالولاية كما
تجلّى ذلك بوضوح في عهد الأمين والمأمون (مروج الذهب : 4 / 350 ـ 353 .) .
وقد كان الأمين شديد البطش لكنّه كان
عاجز الرأي ضعيف التدبير وتجلّى ضعف تدبيره في الاضطرابات التي نشأت نتيجة صراعه مع المأمون على السلطة ، والتي استمرت من سنة (93 ـ 98هـ)
حيث تمكّن أعوان المأمون من قتل محمد الأمين والاستيلاء على بغداد ، ومن ثمّ تفرّد
المأمون في إدارة الحكم وعزل قوّاد وولاة أخيه الأمين ، وأبدلهم بأنصاره وأعوانه
الذين مكّنوه من الانتصار على الأمين .
وفي عهد المأمون قد
حدثت عدّة ثورات وحركات مسلّحة تمكّن منها جيش الدولة ،
وأعاد الأمصار التي حصلت فيها تلك الثورات وانفصلت عن الدولة إلى الخضوع إلى سلطان
الخليفة ، وكان بعد استقرار الوضع واستتباب السيطرة للمأمون أن قام بغزو بلاد
الروم عام (217 هـ) (تاريخ الطبري ، تاريخ الأُمم والملوك ، أحداث السنين (199 ـ 217 هـ) .) .
ويصوّر أحد شعراء العصر العباسي الأوّل ـ من أهل بغداد وهو يُعرف بعلي ابن أبي طالب الأعمى ـ
الحالة السياسية والاجتماعية في هذه الفترة من زمن الدولة العباسية فيما أنشده
بقوله :
أضاع الخلافة غِشُّ الوزير |
|
وفِسقُ الإمام ورأي المشير |
وما ذاك إلاّ طريق الغرور |
|
وشرّ المسالك طُرقُ الغرور |
فعال الخليفة أعجوبة |
|
وأعجب منه فعال الوزير |
وأعجب من ذا وذا أنّنا |
|
نبايع للطفل فينا الصغير |
ومَن ليس يُحسن مسح انفه |
|
ولم يخل من متنه حجرُ ظير |
وما ذاك ، إلاّ بباغٍ وغاو |
|
يريدان نقض الكتاب المنير |
وهذان لولا انقلاب الزمان |
|
أفي العير هذان أم في النفير |
ولكنّها فتن كالجبا |
|
ل نرتع فيها بصنع الحقير (1) |
مروج الذهب
: 3 / 397 .
ولمّا قُتل الأمين حُمل رأسه إلى خراسان
إلى المأمون فأمر بنصب الرأس في صحن الدار على خشبة ، وأعطى الجند ، وأمر كل مَن
قبض رزقه أن يلعنه ، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس ، فقبض بعض العجم عطاءه فقيل له
: العن هذا الرأس فقال : لعن الله هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا
من أُمّهاتهم ، فقيل له : لعنت أمير المؤمنين ! بحيث يسمع المأمون منه فتبسّم
وتغافل ، وأمر بحطّ الرأس وردّه إلى العراق (مروج الذهب : 3 / 414 .) .
وجابه حكم المأمون تحدّيات عديدة وخطيرة
كادت أن تسقط دولته وأهم الأحداث التي كانت أيام
حكومته هي :
1 ـ ثورة ابن طباطبا (هو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب .) سنة
(199 هـ) بقيادة أبي السرايا .
وهي من أعظم الثورات
الشعبية التي حدثت في عصر الإمام الجواد عليهالسلام وقد رفعت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم . وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة
العباسية ؛ إذ استجاب لها الكثير من أبناء الشعب المسلم . واستطاع أبو السرايا بعقله الملهم أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى
بن جعفر عليهالسلام ويجعلهم قادة في جيشه ممّا أدّى إلى
اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى الانضمام لثورته .
ووجّه إليه المأمون ، زهير بن
المسيب على عشرة آلاف مقاتل ، ولكنّ زهيراً انهزم جيشه واستبيح
عسكره ، وقد قوي شأنهم بعد ذلك وهزموا جيشاً آخر أرسله المأمون إليهم ، واستولوا على ( واسط ) .
ثم التقى بهم جيش آخر بقيادة
هرثمة بن أعين ، فهرب أبو السرايا إلى القادسية ، ودخل
هرثمة إلى الكوفة ، ثم قتل أبو السرايا ،
وكان ذلك في سنة (200 هـ) (تاريخ الذهبي ، دول الإسلام : 112 ـ 113 .) .
2 ـ ولاية العهد للإمام
علي بن موسى الرضا عليهالسلام .
وفي سنة إحدى ومائتين فرض
المأمون على الإمام علي بن موسى الرضا قبول ولاية العهد ،
وأمر عمّال الدولة برمي السواد ولبس الخضرة ؛ فشقّ ذلك على العباسيين وقامت
قيامتهم بإدخاله الرضا عليهالسلام في
الخلافة فخالفوا المأمون وبايعوا عمّه المنصور بن المهدي فضعف عن الأمر ، وقال بل
أنا خليفة المأمون فأهملوه وأقاموا أخاه إبراهيم بن المهدي فبايعوه وجرت لذلك حروب
عديدة (تاريخ الذهبي ، دول الإسلام : 112 ـ 113 .) .
وبعد أن عجز المأمون عن
تحقيق أغراضه من فرض ولاية العهد ـ كما يريد ـ على
الإمام الرضا عليهالسلام قام بدس السمّ إليه واغتياله وذلك في سنة
ثلاث ومائتين (1) .
3 ـ أحداث سنة ست ومائتين
:
وفي هذه السنة استفحل أمر بابك الخرّمي بجبال آذربيجان وأكثر الغارة والقتل وهزم
عسكر المأمون وفعل القبائح (2)
.
4 ـ
أحداث سنة تسع ومائتين :
وفي هذه السنة ظهر نصر بن أشعث العقيلي ، وكانت بينه وبين عبد الله بن طاهر
الخزاعي قائد جيش المأمون حروب كثيرة وطويلة الأمد (3)
.
5 ـ غزو بلاد الروم : وفي
سنة خمس عشرة ومائتين غزا المأمون بلاد الروم وأقام هناك ثلاثة أشهر وافتتح عدّة
حصون وبثّ سراياه تغير وتسبي وتحرق ثم قدم دمشق ودخل إلى مصر (4) .
وامتدّت هذه الحروب أكثر من
سنتين
، وقد أسرت الروم قائد جيش المأمون وحاصرت جيش المسلمين عام (217 هـ) .
(1) إثبات
الوصية : 181 ـ 183 .
(2) تاريخ
الذهبي ، دول الإسلام : 114 .
(3) تاريخ
الذهبي ، دول الإسلام : 115 ـ 117 .
(4) تاريخ الذهبي دول الإسلام
: 115 ـ 117 .
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي
لقد انتهج المأمون سياسة
خاصة تجاه الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام تباين سياسة أسلافه من ملوك بني العباس .
ويُعد هذا التحوّل في العلاقة بين السلطة
والأئمة دليلاً على اتّساع المساحة التي كان
يشغلها تأثير الأئمة وسط الأمة والمجتمع الإسلامي مع انشداد الغالبية المؤثّرة
بالأئمة عليهمالسلام والقول بمرجعيّتهم الفكرية والروحية ، وكانت
ولاية العهد للإمام الرضا عليهالسلام أحد
أوجه هذا التحوّل في السياسة والذي يعبّر عن ذكاء ودهاء المأمون في محاولته تلك
للحد من تأثير الإمام عليهالسلام
ووضعه قريباً منه لتحديد تحرّكه وتحجيم دوره ، إضافة لرصد تحرّكه وتحرّك القواعد
الشعبية المؤمنة بقيادة أهل البيت عليهمالسلام
ودورهم الريادي في الأمة ، فبعد استشهاد الإمام الرضا
عليهالسلام عمد المأمون إلى إشخاص الإمام الجواد من المدينة إلى بغداد
وتزويجه بابنته أُمّ الفضل مع احتجاج الأسرة العباسية على هذا التقريب والتزويج ،
فالمأمون كان بعيد النظر في تعامله هذا ، وكان يرمي من ورائه إلى أهداف تخدمه
وتضفي نوعاً من الشرعية على سلطته ، وقد خدع الأكثرية من أبناء الأمة بإظهاره
الحبّ والتقدير للإمام الجواد عليهالسلام من
أجل إزالة نقمتهم التي خلّفتها عهود الخلفاء قبله لاستبدادهم وبطشهم فضلاً عن
إسرافهم في اللهو والترف وخروجهم عن مبادئ الإسلام الحنيف في كثير من مظاهر حياتهم
الخاصة والعامة ، وممّا يؤكّد لنا وجهة النظر هذه في سياسة المأمون أنّه في عام
(204 هـ) وفي شهر ربيع الأول قدم بغداد ولباسه ولباس قوّاده وجنده والناس كلّهم
الخضرة فأقام جمعة ـ أي سبعة أيام ـ ثم
نزعها وأعاد لباس السواد (تاريخ اليعقوبي : 2 / 193 .) .
والذي كان قد أمر بنزعه بعد تولّيه الحكم
والعهد بالولاية من بعده للإمام الرضا عليهالسلام سنة
(201هـ) . (تاريخ أبي الفداء : 1 / 328 .)
والتي انتهت باستشهاد الإمام الرضا عليهالسلام
بعد دسّ السمّ له سنة (203 هـ) .
زواج الإمام
الجواد عليهالسلام
واستمراراً لتوطيد علاقة
المأمون بأهل البيت عليهمالسلام كان تزويجه لابنته ـ أُمّ الفضل ـ من الإمام الجواد عليهالسلام
،
ولمّا بلغ بني العباس ذلك اجتمعوا فاحتجّوا ؛ لتخوّفهم من أن يخرج السلطان عنهم
وأن ينتزع منهم ـ بحسب زعمهم ـ
لباس ألبسهم الله ذلك ، فقالوا للمأمون : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على
هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا
أمراً قد ملّكناه الله وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين
هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم
، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك ، فالله
الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى مَن
تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .
فقال لهم المأمون :
أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم
... وأمّا أبو جعفر محمد بن علي عليهالسلام فقد
اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه
بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما عرفته منه (الإرشاد : 2/282 وعنه في إعلام الورى : 2/101 بلا إسناد ، وفي كشف
الغمّة : 3/144 بالإسناد .) .
فخرجوا من عنده وأجمعوا رأيهم على مساءلة
يحيى بن أكثم وهو يومئذٍ قاضي الزمان ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها
ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك . واتفقوا مع المأمون على يوم تتمّ فيه المساءلة ،
حيث يحضر معهم يحيى بن أكثم .
ثم كان بعد ذلك أن جلس الإمام الجواد عليهالسلام يستمع إلى أسئلة يحيى بن أكثم
والذي بهت حين سأل الإمام حول محرم قتل صيداً فما كان من الإمام عليهالسلام إلاّ أن فرّع عليه سؤاله فلم يحر
جواباً وطلب من الإمام عليهالسلام أن
يوضح ذلك والمأمون جالس يستمع إلى كل ذلك ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعرفتم
الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر عليهالسلام وطلب منه أن يخطب ابنته فخطبها
واحتفل المأمون بذلك .
ثم إنّ المأمون بعد إجراء العقد وإتمام
الخطبة عاد فطلب من الإمام الجواد عليهالسلام أن
يكمل جواب ما طرحه مشكلاً به على ابن أكثم ، فأتمّ الإمام عليهالسلام الجواب ، فالتفت المأمون إلى مَن
حضره من أهل بيته فقال لهم ، هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ؟
ويعرف القول فيما تقدّم من السؤال ؟ قالوا : لا والله ، إنّ أمير المؤمنين أعلم
بما رأى .
فقال ـ المأمون ـ لهم : ويحكم إنّ أهل
البيت خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل ، وإنّ صغر السن فيهم لا يمنعهم من
الكمال ومن ثمّ ذكر لهم أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
افتتح الدعوة بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام وهو ابن عشر سنين وقبل منه
الإسلام (الإرشاد : 2/281 ـ 287 وعنه في إعلام الورى : 2/101 ـ 105 ، وفي كشف
الغمّة : 3 / 143 ـ 147 .) .
ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الاهتمام
المبالغ فيه من قِبل المأمون تجاه الإمام الجواد عليهالسلام كان قد سلك مثله مع أبيه الإمام
الرضا عليهالسلام حتى
تمّ له أن دسّ له السمّ وقتله ، فكان المأمون يتحرّك إزاء الإمام عليهالسلام بهدف إبعاد الإمام عليهالسلام عن
خاصّته وعامّة الناس ، حيث أشخصه من المدينة إلى بغداد ؛ ليكون قريباً منه وتحت
رقابته وعيونه ، فيعرف الداخل عليه والخارج منه ظنّاً من المأمون أنّه سوف يتمكّن
بذلك من تحجيم دور الإمام عليهالسلام وإبعاده عن التأثير فضلاً عن اكتساب الشرعية لحكمه من خلال وجود
الإمام عليهالسلام إلى جنبه ، ووفقاً لذلك كان موقف المأمون تجاه
العباسيين الذين كانوا لا يرون في الإمام عليهالسلام
إلاّ صبيّاً لم يتفقّه في الدين ولا يعرف الحلال والحرام .
وهكذا قضى الإمام الجواد عليهالسلام
خمس عشرة سنة خلال حكم المأمون حيث مات المأمون سنة (218 هـ) .
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم
والمعتصم هو محمد بن هارون الرشيد ثامن
خلفاء بني العباس بُويع له بالخلافة سنة (218 هـ) بعد وفاة المأمون ، وقد خرج
المعتصم سنة (217 هـ) لبناء سامراء (تاريخ أبي الفداء : 1 / 343 .) .
ثم نقل عاصمة الدولة إليها ، ولم تكن
المدّة التي قضاها الإمام الجواد عليهالسلام في
خلافة المعتصم طويلة فإنّها لم تتجاوز السنتين حيث استشهد الإمام عليهالسلام بعد أن استقدمه المعتصم إلى
بغداد سنة (220 هـ) .
وكان الإمام الجواد عليهالسلام قد خلّف ولده الإمام الهادي عليهالسلام وهو صغير بالمدينة لمّا انصرف
إلى العراق في العام الذي توفّي فيه المأمون بأرض الروم (إثبات الوصية : 192 .) وهو
عام (218 هـ) .
ونصّ الإمام الجواد عليهالسلام قبل استشهاده على إمامة ابنه علي
في أكثر من موقع .
نصوص الإمام
الجواد عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام
أ ـ النص الأوّل :
عن إسماعيل
بن مهران قال : لمّا أخرج أبو جعفر
في الدفعة الأولى من المدينة إلى بغداد فقلت له : إنّي أخاف عليك في هذا الوجه
فإلى مَن الأمر بعدك ؟ قال : فكرّ بوجهه إليَّ ضاحكاً وقال : ليس
حيث ظننت في هذه السنة ، فلمّا استدعاه
المعتصم صرت إليه فقلت : جُعلت فداك أنت خارج فإلى مَن الأمر بعدك ؟ فبكى حتى
اخضلّت لحيته ، ثم التفت إليَّ فقال : عند
هذه يخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي
) (الكافي : 1/323 ، بحار الأنوار : 50/118 باب النصوص على الخصوص عليه ،
الإرشاد ، للمفيد : 308 .)
.
ب ـ النص الثاني :
عن الخيراني ، عن أبيه ـ وكان يلزم أبا
جعفر للخدمة التي وكل بها ـ قال : كان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر
ليعرف خبر علّة أبي جعفر ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين أبي إذا حضر
قام أحمد بن عيسى وخلا به أبي فخرج ذات ليلة وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول
واستدار أحمد بن محمد ووقف حيث يسمع الكلام ، فقال الرسول لأبي : إنّ مولاك يقرأ
عليك السلام ويقول : (
إنّي ماضٍ والأمر صار إلى ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي )
، ثم مضى الرسول فرجع أحمد بن محمد بن عيسى إلى موضعه وقال لأبي : ما الذي قال لك
؟ قال : خيراً ، قال : فإنّني قد سمعت ما قال لك وأعاد إليه ما سمع فقال له أبي :
قد حرم الله عليك ذلك لأنّ الله تعالى يقول : (ولا تجسّسوا) فأمّا إذا سمعت فاحفظ هذه الشهادة
لعلّنا نحتاج إليها يوماً ، وإيّاك أن تظهرها لأحد إلى وقتها .
فلمّا أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر
رقاع بلفظها وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة وقال لهم : إن حدث بي حدث
الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها .
قال : فلمّا مضى أبو جعفر عليهالسلام لبث أبي في منزله فلم يخرج حتى
اجتمع رؤساء الإمامية عند محمد بن الفرج الرخجي يتفاوضون في القائم بعد أبي جعفر
ويخوضون في ذلك ، فكتب محمد بن أبي الفرج إلى أبي يعلمه باجتماع القوم عنده وأنّه
لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه وسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه فوجد القوم
مجتمعين عنده فقالوا لأبي : ما تقول في هذا الأمر ؟ فقال أبي لمَن عنده الرقاع
أحضروها .
فأحضروها وفضّها وقال : هذا ما أُمرت به
.
فقال بعض القوم : قد كنّا نحب أن يكون
معك في هذا الأمر شاهد آخر فقال لهم أبي : قد أتاكم الله ما تحبون ، هذا أبو جعفر
الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة ، وسأله أن يشهد فتوقّف أبو جعفر فدعاه أبي إلى
المباهلة وخوّفه بالله فلمّا حقّق عليه القول قال : قد سمعت ذلك ولكنّني توقّفت
لأنّي أحببت أن تكون هذه المكرمة لرجل من العرب فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة
أبي الحسن وزال عنهم الريب في ذلك ) (الكافي : 1/324 ، بحار الأنوار : 50/120 باب النصوص على الخصوص عليه ،
الإرشاد ، للمفيد : 308 .)
.
ج ـ النص الثالث :
عن محمد بن الحسين الواسطي أنّه سمع أحمد
بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنّه أشهده على هذه الوصية المنسوخة ( شهد أحمد
ابن أبي خالد مولى أبي جعفر أنّ أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام
أشهده أنّه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وإخوته وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه ، وجعل عبد
الله بن المساور قائماً على تركته من الضِياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك
إلى أن يبلغ علي بن محمد .
صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه
، يقوم بأمر نفسه وإخوانه ويصير أمر موسى إليه ، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما
في صدقاته التي تصدّق بها ، وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجّة سنة
عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله
بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام
، وهو الجوائي على مثل شهادة أحمد بن خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده
وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده . (1)
د ـ النص الرابع :
حدثنا محمد بن علي ، قال حدثنا عبد
الواحد بن محمد بن عبدوس العطار ، قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري ،
قال حدثنا حمدان بن سليمان ، قال حدثنا الصقر بن أبي دلف ، قال : سمعت أبا جعفر
محمد بن علي بن موسى الرضا عليهالسلام
يقول : الإمام بعدي ابني علي
، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي (2) . والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر
أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه .
ثم سكت فقلت له : يا بن رسول الله فمَن
الإمام بعد الحسن ؟ فبكى عليهالسلام
بكاءً شديداً ثم قال : إنّ
بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر ، فقلت له : يا ابن رسول الله
ولم سُمّي القائم ؟ قال : لأنّه
يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته .
فقلت له : ولم سُمّي المنتظر ؟ قال : لأنّ له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها ،
فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ به الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون
ويهلك فيها المستعجلون وينجو فيها المسلّمون ) (3) .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 1 / 383 .
(2) في طبعة : ثم سكت فقلت يا
ابن رسول الله فمَن الإمام بعد علي قال ابنه الحسن . قلت : بعد الحسن فبكى عليهالسلام بكاءً شديداً ثم قال : إنّ محمداً من بعد الحسن ابنه .
(3) إكمال الدين : 2/278
وإعلام الورى : 436 .
هـ ـ النص الخامس :
حدثنا علي بن محمد السندي ، قال محمد بن
الحسن ، قال حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن هلال ، عن [ أُمية بن
علي ] القيسي ، قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليهالسلام مَن الخلف من
بعدك ؟ قال : ابني علي .
ثم قال : إنّه
سيكون حيرة .
قال : قلت والى أين ؟ فسكت ثم قال : إلى المدينة .
قلت : والى أي مدينة ؟ قال : مدينتنا هذه ، وهل مدينة غيرها
(1)
؟
و ـ
النص السادس : قال أحمد بن هلال : فأخبرني محمد بن
إسماعيل بن بزيع أنّه حضر أُمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني عليهالسلام عن ذلك ، فأجابه بمثل ذلك الجواب
.
وبهذا الإسناد عن أُمية بن علي القيسي ،
عن أبي الهيثم التميمي ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام
: إذا توالت ثلاثة أسماء كان رابعهم
قائمهم محمد وعلي والحسن
(2)
.
ز ـ النص السابع :
روى الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ،
عن أبيه أنّ أبا جعفر عليهالسلام
لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها أجلس أبا الحسن في حجره بعد
النصّ عليه وقال له : ما
الذي تحبّ أن أُهدي إليك من طرائف العراق ؟ فقال عليهالسلام : سيفاً
كأنّه شعلة نار ، ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له : ما تحبُّ أنت ؟ فقال : فرساً ، فقال عليهالسلام : أشبهني
أبو الحسن ، وأشبه هذا أُمّه (3) .
ــــــــــــــ
(1) غيبة النعماني : 18
باختلاف ما في اللفظ وزيادة .
(2) إكمال الدين : 2/334 وكذا
فيه : إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن كان رابعهم قائمهم .
(3) بحار الأنوار : 50/123 باب
النصوص على الخصوص عليه عليهالسلام .
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام
إنّ تقريب الإمام الرضا عليهالسلام
والعهد إليه بولاية الأمر من قِبل المأمون العباسي ، وكذا ما كان من المأمون تجاه
الإمام الجواد عليهالسلام يعبّر عن دهاء سياسي في التعامل مع أقوى معارضي الدولة ، حيث
يمتلك الإمامان القواعد الشعبية الواسعة ممّا كان يشكّل خطراً على كيان الدولة ،
فكان تصرّف المأمون معهما من أجل تطويق الخطر المحدق بالكيان السياسي للدولة
العباسية ؛ وذلك من خلال عزل الإمام عليهالسلام عن
قواعده للحدّ من تأثيره في الأمة ، فتقريبه للإمام عليهالسلام يعني إقامة جبرية ، ومراقبة
دقيقة تحصي عليه حتى أنفاسه وتتعرّف على مواليه ومقرّبيه ، لمتابعتهم والتضييق
عليهم .
قال محمد بن علي الهاشمي :
دخلت على أبي جعفر عليهالسلام
صبيحة عرسه ببنت المأمون ـ أي أُمّ الفضل ـ وكنت
تناولت من أوّل الليل دواء فأوَّل مَن دخل في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت
أن أدعو بالماء ، فنظر أبو جعفر عليهالسلام
في وجهي وقال : أراك عطشاناً قلت : أجل قال : يا غلام اسقنا ماء فقلت في نفسي :
الساعة يأتونه بماء مسموم ، واغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسّم في
وجهي ثمَّ قال : يا غلام ناولني الماء فتناول وشرب ، ثمَّ ناولني الماء وشربت (1)
.
فقال محمد بن علي الهاشمي لمحمد بن حمزة
: والله إنّي أظن أنّ أبا جعفر عليهالسلام
يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة (2) .
فالهاشمي هذا ليس من شيعة الإمام عليهالسلام ، غير أنّه كان يدرك ما يدور في
خلد العباسيين ويعرف وسائلهم في التخلّص من معارضيهم ، وربّما يستفاد من قوله هذا
تأكيد أنّ الإمام الرضا عليهالسلام قد
مضى مسموماً من قِبل المأمون .
وروى المسعودي : أنّ
المعتصم وجعفر بن المأمون دبّرا حيلة للتخلّص من الإمام الجواد عليهالسلام ، فاتفق جعفر مع أُخته أُمّ
الفضل ـ زوج الإمام الجواد عليهالسلام ـ
أن تقدّم له عنباً مسموماً ، وقد فعلت ذلك وأكل منه الإمام عليهالسلام ، فندمت وجعلت تبكي فقال لها
الإمام عليهالسلام : ما بكاؤك ! والله ليضربنك الله بفقر لا
ينجلي وبلاء لا ينستر .
فبليت بعلّة فأنفقت مالها وجميع ملكها
على تلك العلّة حتى احتاجت إلى رفد الناس ـ أي معونتهم ـ وقد تردّى أخوها جعفر في
بئر فأُخرج ميتاً وكان سكراناً .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 1 / 495 و496 .
(2) أُصول الكافي : 1/495 ح 6
ب 132 وعنه في الإرشاد : 2/291 .
ويروى أنّ ابن أبي داود
القاضي كان السبب لقتل الإمام عليهالسلام وكان سبب وشايته : أنّ سارقاً جاء
إلى الخليفة ، وأقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة أن يطهّره بإقامة الحد عليه ،
فجمع المعتصم الفقهاء وسألهم عن مكان قطع اليد لإقامة الحد على السارق هذا
فاختلفوا في مكان القطع فالبعض قال من المرفق ، وآخر قال من الكرسوع ، واستشهدوا
بآيات من القرآن الكريم تأوّلاً بغير علم ، فالتفت المعتصم إلى الإمام عليهالسلام وقال : ما تقول يا أبا جعفر ؟
قال : قد تكلّم القوم فيه
يا أمير المؤمنين .
قال : دعني ممّا تكلّموا به ، أي شيء
عندك ؟ قال : أعفني عن هذا يا أمير
المؤمنين قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه ، فقال :
إذا أقسمت عليّ بالله ، إنّي أقول :
إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل الأصابع فيترك الكف .
قال : لِمَ ؟ قال : لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من
الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تعالى :
(
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد
عليها (
فلا تدعوا مع الله أحداً ) وما كان لله لم يقطع ،
قال : فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف .
قال زرقان : إنّ
ابن أبي داود قال لي : صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين
عليّ واجبة ، وأنا أُكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار قال : ما هو ؟ قلت : إذا
جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أُمور الدين
فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك .
وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه
، وكتّابه وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل
يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم
الفقهاء .
قال ابن أبي داود : فتغيّر لونه ـ أي
المعتصم ـ وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً (تفسير العياشي : 1 / 319 ، مدينة المعاجز : 7/403 ، بحار الأنوار :
76/191 .) .
من هنا نُدرك أنّه كيف اندفع المعتصم
للتآمر على الإمام الجواد عليهالسلام مع
جعفر ابن المأمون وأخته أم الفضل فلا تعارض بين هاتين الروايتين والحال هذه .
ــــــــــــــ
الباب الثالث : وفيه فصول :
الفصل الأول : المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول (ص) حتى عصر الإمام الهادي (ع) .
الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام .
الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الأوّل : المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام الهادي (ع) .
تعتبر الرسالة الإسلامية الكون مملكة لله
سبحانه ، والإنسان خليفة له وأميناً من قِبله ، ينبغي له أن يقوم بأعباء المسؤولية
التي حمّله الله إيّاها .
ومادامت الحياة الدنيا تعتبر شوطاً
قصيراً في مسيرة الإنسان الطويلة فالأهداف التي ينبغي للمشرِّع الحكيم وللإنسان المشرَّع
إليه أن يستهدفها لا تتلخّص في تحقيق مآرب هذه الحياة الدنيا الفانية ، وإنّما
تمتد بامتداد حياته الباقية في عالم الآخرة .
والإسلام يريد للإنسان أن يتربّى على هذه
الثقافة التي تصنع منه كائناً متكاملاً سويّاً دؤوباً في تحقيق الأهداف الرسالية
الكبرى .
وقد كان التخطيط الربّاني لتربية الإنسان
في هذا الاتجاه حكيماً ومتقناً حين تزعّم الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم المجتمع
الإنساني وهيمن على كل العلاقات الاجتماعية وغيرها ليصوغ من هذا الإنسان نموذجاً
فريداً .
ولم يكن الطريق أمام عملية التغيير
الجذري التي بدأها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المجتمع
الإنساني طريقاً قصيراً يمكن تحقّقه خلال عقد أو عقدين من الزمن ، بل كان طريقاً
ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام .
ولم يكن كل ما حقّقه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه البرهة
المحدودة كافياً لاجتثاث كل الجذور الجاهلية من عامة أبناء الجيل الأوّل ، وإيصاله
إلى الدرجة اللازمة من الوعي والموضوعية ، والتحرّز من كل رواسب الماضي الجاهلي
بحيث يؤهّله للقيمومة على خط الرسالة .
وتكفي الأحداث المرّة التي أعقبت وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وما جرى بين صحابة الرسول من سجالات سجّلها المؤرّخون في المصادر التي بأيدينا
لتشهد على أنّ جيل الصحابة لم يرتقِ إلى درجة الكفاءة اللازمة ليخلف الرسول على
رسالته .
من هنا كان منطق العمل
التغييري يفرض على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصون تجربته الرائدة ، التي كان يريد لها الخلود والبقاء ، وهو
الذي أعلن بأنّه خاتم المرسلين وأنّه لا نبي بعده .
كان يفرض عليه أن يصون تجربته من كل ما
يؤدّي إلى ضعفها أو انهيارها ؛ وذلك بإعطاء القيمومة والوصاية على تجربته لقيادة
كفوءة معصومة قد أعدّها بنفسه كما يريد وكما ينبغي ; لتقوم بالمهمة التغييرية
الشاملة خلال فترة طبيعية من الزمن بحيث تحقق للرسالة أهدافها التي كانت تنشدها من
إرسال الرسل وتقديم منهج ربّاني كامل للحياة .
عقبات وأخطار
أمام عملية التغيير الشاملة
لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّد
فكرياً من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب في التطبيق ، وإنّما هو رسالة الله
التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة ، فلا
بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها
ومفاهيمها ، وإلاّ كانت مضطرّة إلى استلهام مسبقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية
؛ وذلك يؤدّي إلى نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أنّ الإسلام كان هو
الرسالة الخاتمة لرسالات السماء التي تمتد مع الزمن وتتعدّى كل الحدود الإقليمية
والقومية ، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم
فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكّل ثغرة تهدّد التجربة بالسقوط والانهيار (بحث حول الولاية : 57 ـ 58 .) .
وقد برهنت الأحداث التي جرت على آل
الرسول عليهمالسلام بعد
وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
استئثاراً بالخلافة دونهم على هذه الحقيقة المرّة وتجلّت آثارها السلبيّة بوضوح
بعد نصف قرن أو أقلّ من ممارسة الحكم من قِبل جيل المهاجرين الذين لم يُرشّحوا من
قبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
للإمامة ولم يكونوا مؤهّلين للقيمومة على الرسالة .
فلم يمض ربع قرن حتى بدأت
الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامى
; إذ
استطاعوا أن يتسلّلوا إلى مراكز النفوذ في قيادة التجربة بالتدريج حتّى صادروا بكل
وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن
شخصيّته وقيادته وتحوّلت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء
ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدّرات الناس ، وأصبح
الفيء والسواد بستاناً لقريش ، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أُمية (بحث حول الولاية : 60 ـ 61 .) .
مضاعفات
الانحراف بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقد واجه الإسلام بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انحرافاً
خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها هذا النبي العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم لأُمّته .
وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية
والسياسية للأمّة والدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الأشياء من المفروض أن يتسع
ليتعمّق بالتدريج على مرّ الزمن ; إذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة ،
وكلّما تحقّقت مرحلة من الانحراف ; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب .
فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلى
خطٍّ منحنٍ طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدى يصل به إلى الهاوية حين تستمر
التجربة الإسلامية في طريق منحرف لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ، وتصبح عاجزة
عن تحقيق الحدّ الأدنى من متطلبات الأمة ومصالحها الإسلاميّة . وحينما يتسلسل
الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرّض التجربة لانهيار كامل ولو بعد زمن
طويل .
إذن فالدولة الإسلامية
والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية كان من المفروض أن تتعرّض كلّها للانهيار
الكامل ; لأنّ هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة
وظائفها الحقيقية ، تصبح عاجزة عن حماية نفسها ; لأنّ التجربة
تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ ، كما أنّ الأمة ليست
على مستوى حمايتها ; لأنّ الأمة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا
تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو إليها فلا ترتبط بأيّ ارتباط حياتي
حقيقي معها ، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن كنتيجة نهائية حتمية
لبذرة الانحراف التي غرست فيها .
انهيار الدولة
الإسلامية ومضاعفاته
ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط
الحضارة الإسلامية وتتخلّى عن قيادة المجتمع ويتفكّك المجتمع الإسلامي ، ويُقصى
الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأمة ، لكن الأمة تبقى طبعاً ، حين تفشل
تجربة المجتمع والدولة ، لكنّها سوف تنهار أمام أوّل غزو يغزوها ، كما انهارت أمام
الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية .
وهذا الانهيار يعني : أنّ
الدولة والتجربة قد سقطت وأنّ الأمة بقيت ، لكن هذه الأمة أيضاً بحسب تسلسل
الأحداث من المحتوم أن تنهار كأمة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه ; لأنّ هذه
الأمة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول
الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
زعامة التجربة وبعده عاشت الأمة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام
وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات
الكافية ، لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي
يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام .
ولم تجد هذه الأمة نفسها قادرة على تحصين
نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما أُهينت كرامتها وحُطِّمتْ
إرادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة ، وبعد
أن فَقَدتْ روحها الحقيقية ؛ لأنّ تلك الزعامات كانت تريد إخضاعها لزعامتها
القسريّة .
إنّ هذه الأمة من الطبيعي أن تنهار
بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الأمة وتذوب الرسالة والعقيدة
أيضاً وتصبح الأمة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي
دور الإسلام نهائياً (راجع : أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 127 ـ 129 .) .
لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة
الدولة والأمة والرسالة ، بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين أُوكِلت
إليهم من قِبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
مهمّة صيانة التجربة والدولة والأمة والرسالة جميعاً .
إنّ دور الأئمّة الاثني عشر
الذين نصّ عليهم وعلى إمامتهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
واستخلفهم لصيانة الإسلام من أيدي العابثين الذين كانوا يتربّصون به الدوائر ،
وحمّلهم مسؤولية تطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من
الانهيار والتردّي يتلخّص في أمرين مهمّين وخطّين
أساسيين :
1 ـ خط
تحصين الأمة ضدّ الانهيار بعد سقوط التجربة ، وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي
لكي تبقى واقفة على قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت .
2 ـ خط
محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة إلى
موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية الثلاثة ـ أعني الأمة والشريعة والمربّي
الكفوء ـ ولتتلاحم الأمة والمجتمع مع الدولة وقيادتها الرشيدة (أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 59 .) .
أمّا الخط الثاني
فكان على الأئمّة الراشدين أن يقوموا بإعداد طويل المدى له ، من أجل تهيئة الظروف
الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية
التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة
باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان كل ما يوصله إلى كماله اللائق .
ومن هنا كان رأي الأئمّة
المعصومين من أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في استلام زمام الحكم أنّ الانتصار
المسلّح الآنيّ غير كافٍ لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر ، بل يتوقّف ذلك على
إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته إيماناً مطلقاً بحيث يعيش أهدافه الكبيرة
ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس كل ما يحققه للأمة من مصالح وأهداف ربّانية .
وأمّا الخط الأوّل فهو الخط
الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة ، وكان يمارسه
الأئمّة الأطهار عليهمالسلام حتى
في حالة الشعور بعدم توفّر الظروف الموضوعية التي تهيّئ الإمام عليهالسلام لخوض معركة يتسلّم من خلالها
زمام الحكم من جديد .
إنّ هذا الدور
وهذا الخط هو خط تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في ضمير الأمة بغية إيجاد
تحصين كافٍ في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة
وسقوطها ، وذلك بإيجاد قواعد واعية في الأمة وإيجاد روح رسالية فيها وإيجاد عواطف
صادقة تجاه هذه الرسالة في صفوف الأمة(أهل البيت عليهمالسلام تنوّع ادوار ووحدة هدف : 131 ـ 132 و147 ـ 148 .)
.
واستلزم عمل الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام في هذين
الخطّين قيامهم بدور رسالي إيجابي وفعّال على مدى قرون ثلاثة تقريباً في مجال حفظ
الرسالة والأمة والدولة وحمايتها باستمرار .
وكلّما كان الانحراف يشتد ، كان الأئمة
الأبرار يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك ، وكلّما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة
الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمّة
المعصومون إلى تقديم الحلّ ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددّها .
فالأئمّة من أهل
البيت عليهمالسلام
كانوا يحافظون على المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي بشكل مستمر إلى درجة لا
تنتهي بالأمة إلى الخطر الماحق لها (أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 144 .)
.
المهامّ
الرساليّة للأئمّة الطاهرين
من هنا تنوّعت مهامّ الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام في مجالات شتّى
باعتبار تعدّد العلاقات وتعدّد الجوانب التي كانت تهمّهم كقيادة واعية رشيدة تريد
تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء .
لأنّ الأئمّة مسؤولون عن صيانة
تراث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثّلة في :
1 ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها
الرسول الأعظم من عند الله والمتمثّلة في الكتاب والسنّة الشريفين .
2 ـ الأمة التي كوّنها وربّاها الرسول
الكريم بيديه الكريمتين .
3 ـ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده
النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أو
الدولة التي أسّسها وشيّد أركانها .
4 ـ القيادة النموذجية التي حقّقها بنفسه
وربّى لتجسيدها الأكفّاء من أهل بيته الطاهرين .
لكنّ استئثار بعض الصحابة بالمركز
القيادي الذي رُشّح له الأئمّة المعصومون من قِبل الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونصّ عليهم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاستلامه ولتربية الأمة من خلاله ، لم يكن ليمنعهم ذلك من الاهتمام بالمجتمع
الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار ، بالقدر الممكن لهم بالفعل
وبمقدار ما كانت تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم .
كما أنّ سقوط الدولة الإسلامية لا يحول
دون الاهتمام بالأمة كأُمّة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة إلهيّة
وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام .
وعلى هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل
الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام
جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ، ومن حيث درجة ثقافة
الأمة ومدى وعيها وإيمانها ومعرفتها بالأئمّة عليهمالسلام
ومدى انقيادها للحكام المنحرفين ، ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي
والدولة الإسلامية ، ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ، ومن حيث نوع الأدوات
التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم .
موقف أهل البيت عليهمالسلام من انحراف الحكّام
كان للأئمّة المعصومين عليهمالسلام
نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن
المزيد من الانحراف ، بالتوجيه الكلامي تارة ، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم
حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً ـ كثورة الإمام الحسين عليهالسلام ضد يزيد بن معاوية ـ وإن
كلّفهم ذلك حياتهم وقد عملوا للحدّ من انحراف الحكّام عن طريق إيجاد المعارضة
المستمرّة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة
الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة .
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة
وكان للأئمّة الأطهار عليهمالسلام نشاط مستمر في
مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً ؛ وذلك من خلال تربية الأصحاب
العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل : نشر الوعي والفكر الإسلامي ، وتصحيح
الأخطاء المستجدّة في فهم الرسالة والشريعة ، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية
المنحرفة ، أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي
كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته .
وحيث كان الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام يُشكّلون
النموذج الحيّ للزعامة الصالحة ، عملوا على تثقيف الأمة ورفع درجة وعيها بالنسبة
لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيّتهم العامة .
وهكذا تفاعل الأئمة عليهمالسلام
مع الأمة ودخلوا إلى أعماق ضمير الأمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر
وتعاطفوا مع قطّاع واسع من المسلمين ; فإنّ الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق
التي كان يتمتّع بها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرّد الانتماء لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
; وذلك لوجود كثير ممّن كان ينتسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يكن يحظى بهذا الولاء ; لأنّ الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجّاناً ، ولا
يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام
الأمة ومشاكلها وهمومها .
وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية
سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين ، وتحولّت
الأمة إلى أُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتى استطاعت أن
تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد ، كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد
عصور الانهيار والتردّي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية إلى مرفأ الحق
التليد .
وقد حقّق الأئمّة المعصومون عليهمالسلام
كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم
وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار
وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى
مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل
نهار.
مراحل الحركة
الرسالية للائمّة الراشدين عليهمالسلام
وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيت عليهمالسلام والظروف التي
كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة ؛ استطعنا أن نصنّف
ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميّز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في
كثير من الظروف والمواقف ، ولكنّ الأدوار تتنوّع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة
التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر .
فالمرحلة الأُولى من حياة الأئمّة عليهمالسلام وهي ( مرحلة تفادي صدمة الانحراف ) بعد وفاة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة :
علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهمالسلام فقاموا
بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على
القيادة المنحرفة ، لكنّهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية
نفسها .
وبالطبع إنّهم لم يهملوا الأمة أو الدولة
الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الإسلامي والأمة
المسلمة ، فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم
.
وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر
الثاني من حياة الإمام السجّاد السياسية حتى الإمام الكاظم عليهالسلام
وتتميّز بأمرين أساسيين :
الأوّل منهما : يرتبط
بالخلافة المزيّفة ، فقد تصدّى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ
الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء ( وهم
وعّاظ السلاطين ) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ
الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا
زيف خط الخلافة ويشعروا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد
الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم .
والثاني منهما :
يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي أُرسيت دعائمه في المرحلة الأولى ، فقد تصدّى
الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط
الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام
عليه ، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدّة أجيال من
العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قِبال الخط
الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين .
هذا فضلاً عن تصدّيهم لدفع الشبهات وكشف
زيف الفرق التي استحدثت من قِبل خط الخلافة أو غيره .
والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن
زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة
ولاسيّما بعض الخطوط الثورية منها ، والتي كانت تتصدّى لمواجهة مَن تربَّع على
كرسيّ خلافة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
ثورة الإمام الحسين عليهالسلام .
وأمّا المرحلة الثالثة من حياة
الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام : فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظم عليهالسلام وتنتهي بالإمام المهدي عليهالسلام فإنّهم بعد وضع التحصينات
اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً
وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيت عليهمالسلام أصبحت بمستوى
تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، ممّا
خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّة عليهمالسلام ،
وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه
قضيّتهم .
وأمّا فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي
أوضحوا لها معالم خطّها فقد عمل الأئمّة عليهمالسلام على
دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار ، وإعطائها
درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى .
وكان يقدّر الأئمّة أنّهم بعد المواجهة
المستمرّة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم ، وسوف لن يتركهم الخلفاء
أحراراً بعد أن تبيّن زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين
الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية .
ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل
واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل
البيت عليهمالسلام في
كل قضاياهم وشؤونهم العامة ؛ تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه
والتي أخبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
تحقّقها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها .
وبهذا استطاع الأئمّة عليهمالسلام ـ ضمن تخطيط
بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية
والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح ؛ وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار
الرسالة الإلهية بشكل كامل .
موقع الإمام
الهادي عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة
والإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام يُصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيت عليهمالسلام فهو
قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول إلى دور الغيبة المرتقب ،
وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار .
وسوف نقف على تفاصيل مواقف
الإمام الهادي عليهالسلام ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره ، بعد التعرّف على ملامح
عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالأمة الإسلامية جميعاً ، ضمن
الفصول القادمة إن شاء الله تعالى .
الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام
تحدّثنا عن المرحلة الأولى
من حياة الإمام الهادي عليهالسلام في ظِلال والده الإمام محمد الجواد عليهالسلام
وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها
في المدينة المنوّرة ، وكان في شطر منها بعيداً عن والده ؛
وذلك لأنّ المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (218
هـ) إلى بغداد .
والمرحلة الثانية من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ
سنة (220 هـ) إلى سنة (254هـ)
واستمرّت (34 سنة) . وعاصر
فيها كلاًّ من : المعتصم (218 ـ 227
هـ) ، والواثق (227 ـ232 هـ) ، والمتوكل (232 ـ 247 هـ) ، والمنتصر (247 ـ 248 هـ)
، والمستعين (248 ـ 252 هـ) ، والمعتز (252 ـ 255 هـ) .
هو محمد بن الرشيد ، وُلد
سنة (180 أو 178) ، واستولى على كرسي الخلافة سنة (218 هـ) أُمّه ماردة كانت أحظى
الناس عند الرشيد .
وقالوا عنه : إنّه كان ذا شجاعة وقوّة
وهمّة وكان عريّاً من العلم .
وكان إذا غضب لا يبالي من قتل ، وكان من
أشدّ الناس بطشاً ، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره .
وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان
وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً .
وهجاه دعبل الخزاعي
بالأبيات التالية :
ملوك بني العباس في الكتب
سبعة |
|
ولم يأتنا في ثامن منهم
الكُتْبُ |
كذلك أهل الكهف في الكهف
سبعة |
|
غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم
كلبُ |
وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً |
|
لأنّك ذو ذنب وليس له ذنبُ |
لقد ضاع أمر الناس حيث
يسوسهم |
|
وصيف واشناس وقد عظم الخطبُ |
وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان
الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقّة في ذلك ، وقتل عليه خلقاً من العلماء ،
وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين .
وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سُرّ مَن رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال
الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى
هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها ؛ ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد
.
وغزا المعتصم الروم سنة (223
هـ) وفتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (227 هـ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين
وثمانية أشهر .
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي
بعد اغتيال الإمام الجواد عليهالسلام
من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار
معلّماً لأبي الحسن الهادي عليهالسلام
البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً
بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهمالسلام
ليغذّيه ببغضهم .
ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي
وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ،
فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن
يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .
بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به
من مهمّة تعليم الإمام عليهالسلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر
بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ )
فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :
( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا
الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .
قال : لا .
فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف
في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس
أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .
وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى
بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟
فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : (
دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ،
وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد
أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع
أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله
إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .
وأضاف الجنيدي قائلاً : (
هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟
يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت عليهمالسلام ودان بالولاء
لهم واعتقد بالإمامة ) (مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : 3 / 91 ـ 95 .) .
لقد كان لأدب الإمام الهادي عليهالسلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي
) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيت عليهمالسلام .
ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح
لغيره أنّه تعلّم من الإمام عليهالسلام ولم يأخذ الإمام عليهالسلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائه عليهمالسلام ، فإنّ الإمام
الرضا عليهالسلام
لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجواد عليهالسلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر
الإمام الهادي عليهالسلام ،
واحتجّ الرضا عليهالسلام
بقوله تعالى : (وآتيناه
الحكم صبيّاً)
فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي
الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛
ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمة عليهمالسلام .
وتعكس لنا هذه الرواية
الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهادي عليهالسلام من
أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال
الشيعة به .
يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم
الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر
كما حدث لأبيه الجواد عليهالسلام حين
تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .
فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون
بزوغ اسم الإمام الهادي عليهالسلام
وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه
ومربّيه .
غير أنّ الإمام عليهالسلام بخُلقه وهدوئه استطاع
أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله
له .
هو هارون بن المعتصم ،
أُمّه رومية ، وُلد في شعبان (196 هـ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (227
هـ) .
وفي سنة (228 هـ) استخلف
على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً .
وكان كثير الأكل جداً حتى
قال ابن فهم : إنّه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه
عشرون رجلاً .
وكان الواثق كأسلافه
الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .
وقيل عنه إنّه كان وافر الأدب مليح الشعر
، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً
بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .
وكان يحب خادماً له أُهدي له من مصر
فأغضبه الواثق يوماً ثم إنّه سمعه يقول لبعض الخدم : والله إنّه ليروم أن أكلّمه ـ أي الواثق ـ من أمس فما أفعل ، فقال الواثق في ذلك
شعراً :
يا ذا الذي بعد أبي ظل
مختفراً |
|
ما أنت إلاّ مليك جاد إذ
قدرا |
لولا الهوى لتحاربنا على قدر |
|
وان أقف منه يوماً فسوف ترى (1) |
تاريخ
الخلفاء : 343 ـ 345 .
وفي سنة (229 هـ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة ، فأخذ
من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ أربعمائة
ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه
مائة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف
دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار (الكامل في التاريخ : 5/269 .) .
فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع
تلك الضرائب ؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي ، فكم هي ثروة الوزير نفسه ؟ ولعلّ من نافلة القول إنّ هذه الأموال إنّما اجتمعت
عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الأمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة
التقشّف التي أنتجها الظلم إلى جانب التفاضل الطبقي
الفاحش .
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير
وفي سنة (230 هـ) أغار الأعراب من بني
سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم
حتى ازداد شرّهم واستفحل ؛ فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر
آخرين وانهزم الباقون
(الكامل في التاريخ : 5/270 .) .
وللإمام حين ورود بغا بجيشه إلى المدينة
موقف تجدر الإشارة إليه ، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول : كنت بالمدينة حين مّر بها
بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب .
فقال أبو الحسن عليهالسلام :
اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي .
فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا
تركي فكلّمه أبو الحسن عليهالسلام
بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال ( أبو هاشم ) فحلّفت التركي وقلت له
: ما قال لك الرجل ؟ فقال : هذا نبيّ ؟ قلت : ليس هذا بنبيّ .
قال : دعاني باسم سُمّيت به في صغري في
بلاد الترك ما علمه أحد الساعة
(أعلام الورى : 343 .) .
وهذه الوثيقة التاريخية تتضمّن بيان
مجموعة من فضائل الإمام الهادي عليهالسلام
وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا
الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم .
وبالإضافة إلى كرامات الإمام عليهالسلام المتعدّدة لا تستبعد أن يكون
الإمام عليهالسلام قد
استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بإمكانه أن يكون حامل صورة ايجابية
ورسالة خاصة عن الإمام عليهالسلام
يمكنه إيصالها في الموقع المناسب إلى قائده بغا .
وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام
الهادي عليهالسلام في
المستقبل الذي ينتظره ، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل
المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يُلق هذا الطالبي إلى السباع (مروج الذهب : 4/76 .) .
ومن هنا قال المسعودي عنه : كان بغا كثير
التعطّف والبر على الطالبيين .
وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن
، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة مَن
قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً .
وفي سنة إحدى وثلاثين[ بعد
المائتين ] ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة
والمؤذّنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره .
وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر
الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله
فأجازوا له ذلك ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي
فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي
وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل
رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جثته في سُرّ مَن رأى ، واستمرّ ذلك ست سنين إلى
أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولمّا صُلب كتب ورقة وعُلّقت في أذنه فيها : ( هذا
رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي
التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجّله الله إلى ناره ) ووكل بالرأس مَن يحفظه .
وفي هذه السنة استفك من الروم
ألفاً وستمائة أسير مسلم ، فقال ابن داود ـ قبّحه الله ـ ! مَن قال
من الأُسارى ( القرآن مخلوق )
خلّصوه وأعطوه دينارين ومَن امتنع دعوه في الأسر (يراجع تاريخ اليعقوبي : 2 / 482 ـ 483 ، وتاريخ
الخلفاء : 401 .) .
قال الخطيب : كان أحمد ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد في المحنة ودعا
الناس إلى القول بخلق القرآن .
ومن جملة مَن شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب
بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (231هـ) محبوساً في محنة الناس
بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنّه مخلوق وكان من الصالحين (تاريخ ابن الوردي : 1 / 335 .) .
وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد
الآذرمي ( شيخ أبي داود والنسائي ) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر ، فقال
له : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يَدعُ
الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ فقال ابن أبي داود : بل علمه .
فقال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه
وأنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ
رجليه وهو يقول : وسع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن
يسكت عنه ولا يسعنا ! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن
أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ .
وعن يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل
أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير (تاريخ الخلفاء : 342 .) .
موقف الإمام
الهادي عليهالسلام من مسألة خلق القرآن
لقد عمّت الأمة فتنة كبرى
زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة
يتوقّف عليها مصير الأمة الإسلامية ، وقد بيّن
الإمام الهادي عليهالسلام
الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة ، فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنّه قال : كتب علي بن محمد
بن علي بن موسى الرضا عليهالسلام إلى بعض شيعته ببغداد :
( بسم الله الرحمن الرحيم
، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة .
نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما
ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ،
والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين . جعلنا الله وإياك
من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (أمالي الشيخ الصدوق : 489 .) .
إخبار الإمام
الهادي عليهالسلام بموت الواثق
كان الإمام الهادي عليهالسلام
يتابع التطوّرات السياسية ويرصد الأحداث بدقّة .
فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي
الحسن عليهالسلام
المدينة فقال لي : ما خبر الواثق عندك
؟ قلت : جُعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ،
عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي : إنّ
أهل المدينة يقولون إنّه مات ، فلمّا أن قال لي : ( الناس ) ، علمت
أنّه هو ، ثم قال لي : ما
فعل جعفر ؟
قلت : تركته أسوء
الناس حالاً في السجن ، فقال : أما
إنّه صاحب الأمر .
ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جُعلت فداك
الناس معه والأمر أمره . فقال : أما
إنّه شؤم عليه . ثم سكت وقال لي : لا
بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه . يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل
جعفر وقد قتل ابن الزيات
. فقلت : متى جُعلت فداك ؟ قال : بعد
خروجك بستة أيّام
(أُصول الكافي : 1 / 498 ح 1 ب 122 .)
.
وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة
الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى
متابعة الإمام عليهالسلام
للأوضاع العامة والسياسية أوّلاً بأوّل .
واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة
السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمام عليهالسلام
الشعبية ومواليه ، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً ;
ولينمّي قابليّاتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً .
هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد
، أُمّه أُمّ ولد اسمها شجاع .
أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة
وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (234 هـ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم
وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .
وقالوا عنه :
إنّه كان منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة ( أمَة يتسرّى
بها ) .
وقال علي بن الجهم : كان
المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أُم ولد له ، ومن أجل شغفه بها
أراد تقديم ابنها المعتزّ على ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ،
وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته
ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(1) .
وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت
المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس
يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل ، وفيه
قال مردان ابن أبي الجنوب :
فامسِك ندى كفّيك عنّي ولا
تزد |
|
فقد خفتُ أن أطغى وأن
اتجبّرا |
فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ،
وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً (2) .
ولعلّ مَن وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع
عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان ،
فإنّي أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :
يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي |
|
وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟ |
لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ |
|
ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ
فقدي |
أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي |
|
ومن الرزء أن تؤخّر بعدي |
حذراً أن تكون إلفاً لغيري |
|
إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي |
وقد قتل المتوكل والفتح بن
خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل
في الخامس من شوّال سنة (247 هـ) كما
سوف يأتي بيانه .
ــــــــــــــ
(1) تاريخ
الخلفاء : 349 ـ 350 .
(2) تاريخ الخلفاء : 349 ـ 350
.
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي
وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم ، ففي سنة (236
هـ)
أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليهالسلام وهدم ما حوله من الدور .
ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .
قال السيوطي :
وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على
الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .
فمّما قيل في ذلك :
بالله إن كانت أُمية قد أتت |
|
قتل ابن بنت نبيّها مظلوما |
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله |
|
هذا لعمري قبره مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا
شاركوا |
|
في قتله فتتبّعوه رميما (1) |
تاريخ
الخلفاء ، السيوطي : 347 .
ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه
لأهل البيت عليهمالسلام
وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية
يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه
المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال
ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك
فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (244 هـ) (تاريخ الخلفاء : 348 .) .
وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة
أهل البيت عليهمالسلام
بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في
الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل
للإمام علي الهادي عليهالسلام من
مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .
ففي سنة (234 هـ) أي بعد
سنتين (إنّ تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهادي عليهالسلام على ما في جملة من المصادر هو سنة (244 هـ) وليس (234 هـ) ، ويشهد
لذلك ما صرّح به الشيخ المفيد قدسسره من أنّ مدّة إقامة الإمام الهادي بسُرّ مَن رأى
عشر سنين وأشهراً ، وحيث استشهد في سنة (254 هـ) فيظهر من ذلك أنّ استقدامه كان
سنة (244 هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل
يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمام عليهالسلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة ،
ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال :
دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي عليهالسلام ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً
إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي
لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ،
وكتب علم ، فعظم في عيني
(تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : 203 .) .
ونستفيد من هذه الرواية
أُموراً منها :
1 ـ قوّة تأثير الإمام الهادي عليهالسلام وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به
لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .
2 ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر
الإمام عليهالسلام ومن
سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن
ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .
3 ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن
هرثمة ـ بالإمام عليهالسلام
وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة بالخليفة
العباسي .
4 ـ عزوف الإمام عليهالسلام عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً
من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيت عليهمالسلام وتصحيح معتقدات
الأمة .
5 ـ عزل الإمام عليهالسلام
عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية
تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة
والسلطة .
الوشاية بالإمام عليهالسلام
يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي عليهالسلام
إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان
معروفاً بالنصب لأهل البيت عليهمالسلام وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛
وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي عليهالسلام بالمدينة ، وتأثيره الكبير على
الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .
ويشهد لذلك ما قالوا : من
أنّه كتب بريحة العباسي
(1) صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في
الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).
وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه
المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (234 هـ) وكتب معه إلى أبي الحسن عليهالسلام كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد
اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه
ذلك .
ــــــــــــــ
(1) وقيل اسمه ( تريخه ) ، وعن
الطريحي في مجمع البحرين : ( بريمة ) ، بينما ذكر آخرون أنّ اسمه عبد الله بن محمد
وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، اُنظر الإرشاد : 2/309 .
وإليك نصّ رسالة المتوكل
إلى الإمام الهادي عليهالسلام ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن
محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة
كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : (
بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ،
موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت
به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم . يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما
افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان
يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛
إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك (قرف : عابه أو اتّهمه .) به
، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك
محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك
محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى
الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك
والنظر إليك . فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل
بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت
، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين
لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين
. فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا
هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )
(الكافي : 1 / 501 .) .
إنّ المتوكل قد كان يهدف في
رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ،
محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه
لأهل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم.
وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهادي عليهالسلام أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه
؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة
كيف يشاء الإمام عليهالسلام .
وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام
عليهالسلام كان
يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .
وعلى أيّة حال فقد
قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن عليهالسلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل
فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال
مشدودة قد فرغ منها .
ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمام عليهالسلام ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك
في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .
ومن هنا نعلم أنّ
استقدام الإمام عليهالسلام كان
أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن
وجود سوء ظن بالإمام عليهالسلام بعد
تلك الوشايات ؟! وخرج عليهالسلام
بولده الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وهو
صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض
الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان
مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك
ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن
فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك
إلى غيره من خلقه .
قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه
واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك
(إثبات الوصية : 196 ـ 197 .) .
وأهم الإشارات ذات الدلالة في
هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية
الإمام عليهالسلام
وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد
الإمام فعمد الإمام عليهالسلام إلى
تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر
ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمام عليهالسلام
بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمام عليهالسلام ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند
الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمام عليهالسلام ويطلب العفو منه ، فهو يعرف
منزلة الإمام وآبائه عليهمالسلام
وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمام عليهالسلام بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام
يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة
إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة
الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمام عليهالسلام وتحرّكات قواعده ، فوجوده عليهالسلام في المدينة يعني بالنسبة للخليفة
تمتّع الإمام عليهالسلام
بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد
الموالية للإمام عليهالسلام .
وقد كان الإمام عليهالسلام في كل تحرّكاته وحتى في كتبه
ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ،
وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب
الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ
مصلّياً أو قارئاً للقرآن .
وقال ابن الجوزي : إنّ
السبب في إشخاص الإمام عليهالسلام من المدينة إلى
سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنين عليهالسلام وذريّته وخشي
تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه
(تذكرة الخواص : 322 .) .
وهذا التعليل ينسجم مع كل
تحفّظات الإمام عليهالسلام تجاه السلطان .
وحاول ابن هرثمة في الطريق
إحسان عِشرة الإمام عليهالسلام وكان يرى من الإمام عليهالسلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح
له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام عليهالسلام والتجسّس عليه .
عن يحيى بن هرثمة قال :
رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء
فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد
تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .
فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا
إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .
فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد
كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من
الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا
وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .
وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في
منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل
الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على
الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع
رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام
فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .
فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدته عليهالسلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً
ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .
قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في
ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .
فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة
يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من
ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف
وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن
يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازال عليهالسلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً
من أمرنا .
قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل
امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى
يرقى عين ابني هذا .
فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى
رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين
الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة
(إثبات الوصية : 225 .) .
ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء
ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام عليهالسلام خيراً واستوثق من حياته بقوله :
يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خصمك . فأجابه
يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل (مروج الذهب : 4/85 .) .
وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة
بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في
أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به
الإمام الهادي عليهالسلام ـ
شعرة لا يكون المطالب بها غيري .
قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت
المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره
فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن
جائزته وأجزل برّه (مروج الذهب : 4/85 ، وتذكرة الخواص : 359 .) .
غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن
هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام عليهالسلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ،
ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمام عليهالسلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان
الصعاليك (الإرشاد : 313 ـ 314 .) .
قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسن عليهالسلام فقلت له : جعلت فداك في كل
الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك (الكافي : 1/498 .) .
وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها
يحيى للمتوكل عن الإمام عليهالسلام
ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليهالسلام
، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن
كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل
يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليهالسلام
بشكل خاص .
الإمام عليهالسلام في سامراء
إنّ حجب المتوكل للإمام الهادي عليهالسلام لدى وروده والأمر بإنزاله في خان
الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهادي عليهالسلام يحمل بين طيّاته صورة واضحة من
نظرة المتوكل إلى الإمام عليهالسلام ،
فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلّما سنحت له الفرصة . ولكنّه كان يحاول
التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ؛ ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل
إليها .
مع العلم بأنّ المتوكل هو الذي كان قد
استدعى الإمام عليهالسلام
وكان يعلم بقدومه عليه ، ولابد أن يكون قد استعد لذلك .
وعلى أيّة حال
فالذي يبدو من سير الأحداث أنّ المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه
فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .
وحاول المتوكل غير مرّة
إفحام الإمام عليهالسلام بالرغم من أنّه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء
البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .
وإليك جملة من هذه الموارد
:
1 ـ إنّ
نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم . فقال
ابن الأكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله . وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود . وقال آخرون
غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهادي عليهالسلام وسؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب
، كتب : يضرب حتى يموت
. فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجّة من الكتاب والسنّة
فكتب عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم :
(فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ) .
فأمر المتوكل فضرب حتى مات (الكافي : 7/238 .) .
2 ـ
وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ،
أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمام عليهالسلام
قائلاً : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : مَن تعني ؟ ويحك
! فقال له : ابن الرضا .
فقال له : وهو يحسن من هذا شيئاً ؟ فقال
: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة . فبعث مَن يسأل له
ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأنّ الكثير ثمانون .
فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب
قائلاً : (ولقد
نصركم الله في مواطن كثيرة)
فعددناها فكانت ثمانين
(الكافي :
7/463 .) .
إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمام عليهالسلام أو هذا التعجّب من أنّه قادر على
الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمام عليهالسلام أمام الآخرين . ولكنّه لم يفلح
حتى أنّه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمام عليهالسلام ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل
هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور
علمه تقوية للرافضة(المناقب : 2/443 .) .
3 ـ ومن
جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمام عليهالسلام بالنزول إلى بركة السباع .
قال أبو هاشم الجعفري :
ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال المتوكّل
: أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما
مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مسح
عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه
الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .
فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد
العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما
تقولين في هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم
يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه
الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة
.
قالوا : فأحضر ابن الرضا عليهالسلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير
ما عندنا . فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفّيت في
سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا
أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها .
قال : ولا
عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال : لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع
فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها :
ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة ولد الحسن والحسين عليهماالسلام فأنزل من شئت
منهم ، قال : فو الله لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على
غيره لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في
أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ،
قال : أفعل .
فأُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من
الأسد ، فنزل أبو الحسن إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين
يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ،
ثم يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .
فقال له الوزير : ما هذا صواباً فبادر
بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً
وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأُحب أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي
حوله تتمسّح بثيابه .
فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت
إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال : كلّ
مَن زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها
المتوكّل : انزلي ، قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ
على ما قلت ، قال المتوكلّ : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته (بحار الأنوار : 50/149 .) .
إنّ هذه المواقف من الإمام عليهالسلام
لم تكن لتثني المتوكل عمّا كان يراوده من الضغط على الإمام عليهالسلام
ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه . وكان رصده للإمام عليهالسلام
لا يشفي غليله فكان يفتّش دار الإمام عليهالسلام
بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام عليهالسلام
أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام عليهالسلام
.
تفتيش دار
الإمام عليهالسلام
لم تحقّق وسائل السلطة ـ في التضييق على
الإمام ومراقبته ـ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكّد صحّة الوشايات بالإمام ،
فكثيراً ما سعى بعض المتزلّفين للخليفة بالإمام عليهالسلام وأوغروا صدره ضد الإمام عليهالسلام واخبروا الخليفة كذباً وزوراً
بأنّ لديه السلاح وتُجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي
كانت تدفع بالخليفة إلى إرسال جنده وبعض قوّاده إلى دار الإمام عليهالسلام وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمام عليهالسلام إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملاً
على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه
ناوله الكأس .
فقال له الإمام عليهالسلام : يا
أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .
ثم قال له المتوكل : أنشدني شعراً .
فأجابه الإمام عليهالسلام : إنّي
لقليل الرواية للشعر .
فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .
فانشده الإمام عليهالسلام
الأبيات التالية :
باتوا على قلل الأجبال
تحرسهم |
|
غلب الرجال فما أغنتهم
القُلَلُ |
واستنزلوا من بعد عِزٍّ من
معاقلهم |
|
فأودعوا حفراً يا بئس ما
نزلوا |
ناداهم صارخٌ من بعد ما
قُبروا |
|
أين الأسرّة والتيجان
والحللُ |
أين الوجوه التي كانت
منعّمةً |
|
من دونها تضرب الأستار
والكللُ |
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم |
|
تلك الوجوه عليها الدود
يقتتلُ |
قد طال ما أكلوا دهراً وما
شربوا |
|
فأصبحوا بعد طول الأكل قد
أُكلوا |
فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع
الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ،
فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّماً .
ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من
خُرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة ،
فنذرت أُمّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى
هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف
له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه . فلمّا
رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما
قال ، وأُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه
ما كان فيه وبُشّرت أُمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .
ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي
العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل
وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي
سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض
الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .
فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة
، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادة على
حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنّه كان يصلّي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها
وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل
وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس ،
فأخذت ذلك وصرت إليه .
فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث
إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنّها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك
لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا
خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .
فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل
ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي : (وسيعلم الذين
ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون) .
غير أنّ الإمام عليهالسلام
لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه ، بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في
جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف .
وممّا يعزّز ذلك ما رواه الشيخ الطوسي رضياللهعنه
بإسناده عن محمد بن الفحام : أنّ الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني
أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أيّ طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى
الإمام علي بن محمد عليهماالسلام
فصادفت عنده مَن احتشمه فتبسّم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِم لم
تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : أجللتك يا سيدي . فقال لي : المال يجيء الليلة وليس
يصلون إليه فبت عندي .
فلمّا كان من الليل وقام إلى ورده قطع
الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ
فاخرج وخذ ما معه .
فخرجت فإذا معه زنفِيلجه (معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .) فيها
المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القمية
إنّها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة
التي أبدلتها منها ردّها إليها . فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي
استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .
فقال : اخرج فقل له : إنّ الله يحفظ ما
لنا وعلينا . هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج
إليه عليهالسلام ،
فقال له : قد كنت شاكاً فتيقّنت
(أمالي الشيخ الطوسي : 276 ح 528 ، والمناقب
: 4 / 444 .) .
وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما
يلفت النظر فيها هو : أولاً : إنّ الإمام كان يعرف شكّ السلطة وهو آخذ حذره
ومستيقظ ومتأهّب للأمر ; لذا أجاب مَن سأله عن المال بأنّه سيصل ولا سبيل للمتوكل
وجلاوزته عليه ، وفعلاً وصل المال سالماً .
ثانياً : إنّ
حامل المال إلى الإمام عليهالسلام كان
يُريد أن يختبر الإمام عليهالسلام أو
يبحث عن وسيلة لليقين بإمامته عليهالسلام ؛
لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبّة التي كان
قد أخفاها تحت كتفه وزاد عليهالسلام
الأمر وضوحاً بقوله : أتيقّنت ؟ مشيراً إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما
يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور ، وقد أيقن واطمأن حينما أخبره
رسول الإمام عليهالسلام بما
كان يضمره .
ثالثاً : إنّ
أنصار الإمام عليهالسلام
وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة
.
وفيما يلي من خبر اعتقال
الإمام عليهالسلام أيضاً شواهد أخرى على هذه الحقيقة .
اعتقال الإمام
الهادي عليهالسلام
إنّ المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام
وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمام عليهالسلام أمر
باعتقال الإمام عليهالسلام
وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب
وكانت له معرفة به ، كما كان عالماً بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلاً : ما شأنك ؟
وفيم جئت ؟ قال صقر : بخير.
قال الحاجب : لعلّك جئت تسأل عن خبر
مولاك ؟ قال صقر : مولاي أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) .
فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق
( يعني الإمام الهادي عليهالسلام
) فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك .
قال صقر : الحمد لله .
فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟ قال صقر :
نعم .
فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد
.
ولمّا خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب
إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ،
وخلِّ بينه وبينه .
فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى
بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالساً على حصير وبإزائه قبر
محفور قد أمر به المتوكل لإرهاب الإمام ، والتفت عليهالسلام قائلاً بحنان ولطف : يا صقر ما أتى بك ؟ قال
صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .
وأجهش الصقر بالبكاء رحمة
بالإمام وخوفاً عليه : فقال عليهالسلام : ( يا
صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء
... فهدّأ روعه وحمد الله على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب
عنها ، وانصرف مودّعاً للإمام
(رواه الصدوق في الخصال : 394 ومعالي
الأخبار : 135 وكمال الدين ط النجف الأشرف : 365 و ط الغفاري : 382 ح9 ب 37 وعنه
الطبرسي في إعلام الورى : 2/245 . وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار :
50/194 .)
، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه ) .
محاولة اغتيال
الإمام الهادي عليهالسلام
وقد دبّرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة
لقتل الإمام عليهالسلام ولكنّها لم
تنجح ، فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل
الكاتب ونحن بداره بسُرّ مَن رأى فجرى ذكر أبي الحسن عليهالسلام
فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟ قال : كنّا مع المنتصر وأبي كاتبه
فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به
وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت
وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟
ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول : هو مكذوب عليه ، وهو يتلظّى ويستشيط ويقول
: والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق وهو يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .
ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع
إليهم أسيافاً ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنه بعد
قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان وهو
غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه
يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول : يا سيدي يا بن رسول الله يا
خير خلق الله يا بن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن .
وأبو الحسن عليهالسلام
يقول : أعيذك يا أمير
المؤمنين من هذا .
فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟
قال : جاءني رسولك .
قال : كذب ابن الفاعلة .
فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد
الله يا منتصر شيّعوا سيّدكم وسيدي ، فلمّا بصر به الخزر خرّوا سجّداً ، فدعاهم
المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : شدّة هيبته ، ورأينا حوله
أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .
فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .
وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار
حجّته (الخرائج والجرائح : 1/417 ـ 419 ح 1 ب 11 وعنه في كشف الغمّة : 3/185 .) .
إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل
نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمام عليهالسلام
فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .
والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي
باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمام عليهالسلام
بأيّ نحوٍ كان ، من هنا بادر في يوم الفطر ـ وفي السنة التي قُتل فيها ـ إلى الأمر
بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي عليهالسلام
بين يديه ، فترجّل الإمام عليهالسلام
كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيّدنا
ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو
الحسن عليهالسلام
: في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على
الله من ناقة ثمود ، لمّا عقرت الناقة صاح الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله
سبحانه : (تَمَتَّعُوا فِي
دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (بحار الأنوار : 50/209 .)
.
دعاء الإمام عليهالسلام على المتوكّل
والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام إلى
الله تعالى ، وانقطع إليه ، وقد
دعاه بالدعاء الشريف الذي عُرف ( بدعاء المظلوم على الظالم )
وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت عليهمالسلام (مهج الدعوات : 50/209 .) .
واستجاب الله دعاء وليّه
الإمام الهادي عليهالسلام ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .
وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع
مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لأربع خلون
من شوّال (247 هـ) يتقدّمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملاً سكراناً
، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟! فلم يعتنوا به ورمى
بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ أنّه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً ،
وأسرعوا إليهما فقطّعوهما إرباً إرباً ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ـ كما
يقول بعض المؤرّخين ـ ودُفنا معاً .
وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من
أعدى الناس لأهل البيت عليهمالسلام .
وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم
فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وأنّه أخذ
بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .
واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك
المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح ؛ فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي
لا تطاق (الكامل في التاريخ : 10 / 349 .) .
هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد
، أُمّه أُمّ ولد رومية اسمها حبشيّة .
بُويع له بعد قتل أبيه في
شوّال سنة (247 هـ) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه :
إنّه أظهر العدل والإنصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له ، وكان
كريماً حليماً وممّا نُقل عنه قوله : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال
المقتدر الانتقام .
ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً
معدودة دون ستة أشهر .
وقال الثعالبي : ومن
العجائب أنّ أعرق الأكاسرة في الملك ـ وهو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ
ستة أشهر . وأعرق الخلفاء في الخلافة ـ وهو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتّع بعده سوى
ستة أشهر (تاريخ الخلفاء : 356 ـ 358 .) .
وكان المنتصر ليّناً مع العلويين
المظلومين في عهد أبيه ، فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة أبيه
في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله (2) .
وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم
ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين عليهالسلام
ورد على آل الحسين فدكاً . فقال يزيد المهلّبي في ذلك :
ولقد بررت الطالبية بعدما |
|
ذمّوا زماناً بعدها وزمانا |
ورددت ألفة هاشم فرأيتهم |
|
بعد العداوة بينهم إخوانا (1) |
تاريخ
الخلفاء : 417 ، 418 .
يقول أبو الفرج عنه : وكان المنتصر يظهر
الميل إلى أهل البيت عليهمالسلام
ويخالف أباه في أفعاله فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه (مقاتل الطالبيين : 419 .) .
ولمّا ولي المنتصر صار يسب الأتراك ويقول
: هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهمّوا به فعجزوا عنه ؛ لأنّه كان مهيباً شجاعاً
فطناً متحرّزاً فتحيّلوا إلى أن دسّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في
مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات (تاريخ الخلفاء : 419 .)
.
هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو
المتوكّل ، ولد سنة (221 هـ) وأُمّه أُمّ ولد اسمها مخارق ، اختاره القوّاد بعد
موت المنتصر ، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ، وقتل
وصيفاً وبُغا .
ولهذا خافهم وانحدر من سامراء إلى بغداد
، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع ، فقصدوا الحبس وأخرجوا
المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين ، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد
أهل بغداد للقتال مع المستعين .
لم يدم حكم المستعين سوى أربع سنوات
وأشهر ، وقد تميّزت فترة حكمه بالاضطرابات التي تعود إلى قوّة الأتراك وضعفه
أمامهم ، كما تعود إلى الظلم والإجحاف بالأمة إلى جانب تنازع العباسيين على السلطة
، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكمه من وثبات وثورات :
1 ـ وثبة في الأردن بقيادة رجل من لخم .
2 ـ وثب في حمص أهلها بعاملهم كيدر
الاشروسني .
3 ـ وثبة الجند في سامراء وضربة لأوتاش
التركي وهو أحد القادة .
4 ـ وثبة المعرّة بقيادة القصيص وهو يوسف
بن إبراهيم التَّنوخي .
5 ـ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن
خالد .
6 ـ وثبة إسماعيل بن يوسف الجعفري
الطالبي في المدينة .
فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً
وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين ؛ فسعوا في الصلح على خلعه ، وقام في
ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكّدة ، فخلع المستعين نفسه في أوّل سنة اثنتين
وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأُحدِر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلى سامراء . وأرسل
المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال :
والله لا أقتل أولاد الخلفاء ، فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة
وله إحدى وثلاثون سنة
(تاريخ الخلفاء للسيوطي : 358 ـ 359 .)
.
هو محمد بن المتوكل ، ولد سنة
(232 هـ) ، بُويع له وعمره تسع عشرة سنة ، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه ، وهو
أوّل خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب ، فقد كان الخلفاء
قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة . كان المعتز مستضعفاً من قِبل الأتراك
وأُلعوبة بأيديهم . وأوّل سنة تولّى فيها
السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه على السلطة وخلف خمسمائة ألف دينار ،
فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وقلّده سيفين ، ثم
عزله وخلع خلعة الملك على أخيه وتوّجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ، ووشاحين
مجوهرين وقلّده سيفين ، ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط ، وخلع على بغا الشرابي
وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه .
وفي رجب من هذه السنة خلع
المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيّده فمات بعد أيام ، فخشي المعتز أن يتحدّث عنه أنّه قتله أو
احتال عليه ، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر ، وكان المعتز مستضعفاً مع
الأتراك ، فاتفق أنّ جماعة من كبارهم أتوه وقالوا : يا أمير المؤمنين أعطنا
أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف ، وكان المعتز يخاف منهم فطلب من أُمّه ( قبيحة ) مالاً
لينفقه فيهم ، فأبت عليه وشحّت نفسها ، ولم يكن بقي في بيوت المال شيء بينما كانت
أُمه تملك الأموال العظيمة ، حيث أنفقت على صالح بن وصيف مالاً عظيماً بعد قتله ؛ ولهذا اجتمع الأتراك على خلعه ، ووافقهم صالح بن وصيف ، ومحمد بن
بُغا ، فلبسوا
السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا ، فبعث يقول : قد
شربت الدواء وأنا ضعيف ، فهجم عليه جماعة وجرّوا برجله وضربوه بالدبابيس ، وأقاموه
في الشمس في يوم صائف ، وهم يلطمون وجهه ويقولون : اخلع نفسك ، ثم احضروا القاضي
بن أبي الشوارب والشهود وخلعوه ، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة ـ وهي يومئذٍ
سامراء ـ محمد ابن الواثق ، وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد فسلّم المعتز إليه
الخلافة وبايعه (تاريخ الخلفاء للسيوطي : 359 ـ 360 .) .
ومات المعتزّ بعد خلعه من
الخلافة بطريقة غريبة ، بعد خمس ليال من خلعه ، حيث أدخلوه الحمّام
، فلمّا اغتسل عطش فمنعوه الماء ، ثم أُخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً ،
وذلك في شهر شعبان المعظّم سنة خمس وخمسين ومائتين .
لقد ذكر المؤرّخون موقف
المعتز المعادي لآل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم واضطهادهم واضطهاد شيعتهم ، ومن نماذج سيرته أنّه أعمل السيف في
العلويين وآخرين حتّى ماتوا في سجونه ، وممّن قُتل في عهده :
1 ـ جعفر بن محمد الحسيني ، وقد قُتل في
وقعة حدثت بالري بينه وبين أحمد بن عيسى عامل محمد بن طاهر (مقاتل الطالبيين : 434 .) .
2 ـ إبراهيم بن محمد العلوي فقد قتله
طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين (المصدر السابق : 433 .) ،
وغير هؤلاء كثير ممّن أعمل ولاة العباسيين فيهم السيف والقتل .
أمّا مَن مات في الحبس فكثير أيضاً ،
منهم : عيسى بن إسماعيل الحضرمي ، وأحمد بن محمد الحسيني (مقاتل الطالبيين : 434 .) .
ــــــــــــــ
الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام
مارس الإمام الهادي عليهالسلام
مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (220هـ) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (254 هـ)
وخلال هذه السنوات الأربعة والثلاثين قد عاصر ستّة
من ملوك بني العباس الذين لم يتمتّعوا بلذّة
الحكم والخلافة كما تمتّع آباؤهم ؛ حيث تراوحت فترة
خلافة كل منهم بين ستة أشهر وخمسة إلى ثمان سنوات سوى
المتوكل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً .
ويعتبر عهد المتوكل
العباسي بدء العصر العباسي الثاني ، وهو عصر نفوذ
الأتراك (232 ـ 334 هـ) واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية ،
الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (656 هـ) .
وكان لسياسة المتوكل وأسلافه الأثر
البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج ، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها :
كالسامانية ، والبويهية ، والحمدانية ، والغزنوية ، والسلجوقية ، بعد هذا العصر (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 1 بتصرّف .) .
وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدّم الحضارة الإسلامية باعتبار انفتاح بعض الأُمراء على
العلم والعلماء لكنّها أضعفت
كيان الدولة العباسية سياسيّاً ؛ لأنّها قد ساهمت في إيجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلامية الكبرى .
وقد يعزى هذا الانفصال وتشكيل هذه
الدويلات ـ إضافة إلى الاضطهاد وتعسّف سلاطين الدولة العباسية ـ إلى استخدام
الأتراك في مناصب الدولة الحسّاسة ، واعتمادهم كقوّة رادعة ضدّ معارضي الدولة
العبّاسية ؛ إذ أصبح الجيش يتكوّن منهم قيادة وأفراداً ، بينما أُبعد العرب وسواهم
عن تلك المناصب ممّا أثار حفيظة العرب ضد السلوك السياسي للدولة العبّاسية ؛
وبالتالي أدّى إلى الانفصال عنها .
وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين
الذين استعانوا بالأتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 2 ويراجع تاريخ الطبري
: 7 حول ازدياد نفوذ الأتراك في عصر المعتصم .) .
وقد انتهج المتوكل سياسة العنف
تجاه العلويين وشيعة أهل البيت عليهمالسلام فضلاً عن أهل البيت عليهمالسلام أنفسهم ، وتجلّى ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن علي عليهالسلام وما حوله من الدور ، بل أمر بحرثه وبذره وسقي موضع
القبر ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن على مَن زاره(تاريخ الطبري : 11/44 .) .
وقد أثار المتوكل بهذه
السياسة حفيظة المسلمين بشكل عام ، وأهل بغداد بشكل خاصّ ، وقد
ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقات (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 5 .) .
وفي زمن المتوكل أصابت
مدن العراق مجاعة شديدة وهلك كثير من الناس ، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة
فاستأنفوا غاراتهم على أراضيها فأغاروا على دمياط وفتكوا بأهلها وأحرقوا دورهم ،
ثم غزوا فيليفيا جنوبي آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة (1) .
وفي عام (235 هـ) عهد المتوكل
إلى أولاده الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد ، بيد أنّه رأى أن يقدّم المعتز على
أخويه لمحبّته أم المعتز ( قبيحة ) ولكنّ المنتصر
غضب لذلك فدبّر مع أخواله الأتراك مؤامرة لاغتيال أبيه ، وحاول بعض الأتراك في
دمشق اغتيال المتوكل غير أنّ محاولتهم تلك باءت بالفشل بفضل ما عمله بغا الكبير
والفتح بن خاقان (2) .
ولم ينج المتوكل من الاغتيال
فقد قُتل فيما بعد ، بعد اتفاق بغا الصغير وباغر التركي
للتخلّص منه وتنصيب ابنه المنتصر عام (247 هـ) .
وكان المنتصر يحسن للعلويين
مخالفاً بذلك سياسة أبيه ، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم
والسماح لهم بزيارة قبر الحسين عليهالسلام .
ولم يدم حكم المنتصر
طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (248 هـ) (3) .
وبعد مقتل المنتصر تولّى كرسيّ الخلافة المستعين بالله سنة (248 هـ)
وأرجع عاصمته إلى بغداد غير أنّ الأتراك لم يأمنوا جانبه ، فاتفق باغر التركي مع جماعته على خلع المستعين ونصب المعتز مكانه (4) .
ووقعت بينهما حرب دامت عدّة أشهر انتهت بإبعاد المستعين إلى واسط ثم قتله غيلة (5) .
كما أنّ المعتز لم ينج من أعمال العنف
والتعسّف التي قام بها قوّاد الدولة العباسية من الأتراك فقُتل شرّ قتلة على أيديهم وذلك سنة (255 هـ) .
وكان اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام
في حكم المعتزّ في سنة (254 هـ)
(تاريخ
اليعقوبي : 2 / 503 .)
.
إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل
التفكّك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية ، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم
وأُمّهاتهم إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيين
والعرب ،
ــــــــــــــ
(1) تاريخ
الإسلام السياسي : 3/5 .
(2) مروج
الذهب : 2 / 390 .
(3) تاريخ
الطبري : 7 أحداث عام 248 هـ .
(4) مروج
الذهب : 2 / 407 ـ 408 .
(5) الكامل في التاريخ : 7 /
50 وما بعدها .
كما كان لظلم الأُمراء والوزراء دوره
البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين (لقد توالت حوادث الشغب في بغداد من سنة (249 هـ) وتجدّدت أربع مرات حتى
سنة (252 هـ) وبدأت مشاغبات الخوارج من سنة (252 هـ) واستمرّت إلى سنة (262 هـ) .
ورافقها ظهور صاحب الزنج سنة (255هـ) ، وهذه سوى ما سيأتي من انتفاضات العلويين
خلال النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري .) ؛
تمرّداً على ظلم الظالمين ونهب ثروات المسلمين والاستهتار بالقيم الإسلامية
والتبذير في بيت مال المسلمين .
إنّ ضعف شخصيّة الحكّام أدّى إلى سقوط
هيبتهم عند الولاة ممّا دعاهم إلى الاتّجاه نحو الاستقلال بشكل تدريجي لعلمهم بضعف
مركز الخلافة وانهماك الحكّام بالملاهي والملذّات .
وقد شجّع الحكّام الأُمراء وعمّالهم على
الاهتمام بجمع الأموال وإرسالها إلى الخليفة ونيل رضاه واتّقاء تساؤلاته عن
تصرّفات الأُمراء .
وأدّت هذه الظاهرة إلى طغيان
المقاييس المادّية واستقرارها في مختلف الشرائح الاجتماعية .
وقد ساعدت الفتوحات ـ التي كانت أشبه
بالغزو لإحكام السيطرة على الأراضي بدل فتح القلوب والعقول ـ على استحكام المقاييس
المادية ؛ لأنّها كانت تدرّ الأموال والغنائم على الجيش الفاتح فكانت مصدراً من مصادر
الثروة التي يفكّر بها الحكّام والأُمراء .
كان لترجمة الكتب
اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر ،
وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام
المأمون ، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة
والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من
اتجاهات فكرية وثقافية من جهة أخرى .
كما كان لارتحال المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافي بين شرق البلاد
الإسلامية وغربها ، وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً
وحركة فكرية ، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء
والحكّام حتى عُدّ القرن الرابع الهجري ـ فيما بعد ـ العصر الذهبي للحضارة
الإسلامية .
وقد حظي الشعراء والأدباء
بمكانة رفيعة عند الأُمراء ممّا أدّى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر .
ولا ينبغي أن نغفل عن محنة خلق القرآن وما رافقها من توتّر في المجتمع
الإسلامي طيلة عقود ثلاثة
(تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 332 وما بعدها
.)
.
إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على
السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع
الاقتصادي .
وكان لظهور الطبقية في
المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت إلى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة
وارتفاع الأسعار ، ممّا كان له أثر كبير
في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قِبل الدولة ، وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم
الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء ؛ وهو دليل
واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم (يُراجع تاريخ الطبري : ج7 ، أحداث السنوات 247 ـ 254
هـ .)
.
4 ـ الموقع الاجتماعي
والسياسي للإمام الهادي عليهالسلام
إنّ حادثة إشخاص الإمام عليهالسلام من قِبل المتوكل من المدينة إلى
سامراء وإيكال ذلك الأمر إلى يحيى بن هرثمة ، وما نقله يحيى هذا عن حالة أهل
المدينة المنوّرة ، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمام عليهالسلام عنهم ؛ يصوّر لنا مدى تأثّر أهل
المدينة بأخلاقيّة الإمام عليهالسلام
المثلى وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدّة اندماجه في حياتهم ، ولا غرو ، فهو سليل
دوحة النبوّة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوّة ، فالإمام هو حجّة الله
سبحانه على خلقه وهو المثل والقدوة التي يُقتدى بها وهو القيّم والحافظ لرسالة
الإسلام .
وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام
الحسن العسكري عليهالسلام كان
يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له : لو رأيت أباه ـ أي الإمام الهادي عليهالسلام ـ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً
خيّراً فاضلاً (كمال الدين للشيخ الصدوق : 1 / 42 .) .
وكان للإمام عليهالسلام نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد
أُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمام عليهالسلام بعد
التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند
الله تعالى .
وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط
فضلاً عن عامّة الناس ، في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة على
تصرّفات الإمام عليهالسلام
وارتباطاته ؛ لئلاّ يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته ، بل كان يخطّط لسجنه واغتياله .
وتكفي نظرة سريعة على ما صدر من معاصريه
من تصريحات حول مكانته وسموّ منزلته ؛ لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمام عليهالسلام
بالرغم من كل محاولات التسقيط (راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب .) .
5 ـ العباسيون والإمام
الهادي عليهالسلام
تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في
مناهضة أهل البيت عليهمالسلام بعد
أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز ، وأنّهم لا يداهنون من أجل الحكم
والملك ، بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم ، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد
تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود ، ورافقها خلق
البدائل العلمية لئلاّ ينفرد أهل البيت عليهمالسلام
بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية ، فكان الدعم المباشر من الحكّام
لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق .
ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم
الإعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيت عليهمالسلام إلى
غيرهم ، فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضا عليهالسلام .
غير أنّ المأمون حين أدرك عدم إمكان
احتواء الإمام عليهالسلام قضى
عليه ، لكنّه بتزويجه لابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد عليهالسلام قد أحكم الرقابة على ولده الإمام
الجواد عليهالسلام
بشكل ذكي جداً ، ولم يسمح المعتصم للإمام الجواد عليهالسلام ـ وهو في ريعان شبابه ـ ليبقى في
مدينة جدّه ، بل استدعاه وقضى عليه بالسم ؛ لأنّه قد أدرك أيضاً عدم إمكان احتوائه
، بل عدم إمكان إحكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه .
وهنا جاء دور المتوكل ومَن تبعه لسجن
الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّى ، فتمّ استدعاء الإمام الهادي عليهالسلام وعُرِّض لأنواع الاحتقار
والتسقيط والتضييق ـ كما لاحظنا ـ وأُحكمت
الرقابة على كل تصرّفاته داخل البيت وخارجه ، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي
العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه وإعزازه عليهالسلام ، بينما وصلت الرقابة إلى أبعد
حدّ .
وكانت قضية الإمام المهدي
المنتظر عليهالسلام من الأسباب المهمّة التي
دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه ؛ لئلاّ يولد الإمام المهدي عليهالسلام
إن أمكن أو للاطلاع على وجوده إن كان قد وُلد ، ومن ثمّ القضاء
عليه .
وقد بقي الإمام الهادي عليهالسلام تحت
رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد على العشرين عاماً (وقد عرفت أنّ بعض المصادر صرّحت بأنّ مدّة إقامته عليهالسلام في سامراء عشر سنوات وأشهر .) ، وهي
فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضا عليهالسلام أو فترة بقاء
الإمام الجواد عليهالسلام في بغداد في زمن المعتصم .
وفي هذا مؤشّر واضح لتغيير
العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيت عليهمالسلام .
6 ـ اضطهاد أتباع أهل البيت عليهمالسلام
إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم
سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيت عليهمالسلام فإنّا نجد
السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم ،
وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون
باحترامه الخاص للإمام الرضا عليهالسلام .
إنّ حرمان أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم من
الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم
.
ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم
سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس ، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية
لأهل البيت عليهمالسلام في
قلوب المؤمنين .
وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من
الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيت عليهمالسلام
كان قد حظي بوظيفة حكومية ، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتى بان
الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر .
لقد تمادى المتوكل في إيذاء العلويين
ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتى أشرفوا على الهلاك من شدّة الفقر ، بل
تمادى في الجور عليهم حتى قدّم دعوى غير العلوي على دعوى العلوي إذا تحاكما عند
القضاة .
ولم نجد من العباسيين عامة إلاّ العداء
والبغض لأهل البيت عليهمالسلام
لأسباب شتّى ، منها : تفرّد أهل البيت عليهمالسلام
بالنصّ عليهم من قِبل جدّهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية ، وتأثيرهم على قلوب المسلمين ووجدانهم ،
والاهتمام بشؤونهم ، وإيثارهم للدين على الدنيا ، والموت في سبيل الله على الحياة
مع الذل والهوان في غير طاعة الله .
إنّ عواطف
المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام
وشيعتهم الذين يحذون حذوهم ، وأخذت هذه
الظاهرة تنمو وتظهر على الساحة الإسلامية ، وهذا ممّا لا يرتاح له الحكّام
العباسيون وعملاؤهم الذين جلسوا على موائدهم التي جسّدت أفضع أنواع التبذير في بيت
مال المسلمين .
وأهل البيت عليهمالسلام بعد ثورة
الحسين عليهالسلام وإن
لم يتصدّوا للثورة المسلّحة ضدّ الطغاة لأسباب تعود إلى سياستهم المبدئية لمعالجة
أنواع الانحراف في المجتمع الإسلامي ، لكنّهم قد فتحوا الطريق أمام الثوّار
العلويين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسلاح حين لا يثمر الكلام
والحجاج .
ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من
الثورات التي قام بها قادة علويون على طول الخط بعد ثورة الحسين عليهالسلام .
وقد استمرّت هذه الثورات حتى عصر الغيبة
وانتهت فيما بعد إلى تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون
ثقافة أهل البيت عليهمالسلام
ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية .
ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو من بعيد .
وهذا الخط الثوري في هذه الظروف الحرجة
يُعدّ أحد الأسباب التي حتّمت على الإمام الثاني عشر ـ باعتباره آخر القادة
المعصومين ـ أن يتستّر بستار الغيبة لئلاّ تخلو الأرض من حجج الله وبيّناته .
وقد خرج على حكّام هذا
العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوري ضدّ الظلم والظالمين وإليك
قائمة بأسمائهم مع ذكر تاريخ ومنطقة تحرّكهم وخروجهم :
1 ـ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ،
خرج في حكومة المعتصم واعتُقل في سنة (219 هـ) وروي
أنّه قُتل بالسمّ .
2 ـ محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام خرج
على المتوكّل في المدينة وأُسر وسُجن في سامراء .
3 ـ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام .
خرج على المستعين في الكوفة سنة (250 هـ)
، ارتضاه أهل بغداد وليّاً للأمر كما بايعه جملة من أهل الحل والعقد في الكوفة .
وضجّ الناس لقتله وحزنوا عليه حزناً لم
ير مثله .
4 ـ الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن
الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، خرج في
طبرستان سنة (250 هـ) واستولى على الري وآمل وامتدّ نفوذه إلى جرجان في سنة (257
هـ) واستمرّ في الحكم حتى سنة (270 هـ) ، ثم خلفه أخوه محمّد بن زيد وكان فقيهاً
أديباً وجواداً .
5 ـ محمد بن جعفر بن الحسن ، خرج في الري
سنة (250 هـ) ودعا أهل الري إلى حكم الحسن بن زيد الذي كان قد سيطر على طبرستان .
6 ـ الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد
الله بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في قزوين سنة (250 هـ) .
7 ـ الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله
بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في الكوفة سنة (251 هـ) .
8 ـ إسماعيل بن يونس بن إبراهيم بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في مكّة سنة (251 هـ) .
9 ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم
بن طباطبا ثار في سنة (255هـ) بين برقة والإسكندرية .
10 و 11 ـ عيسى بن جعفر العلوي ، ثار مع
علي بن زيد في الكوفة سنة (255 هـ) .
12 ـ علي بن زيد بن حسين بن عيسى بن زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في الكوفة سنة (256 هـ) للمرة الثانية .
13 ـ إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد
الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
المعروف بابن الصوفي ثار في مصر سنة (256 هـ) (راجع مقاتل الطالبيين : 478 ـ 536 ومروج الذهب : 4/50 ـ 180 ، والكامل
في التاريخ ، الجزء السابع .) .
هذه صورة موجزة عن الحركات
المناهضة للحكّام الذين تربّعوا على كرسيّ الخلافة وحكموا باسم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وهم بعيدون كل البعد عن هديه وسننه .
وفي مثل هذه الظروف السياسية العامة
والفتن الدينية التي أجّجها الخلفاء وسقتها الثقافات المستوردة ، ماذا كانت
تتطلّبه الساحة الإسلامية العامة من معالجات ؟ وماذا كانت تتطلّبه الساحة الخاصة
بأتباع أهل البيت عليهمالسلام
الذين أخذوا يقتربون من عصر الغيبة الذي أخبر عنه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
وبدأت تتكشّف علائمه وتتهيّأ أسبابه ؟ هذا
ما سوف ندرسه خلال الفصول التالية إن شاء الله تعالى .
ــــــــــــــ
الباب الرابع : وفيه فصول :
الفصل الأول : متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثاني : الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها .
الفصل الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود .
الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه .
الفصل الأوّل : متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بعد أن عرفنا المهمّ من ملامح عصر الإمام
الهادي عليهالسلام
نستطيع الآن أن نقف على متطلّبات عصره . وسوف
نبحث عنها في حقلين :
الأوّل
: متطلّبات
الساحة الإسلامية العامة .
الثاني
: متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد
عام لكلا الحقلين .
وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام قد تولّى الإمامة بعد استشهاد
أبيه الجواد عليهالسلام سنة
(220 هـ) وهو لمّا يبلغ الحلم ؛ إذ لم يتعدّ عمره الثامنة ـ على أكبر الفروض ـ فهو
قد شابه أباه الجواد عليهالسلام في
تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة .
وقد كان لتولّي الإمام الجواد عليهالسلام
الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا عليهالسلام
مغزى ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة ، وإليك جملة منها :
إنّ أهل البيت عليهمالسلام قد أضافوا
دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثّلت في النصوص النبويّة أوّلاً
، والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم لتولّي
شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً
.
والأئمة بعد استشهاد
الحسين عليهالسلام قد
اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الأمة الإسلامية من تبعات التلاقح
الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح على ثقافات جديدة بعد الفتوح .
وقد عادت الهمينة الفكرية
والريادة العلمية لأهل البيت عليهمالسلام بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الأمويون ومَن سار في خطّهم
؛ لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها إلى الحياة الإسلامية الجديدة .
فالإمام زين العابدين عليهالسلام
وابنه الباقر عليهالسلام الذي عرف بأنّه يبقر العلم بقراً ،
وحفيده جعفر الصادق عليهالسلام
الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومَن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في
أرجاء العالم الإسلامي ؛ قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل البيت عليهمالسلام للريادة
الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية إلى جانب نص الرسول على أنّهم
الخلفاء الحقيقيون له .
واستمرّ هذا الخط الريادي
في عصري الإمامين الكاظم والرضا عليهماالسلام وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيت عليهمالسلام
على قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم
في الحياة الإسلامية ، وانعكس هذا الأمر على
الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام
الكاظم عليهالسلام ؛
إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتى قضى عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً .
كما لم يتحمّل ابنه
المأمون الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام كذلك ، بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث
حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في إطفاء نوره بما أجراه من الحوارات
والتحدّيات العلمية الصعبة بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه
؛ إذ كان قد خطّط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص على الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني أمية وبني العباس . بعد
اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر إلى تصفيته جسدياً ليقضي على أكبر منافس
له . فإنّ الإمام الرضا
عليهالسلام كان يرى هو وكثير من
المسلمين بأنّ المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله مَن اصطفاه من
عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة .
فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي
بينما الإمام الرضا عليهالسلام ولا
سيّما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب ، بل قد تألّق نجمه ، فهو يحظى
بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيّما بعد الحوارات العلمية التي
أُجريت معه .
إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون
رغم ذكائه وحنكته السياسية ، قد سوّلت له وجرّته الى اغتيال الإمام الرضا عليهالسلام .
وهنا جاءت إمامة الجواد عليهالسلام المبكّرة
لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر على جدارة أهل البيت عليهمالسلام للقيادة
الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام .
وشكّلت هذه الإمامة تحدّياً صارخاً لا
يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الأشكال ، فقد عرّض المأمون
الإمام الجواد عليهالسلام
لأصناف الحوارات والتحدّيات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته ، ولكنّه كان لا يملك
أيّ عذر للقضاء عليه .
ولكنّ المعتصم قد دنّس
يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت على الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم
يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوى سبع عشرة سنة .
والقضاء على الإمام الجواد عليهالسلام في هذه الظروف كاشف عن مدى عمق
الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجواد عليهالسلام وهو
عميد أهل البيت وكبيرهم روحيّاً وعلمياً وقيادياً ؛ حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة
، وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه ـ فضلاً عن قلوب مَن سواهم ـ ودانت له بالولاء
أعداد غفيرة من المسلمين . وإلاّ فلماذا هذا التسرّع في القضاء عليه وهو لم يحاول
القيام بأيّة حركة أو ثورة ضدّ النظام الحاكم ؟!
وقد جاءت الإمامة المبكّرة
للإمام الهادي عليهالسلام في هذا الظرف وبعد هذه التحدّيات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية
والثقافية والدينية .
فهل نصدّق بأنّ الحكّام بعد المعتصم ،
وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيت عليهمالسلام على الساحة
الإسلامية ، سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والموقع
القيادي لأهل البيت عليهمالسلام
الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنّهم المنصّبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟
وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية
والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون المسلمين وهيمنوا على قلوب الناس وعقولهم
؟
إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق
طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيت عليهمالسلام
.
ولم يرتدع هؤلاء الحكّام عمّا سلف عليه
آباؤهم من مقارعة مَن ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتى وهو لم يبادر
إلى الثورة ضدّهم ، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين
آونة وأُخرى .
فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم ؟
وكما علمنا ـ سابقاً ـ أنّ الإمام الهادي عليهالسلام في
كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة ، وقد
جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثّل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط
العلمي تارة أُخرى ثم التحجيم بشتّى أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير
والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكرّرة خلال ثلاثة عقود ونصف
تقريباً من سنيّ عمره المبارك .
فما الذي كان ينتظره الإمام عليهالسلام من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف
ومع هذه المحاسبات ؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه
محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب ؟ على ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات
المرحلة في كلا الحقلين . كما سيأتي بيانه .
إنّ
إمامة الجواد عليهالسلام المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة
وطيدة بقضيّة الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولّى الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره
دون عمر هذين الإمامين عليهماالسلام ، كما أخبر بذلك الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من أهل البيت عليهمالسلام .
إنّ التمهيد الذي قام به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ تبعاً للقرآن
الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنّه سيولد من أبناء
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
فاطمة وعلي عليهماالسلام
وأنّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد ، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة ؛ لأنّها
نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها
، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الأخبار
السابقة لأوانها .
إنّ هذا التمهيد النبوي
الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (500) نص حول حتميّة ظهور
المهدي عليهالسلام وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي
النموذجي .
وقد سار على درب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً
من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم . وقد
زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى
خطّهم المنحرف ، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين كما أنّه مصدر رعب للظالمين
المتحكّمين في رقاب المسلمين .
ولو لم يصدر من أهل البيت عليهمالسلام
إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا
كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم .
ولكنّ اضطرارهم لمراعاة
الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيت عليهمالسلام فكانت إرادة
الله تفوق إرادتهم . غير أنّهم لم يتركوا
التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم .
فعن الحسين أشاعوا أنّه قد
خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمّة جده .
والإمام الكاظم عليهالسلام
ـ ومَن سبقه ـ قد اتّهم بأنّه يُجبى له الخراج وهو يخطّط للثورة على السلطان .
والإمام الرضا والجواد عليهماالسلام
قد قُضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنّه المتهم في اغتيال
الرضا عليهالسلام ، والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال .
إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام
المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومَعْلَماً لا يمكن تجاوزه ؛ حرصاً على مستقبل
الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمّة شاهدة وأُمّة وسطاً يفيء إليها
الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله )
على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كلّه ولو كره الكافرون .
وقد ضحّى أهل البيت عليهمالسلام
لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم واعتمده أهل البيت عليهمالسلام كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين .
ويشهد لذلك ما ألّفه
العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهدي عليهالسلام
في القرنين الأوّل والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر .
فالإمام المهدي عليهالسلام قبل ولادته بأكثر من قرنين كان
قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته
الإسلامية بصلة .
واستمرّ التبليغ لذلك طوال
قرنين ونصف قرن من الزمن . والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه
جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقلّ بشأنه .
والمتيقّن أنّ عصر
الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام ومَن تلاهما من الأئمة عليهمالسلام قد
حفل بهذا التأكيد ؛ فقد أُحصيت نصوص الإمام
الصادق عليهالسلام بشأن المهدي فناهزت الـ (300) نصّاً . واستمرّ التأكيد على ذلك
خلال العقود التي تلته .
فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه
من الناحيتين السياسية والاجتماعية ؟ وما هي النتائج المتوقّعة لمثل هذه القضية
التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين ؟
وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى .
(
قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد
الكاتب رضياللهعنه قال أبو محمد عليهالسلام : قد وضع بنو أُمية
وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين : إحداهما : أنّهم
كانوا يعلمون ( أنّ )
ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها .
وثانيهما
: أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة
على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا ، وكانوا لا يشكّون أنّهم من
الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليهالسلام
أو قتله ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون
)
(منتخب الأثر : 359 ط ثانية عن أربعين الخاتون آبادي ( كشف الحق ) .) .
ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت
الاثني عشر عليهمالسلام .
كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على
تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر
النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة .
كما أنّنا يمكن أن نكتشف السرّ في أنّ
الأئمة بعد الإمام الصادق عليهالسلام
لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان ؟ بل وُلدوا من إماء طاهرات
عفيفات مصطفاة ، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود
ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيت عليهمالسلام .
وحين كان يقوم الإمام السابق بالتمهيد
لإمامته وطرح اسمه على الساحة بالتدريج ، حينئذٍ كان ينتبه الحكام لذلك وربّما
كانت تفوت عليهم الفرص لاغتياله والقضاء عليه .
ولهذا حين كان يشار إليه بالبنان وتتوجّه
إليه القلوب والنفوس كانت الدوائر الحاقدة تبدأ بالكيد له باستمرار .
قال أيوب بن نوح ، قلت للرضا عليهالسلام : نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ،
وإن يردّه الله إليك من غير سيف فقد بُويع لك وضُربت الدراهم باسمك ، فقال : ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن
المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اعتلّ ومات على فراشه حتى
يبعث الله عزّ وجل لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ حتى خفي في نفسه
(كمال الدين : 354 .) .
فالإمام
الكاظم والإمام الرضا عليهالسلام قد استشهدا وهما في الخامسة والخمسين من عمرهما بينما الإمام الجواد عليهالسلام قد
استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يكون كل واحد منهم قد أُصيب
بمرض يوجب موته ، بل كانوا أصحّاء بحيث كانت صحّتهم
وسلامتهم الجسمية مثاراً لاتّهام الحكّام الحاقدين عليهم .
إذن فالإمام الجواد عليهالسلام بإمامته المبكّرة التي أصبحت
حدثاً فريداً تتناقله الألسن ، سواء بين الأحبّة أو الأعداء ، قد ضرب الرقم
القياسي في القيادة الربّانية وذكّر الأمة بما كانت قد سمعته من إخبار القرآن
الكريم بأنّ الله قد آتى كلاًّ من يحيى وعيسى الكتاب والحكم والنبوّة في مرحلة
الصبا . بل لمست ذلك بكل وجودها وهي ترى طفلاً لا يتجاوز العقد الواحد وإذا به
يهيمن على عقول وقلوب الملايين .
وفي هذا نوع إعداد لإمامة من يليه من
الأئمة عليهمالسلام
الذين يتولّون الإمامة وهم في مرحلة الصبا خلافاً لما اعتاده الناس في الحياة .
وقد كانت إمامة ابنه
الهادي عليهالسلام ثاني مصداق لهذا الحدث الفريد الذي سوف لا يكون في تلك الغرابة ، بل
سوف يعطي للخط الرسالي لأهل البيت عليهمالسلام
زخماً جديداً وفاعلية كبيرة ؛ إذ يحظى أتباعهم بمثل هذه النماذج الفريدة من أئمة
أهل البيت عليهمالسلام .
والإمام المهدي الذي كان
يتمّ التمهيد لولادته وإمامته ، رغم مراقبة الطغاة وترقّبهم لذلك ، كان المصداق
الثالث للإمامة المبكّرة ، فلا غرابة في ذلك بعد استيناس الأمة
بنموذجين من هذا النوع من الإمامة ، على الصعيد الإسلامي العام وعلى الصعيد الشيعي
الخاص .
من هنا كان الظرف الذي يحيط بالإمام
الهادي عليهالسلام
ظرفاً انتقالياً من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن
تدبّر الأمر ومن وراء الستار ويراد للأُمّة أن تنفتح على هذا الإمام وتعتقد به
وتتفاعل معه رغم حراجة الظروف .
فهو الظرف الوحيد لإعداد
الأمة لاستقبال الظرف الجديد . ولا سيّما إذا عرفنا أنّ الإمام
الهادي هو السابع من تسعة أئمة من أبناء الحسين ، والمهدي الموعود هو التاسع منهم
وهو الذي مهّد لولادة حفيده من خلال ما خطط له من زواج خاص لولده الحسن العسكري
دون أي إعلان عن ذلك ، فلا توجد إلاّ مسافة زمنية قصيرة جداً ينبغي له اغتنامها
للإعداد اللازم والشامل .
إذن ما أقلّ الفرص المتاحة للإمام الهادي
عليهالسلام
للقيام بهذا العبء الثقيل حيث إنّه لابد له أن يجمع بين الدقّة والحذر من جهة ،
والإبلاغ العام ليفوّت الفرص على الحكّام ويعمّق للأمة مفهوم الانتظار والاستعداد
للظهور والنهوض بوجه الظالمين . ولا أقل من إتمام الحجّة على المسلمين ولو بواسطة
المخلصين من أتباعه عليهالسلام .
ومن هنا كان على الإمام
الهادي عليهالسلام تحقيقاً للأهداف الكبرى أن يتجنب كل
إثارة أو سوء ظن قد يوجّه له من قِبل الحكّام المتربّصين له ولأبنائه من أجل أن
يقوم بإنجاز الدور المرتقب منه . وهو
تحقيق همزة الوصل الحقيقية بين ما حقّقه الأئمة الطاهرون من آبائه
الكرام وما سوف ينبغي تحقيقه بواسطة ابنه وحفيده عليهماالسلام ؛ ولهذا لم يُمهل الإمام الحسن العسكري سوى ست سنين فقط وهي أقصر عمر
للإمامة في تاريخ أهل البيت عليهمالسلام إذ دامت إمامة الإمام علي عليهالسلام ثلاثين
سنة
، والإمام الحسن السبط عشر سنين ،
والإمام الحسين عشرين سنة ،
والإمام زين العابدين خمساً أو أربعاً وثلاثين
سنة .
والإمام الباقر تسع عشرة سنة ، والإمام الصادق أربعاً وثلاثين سنة ، والإمام
الكاظم خمساً وثلاثين سنة ، والإمام
الرضا عشرين سنة ، والإمام الجواد
رغم قصر عمره كانت إمامته سبع عشرة سنة ، والإمام الهادي
أربعاً وثلاثين سنة .
وتأتي في هذا السياق كل الإجراءات التي
قام بها الإمام الهادي عليهالسلام من الحضور
الرتيب في دار الخلافة وما حظي به من مقام رفيع عند جميع الأصناف والطبقات بدءاً
بالأُمراء والوزراء وقادة الجيش والكتّاب وعامّة المرتبطين بالبلاط ـ كما سوف يأتي توضيحه فيما بعد إن شاء الله تعالى ـ
وهكذا كل ما قام به بالنسبة للجماعة الصالحة ، التي
سوف نفصّل الحديث عنها في فصل لاحق إن شاء الله تعالى .
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ ترك مقارعة الحاكمين
وتجنّب إثارتهم .
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية .
3 ـ التحدّي العلمي للسلطة
وعلمائها .
4 ـ توسيع دائرة النفوذ في
جهاز السلطة .
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم
اتّسم سلوك الإمام الهادي عليهالسلام طوال فترة
إمامته بالتجنّب من أيّة إثارة للسلطة بدءاً بما فرض عليه من مُؤدّب يتولّى أمره ،
ثم الاستجابة لدعوة المتوكل واستقدامه إلى سامراء وفسح المجال للتفتيش الذي قد
تكرّر في المدينة وسامراء ، بل تعدّى ذلك إلى تطمين المتوكل بأنّ الإمام عليهالسلام لا يقصد الثورة عليه حين استعرض
المتوكل قوّاته وقدرته العسكرية وأحضر الإمام في هذا الاستعراض ليطلعه على ما
يملكه من قوّة لئلاّ يفكّر واحد من أهل بيته عليهمالسلام
بالخروج على الخليفة . وإذا بالإمام الهادي عليهالسلام
يجيبه بأنّا لا نناقشكم في الدنيا نحن مشتغلون بأمر الآخرة فلا عليك شيء ممّا تظن (بحار الأنوار : 50/155 .) .
ولم يحصل المتوكل على أيّ مستمسك ضدّ
الإمام بالرغم من التفتيش المفاجئ والمتكرّر .
وقد لاحظنا كيف يتجنّب الإمام عليهالسلام مثل هذه الإثارات إلى جانب
تقديمه للنصح والإرشاد والموعظة للمتوكل .
روى ابن شهرآشوب بإسناده
عن أبي محمد الفحّام أنّه قال : سأل المتوكل ابن الجهم مَن أشعر
الناس ؟ فذكر الجاهلية والإسلام . ثم أنّه سأل أبا الحسن عليهالسلام ، فقال عليهالسلام الحمّاني حيث يقول :
لقد فاخرتنا من قريش عصابة |
|
بمدّ خدود وامتداد أصابع |
فلمّا تنازعنا المقال قضى
لنا |
|
عليهم بما نهوى نداء الصوامع |
ترانا سكوتاً والشّهيد
بفضلنا |
|
عليهم جهير الصوت في كل جامع |
فإنّ رسول الله أحمد جدّنا |
|
ونحن بنوه كالنجوم الطوالع |
قال : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟
قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد
أنّ محمّداً رسول الله جدّي أم جدّك ؟
فضحك المتوكل ثم قال : هو
جدّك لا ندفعك عنه (أمالي الطوسي : 287 ح 557 ومناقب آل أبي طالب : 4 /
438 .) .
ولم يبخل الإمام الهادي (ع) بالإجابة العلمية
فيما كان يشكل عليهم أمره كما لاحظنا ، بل تعدّى ذلك الى وصف دواء ناجع لداء عدوّه
المتوكل حين أيس من معالجات أطبّائه بالرغم من تظاهره بالعداء للعلويين (راجع الكافي : 1/499 .)
.
2 ـ الردّ على
الإثارات الفكرية والشبهات الدينية
وقد لاحظنا في عصر الإمام عليهالسلام ما امتحنت به
الأمة الإسلامية بما عرف بمحنة خلق القرآن ، والإثارات المستمرّة حول الجبر
والتفويض والاختيار .
وكانت للإمام الهادي عليهالسلام مساهمات جادّة في كيفية معالجة
الموقف بشكل ذكي ، والرسالة التي أُثيرت عن الإمام الهادي عليهالسلام لأهل الأهواز
تضمّنت ردّاً علمياً تفصيلياً على شبهة الجبر والتفويض ، بل تضمّنت بيان منهج بديع
سلكه الإمام عليهالسلام
في مقام الرد . وحيث كان الغلو والتصرّف من الظواهر المنحرفة في المجتمع الإسلامي
، فقد واجههما الإمام الهادي عليهالسلام
بالشكل المناسب مع هاتين الظاهرتين(راجع الفصل الثالث من الباب الأول مبحث ( التحذير من مجادلة الصوفيين )
. وراجع أيضاً مبحث ( الإمام والغلاة ) في الفصل الثاني من الباب الرابع .)
.
3 ـ التحدّي
العلمي للسلطة وعلمائها
لقد كان الاختبار العلمي لأئمة أهل البيت
عليهمالسلام
أقصر طريق للحكام لمعرفة ما هم عليه من الجدارة العلمية التي هي أحدى مقوّمات
الإمامة . وهو في نفس الوقت أقصر طريق لأهل البيت عليهمالسلام للتألّق العلمي
في المجتمع الإسلامي .
ومن هنا كانت السلطة بعد إجراء أيّ
اختبار علمي تحاول التعتيم عليه لئلاّ يستفيد أتباع أهل البيت عليهمالسلام من هذه الورقة
المهمّة ضدّ السلطة الحاكمة .
ولكن المصادر التاريخية قد حفظت لنا نصوص
هذه الاختبارات وفيها ما يدلّ على الرّد القاطع من أهل البيت عليهمالسلام على جميع
التحدّيات العلمية التي خطّطت لهم وانتصارهم في هذا الميدان الذي كان يعيد لهم
مرجعيّتهم الدينية في الأمة الإسلامية .
وإليك نموذجاً من هذا
الاختبار الذي أجراه ابن الأكثم في عصر المتوكل ثم حاول التعتيم عليه .
فقد روى ابن شهر آشوب أنّه
: قال المتوكل لابن السكّيت اسأل ابن
الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي . فسأله ، فقال : لم بعث الله موسى بالعصا ، وبعث عيسى
بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف ؟ فقال أبو الحسن عليهالسلام : بعث
الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر ، فأتاهم من ذلك
ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجّة عليهم ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء
الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطّب فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص
وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم .
وبعث محمّداً بالقرآن
في زمان الغالب على أهله السّيف والشّعر فأتاهم من القرآن الزاهر والسّيف القاهر
ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم وأثبت الحجّة عليهم ،
فقال ابن السّكيت : فما الحجّة الآن ؟ قال : العقل
، يعرف به الكاذب على الله فيكذّب .
فقال يحيى بن أكثم : ما
لابن السّكيت ومناظرته ؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاساً فيه مسائل فأملى عليّ بن محمد عليهماالسلام على ابن السّكيت جوابها (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 25 .) .
وجاء في رواية أخرى أنّ
هذه الأسئلة قد كتبها ابن الأكثم لموسى بن محمد بن الرضا ، ومن الواضح أنّ المقصود
بها هو الإمام الهادي عليهالسلام
بلاريب ؛ ولهذا جاء بها أخوه موسى إليه فأجاب عنها الإمام عليهالسلام ، وإليك نصّ الرواية :
عن موسى بن محمد بن الرضا قال
:
لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد عليهماالسلام فدار بيني
وبينه من المواعظ ما حمّلني وبصّرني طاعته ، فقلت له : جُعلت فداك إنّ ابن أكثم
كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ، فضحك عليهالسلام ثم
قال : وما هي ؟
قلت : كتب
يسألني عن قول الله : (قَالَ
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل (27) : 40 .) نبي
الله كان محتاجاً إلى علم آصف ؟
وعن قوله : (وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)
(يوسف (12)
: 100 .) سجد
يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء ؟
وعن قوله : ( فَإِنْ كُنْتَ
فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ ) (يونس (10) : 94 .) ،
مَن المخاطب بالآية ؟ فإن كان المخاطب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد
شكّ ، وإن كان المخاطب غيره ، فعلى مَن إذن أُنزل الكتاب .
وعن قوله : ( وَلَوْ أَنَّ
مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ )
(لقمان : (31) : 27 .) ما
هذه الأبحر ؟ وأين هي ؟
وعن قوله : ( وفيها ما
تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ) (الزخرف (43) : 71 .)
فاشتهت نفس آدم عليهالسلام أكل البر فأكل وأطعم وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف
عُوقب ؟
وعن قوله ( أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (الشورى (42) : 50 .) يزوّج
الله عباده الذكران وقد عُوقب قوم فعلوا ذلك ؟
وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال
الله : (
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (الطلاق (65) : 2 .)
؟
وعن الخنثى ، وقول علي عليهالسلام : يورث من المبال ، فمَن ينظر ـ
إذا بال ـ إليه ؟ مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليها الرجال ، أو عسى أن
يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل . وشهادة الجارّ إلى نفسه لا
تقبل .
وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي
ينزو على شاة منها فلمّا بصر بصاحبها خلّى سبيلها ، فدخلت بين الغنم كيف تذبح ؟
وهل يجوز أكلها أم لا ؟
وعن صلاة الفجر لِمَ يجهر
فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار ؟ وإنّما يجهر في صلاة الليل .
وعن قول علي عليهالسلام لابن جرموز : بشّر قاتل ابن صفية
بالنار ، فلِمَ لم يقتله وهو إمام ؟!
وأخبرني عن علي عليهالسلام لم قتل أهل صفّين وأمر بذلك
مقبلين ومدبرين وأجاز على الجرحى ؟ وكان حكمه يوم الجمل أنّه لم يقتل مولّياً ولم
يجهز على جريح ولم يأمر بذلك ، وقال مَن دخل داره فهو آمن ، ومَن ألقى سلاحه فهو
آمن . لِمَ فعل ذلك ؟ فإن كان الحكم الأوّل صواباً فالثاني خطأ . وأخبرني عن رجل
أقرّ باللواط على نفسه أيحد أم يدرأ عنه الحد ؟
قال عليهالسلام
: اكتب إليه : قلت : وما اكتب ؟ قال عليهالسلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأنت
فألهمك الله الرشد ، أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنّتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن
قصرنا فيها والله يكافيك على نيّتك ، وقد شرحنا مسائلك فاصغ إليها سمعك وذلّل لها
فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجّة والسلام . سألت عن قول الله عزّ وجل : (قَالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز
سليمان عليهالسلام عن
معرفة ما عرف آصف لكنّه صلوات الله عليه أحب أن يعرّف أُمّته من الجن والإنس أنّه
الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان عليهالسلام
أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهّمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته ، كما
فهّم سليمان عليهالسلام في حياة داود عليهالسلام لتعرف نبوّته وإمامته من بعد لتأكّد الحجّة على الخلق .
وأمّا سجود يعقوب عليهالسلام
وولده كان طاعة لله ومحبّة ليوسف عليهالسلام ، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم عليهالسلام
لم يكن لآدم عليهالسلام وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم عليهالسلام
، فسجود يعقوب وولده ويوسف عليهالسلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم
تره يقول في شكره ذلك الوقت : (رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ـ
إلى آخر الآية ـ ) (يوسف (12) : 102 .) .
وأمّا قوله : (فَإِنْ كُنْتَ
فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ ) .
فإنّ المخاطب به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم
يكن في شكّ ممّا انزل إليه ولكن قالت الجهلة كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة
إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق ؟!
فأوحى الله إلى نبيه ، ( فسئل الذين يقرءون الكتاب ) بمحضر الجهلة ، هل بعث الله
رسولاً قبلك إلاّ هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أُسوة ، وإنّما قال :
فإن كنت في شكّ ولم يكن شكّ ولكن للمنفعة كما قال : (تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (آل عمران (3) : 61 .)
.
ولو قال ( عليكم ) لم يجيبوا إلى
المباهلة ، وقد علم الله أنّ نبيّه يؤدّي عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، فكذلك
عرف النبي أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه .
وأمّا قوله : (وَلَوْ أَنَّ
مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ) .
فهو كذلك لو أنّ أشجار الدنيا أقلام
والبحر يمدّه سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي
عين الكبريت وعين التمر وعين الـ ( برهوت ) وعين طبرية وحمّة ماسبندان وحمّة
افريقية يدعى لسان وعين بحرون ، ونحن كلمات الله لا تنفد ولا تُدرك فضائلنا .
وأمّا الجنّة فإنّ فيها من المآكل
والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأباح الله ذلك كلّه لآدم عليهالسلام والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليهالسلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد
عهد إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين
الحسد ولم يجد له عزماً .
وأمّا قوله : (أو يزوّجهم
ذكراناً واناثاً) أي
يولد له ذكور ويولد له إناث يقال لكل اثنين مقرنين زوجان كل واحد منهما زوج ،
ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ، (... ومَن يفعل
ذلك يلقَ اثاماً * يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويَخْلُدْ فيه مهاناً )
(الفرقان (25) : 68 ـ 69 .) إن
لم يتب .
وأمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي
القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضى فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان
بدل الرجل للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل
قولها مع يمينها .
وأمّا قول علي عليهالسلام في الخنثى فهي كما قال : ينظر
قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة وينظرون في المرايا
فيرون الشبح فيحكمون عليه .
وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا
على شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما
فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال
كذلك حتى تبقى شاتان فيقرع بينهما فأيتها وقع السهم بها ذُبحت وأُحرقت ونجا سائر
الغنم .
وأمّا صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة ؛
لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يغلس بها فقراءتها من الليل .
وأمّا قول علي عليهالسلام
:
بشّر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان ممّن خرج
يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين عليهالسلام
بالبصرة ؛ لأنّه علم أنّه يُقتل في فتنة نهروان .
وأمّا قولك : إنّ
عليّاً عليهالسلام قتل
أهل صفّين مُقبلين ومُدبرين وأجاز على جريحهم وأنّه يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم
يجهز على جريح ومَن ألقى سلاحه آمنه ومَن دخل داره آمنه ، فإنّ أهل الجمل قتل
امامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وإنّما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين
ولا مخالفين ولا متنابذين ، رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيها رفع السيف عنهم والكف
عن أذاهم ؛ إذ لم يطلبوا عليه أعواناً .
وأهل صفّين كانوا يرجعون
إلى فئة مستعدّة وإمام يجمع لهم السلاح : الدروع والرماح
والسيوف ويسني لهم العطاء ، يهيّئ لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي
جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فلم يساوِ
بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتل أهل التوحيد لكنّه شرح ذلك لهم ،
فمَن رغب عرض على السيف أو يتوب من ذلك .
وأمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم
تقم عليه بيّنة وإنّما تطوع بالإقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله أن
يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله ، أمّا ما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) ،
قد انبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك (تحف العقول : 352 .) .
وقد أوضحت هذه الرواية الموقع العلمي
للإمام عليهالسلام
ومدى تحدّيه لعلماء عصره ولاسيّما علماء البلاط الذين لا يروق لهم مثل هذا التحدّي
.
ولهذا قال ابن أكثم
للمتوكل بعد ما قرأ هذه الأجوبة : ما نحب أن نسأل
هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه ، وأنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي
ظهور علمه تقوية للرافضة
(المناقب : 3/443 .)
.
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة
إنّ النفوذ الذي نجده للإمام الهادي عليهالسلام هو النفوذ المعنوي على عامّة
رجال السلطة بما فيهم مَن لا يدين بالولاية لأهل البيت عليهمالسلام .
وقد كانت أساليب الإمام عليهالسلام
في هذا المجال متنوّعة وواسعة فإنّه كان مطالباً بالحضور في دار الخلافة بشكل
مستمر .
ومن هنا كان التعرّف على شخص الإمام عليهالسلام وهديه
وسكونه واتّزانه أمراً طبيعياً وفّر له هذه الفرصة والتي لم يلتفت الحكّام إلى مدى
تبعاتها وآثارها التي تركتها في الساحة الإسلامية العامة وروّاد البلاط بشكل خاص .
وقد كانت للإمام عليهالسلام
كرامات شتّى كلّما دخل وخرج من دار الخلافة .
وقد قال أحد ندماء المتوكل
للمتوكل : ما يعمل أحد بك أكثر ممّا تعمله بنفسك في علي بن محمد
، فلا يبقى في الدار إلاّ مَن يخدمه ولا يتبعونه بشيل ستر ولا فتح باب ولا شيء ،
وهذا إذا علمه الناس قالوا : لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل به هذا ، دعه إذا
دخل عليه يشيل الستر لنفسه ويمشي كما يمشي غيره فيمسّه بعض الجفوة .
فتقدم ألاّ يخدم ولا يشال بين يديه ستر ،
وكان المتوكل ما رأى أحداً ممّن يهتم بالخبر مثله .
قال : فكتب
صاحب الخبر إليه : أنّ علي بن محمد دخل الدار فلم يخدم ولم
يشل أحد بين يديه ستر فهبّ هواء رفع الستر له فدخل .
فقال : اعرفوا حين خروجه ، فذكر صاحب
الخبر أنّ هواء خالف ذلك الهواء شال الستر له حتى خرج ، فقال
: ليس نريد هواء يشيل الستر ، شيلوا الستر بين يديه (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 39 .) .
كما نجد جملة من الكتّاب
والحجّاب والعيون وحتى السجّان ، فضلاً عن بعض القادة والأُمراء كانوا يدينون
بالولاء والحبّ الخاص للإمام الهادي عليهالسلام ، وقد رأينا في قصّة مرض المتوكل ونذر أُمّه للإمام
الهادي عليهالسلام (راجع مبحث تفتيش دار الإمام عليهالسلام في حكم المتوكلّ .) ما
يدل دلالة واضحة على مدى نفوذ الإمام عليهالسلام في
هذه الأوساط ، بينما كان المتوكّل قد خطّط لإبعاد الإمام عن شيعته ومحبّيه وإذا
بالإمام عليهالسلام
يكتسح نفوذه المعنوي أرباب البلاط ويستبصر على يديه مجموعة ممّن لم يكن يعرف
الإمام عليهالسلام أو
لم يكن ليواليه ، وكان الإمام عليهالسلام
يستفيد من هؤلاء في تحرّكه وارتباطاته التي خطّط الحكّام لمراقبتها أو قطعها
وإبعاد الإمام عليهالسلام عن قواعده وعن الوسط الاجتماعي الذي يريد أن يتحرّك
فيه .
الفصل الثاني : الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها
1 ـ الإمام الهادي عليهالسلام
وقضيّة حفيده المهدي عليهالسلام
عرفنا أنّ قضية الإمام المهدي عليهالسلام في عصر الإمام الهادي عليهالسلام تُعدّ قضية أساسية للمسلمين بشكل
عام ، ولأتباع أهل البيت عليهمالسلام
بشكل خاص ، والظروف التي كانت تحيط بالإمام الهادي عليهالسلام كانت تزداد حراجة كلّما اقتربت
أيّام ولادة الإمام المهدي عليهالسلام
وغيبته .
ولابد أن نبحث عن هذه القضية في محورين :
الأول منهما خاص بالإمام المهدي عليهالسلام ،
والثاني منهما يرتبط بأتباعه وشيعته .
أمّا المحور الأول ،
فالإمام الهادي عليهالسلام
مسؤول عن ترتيب التمهيدات اللازمة لولادة الإمام المهدي عليهالسلام بحيث يطّلع الأعداء عليها وهم
يراقبون بدقّة كل تصرّفات الإمام الهادي ونشاط ابنه الحسن العسكري عليهماالسلام .
وتشير النصوص إلى كيفية تدخّل الإمام
الهادي عليهالسلام
لاختيار زوجة صالحة للإمام الحسن العسكري عليهالسلام
بحيث تقوم بالدور المطلوب منها في إخفاء ولادة ابنها المنتظر (راجع القصّة في كمال الدين : 417 ، ومسند الإمام الهادي عليهالسلام : 98 ـ 104 .) .
وقد تظافرت نصوص الإمام الهادي عليهالسلام على أنّ المهدي الذي ينتظر هو
حفيده وولد الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
وأنّه الذي يولد خفية ويقول الناس عنه إنّه لم يولد بعد ، وإنّه الذي لا يرى شخصه
ولا يحل ذكره باسمه .
وهكذا ، وتضمّنت هذه النصوص جملة من
التعليمات الكفيلة بتحقيق غطاء ينسجم مع مهمّة الاختفاء والغيبة من قِبل الإمام
المهدي عليهالسلام .
ومن أجل تحقيق عنصر الارتباط بالإمام في
مرحلة الغيبة الأولى والتي تُعرف بالصغرى عمل الإمام على ربط شيعته ببعض وكلائه
بشكل خاص وجعله حلقة الوصل بعد كسب ثقة شيعته بهذا الوكيل الذي تولّى مهمّة
الوكالة للإمام الهادي والعسكري والمهدي عليهمالسلام
معاً ؛ وبذلك يكون قد مهّد لسفارة أوّل سفراء الإمام المهدي عليهالسلام من دون حدوث مضاعفات خاصة ؛ لأنّ
أتباع أهل البيت عليهمالسلام قد
اعتادوا على الارتباط بالإمام المعصوم من خلاله .
وإليك نصوص الإمام الهادي عليهالسلام
حول قضيّة الإمام المهدي عليهالسلام :
1 ـ الكليني ، عن علي بن محمد ، عن بعض
أصحابنا ، عن أيوب بن نوح ، عن أبي الحسن الثالث عليهالسلام قال : إذا
رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا الفرج من تحت أقدامكم .
2 ـ الصدوق قال : حدّثنا علي بن أحمد بن
موسى الدقّاق ، وعليّ بن عبد الله الورّاق رضي الله عنهما قالا : حدّثنا محمد بن
هارون الصوفي قال : حدثنا أبو تراب عبد الله بن موسى الرّوياني ، عن عبد العظيم بن
عبد الله الحسنيّ قال : دخلت على سيدي علي بن محمد عليهماالسلام فلمّا بصر بي
قال لي : مرحباً بك يا أبا
القاسم أنت وليّنا حقّاً قال : فقلت له : يا بن رسول الله إنّي أريد
أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه حتى ألقى الله عزّ وجل .
فقال : هات
يا أبا القاسم ، فقلت : إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى واحد ،
ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وإنّه ليس بجسم ولا
صورة ، وعرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، وخالق الأعراض
والجواهر ، وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وإنّ محمداً صلّى الله عليه وآله
عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وإن شريعته خاتمة
الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة .
وأقول : إنّ
الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم
الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر
، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي ، فقال عليهالسلام : ومن
بعدي الحسن ابني فكيف للناس بالخلق من بعده ؟ قال : قلت : وكيف ذاك
يا مولاي ؟ قال : لأنّه لا يرى شخصه ،
ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً .
قال : فقلت : أقررت وأقول : إنّ وليّهم
ولي الله ، وعدوّهم عدوّ الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله .
وأقول : إنّ المعراج حقٌّ ، والمساءلة في
القبر حقٌّ ، وإنّ الجنة حقٌّ ، والنار حقٌّ ، والميزان حقٌّ ، ( وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .
وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية
: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
.
فقال علي بن محمد عليهماالسلام
:
يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي
ارتضاه لعباده فاثبت عليه ، ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و
( في ) الآخرة (كمال الدين : 379 .) .
3 ـ عنه قال : حدثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عمر الكاتب ، عن عليّ بن محمد
الصيمريّ ، عن علي بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليهالسلام اسأله عن الفرج ، فكتب إليّ : إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين
فتوقّعوا الفرج (كمال الدين : 380 .) .
4 ـ عنه قال : حدّثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدّثني إبراهيم بن مهزيار ، عن أخيه عليّ بن
مهزيار ، عن عليّ بن محمد بن زياد قال : كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليهالسلام اسأله عن الفرج ، فكتب إليّ : إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقّعوا
الفرج (كمال الدين : 381 .) .
5 ـ عنه قال : حدثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي غانم القزويني
قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن فارس قال : كنت أنا[ ونوح ] وأيوب بن نوح في طريق
مكة فنزلنا على وادي زبالة فجلسنا نتحدّث فجرى ذكر ما نحن فيه وبعد الأمر علينا
فقال أيوب بن نوح : كتبت في هذه السنة أذكر شيئاً من هذا ، فكتب إليّ : إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا
الفرج من تحت أقدامكم
(كمال الدين
: 381 .) .
6 ـ عن أبي جعفر محمد بن أحمد العلوي عن
أبي هاشم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن (ع)يقول
: الخلف بعدي ابني الحسن فكيف بالخلف بعد
الخلف ؟! فقلت : ولم ، جعلني الله فداك ؟ قال : إنّكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره
باسمه ، قلت : فكيف نذكره ؟ فقال : قولوا
الحجّة من آل محمد
( ص) (إثبات
الوصية : 208 .) .
7 ـ عن الصقر بن أبي دلف قال : سمعت علي
بن محمد بن علي الرضا عليهمالسلام
يقول : الإمام بعدي الحسن
ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما
مُلئت جوراً وظلماً
(كمال الدين : 383 ح 10 وعنه في إعلام الورى
: 2/247 .) .
ــــــــــــــ
8 ـ روى علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن علي
بن صدقة ، عن علي بن عبد الغفار قال : لمّا مات أبو جعفر الثاني كتبت الشيعة إلى
أبي الحسن صاحب العسكر يسألونه عن الآخر فكتب عليهالسلام
: الأمر بي ما دمت حيّاً فإذا نزلت بي
مقادير الله تبارك وتعالى أتاكم الخلف منّي ، فأنّى لكم بالخلف بعد الخلف ؟!
9 ـ وروى إسحاق بن محمد بن أيوب قال :
سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول : صاحب هذا الأمر مَن يقول الناس لم يولد
بعد (إعلام الورى : 2/247 الحديث الأخير وقبله .) .
وأمّا المحور الثاني فهو الأعداد النفسي
وتحقيق الاستعداد الواقعي لدور غيبة الإمام المهدي عليهالسلام
من قِبل شيعة الإمام عليهالسلام .
وقد حقّق الإمام هذا الاستعداد وأخرجه من
عالم القوّة إلى عالم الفعلية بما خطّطه لشيعته من تعويدهم على الاحتجاب عنهم ،
والارتباط بهم من خلال وكلائه ونوّابه ، وتوعيتهم على الوضع المستقبلي ؛ لئلاّ
يُفاجأوا بما سيطر عليهم من ظروف جديدة لم يألفوها من ذي قبل .
وكان للإمام الهادي عليهالسلام
أسلوب خاص لطرح إمامة ابنه الحسن العسكري عليهالسلام
بما يتناسب مع مهمّته المستقبلية في الحفاظ على حجّة الله ووليّه الذي سيولد في
ظرف حرج جدّاً ؛ ليتسنّى لأتباعه الانقياد للإمام من بعده والتسليم له فيما سيخبر
به من وقوع الولادة وتحقّق الغيبة وتحقّق الارتباط به عبر سفيره الذي تعرّفت عليه
الشيعة ووثقت به .
ولهذا تفنّن الإمام الهادي عليهالسلام
في كيفية طرح إمامة الحسن عليهالسلام وزمن
طرح ذلك وكيفيّة الإشهاد عليه .
ومنه يبدو أنّ التعتيم الإعلامي حتى على
إمامة الحسن العسكري عليهالسلام كان
مقصوداً للإمام الهادي عليهالسلام ،
فتارة ينفي إمامة غيره وأخرى يكنّيه وثالثة يصفه ببعض الصفات التي قد توهم إرادة
غيره في بادئ النظر وترشد إليه في نهاية المطاف كما ورد عنه أنّ هذا الأمر في
الكبير من ولدي .
حيث إنّ الكبير هو ( محمد ) المكنّى بأبي
جعفر غير أنّه قد مات في حياة والده فلم يكن الكبير سوى الحسن عليهالسلام .
وإليك جملة من هذه النصوص
التي يمكن تصنيفها بحسب تسلسلها الزمني إلى ما صدر من الإمام الهادي عليهالسلام
قبل وفاة أبي جعفر ، وما صدر حين وفاته ، وما صدر بعدها ، وما صدر منه قُبيل
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام .
ويكفي الاطلاع عليها بتسلسلها التاريخي
لنطمئن بتخطيط الإمام الهادي عليهالسلام من
أجل تحصين الجماعة الصالحة من كل إبهام أو تشكيك أو فراغ عقائدي أو انهيار ، بعد
إيضاح الحق وتبلّجه لأهله الذين عرفوا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إمّا ظاهر مشهور
أو خائف مستور .
وإليك هذه النصوص كالآتي :
1 ـ عن علي بن عمرو العطار قال : دخلت
على أبي الحسن العسكري عليهالسلام
وأبو جعفر ابنه في الاحياء ، وأنا أظن أنّه هو فقلت : جُعلت فداك مَن أخصّ من ولدك
؟ فقال : لا تخصّوا أحداً حتى
يخرج إليكم أمري .
قال : فكتبت إليه بعد : فيمَن يكون هذا
الأمر ؟ قال : فكتب إليّ : في
الكبير من ولدي
(أُصول الكافي : 1 / 326 ح 7 .) .
ولا تعني إشارة الإمام إلى ولده أبي جعفر
فهو يعلم أنّه سيمضي في حياته وسيكون الكبير أبا محمد العسكري عليهالسلام وهو المؤهّل لها دون غيره من
إخوته .
2 ـ وعن علي بن عمر النوفلي قال : كنت مع
أبي الحسن عليهالسلام في
صحن داره فمرّ محمد ابنه فقلت له جُعلت فداك هذا صاحبنا بعدك ؟ فقال : لا ، صاحبكم بعدي الحسن (1) .
3 ـ عن إسحاق بن محمد عن محمد بن يحيى بن
رئاب قال : حدثني أبو بكر الفهفكي قال : كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام أسأله عن مسائل فلمّا نفذ الكتاب
قلت في نفسي : إنّي كتبت فيما كتب أسأله عن الخلف من بعده وذلك بعد مضي محمد ابنه
فأجابني عن مسائلي : وكنت
أردت أن تسألني عن الخلف ، أبو محمد ابني اصح آل محمد صلّى الله عليه وآله غريزة
وأوثقهم عقيدة بعدي وهو الأكبر من ولدي إليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها فما كنت
سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يحتاج إليه والحمد لله (2) .
4 ـ عن علان الكلابي عن إسحاق بن إسماعيل
النيشابوري قال حدثني شاهويه بن عبد الله الجلاب قال : كنت رويت دلائل كثيرة عن
أبي الحسن عليهالسلام في
ابنه محمد فلمّا مضى بقيت متحيّراً وخفت أن أكتب في ذلك فلا أدري ما يكون فكتبت
اسأل الدعاء ، فخرج الجواب بالدعاء لي وفي آخر الكتاب :
أردت أن تسأل عن الخلف وقلقت لذلك فلا تغتم فإنّ الله عزّ وجلّ لا يضل قوماً بعد
أن هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون ، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني عنده علم ما تحتاجون
إليه يقدّم الله ما يشاء ويؤخّر ما يشاء قد كتبت بما فيه تبيان لذي لبٍّ يقظان (3) .
5 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضياللهعنه قال
: حدثنا الصقر ابن أبي دلف قال : سمعت علي بن محمد بن علي الرضا عليهالسلام
يقول : إنّ الإمام بعدي
الحسن ابني ، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت
جوراً وظلماً (كمال الدين : 382 ح 8 وعنه في إعلام الورى : 2/ 247
.) .
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 325 ح 2 .
(2) إثبات
الوصية : 208 .
(3) إثبات الوصية : 209 .
6 ـ عن علي بن محمد ، عن محمد بن أحمد
النهدي ، عن يحيى بن يسار القنبري قال : أوصى أبو الحسن عليهالسلام
إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر ، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (أصول الكافي : 1 / 325 ح 1 ب النصّ على إمامة أبي محمد عليهالسلام .)
.
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة
إنّ هذا الترصين وإكمال البناء الذي نريد
الحديث عنه قد قام به الإمام الهادي عليهالسلام في كل المجالات التي تهمّ الجماعة الصالحة التي سوف
تفقد نعمة الارتباط بالإمام المعصوم عليهالسلام
في
وقت لاحق وقريب جداً .
فلابدّ أن يتكامل بناؤها بحيث تكتفي بما
لديها من نصوص وتراث علمي وعلماء بالله تعالى يمارسون مهمّة الريادة الاجتماعية
والفكرية والدينية ، ويسهرون على مصالح وشؤون هذه الجماعة ؛ لتستمر في مسيرتها
التكاملية باتجاه الأهداف الرسالية المرسومة لها .
ونلخّص هذا التحصين في المجالات
التالية :
أ : التحصين العقائدي .
ب : التحصين العلمي .
ج : التحصين التربوي .
د : التحصين الأمني .
هـ : التحصين الاقتصادي
ــــــــــــــ
تمثَّلَ التحصين العقائدي الذي مارسه
الإمام عليهالسلام في
تبيان وشرح وتعميق المفاهيم العقائدية بشكل خاص والدينية بشكل عام .
كما تمثّل في دفع الشبهات والإثارات
الفكرية التي كانت تتداولها المدارس الفكرية آنذاك .
والنصوص التي أُثرت عن الإمام عليهالسلام حول الرؤية والجبر والاختيار
والتفويض والرد على الشبهات المثارة حول آيات القرآن الكريم تفيد تصدّي الإمام عليهالسلام لهذا التحصين
العقائدي في الساحة الإسلامية العامة والخاصة معاً .
ولم يكتف الإمام عليهالسلام بالردّ على الشبهات العامة بل
تصدّى للردّ الخاص على ما كان يُثار من تساؤلات خاصة تعرض لأفراد من أتباعه أو
ممّن كان يتوسّم فيهم الإمام عليهالسلام
الانقياد للحق كبعض الواقفة الذين اهتدوا بفضل توجيهات الإمام عليهالسلام .
قال علي بن مهزيار :
وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم الربيع
إلاّ أنّه صائف والناس عليهم ثبات الصيف وعلى أبي الحسن لباد وعلى فرسه تجفاف لبود
وقد عقد ذنب الفرس ، والناس يتعجّبون منه ويقولون ألا ترون هذا المدني ما قد فعل
بنفسه ، فقلت في نفسي : لو كان هذا إماماً ، ما فعل هذا .
فلمّا خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا
أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتلّ حتى غرق بالمطر وعاد عليهالسلام وهو سالم من جميعه ، فقلت في
نفسي : يوشك أن يكون هو الإمام ، ثم قلت : أُريد أن اسأله عن الجنب إذا غرق في
الثوب فقلت في نفسي : إن كشف وجهه فهو الإمام.
فلمّا قرب منّي كشف وجهه ثم قال : إن كان
عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه ، وإن كان جنابته من حلال
فلا بأس .
فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة (المناقب : 2/451 .)
.
وروى هبة الله ابن أبي منصور الموصلي
أنّه كان بديار ربيعة كاتب نصراني وكان من أهل كفرتوثا يسمّى يوسف بن يعقوب وكان
بينه وبين والدي صداقة ، قال : فوافى فنزل عند والدي فقال له : ما شأنك قدمت في
هذا الوقت ؟ قال : دعيت إلى حضرة المتوكّل ولا أدري ما يراد منّي إلاّ أنّي اشتريت
نفسي من الله بمائة دينار ، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا عليهمالسلام معي فقال له
والدي : قد وفّقت في هذا .
قال : وخرج إلى حضرة المتوكّل وانصرف
إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي : حدثني حديثك ، قال : صرت إلى
سرّ مَن رأى وما دخلتها قطّ فنزلت في دار وقلت أُحبّ أن أُوصل المائة إلى ابن
الرضا عليهالسلام قبل
مصيري إلى باب المتوكل وقبل أن يعرف أحد قدومي ، قال : فعرفت أنّ المتوكل قد منعه
من الركوب وأنّه ملازم لداره ، فقلت : كيف أصنع ؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن
الرضا ؟ لا آمن أن يبدر بي فيكون ذلك زيادة فيما أُحاذره .
قال : ففكّرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي
أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعلّي أقف على معرفة داره من
غير أن اسأل أحداً ، قال : فجعلت الدنانير في كاغذة وجعلتها في كمّي وركبت فكان
الحمار يتخرّق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار ، فوقف
الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل ، فقلت للغلام : سل لمَن هذه الدار ، فقيل : هذه دار
ابن الرضا ! فقلت : الله أكبر دلالة والله مقنعة .
قال : وإذا خادم أسود قد خرج ، فقال :
أنت يوسف بن يعقوب ؟ قلت : نعم .
قال : انزل ، فنزلت فأقعدني في الدّهليز
فدخل ، فقلت في نفسي : هذه دلالة أخرى من أين عرف هذا الغلام اسمي وليس في هذا
البلد مَن يعرفني ولا دخلته قط .
قال : فخرج الخادم فقال : مائة دينار
التي في كمّك في الكاغذ هاتها ! فناولته إيّاها ، قلت : وهذه ثالثة .
ثم رجع إليّ وقال : ادخل فدخلت إليه وهو
في مجلسه وحده فقال : يا يوسف ما آن لك ؟ فقلت : يا مولاي قد بان لي من البرهان ما
فيه كفاية لمَن اكتفى .
فقال : هيهات
إنّك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا ، يا يوسف إنّ أقواماً يزعمون
أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم ، كذبوا والله إنّها لتنفع أمثالك امض فيما وافيت له
فإنّك سترى ما تحبّ .
قال : فمضيت إلى باب المتوكّل فقلت كلّ
ما أردت فانصرفت .
قال هبة الله : فلقيت ابنه بعد هذا ـ
يعني بعد موت والده ـ والله وهو مسلم حسن التشيّع فأخبرني أنّ أباه مات على
النصرانية ، وأنّه أسلم بعد موت أبيه ، وكان يقول : أنا بشارة مولاي عليهالسلام
(بحار الأنوار : 50/142 .) .
وروى أبو القاسم البغدادي ، عن
زرارة قال : أراد المتوكّل : أن يمشي علي ابن محمد بن الرضا عليهمالسلام يوم السّلام
فقال له وزيره : إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل ، قال : لا بدّ من هذا
.
قال : فإن لم يكن بُدٌّ من هذا فتقدّم
بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم ، حتى لا يظن الناس أنّك قصدته بهذا دون غيره ،
ففعل ومشى عليهالسلام
وكان الصيف فوافى الدهليز وقد عرق .
قال : فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت
وجهه بمنديل وقلت : ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك ، فلا تجد عليك في قلبك .
فقال : إيهاً عنك ( تَمَتَّعُوا
فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .
قال زرارة :
وكان عندي معلّم يتشيّع وكنت كثيراً أمازحه بالرافضيّ فانصرفت إلى منزلي وقت
العشاء وقلت : تعال يا رافضي حتى أُحدثك بشيء سمعته
اليوم من إمامكم ، قال لي : وما سمعت ؟ فأخبرته بما قال ، فقال : أقول لك فاقبل
نصيحتي .
قلت : هاتها ، قال : إن كان عليّ بن محمد
قال بما قلت فاحترز واخزن كلّ ما تملكه فإنّ المتوكّل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة
أيام .
فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يديّ
فخرج .
فلمّا خلوت بنفسي ، تفكّرت وقلت : ما
يضرّني أن آخذ بالحزم ، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم
يضرّني ذلك ، قال : فركبت إلى دار المتوكلّ فأخرجت كل ما كان لي فيها وفرّقت كلّ
ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه .
فلمّا كانت الليلة الرابعة قُتل المتوكل
وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك ، فصرت إليه ، ولزمت خدمته ، وسألته أن يدعو لي
وتواليته حق الولاية
(بحار الأنوار : 50/147 .) .
وبإسناده عنه قال : اجتمعنا أيضاً في
وليمة لبعض أهل سُرّ مَن رأى وأبو الحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا نرى له
إجلالاً ، فاقبل على جعفر وقال : إنّه لا يأكل من هذا الطعام وسوف يرد عليه من خبر
أهله ما ينغّص عليه عيشه ، فقدمت المائدة فقال : ليس بعد هذا خبر ،وقد بطل قوله فو
الله لقد غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فإذا
غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال : الحق أُمّك فقد وقعت من فوق البيت وهي
بالموت ، فقال جعفر : قلت : والله لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه (الثاقب : 214 .)
.
الموقف من
الغلاة والفرق المنحرفة
ويعتبر موقف الإمام الهادي عليهالسلام الصارم مع
الغلاة خطوة من خطوات التحصين العقائدي للجماعة الصالحة وإبعادها من عوامل
الانحراف والزيغ العقائدي الذي ينتهي إلى الكفر بالله تعالى أو الشرك به .
ويكمن نشاطه عليهالسلام في فضح حقيقة هذا الخط المنحرف
كما تجلّى في فضح عناصره .
والنصوص التي بأيدينا أشارت إلى أنّ
الذين عرفوا بالغلو في عصره هم : أحمد بن هلال العبرطائي البغدادي ، والحسين بن
عبيد الله القمّي الذي أُخرج من قم لاتّهامه بالغلو ، ومحمد بن أرومة ، وعلى بن
حسكة القمّي ، والقاسم اليقطيني ، والفهري ، والحسن بن محمد بن بابا القمّي ،
وفارس بن حاتم القزويني .
وأمّا كيفية تعامل الجماعة الصالحة ، مع
هؤلاء فقد بيّنه عليهالسلام
فيما يلي : فعن أحمد بن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى الإمام الهادي عليهالسلام في قوم يتكلّمون ويقرأون أحاديث
ينسبونها إليك والى آبائك فيها ما تشمئز منها القلوب ، وأشياء من الفرائض والسنن
والمعاصي تأوّلوها فإن رأيت أن تبيّن لنا وأن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم
ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تصيّرهم إلى
العطب والهلاك ؟ والذين ادّعوا هذه الأشياء ، ادعّوا أنّهم أولياء ، ودعوا إلى
طاعتهم منهم : علي بن حسكة ، والقاسم اليقطيني ، فما تقول في القبول منهم جميعاً ؟
فكتب الإمام الهادي عليهالسلام : (
ليس هذا ديننا فاعتزله )
(رجال الكشي : 517 ح 994 و995 .) .
ظاهرة الزيارة
ودورها في التحصين العقائدي
إنّ ظاهرة الاهتمام بالزيارة لأهل البيت عليهمالسلام جميعاً أو
لآحاد من الأئمة عليهمالسلام
كالزيارة المعروفة بالجامعة الكبيرة ، أو زيارة أمير المؤمنين عليهالسلام هي خطوة مهمة
في مجال تعميق الوعي وترسيخ الولاء والانشداد لأهل بيت الرسالة عليهمالسلام ، وفي هذا
التعميق الواعي والانشداد العاطفي تحصين عقائدي واضح تميّز به الإمام الهادي عليهالسلام .
وحين نقف على جملة المفاهيم التي وردت في
هذه الزيارات نلمس بوضوح هذا الخط من التحصين العقائدي فيها .
ولنقف بعض الوقت متأمّلين عند
هاتين الزيارتين المأثورتين عن الإمام الهادي عليهالسلام :
أوّلاً :
الزيارة الجامعة الكبيرة
عن موسى بن عمران النخعي قال : قلت لعلي
بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام : علمني يا ابن
رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم فقال عليهالسلام : قل
: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط
الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزان العلم ، ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم ، وقادة الأمم
، وأولياء النعم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وساسة العباد ، وأركان
البلاد ، وأبواب الإيمان ، وأُمناء الرحمان ، وسلالة النبيّين ، وصفوة المرسلين ،
وعترة خيرة ربّ العالمين ، ورحمة الله وبركاته .
وتعتبر هذه الزيارة من
المصادر الفكرية المهمّة ومن الوثائق التي نستل منها ملامح التصوّر السليم .
ولذا نشير إلى بعض ما جاء فيها
من مفاهيم :
1 ـ اصطفاء أهل البيت عليهمالسلام
في المقطع الأوّل الذي بدأت به
الزيارة حدّد الإمام عليهالسلام المعاني التالية :
أ ـ إنّ
الله اختصّ أهل البيت عليهمالسلام بكرامته فجعلهم موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط
الوحي .
ب ـ إنّ
هذا الجعل الإلهي نابع من الصفات الكمالية التي يبلغون القمّة فيها كالعلم والحلم
والكرم والرحمة .
ج ـ إنّ
أهل البيت عليهمالسلام هم
موضع الرسالة ؛ لأنّ الله قد اختارهم لمنصب القيادة العليا للبشرية فضلاً عن قيادة
المسلمين .
2 ـ حركة أهل البيت عليهمالسلام
وقال الإمام الهادي عليهالسلام : ( السلام على أئمة الهدى ، ومصابيح
الدجى ، وأعلام التقى ، وذوي النهى ، وأُولي الحجى ، وكهف الورى ، وورثة الأنبياء
، والمثل الأعلى ، والدعوة الحسنى ، وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى
ورحمة الله وبركاته . السلام على محال معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن
حكمة الله ، وحفظة سرّ الله ، وحملة كتاب الله ، وأوصياء نبي الله ، وذرّية رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورحمة الله وبركاته . السلام على الدعاة إلى الله ، والأدلاّء على مرضات الله ،
والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّة الله ، والمخلصين في توحيد الله ،
والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرّمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره
يعملون ورحمة الله وبركاته ) .
وقد دلّ هذا النصّ على ما
يلي :
أ ـ في المسيرة البشرية ينفرز
دائماً خطّان هما : خطّ الهدى وخطّ الضلالة ولكل من الخطّين
قيادته ، وأئمة أهل البيت هم أئمة الهدى ، أمّا غيرهم ممّن يتصدّى للإمامة مخالفاً
لخطّ الهدى فهو من أئمة الضلال ؛ فلذلك لا يكون التلقّي إلاّ منهم ولا يكون نهج
التحرّك إلاّ نهجهم .
ب ـ أمّا واقع الأئمة فهم ذوو
العقول التامّة وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الأعلى
والدعوة الحسنى التي يُحتذى بها .
ج ـ إنّ حركة أهل البيت حركة
إسلامية أصيلة ذات جذور ضاربة في الأعماق ، وهي استمرار
المسيرة النبوية الراشدة وكل حركة تدّعي المنهج الديني أو الإصلاح الدنيوي ولا
تسير على خطاهم فهي منحرفة ؛ فأهل البيت عليهمالسلام
محلّ معرفة الله ، ومساكن بركته ، ومعادن حكمته ، وحفظة سرّه ، وحملة كتابه ،
وأوصياء نبيّه .
د ـ إنّ الدعاة مظاهر أصالة
أهل البيت في المسيرة الإلهيّة كما يلي :
1 ـ أنّهم الدعاة إلى الله والأدلاّء على
مرضاته .
2 ـ ويتميّزون بالثبات على أمر الله .
3 ـ كما يتميّزون بالحب التام لله .
4 ـ والإخلاص في التوحيد .
5 ـ والإظهار لشعائر الله من أمره ونهيه
.
6 ـ وعدم سبق الله بقول ، والعمل بأمره .
ويمكن أن نحدّد
نقاطاً توضح الأُسس الفكرية التي تقوم عليها دعوة أهل البيت ، والتي يجب أن تسير
الحركة الشيعية عليها وتلتزم بحدودها من خلال قوله عليهالسلام
: ( السلام على الأئمة الدعاة ، والقادة
الهداة ، والسادة الولاة ، والذادة الحماة ، وأهل الذكر ، وأُولي الأمر ، وبقيّة
الله وخيرته ، وحزبه وعيبة علمه ، وحجّته وصراطه ، ونوره وبرهانه ورحمة الله
وبركاته .
أشهد أن لا إله إلاّ
الله وحده لا شريك له كما شهد الله لنفسه وشهدت له ملائكته وأُولوا العلم من خلقه
لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم وأشهد أنّ محمداً عبده المنتخب ورسوله المرتضى أرسله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون .
وأشهد أنّكم الأئمة
الراشدون المهديّون المعصومون المكرّمون المقرّبون المتّقون الصادقون المصطفون
المطيعون لله القوّامون بأمره العاملون بإرادته الفائزون بكرامته .
اصطفاكم بعلمه وارتضاكم
لغيبه واختاركم لسرّه واجتباكم بقدرته وأعزّكم بهداه وخصّكم ببرهانه وانتجبكم
لنوره وأيّدكم بروحه ورضيكم خلفاء في أرضه وحججاً على بريّته وأنصاراً لدينه
وحفظةً لسرّه وخزنةً لعلمه ومستودعاً لحكمته وتراجمةً لوحيه وأركاناً لتوحيده
وشهداء على خلقه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وأدلاّء على صراطه .
عصمكم الله من الزلل
وآمنكم من الفتن وطهّركم من الدنس وأَذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً .
فعظَّمتم جلاله
وأكبرتم شأنه ومجّدتم كرمه وأدمتم ذكره ووكّدتم ميثاقه وأحكمتم عقد طاعته ونصحتم
له في السرّ والعلانية ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبذلتم أنفسكم في
مرضاته وصبرتم على الأذى في جنبه وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف
ونهيتم عن المنكر وجاهدتم في الله حقّ جهاده حتى أعلنتم دعوته وبيّنتم فرائضه
وأقمتم حدوده ونشرتم شرايع أحكامه وسننتم سنّته وصرتم في ذلك منه إلى الرضا وسلمتم
له القضاء وصدقتم من رسله من مضى ) .
إنّ العناصر الفكرية الأساسية
للتشيّع والتي تُستفاد من هذا النص هي :
1 ـ الإيمان بالله وحده لا شريك له .
2 ـ محمّد عبده المنتخب ورسوله المرتضى .
3 ـ الأئمة هم بشر راشدون مهديّون
معصومون مكرّمون ، وقيمتهم نابعة من تكريم الله لهم .
على أنّ الجانب العملي لحركة
الأئمّة هو كما يلي :
1 ـ تعظيم الله وإكبار شأنه وتمجيد كرمه
.
2 ـ توكيد ميثاقه وإحكام عقد طاعته .
3 ـ النصح له بالسرّ والعلن .
4 ـ الدعوة له بالحكمة والموعظة الحسنة .
5 ـ التضحية المستمرّة في سبيل الله ببذل
النفس والصبر على المكروه .
6 ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وممارسة
باقي العبادات والحدود الإسلامية .
7 ـ الحفاظ على سلامة الشريعة من التحريف
.
8 ـ التسليم بالقضاء والقدر .
9 ـ التأكيد على وحدة المسيرة النبوية
وتصديق الرسل .
4 ـ الموالون لأهل البيت عليهمالسلام
وبيّن الإمام أنّ هناك صنفين من الناس
قسم يوالي أهل البيت عليهمالسلام
فيسير في طريق الهدى ، وآخر يوالي أعداءهم فيسير في طريق الضلال ، قال عليهالسلام
:
( فالراغب عنكم مارق
، واللازم لكم لاحق ، والمقصّر في حقّكم زاهق .
والحق معكم وفيكم
ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه وميراث النبوّة عندكم وإياب الخلق إليكم وحسابهم
عليكم وفصل الخطاب عندكم وآيات الله لديكم وعزائمه فيكم ونوره وبرهانه عندكم وأمره
إليكم .
مَنْ والاكم فقد والى
الله ، ومَنْ عاداكم فقد عادى الله ، ومَنْ أحبّكم فقد أَحبَّ الله ، ومَن أبغضكم
فقد أبغض الله ، ومَن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله .
وأنتم الصراط الأقوم
وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة والآية المخزونة والأمانة
المحفوظة والباب المبتلى به الناس .
مَنْ أتاكم نجى ومَنْ
لم يأتِكم هلك .
إلى الله تدعون وعليه
تدلّون وبه تؤمنون وله تسلّمون وبأمره تعملون والى سبيله ترشدون وبقوله تحكمون .
سَعَدَ مَن والاكم ،
وهلك مَن عاداكم ، وخاب مَن جحدكم ، وضلّ مَن فارقكم ، وفاز مَن تمسّك بكم ،
وأمن مَن لجأَ اليكم ،
وسلم مَن صدقكم ، وهدي مَن اعتصم بكم .
مَن اتبعكم فالجنّة
مأواه ، ومَن خالفكم فالنار مثواه ، ومَن جحدكم كافر ، ومَن حاربكم مشرك ، ومَن
ردّ عليكم في أسفل درك من الجحيم ) .
الحقيقة الثانية : إنّ
الموالي لأهل البيت عليهمالسلام
يعلم قيمتهم الحقيقية عند الله ؛ لذلك نجده يقول
عليهالسلام
:
( أشهدُ أنَّ هذا
سابق لكم فيما مضى وجارٍ لكم فيما بقي وأنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت
وطهرت بعضها من بعض .
خلقكم الله أنواراً
فجعلكم بعرشه محدقين حتى مَنَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذِنَ اللهُ أن تُرفع
ويُذكر فيها اسمه .
وجعل صلواتنا عليكم
وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارة لأنفسنا وتزكية لنا وكفّارة لذنوبنا
فكنّا عنده مسلمين بفضلكم ومعروفين بتصديقنا إيّاكم ) .
الحقيقة الثالثة : الرغبة في انتشار
أمرهم وتشعشع فضلهم فلا يبقى خير إلاّ وأضاءه نورهم الشريف :
( فبلغ الله بكم أشرف
محلّ المكرمين وأعلى منازل المقرّبين وأرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا
يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع في إدراكه طامع حتى لا يبقى ملك مقرّب ولا نبي
مرسل ولا صدّيق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دنيّ ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا
فاجر طالح ولا جبّار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلاّ عرفهم
جلالة أمركم وعظم خطركم وكبر شأنكم وتمام نوركم وصدق مقاعدكم وثبات مقامكم وشرف
محلّكم ومنزلتكم عنده وكرامتكم عليه وخاصّتكم لديه وقرب منزلتكم منه ).
الحقيقة الرابعة :
الإقرار الدائم بمعتقدات أهل البيت عليهمالسلام
والعمل بموجبها : ( بأبي أنتم وأُمّي
وأهلي ومالي وأُسرتي أُشهد الله وأُشهدكم أنّي مؤمن بكم وبما آمنتم به ، كافر
بعدوّكم وبما كفرتم به ، مستبصر بشأنكم وبضلالة مَن خالفكم موالٍ لكم ولأوليائكم
مبغض لأعدائكم ومعادٍ لهم ، سِلْمٌ لمَن سالمكم وحرب لمَن حاربكم محقّق لما حقّقتم
مبطل لما أبطلتم مطيع لكم عارف بحقّكم مقرّ بفضلكم محتمل لعلمكم ) .
ومن مصاديق الإيمان بقضيّة
أهل البيت قول الإمام عليهالسلام :
( محتجب بذمّتكم ومعترف بكم مؤمن بإيابكم مُصدِّق
برجعتكم منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم آخذ بقولكم عامل بأمركم مستجير بكم زائر لكم
عائذ بقبوركم مستشفع إلى الله عزّ وجلّ بكم ومتقرّب بكم إليه ومقدّمكم أمام طلبتي
وحوائجي وإرادتي في كل أحوالي وأُموري ، مؤمن بسرّكم وعلانيتكم وشاهدكم وغائبكم
وأوّلكم وآخركم ومفوّض في ذلك كلّه إليكم ومسلّم
فيه معكم وقلبي لكم مسلم ورأيي لكم تبع ونصرتي لكم مُعدَّة حتى يحيي الله تعالى
دينه بكم ويردّكم في أيامه ويظهركم لعدله ويُمكّنكم في أرضه فمعكم معكم لا مع
غيركم ، آمنت بكم وتولّيت آخركم بما تولّيت به أوّلكم وبرئت إلى الله عزّ وجلّ من
أعدائكم ومن الجبت والطاغوت والشياطين وحزبهم الظالمين لكم الجاحدين لحقّكم
والمارقين من ولايتكم الغاصبين لإرثكم الشاكين فيكم المنحرفين عنكم ومن كلِّ وليجة
دونكم وكل مطاع سواكم ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار.
فثبّتني الله أبداً ما حييت على موالاتكم ومحبّتكم
ودينكم ووفّقني لطاعتكم ورزقني شفاعتكم وجعلني من خيار مواليكم التابعين لما دعوتم
إليه وجعلني ممّن يقتصُّ آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهديكم ويحشر في زمرتكم ويكرّ
في رجعتكم ويُملَّك في دولتكم ويشرّف في عافيتكم ويُمكَّن في أيامكم وتقرّ عينه
غداً برؤيتكم .
بأبي أنتم وأُمّي ونفسي وأهلي ومالي مَن أراد الله
بدأ بكم ومَن وحَّده قبل عنكم ومَن قصده توجّه بكم .
مواليّ لا أُحصي ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن
الوصف قدركم وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبّار .
بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك
السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه وبكم يُنفّس الهمّ ويكشف الضر .
وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته والى جدّكم
بُعث الروح الأمين ، آتاكم الله ما لم يُؤتِ أحداً من العالمين .
طأطأ كل شريف لشرفكم
وبخع كل متكبّر لطاعتكم وخضع كل جبّار لفضلكم وذلّ كل شيء لكم وأشرقت الأرض بنوركم
وفاز الفائزون بولايتكم ، بكم يُسلك إلى الرضوان وعلى مَن جحد ولايتكم غضب الرحمان
.
بأبي أنتم وأُمّي
ونفسي وأهلي ومالي ذكركم في الذاكرين وأسماؤكم في الأسماء وأجسادكم في الأجساد
وأرواحكم في الأرواح وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار وقبوركم في القبور فما
أحلى أسماءكم وأكرم أنفسكم وأعظم شأنكم وأجلَّ خطركم وأوفى عهدكم وأصدق وعدكم .
كلامكم نور وأمركم
رشد ووصيّتكم التقوى وفعلكم الخير وعادتكم الإحسان وسجيّتكم الكرم وشأنكم الحق
والصدق والرفق وقولكم حكم وحتم ورأيكم علم وحلم وحزم ، إنْ ذُكِرَ الخير كنتم
أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه .
بأبي انتم وأُمّي
ونفسي كيف أصف حسن ثنائكم وأحصي جميل بلائكم وبكم أخرَجنا الله من الذلّ وفَرّج
عنّا غمرات الكروب وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار .
بأبي أنتم وأُمّي
ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم
تَمَّت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ،
ولكم المودّة الواجبة والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله
عزّ وجلّ والجاه العظيم والشأن الكبير والشفاعة المقبولة .
(
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ )
(
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ( سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً) .
يا أولياء الله إنّ
بيني وبين الله عزّ وجلّ ذنوباً لا يأتي عليها إلاّ رضاكم فبحق مَن ائتمنكم على
سرّه واسترعاكم أمر خلقه وقرن طاعتكم بطاعته لمّا استوهبتم ذنوبي وكنتم شفعائي
فإنّي لكم مطيع ؛ مَن أطاعكم فقد أطاع الله ومَن عصاكم فقد عصى الله ومَن أحبّكم
فقد أحبَّ الله ومَن أبغضكم فقد أبغض الله .
اللّهمّ إنّي لو وجدت
شفعاء أقرب إليك من محمّد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي
فبحقّهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقّهم وفي
زمرة المرحومين بشفاعتهم إنّك أرحم الراحمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين
وسلّم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل ) .
ومن هذه الفقرات نستلهم
النقاط التالية :
1 ـ ضرورة الإيمان بإيابهم وقيام دولتهم
.
2 ـ أهمّية زيارة قبورهم .
3 ـ أهمّية الإيمان بالرجعة .
4 ـ أهمّية الإيمان بسرّهم وعلانيتهم .
5 ـ ضرورة الاستعداد لنصرة دولتهم لحدّ
التمكين في الأرض .
6 ـ ضرورة البراءة من عدوّهم .
7 ـ فرح المؤمن بما رزقه الله على يد أهل
البيت .
8 ـ إنّ وحدة المسلمين السليمة لا تتمّ
إلاّ تحت لوائهم عليهمالسلام .
9 ـ إنّ الإيمان بهم لا يكون عاطفياً ،
بل يكون عن وعي وإدراك وبحث وتمحيص (منهاج التحرّك عند الإمام الهادي عليهالسلام: 113 ـ 120 .)
.
من أهمّ زيارات الأئمة الطاهرين ـ عند
الشيعة الإمامية ـ زيارة الغدير ، فقد اهتمّوا بها اهتماماً بالغاً ؛ لأنّها رمز
لذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام ، ذلك اليوم الذي قرّر فيه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المصير الحاسم
لأُمّته ، فنصب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
خليفة على المسلمين .
وقد زار الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام جدّه أمير المؤمنين في السنة
التي أشخصه فيها المعتصم من يثرب إلى سُرّ مَن رأى (مفاتيح الجنان : 363 .) .
نعم زاره بهذه الزيارة التي هي من أروع
وأجلّ الزيارات ، فقد تحدّث فيها عن فضائل الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وما عاناه في عصره من المشاكل
السياسية والاجتماعية .
وإليك بعض ما حفلت به هذه
الزيارة التي هي من ملاحم أهل البيت عليهمالسلام :
1 ـ تحدّث الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام
في زيارته ( الغديرية ) عن أنّ جدّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
هو أوّل مَن أسلم وآمن بالله واستجاب لدعوة نبيّه ، قال عليهالسلام
مخاطباً جدّه :
( وأنت أوّل مَن آمن
بالله وصلّى له ، وجاهد ، وأبدى صفحته في دار الشرك ، والأرض مشحونة ضلالة والشيطان
يعبد جهرة ... ) .
لقد تظافرت الأخبار بأنّ الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام هو
أوّل مَن أذعن لرسالة خاتم النبيّين ، واستجاب لنداء الله ، ودعى إلى دين الله بعد
رسول الله ، فقد روى ابن إسحاق ، قال :
كان أوّل ذكر آمن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصلّى معه ، وصدّق بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب عليهالسلام
وهو يومئذٍ ابن عشر سنين
(1) .
وروى الطبراني بسنده عن
أبي ذرّ قال : أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيد علي عليهالسلام فقال : ( هذا أوّل مَن آمن بي وأوّل مَن
يصافحني يوم القيامة ... ) (2) .
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعائشة : (
هذا علي بن أبي طالب أوّل الناس إيماناً ) (3). وكثير
من أمثال هذه الأخبار قد أعلنت ذلك .
2 ـ وتحدّث الإمام عليهالسلام في زيارته عن جهاد الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وبسالته وشجاعته وصموده في الحروب قائلاً :
( ولك المواقف المشهودة ، والمقامات المشهورة ،
والأيام المذكورة يوم بدر ، ويوم الأحزاب ( ... وَإِذْ
زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً ) (الأحزاب (33) : 10 ـ 13 .) .
وقال الله تعالى : ( وَلَمَّا رَأَى
الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )
(الأحزاب (33) : 22 .) .
فقتلت عمرهم وهزمت جمعهم ، وردّ الله
الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله
قوياً عزيزاً ، ويوم أحد إذ يصعدون ولا يلوون على أحد والرسول يدعوهم في أًخراهم
وأنت تذود بهم المشركين عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات
اليمين وذات
الشمال حتى ردّهم الله تعالى عنها خائفين ونصر بك الخاذلين .
ويوم حنين على ما نطق
به التنزيل : ( إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
والمؤمنون أنت ومَن
يليك ، وعمّك العباس ينادي المنهزمين يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ،
فاستجاب له قوم قد كفيتهم المؤونة وتكلّفت دونهم المعونة ، فعادوا آيسين من
المثوبة ، راجين وعد الله تعالى بالتوبة ، وذلك قول الله جل ذكره :
(
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) .
ــــــــــــــ
(1) السيرة النبوية ، ابن
إسحاق : 1/262 وعنه في الطبري : 2/312 .
(2) فيض القدير : 4 / 358 .
(3) الاستيعاب : 2 / 759 .
وأنت حائز درجة الصبر
، فائز بعظيم الأجر .
ويوم خيبر إذ اظهر
الله خور المنافقين ، وقطع دابر الكافرين ـ والحمد لله ربّ العالمين ـ ولقد كانوا
عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار ، وكان عهد الله مسؤولاً .
وأضاف الإمام قائلاً : وشهدت مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية أمامه ، وتضرب بالسيف قدّامه ، ثم لحزمك المشهور
وبصيرتك في الأمور أمّرك في المواطن ، ولم يكن عليك أمير ... ) .
3 ـ وعرض الإمام في زيارته إلى مبيت
الإمام على فراش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ووقايته له بنفسه حينما اجمعت قريش على قتله ، فكان الإمام الفدائي الأوّل في
الإسلام ، يقول عليهالسلام
:
( وأشبهت في البيات
على الفراش الذبيح عليهالسلام
إذ أجبت كما أجاب ، وأطعت كما أطاع إسماعيل محتسباً صابراً إذ قال : ( يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .
وكذلك أنت لمّا أباتك
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمرك أن تضطجع في مرقده واقياً له بنفسك أسرعت إلى إجابته مطيعاً ، ولنفسك على
القتل موطّناً فشكر الله تعالى طاعتك وأبان من جميل فعلك بقوله جلّ ذكره : ( وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) (راجع حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 140 ـ 147 .) .
إنّ النقطة الجوهرية لتحقيق ورفع المستوى
العلمي الذي تحتاجه الجماعة الصالحة هي تربية العلماء والكفاءات العلمية المتخصّصة
في مختلف الفروع العلمية الإسلامية ، ثمّ إعطاء العلماء بالشريعة الدور المتميّز
في المجتمع الإسلامي . وهذا ما سار عليه أئمة أهل البيت عليهمالسلام بلا استثناء .
وتميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بأنّه العصر الممهّد لعصر الغيبة حيث ينقطع الناس عن إمامهم ولا يبقى للناس أيّ
ملجأ فكريّ وديني سوى العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه .
ومن هنا كان اهتمام الإمامين العسكريين
بالعلماء بليغاً جدّاً حيث عُبّر عنهم بأنّهم الكافلون لأيتام آل محمد ، وكان
التبجيل والإجلال في سيرة الإمام الهادي عليهالسلام
لمثل هؤلاء العلماء ملفتاً للنظر جدّاً (1) .
ومَن يقرأ تراث الإمام الهادي عليهالسلام يلاحظ استمرار العطاء العلمي في
هذا العصر إلى جانب الاهتمام بإيضاح المنهج العلمي الذي كان يبتغيه أهل البيت عليهمالسلام والتصدّي منهم
لتعميقه .
وتكفي قراءة سريعة لرسالة
الإمام الهادي عليهالسلام إلى أهل الأهواز لتلمّس مدى
اهتمامه عليهالسلام
بالتأصيل النظري وبالتربية على سلوك المنهج العلمي السليم (2) .
ــــــــــــــ
(1) راجع
الفصل الثالث من الباب الأوّل .
(2) راجع الفصل الرابع من
الباب الرابع ، رسالة الإمام إلى أهل الأهواز .
بالرّغم من كل الظروف التي فرضت على
الإمام الهادي عليهالسلام
لعزله عن شيعته ومحبّيه فإنّا نجد الإمام عليهالسلام
يمارس مسؤولياته التربوية بكل ما يتسنّى له من الوسائل التي تكون أبلغ في التأثير
، فهو تارة يدعو لبعض شيعته ويتوجّه إلى الله ليقضي حوائجهم ، وأخرى يلبّي حاجاتهم
المادية فيسعفهم بمقدار من المال ، وثالثة يباشرهم بالكلام الصريح حول المزالق
التي تنتظرهم .
فهذا أخوه موسى الذي نصب له المتوكل
مصيدة ليوقعه فيما هو غير لائق به ويفضحه ويفضح أخاه الإمام الهادي عليهالسلام يتصدّى الإمام بنفسه ليواجهه قبل
أن يلتقي بالمتوكل ويحاول أن يبصّره بحقيقة ما ينتظره من مخاوف وأخطار معنوية (راجع الكافي : 1/502 .)
.
وفي أكثر من مورد يبادر
الإمام عليهالسلام لتقديم تجربة حسّيّة يعيش من خلالها أتباعه معنى التوجّه إلى الله
واللجوء إليه في المهمّات ثم يبصّرهم بعد ذلك أهمّية هذا المبدأ .
فعن أبي محمد الفحّام بالإسناد
عن أبي الحسن محمد بن أحمد قال : حدثني عمّ أبي قال : قصدت الإمام
يوماً فقلت إنّ المتوكّل قطع رزقي وما اتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك ،
فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته فقال : تكفى إن شاء الله فلمّا كان في الليل طرقني
رسل المتوكل رسولاً يتلو رسولاً ، فجئت إليه فوجدته في فراشه فقال : يا أبا موسى
تشغل شغلي عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي ؟ قلت : الصّلة الفلانية ، وذكرت أشياء
فأمر لي بها وبضعفها ، فقلت للفتح وافى عليّ بن محمد إلى هاهنا وكتب رقعة ؟ قال :
لا ، قال : فدخلت على الإمام فقال لي : يا
أبا موسى هذا وجه الرضّا ، قلت : يا سيّدي ولكن قالوا إنّك ما مضيت
إليه ولا سألت قال : إنّ
الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ولا نتوكّل في الملمّات
إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل .
وعن علي بن جعفر قال :
عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل عليّ عبيد الله بن يحيى فقال : لا تتعبن نفسك ،
فإنّ عمر بن أبي الفرج أخبرني أنّه رافضي فإنّه وكيل علي بن محمد ، فأرسل عبيد
الله إليّ فعرفني أنّه قد حلف ألا يخرجني من الحبس إلاّ بعد موتي بثلاثة أيام .
قال فكتب إلى أبي الحسن : إنّ نفسي قد
ضاقت وقد خفت الزيغ ، فوقّع إلي : أمّا
إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا ، فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك .
فما انقضت أيام الجمعة حتى خرجت من الحبس (راجع مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 112 و 121 .) .
ويمكن تلخيص المنهج العام
للتربية وبناء الذات عند الإمام الهادي عليهالسلام بما يلي :
1 ـ التوجيه التربوي من خلال الأحاديث
التربوية التي تقدّم للإنسان أهمّ المفاهيم التربوية (راجع تراثه التربوي والأخلاقي في الفصل الأخير من
الباب الرابع .) .
2 ـ التأكيد على طاعة الله تعالى .
3 ـ التأكيد على أهمّية التوجّه إلى الله
في الحوائج وعدم طلب الحوائج من غيره
(راجع تحف العقول : 361 ، وكشف الغمّة :
3/176 .) .
4 ـ أهمّية الدعاء والالتزام به في بلورة
روح التوحيد والتوكّل على الله .
5 ـ الدعاء للمؤمنين .
6 ـ السعي في قضاء حوائجهم .
7 ـ الربط العاطفي بالقدوة الصالحة المتمثّلة
في أهل البيت عليهمالسلام من
خلال زياراتهم ودراسة سيرتهم .
وأمّا دعاؤه للمؤمنين
وسعيه في قضاء حوائجهم فيشهد له ما يلي :
1 ـ ما مرّ من أنّ الإمام عليهالسلام أجاب على كتاب عمر بن أبي الفرج
إليه بأنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقّع الإمام عليهالسلام إليه
: أمّا إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا
فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك . فما انقضت أيام حتى خرج من الحبس (1) .
2 ـ روى المجلسي عن الخرائج : روى عن
محمد بن الفرج أنّه قال : إنّ أبا الحسن كتب إليّ : اجمع
أمرك ، وخذ حذرك ، قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد
فيما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّداً مصفّداً بالحديد ، وضرب
على كلّ ما أملك .
فمكثت في السجن ثماني سنين ثم
ورد عليّ كتاب من أبي الحسن عليهالسلام وأنا في السجن (
لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ ) فقرأت الكتاب فقلت في نفسي :
يكتب إليّ أبو الحسن عليهالسلام
بهذا وأنا في الحبس إنّ هذا لعجيب ! فما مكثت إلاّ أياماً يسيرة حتى أُفرج عنّي ،
وحُلّت قيودي وخُلّي سبيلي .
ولمّا رجع إلى العراق لم يقف ببغداد لما
أمره أبو الحسن عليهالسلام
وخرج إلى سرّ مَن رأى .
قال : فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن
يسأل الله ليردّ عليّ ضياعي فكتب إليّ سوف يردّ عليك ، وما يضرّك أن لا تردّ عليك
.
قال علي بن محمد النوفلي : فلمّا شخص
محمد بن الفرج إلى العسكر كتب له بردّ ضياعه ، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات (2) .
وقضاء حوائج المؤمنين بالإضافة إلى دوره
التربوي يُعدّ خطوة من خطوات التحصين الاقتصادي لهم ، حيث يشكّل عاملاً من عوامل
استقلالهم وعدم اضطرارهم للخضوع إلى كثير ممّا يستذلّ به الحكّام رعيّتهم .
ــــــــــــــ
(1) مسند الإمام الرضا عليهالسلام : 121 .
(2) بحار الأنوار : 50/140 .
لقد مارس الإمام الهادي عليهالسلام وظيفته بصفته الإمام والقائد
لمواليه والراعي لمصالحهم بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بالإمام عليهالسلام وبشيعته من تتبّع السلطة لهم
ومطاردتهم ، وفرض الإقامة الجبرية على الإمام بعد إشخاصه من المدينة إلى سامراء
ليكون قريباً من السلطان وتحت رقابته ، وتتجلّى لنا مواقف الإمام عليهالسلام في هذا الاتجاه في المحافظة
التامّة على شيعته ورعاية مصالحهم الخاصّة والعامّة وقضاء حوائجهم وتحذيرهم ممّا
تحوكه السلطة ضدّهم ، وما يجب أن يتخذوه من حيطة وكتمان لنشاطهم واتصالاتهم حتى لا
يقعوا في حبائل السلطة الغاشمة التي كانت تتربّص بهم وبالإمام عليهالسلام الدوائر .
إنّ وصايا الإمام عليهالسلام لأتباعه تظهر مدى اهتمامه بما يجري في الساحة أوّلاً ،
ومدى قربه من الأحداث العامة والخاصة ثانياً . وكانت أوامره تصل الجماعة الصالحة
بشكل دقيق وسريع ، بل قد تكون سابقة للأحداث في بعض الأحيان ؛ لتتمكّن تلك الجماعة
من تجاوز ما يحاك ضدّها . كما أنّ إجراءات الإمام وأساليبه كانت مظهراً لعمل حركي
وتنظيمي وعلى درجة عالية من الدقّة والتخطيط ، وهذا ما تكشفه لنا خطابات الإمام عليهالسلام
إلى شيعته والتي كانت تحمل بين طيّاتها أدوات ووسائل مختلفة ومتعدّدة لمواجهة
الظروف التي تحيط بها . وإليك بعض أساليبه ووسائله وتعليماته الخاصّة بهذا الصدد :
أ ـ الحذر من تدوين الأُمور
كان الإمام عليهالسلام يحذّر أصحابه
من تدوين وكتابة بعض الأمور ، وخصوصاً ما كان يتعلّق بعلاقات ووضع الجماعة الصالحة
ومواقفها ، فعن داود الصرمي قال : أمرني سيدي بحوائج كثيرة فقال عليهالسلام لي :
قل كيف تقول ؟ فلم أحفظ
مثل ما قال لي ، فمدّ الدواة وكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم اذكره إن شاء الله والأمر بيد الله ) ،
فتبسّمت ، فقال عليهالسلام : ما لك ؟ قلت : خير ، فقال
: اخبرني ؟ قلت جُعلت فداك
ذكرت
حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدّك
الرضا عليهالسلام إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم ، اذكر إن
شاء الله فتبسّمت ، فقال عليهالسلام لي
: يا داود ولو قلت : إنّ تارك التقيّة
كتارك الصلاة لكنت صادقاً (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 301 .) .
فالإمام عليهالسلام هنا
يربط الكتمان والحذر بمفهوم إسلامي وهو ( التقيّة ) والتي وردت بها أحاديث وآيات
كريمة كقوله تعالى : (
إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) وكذا قوله تعالى : ( إلاّ مَن أُكره
وقلبه مطمئن بالإيمان ) ،
وهي الآية التي نزلت في قضيّة عمار بن ياسر رضياللهعنه
حيث عذّبه المشركون في مكة لكي ينال من الرسول ويتركوه ، ثم جاء إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : إن عادوا فعد . فلم تكن
أوامر الإمام عليهالسلام
بهذا الصدد فقط خشية من انكشافها ، بل إنّه طرحها تأكيداً لهذا المفهوم الذي عُرفت
به الشيعة منذ نشوئها امتثالاً لوصايا الأئمة عليهمالسلام والقرآن الكريم
.
ب ـ تغيير الأسماء
كان الإمام عليهالسلام
يذكر في توقيعاته إلى بعض أصحابه وينسبهم إلى عبيد بن زرارة وكانوا قد عُرفوا ببني
الجهم وهم من أكابر بيوت الشيعة وأصحاب الأئمة عليهمالسلام
، فعن الزراري ( أحدهم ) قال : إنّ ذلك تورية وستراً من قِبل الإمام عليهالسلام
ثم اتسع ذلك وسمّينا به ، وكان عليهالسلام
يكاتبه في أمور له بالكوفة وبغداد (تاريخ الكوفة : 393 .)
.
ج ـ التحذير من الحديث في الأماكن
العامّة
كان الإمام عليهالسلام يمنع بعض أصحابه من الحديث
والمساءلة في الطريق وغيره من الأماكن التي يكون فيها عيون للسلطان .
فعن محمد بن شرف قال : كنت مع أبي الحسن عليهالسلام
أمشي في المدينة فقال لي : ألست
ابن شرف ؟ قلت بلى ، فأردت أن
أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال : (
نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة )
.
د ـ النفوذ في جهاز السلطة
لقد استولى بنو العباس على السلطة
وتولّوا أمر الأمة بالقهر والغلبة بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132 هـ) ، وعاثوا
في الأرض الفساد حيث استشرى أمرهم فكان القتل والتشريد وابتزاز الأموال على قدمٍ
وساق ، ولم تكن حكومتهم ذات شرعية إسلامية ، ومن هنا كان العمل معهم غير مشروع ،
وقد كتب محمد بن علي بن عيسى ـ أحد أصحاب الإمام عليهالسلام ـ إلى الإمام الهادي عليهالسلام يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ
ما يتمكّن من أموالهم ، هل فيه رخصة ؟ فقال عليهالسلام : ( ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر
فالله قابل به العذر ، وما خلا ذلك فمكروه ، ولا محالة قليله خير من كثيره ، وما
يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبّب على يديه ما يسرك فينا وفي موالينا )
.
ولمّا وافى كتاب الإمام عليهالسلام إلى محمد بن علي بن عيسى بادر
فكتب للإمام عليهالسلام : (
إنّ مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوّه وانبساط
اليد في التشفّي منهم بشيء أتقرّب به إليهم ، فأجاب الإمام عليهالسلام مَن
فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً ) (مستطرفات السرائر : 68 ح 14 وعنه في وسائل الشيعة 17 : 19 ح 9 ب 45 ،
وسائل الشيعة : 12 / 137 .) .
لقد وضع الإمام عليهالسلام
في النصّين أعلاه ضوابط العمل مع السلطان الجائر التي تتلخّص في توفير وسيلة
لإضعاف الظالمين ، أو تحقيق خدمة لمواليه المظلومين .
بعد أن أكّد الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام على دورهم
القيادي الديني في أوساط الجماعة الصالحة وأوضحوا أهمّيّة الولاء لهم ، وأخذت تتسع
الرقعة الجغرافية لأتباع أهل البيت عليهمالسلام ،
واحتاجوا إلى مَن يلبّي حاجاتهم الدينية ويكون حلقة وصل بينهم وبين أئمتهم عليهمالسلام بادر الأئمة عليهمالسلام إلى تعيين
الوكلاء المعتمدين لهم في مختلف المناطق وأرجعوا إليهم أتباعهم .
والمهامّ التي تولاّها الوكلاء لهم
تمثّلت في بيان الأحكام الشرعية والمواقف السياسية والاجتماعية ، وتوجيه النصائح
الأخلاقية والتربوية ، واستلام الحقوق الشرعية وتوزيعها ، وفصل النزاعات وتولّي
الأوقاف وأمور القاصرين الذين لا وليّ لهم .
وتعتبر الوثاقة أو العدالة شرطاً أساسياً
في الوكيل فضلاً عن إيمانه ومعرفته بأحكام الشريعة وشؤونها ، ولباقته السياسية
وقدرته على حفظ أسرار الإمام وأتباعه من الحكّام وعيونهم .
والوكلاء منهم مَن يرتبط بالإمام عليهالسلام بشكل مباشر ، ومنهم مَن يرتبط به
بواسطة وكيل آخر يعتبر محوراً لمجموعة من الوكلاء في مناطق متقاربة .
ويعود تاريخ تأسيس هذا النظام إلى عصر
الإمام الصادق عليهالسلام أو
مَن سبقه من الأئمة عليهمالسلام غير
أنّه قد اتّسع نطاقه وبدأ يتكامل بعد عصر الإمام الصادق عليهالسلام نظراً للتطوّرات السياسية
والمشاكل الأمنية التي أخذت تحيط بالجماعة الصالحة وتهدّد وجودهم وكيانهم .
ومنذ عصر الإمام الجواد عليهالسلام وحتى ابتداء الغيبة الصغرى كان
لهذا النظام دور فاعل وكبير جداً في حفظ كيان الجماعة الصالحة ووقايته من التفتّت
والانهيار .
وبفضل هذا النظام والعناصر الفاعلة فيه
أصبح الانتقال إلى عصر غيبة الإمام المهدي عليهالسلام
ميسوراً ، وقلّت المخاطر الناشئة من ظاهرة الغيبة للإمام المعصوم إلى حدّ كان نظام
الوكلاء بكل خصائصه قد تطوّر إلى نظام النيابة الخاصّة في عصر الغيبة الصغرى ؛
فكان السفير هو النائب الخاص الذي يقوم بدور الإمام الموجّه لمجموعة الوكلاء ...
وهو الذي يقوم بدور الوساطة بين الإمام والوكلاء وبين الإمام وأتباع الإمام عبر
هؤلاء الوكلاء .
أمّا مناطق النفوذ ومناطق تواجد الوكلاء
، ففي الحجاز كانت المدينة ومكة واليمن ، وفي العراق ، كانت الكوفة وبغداد وسامراء
وواسط والبصرة . وفي إيران كانت خراسان الكبرى ، بما فيها نيسابور وبيهق وسبزوار
وبخارا وسمرقند وهرات ، وقم وآوه والري وقزوين وهمدان وآذربايجان وقرميسين
والأهواز وسيستان وبست . وفي شمال أفريقيا كانت مصر أيضاً من مناطق تواجد أتباع
أهل البيت عليهمالسلام
التي استقرّ فيها وكلاؤهم وقاموا بدور همزة الوصل المهمّة وحقّقوا بذلك جملة من
مهامّ الأئمة عليهمالسلام .
وكلاء الإمام
الهادي عليهالسلام
قد وقفنا على أسماء جملة
من وكلاء الإمام الهادي عليهالسلام في مختلف المناطق وهم:
1 ـ إبراهيم بن محمد الهمداني .
2 ـ أبو علي ابن راشد .
3 ـ أحمد بن إسحاق الرازي .
4 ـ علي بن جعفر الوكيل .
5 ـ محمد بن إبراهيم بن مهزيار .
6 ـ الحسين بن عبد ربّه .
7 ـ أبو علي بن بلال .
8 ـ أيوب بن نوح .
9 ـ جعفر بن سهيل الصيقل .
10 ـ علي بن مهزيار الأهوازي .
11 ـ فارس بن حاتم .
12 ـ علي بن الحسين بن عبد ربّه
13 ـ عثمان بن سعيد العمري .
وقد انحرف بعضهم عن الطريق الذي رُسم له
، وكان الأئمة عليهمالسلام
يوضحون الأمر عند انحراف بعض الوكلاء عن الطريق المقرر لهم حينما كانت تغريهم
الأموال التي يحصلون عليها فيستغلون منصب الوكالة لأغراض دنيوية مادية . ولا
يسمحون لهم بإغراء الناس واستغلالهم .
إنّ جهاز الوكلاء الذي عرفنا مهامّه
يعتبر أحد عوامل التحصين الأمني للجماعة الصالحة في عصر الإمام بالنسبة للإمام
وبالنسبة لأتباعه أيضاً .
وسوى هذه المهمّة الكبيرة يساهم نظام
الوكلاء في التحصين الاقتصادي والقضائي والسياسي للجماعة الصالحة . فهو جهاز حسّاس
ومهمّ للغاية ، وهذا هو السبب في اهتمام الأئمة عليهمالسلام به وسعيهم
المتواصل لتطويره والسهر على صيانته من عوامل الضعف والانهدام .
وسوف نرى ضرورة تكوين هذا الجهاز من حيث
إنّه خير وسيلة لإعداد الجماعة الصالحة للدخول في عصر الغيبة والحيلولة دون تأثير
صدمة الغيبة والانقطاع عن الإمام المعصوم عليهالسلام
على أتباع أهل البيت عليهمالسلام
الذين ألفوا رؤية الإمام واللقاء به خلال قرنين ونصف قرن من الزمن .
عرفنا ـ ممّا ذكر ـ أنّ التحصين
الاقتصادي هو أحد الأهداف المنظورة في تخطيط أهل البيت عليهمالسلام للجماعة
الصالحة التي أرادوا لها أن تستقلّ في كيانها ، وتبتعد عن عوامل الضعف والانهيار
التي تفرضها الظروف السياسية أو الاقتصادية العامّة .
ولنظام الوكلاء دور مهم في هذا التحصين ،
كما أنّ الإمام عليهالسلام
بنفسه كان يباشر قضاء حوائجهم المادية في جملة من الأحيان .
دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن
إسحاق الأشعري وعليّ بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكريّ فشكا إليه أحمد بن
إسحاق ديناً عليه ، فقال : يا أبا عمر ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار
وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار (المناقب : 2/488 .) .
وعن أبي هاشم قال :
شكوت إليه قصور يدي فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفّاً وقال :
اتّسع بهذا . فقلت لصايغ : اسبك هذا فسبكه وقال : ما رأيت ذهباً أشدّ حمرة منه (المناقب : 2/488 .) .
وعن عبد الله بن عبد الرحمان
الصّالحي أنّه شكا أبو هاشم إلى أبي الحسن عليهالسلام ما لقي من السوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد وقال : يا
سيّدي ادع الله لي فمالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه . قال : قوّاك الله يا أبا
هاشم وقوى برذونك . قال : وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد والظهر بسُرّ مَن رأى
والمغرب ببغداد إذا شاء
(المناقب : 2/448 .) .
وبهذا نختم الكلام عن الخطوط العامّة
لدور الإمام عليهالسلام في
إكمال بناء الجماعة الصالحة وتحصينها وإعدادها للدخول إلى عصر الغيبة الذي سوف
تقترب منه بسرعة .
ــــــــــــــ
الفصل الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام
ظلّ الإمام الهادي عليهالسلام يعاني من ظلم الحكّام وجورهم
حتّى دُسّ إليه السمّ كما حدث لآبائه الطّاهرين ، وقد قال الإمام الحسن عليهالسلام : ما
منّا إلاّ مقتول أو مسموم (1) .
قال الطبرسي وابن الصباغ المالكي : في
آخر ملكه ( أي المعتز ) ، استشهد وليّ الله علي بن محمد عليهماالسلام (2) .
وقال ابن بابويه : وسمّه المعتمد (3) .
وقال المسعودي : وقيل إنّه مات مسموماً (4) ;
ويؤيد ذلك ما جاء في الدّعاء الوارد في شهر رمضان : وضاعف العذاب على مَن شرك في
دمه (5) .
وقال سراج الدين الرفاعي في
صحاح الأخبار : ( وتوفّي شهيداً بالسمّ في خلافة المعتز
العباسي ... ) .
وقال محمد عبد الغفار الحنفي
في كتابه أئمة الهدى : ( فلمّا ذاعت شهرته عليهالسلام استدعاه الملك المتوكل من
المدينة المنوّرة حيث خاف على ملكه وزوال دولته وأخيراً دسّ إليه السمّ ... ) (راجع : الإمام الهادي من المهد إلى اللحد : 509 ـ
510 .) .
والصحيح أنّ المعتز هو الذي
دسّ إليه السمّ وقتله به .
ويظهر أنّه اعتلّ من أثر السمّ الذي سُقي
كما جاء فى رواية محمّد بن الفرج عن أبي دعامة ، حيث قال : أتيت عليّ بن محمد عليهالسلام عائداً في علّته التي كانت وفاته
منها ، فلمّا هممت بالانصراف قال لي : يا
أبا دعامة قد وجب عليّ حقّك ، ألا أُحدّثك بحديث تسرّ به ؟ قال :
فقلت له : ما أحوجني الى ذلك يا ابن رسول الله .
قال : حدّثني
أبي محمد بن عليّ ، قال : حدثّني أبي عليّ بن موسى ، قال : حدثّني أبي موسى بن
جعفر ، قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، قال : حدّثني أبي محمّد بن عليّ ، قال :
حدّثني أبي عليّ بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، قال : حدّثني أبي
علي ابن أبي طالب عليهمالسلام
، قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا عليّ اكتب : فقلت : وما أكتب ؟ فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان
ما وقّرته القلوب وصدّقته الأعمال ، و الإسلام ما جرى على اللّسان ، وحلّت به
المناكحة .
ــــــــــــــ
(1) بحار
الأنوار : 27/216 ، ح 18 .
(2) إعلام
الورى : 339 ـ الفصول المهمّة : 283 .
(3) بحار
الأنوار : 50/206 ، ح 18 ، المناقب : 4/401 .
(4) مروج
الذهب : 4/195 .
(5) بحار الأنوار : 50/206 ح
19 .
قال أبو دعامة : فقلت : يا ابن رسول الله
، والله ما أدري أيّهما أحسن ؟ الحديث أم الإسناد ! فقال : إنّها لصحيفة بخطّ علي بن أبي طالب عليهالسلام
وإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
نتوارثها صاغراً عن كابر (2) .
قال المسعودي : واعتلّ أبو الحسن عليهالسلام علّته التي مضى فيها فأحضر أبا
محمّد ابنه عليهالسلام
فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح(3) .
ونصّ عليه وأوصى إليه بمشهد من ثقات
أصحابه ومضى عليهالسلام
وله أربعون سنة (4)
.
ــــــــــــــ
(2) بحار الأنوار : 50/208 ، مروج الذهب : 4/194
.
(3) إثبات
الوصيّة : 257 .
(4) بحار الأنوار : 50/210 .
تجهيزه وحضور
الخاصّة والعامّة لتشييعه
ولمّا قضى نحبه تولّى تغسيله وتكفينه
والصلاة عليه ولده الإمام أبو محمّد الحسن العسكري عليهالسلام ؛ وذلك لأنّ الإمام لا يتولّى
أمره إلاّ الإمام .
وما انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى
حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمام عليهالسلام وخيّم على سامراء جو من الحزن
والحداد .
قال المسعودي : وحدّثنا جماعة كل واحد
منهم يحكي أنّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين
( والقوّاد وغيرهم ) ، واجتمع خلق من الشّيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد عليهالسلام ولا عرف خبرهم ، إلاّ الثّقاه
الذين نصّ أبو الحسن عليهالسلام
(عندهم) عليه ، فحكوا أنّهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذ خرج من الدار
الداخلة خادم فصاح بخادم آخر يا رياش خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير
المؤمنين وادفعها إلى فلان ، وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي . فاستشرف النّاس
لذلك . ثم فتح من صدر الرّواق باب وخرج خادم أسود ، ثم خرج بعده أبو محمد عليهالسلام حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب
وعليه مبطنة ( ملحمة ) بيضاء .
وكان عليهالسلام
وجهه وجه أبيه عليهالسلام
لا يخطئ منه شيئاً ، وكان في الدّار أولاد المتوكّل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق
أحد إلاّ قام على رجله ووثب إليه أبو أحمد [ محمّد ] الموفّق ، فقصده أبو محمّد عليهالسلام
فعانقه ، ثم قال له : مرحباً بابن العمّ وجلس بين بابي الرّواق ، والناس كلّهم بين
يديه ، وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث ، فلما خرج عليهالسلام
وجلس أمسك الناس ، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة ، وخرجت جارية تندب
أبا الحسن عليهالسلام
، فقال أبو محمد : ما هاهنا مَن يكفينا مؤونة هذه الجاهلة ، فبادر الشيعة إليها
فدخلت الدار .
ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهض عليهالسلام ، وأُخرجت الجنازة ، وخرج يمشي
حتى أُخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا ، وقد كان أبو محمد عليهالسلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى
النّاس ، وصلّى عليه لمّا أُخرج المعتمد .
قال المسعودي :
وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول : ماذا لقينا في يوم الاثنين ( قديماً
وحديثاً ) (بحار الأنوار : 50/207 ح 22 ، مروج الذهب 4/193 .) .
ودُفن في داره بسرّ من رأى ، وكان مقامه عليهالسلام ( بسرّ مَن رأى ) إلى أن توفّي
عشرين سنة وأشهراً (إعلام الورى : 339 .) .
قال المسعودي :
واشتدّ الحرّ على أبي محمد عليهالسلام
وضغطه النّاس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فسار في طريقه إلى
دكّان لبقّال رآه مرشوشاً فسلّم واستأذنه في الجلوس فأذن له ، وجلس ووقف الناس
حوله .
فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه
نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه ، فسأله أن يركبه فركب
حتّى أتى الدار ونزل ، وخرج في تلك العشيّة إلى الناس ما كان يخرج عن أبي الحسن عليهالسلام
حتّى لم يفقدوا منه إلاّ الشّخص
(إثبات الوصية : 257 ، الدمعة الساكبة :
8/222 .)
.
لماذا دُفن الإمام عليهالسلام في بيته ؟
لقد جرت العادة عند العامّة والخاصّة
أنّه إذا توفّي أحدٌ أن يدفن في المكان المعدّ للموتى المسمّى ـ بالمقبرة أو
الجبّانة ـ كما هو المتعارف في هذا العصر أيضاً ، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة
لأيّ شخص مهما كان له من المكانة والمنزلة ، فقد كان ولا يزال في المدينة المحل
المُعدّ للدّفن ـ البقيع ـ حيث إنّه مثوى لأئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وزوجات النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وأولاده ، وكبار الصحابة والتابعين وغيرهم ، كما وأنّ مدفن الإمامين الجوادين عليهماالسلام في مقابر قريش
.
وأمّا السبب في دفن الإمام
الهادي عليهالسلام داخل بيته ، يعود إلى حصول ردود الفعل من
الشيعة يوم استشهاده عليهالسلام ؛
وذلك عندما اجتمعوا لتشييعه مظهرين البكاء والسخط على السلطة والذي كان بمثابة
توجيه أصابع الاتهام إلى الخليفة لتضلّعه في قتله .
وللشارع الذي أُخرجت جنازة الإمام عليهالسلام إليه الأثر الكبير ؛ حيث كان
محلاًّ لتواجد معظم الموالين آل البيت عليهمالسلام إذ
ورد في وصفه : الشارع الثّاني يعرف بأبي أحمد أول هذا الشارع من المشرق دار
بختيشوع المتطبّب التي بناها المتوكل ، ثم قطائع قوّاد خراسان وأسبابهم من العرب ،
ومن أهل قم ، وإصبهان ، وقزوين ، والجبل ، وآذربيجان ، يمنة في الجنوب ممّا يلي
القبلة (موسوعة العتبات المقدّسة : 12/82 .) .
ويشير إلى تواجد أتباع مدرسة أهل البيت
في سامراء المظفري في تاريخه إذ يقول : فكم كان بين الجند ، والقوّاد ، والأُمراء
، والكتّاب ، مَن يحمل بين حنايا ضلوعه ولاء أهل البيت عليهمالسلام (تاريخ الشيعة : 101 .) .
كلّ هذا أدّى إلى اتّخاذ السلطة القرار
بدفنه عليهالسلام في
بيته ، وإن لم تظهر تلك الصورة في التاريخ بوضوح ، إلاّ أنّه يفهم ممّا تطرّق إليه
اليعقوبي في تاريخه عند ذكره حوادث عام (254 هـ) ووفاة الإمام الهادي عليهالسلام حيث يقول : وبعث المعتز بأخيه
أحمد بن المتوكّل فصلّى عليه في الشارع المعروف
بشارع أبي أحمد ، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم ، فردّ النعش إلى
داره ، فدُفن فيها ... (تاريخ اليعقوبي : 2/503 .
)
وتمكّنوا بذلك من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة ، وهذا
إن دلّ على شيء فإنّما يدل على وجود التحرّك الشيعي رغم الظروف القاسية التي كان
يعاني منها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة .
انتشار خبر
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد
روى
الحسين بن حمدان الحضيني في كتاب الهداية في الفضائل :
عن أحمد ابن داود القميّ ، ومحمّد بن عبد الله الطلحي قالا : حملنا مالاً اجتمع من
خُمس ونذور من بين ورق وجوهر وحُليّ وثياب من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد
سيّدنا أبا الحسن علي بن محمد عليهماالسلام
بها ، فلمّا صرنا إلى دسكرة الملك (الدسكرة : قرية في طريق خراسان قريبة من شهربان ( وهي قرية كبيرة ذات
نخل وبساتين من نواحي الخالص شرقي بغداد ) ، وهي دسكرة الملك ( معجم البلدان :
2/455 و3/375 ) .)
تلقّانا
رجل راكب على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة ، فقصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو
يعارضنا بجمله حتى وصل إلينا ، فقال : يا أحمد ابن داود ومحمّد بن عبد الله الطلحي
معي رسالة إليكم ، فأقبلنا إليه فقلنا له : ممّن يرحمك الله فقال : من سيّدكما أبي
الحسن عليّ بن محمّد عليهماالسلام
يقول لكما : أنا راحل إلى الله في هذه الليلة ، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر
ابني أبي محمد الحسن ، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك ، ولم نظهره ، ونزلنا
بدسكرة الملك واستأجرنا منزلاً وأحرزنا ما حملناه فيه ، وأصبحنا والخبر شائع في
الدّسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن(ع) ،
فقلنا : لا إله إلاّ الله أترى الرّسول الذي جاء برسالته أشاع الخبر في الناس ؟
فلمّا أن تعالى النّهار رأينا قوماً من الشّيعة على أشدّ قلق ممّا نحن فيه ،
فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره
(الدمعة الساكبة : 8/223 .)
.
تاريخ استشهاده عليهالسلام
اختلف المؤرّخون في يوم
استشهاده عليهالسلام ،
كما اختلفوا في مَن دسّ إليه السمّ .
والتحقيق أنّه عليهالسلام
استشهد في أواخر ملك المعتزّ كما نصّ عليه غير واحد من المؤرّخين ، وبما أنّ أمره
كان يهمّ حاكم الوقت ، وهو الذي يتولّى تدبير هذه الأمور كما هو الشأن ، فإنّ
المعتزّ أمر بذلك ، ويمكن أنّه استعان بالمعتمد في دسّ السمّ إليه .
وأمّا يوم شهادته عليهالسلام
فقد قال ابن طلحة في مطالب السؤول : إنّه مات في جمادى الآخرة لخمس ليال بقين منه
ووافقه ابن خشّاب (2) ،
وقال الكليني في الكافي : مضى صلوات الله عليه لأربع بقين من جمادى الآخرة (3) ;
ووافقه المسعودي (4) .
وأمّا المفيد في الإرشاد ، والإربلي في
كشف الغمّة ، والطبرسي في إعلام الورى ، فقالوا : قبض عليهالسلام
في رجب ، ولم يحدّدوا يومه
(5) .
وقال أبو جعفر الطوسي في
مصابيحه ، وابن عيّاش ، وصاحب الدّروس :
ــــــــــــــ
(2) الدمعة الساكبة : 8/225 و 227 .
(3) الكافي : 1/497 .
(4) مروج الذهب : 4/193 .
(5) الدمعة الساكبة : 8/226 و
227 ، إعلام الورى : 339 ، كشف الغمّة 2 : 376 .
إنّه قُبض بسرّ مَن رأى يوم الاثنين ثالث
رجب (1) .
ووافقهم الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين حيث قال : توفّي عليهالسلام بـ (سرّ مَن رأى) لثلاث ليال
خلون نصف النّهار من رجب (2) ;
وللزرندي قول : بأنّه توفّي يوم الاثنين الثالث عشر من رجب (3) .
ولكنّ الكلّ متّفقون على أنّه استشهد في
سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة (4) .
وعن الحضيني أنّه قال : حدّثني أبو الحسن
عليّ بن بلال وجماعة من إخواننا أنّه لما كان اليوم الرابع من وفاة سيّدنا أبي
الحسن عليهالسلام أمر
المعتزّ بأن ينفذ إلى أبي محمد عليهالسلام مَن
يستركبه إليه ليعزّيه ويسأله ، فركب أبو محمد عليهالسلام إلى المعتزّ فلمّا دخل عليه رحّب
به وقرّبه وعزّاه وأمر أن يُثبت في مرتبة أبيه عليهماالسلام . وأثبت له
رزقه وأن يدفعه فكان الذي يراه لا يشكّ أنّه في صورة أبيه عليهماالسلام .
واجتمعت الشيعة كلّها من المهتدين على
أبي محمد بعد أبيه إلاّ أصحاب فارس بن حاتم بن ماهويه فإنّهم قالوا بإمامة أبي
جعفر محمد بن أبي الحسن صاحب العسكر
(5) .
إنّ ما صدر من المعتزّ هذا كان من باب
التمويه والخداع لكي يغطّي على جريمته التي ارتكبها بحقّ أبيه ، وهذا كان ديدن مَن
تقدّمه من الطواغيت تجاه أئمة أهل البيت عليهمالسلام (6) .
ــــــــــــــ
(1) الدمعة
الساكبة : 8/225 ، بحار الأنوار : 50/206 ، ح 17 .
(2) روضة
الواعظين : 1/246 .
(3) الدمعة
الساكبة : 8/226 .
(4) راجع : لمحات من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام : 112 ـ 120 محمد رضا سيبويه .
(5) الدمعة
الساكبة : 8/225 .
(6) لمحة من حياة الإمام
الهادي عليهالسلام : 121 ـ 122 .
الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه
لقد تميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام عن عصر أبيه الإمام محمد الجواد عليهالسلام بزيادة الكبت والضغط عليه من
قِبل السلطة حتى كانت الرقابة الدائمة هي الأمر المميّز والفارق الواضح في حياته
وحياة ابنه الإمام الحسن العسكري عليهالسلام .
كما أنّ الإمام الهادي عليهالسلام شارك أباه الجواد عليهالسلام في تولّي مهمّة الإمامة في صغر
السن وقبل إكمال عقده الأوّل من العمر . فكانت الإمامة المبكّرة وتوجّس السلطة من
قيادة خط المعارضة الذي دام قرنين وثلاثة عقود من الزمن في عهده عليهالسلام ، وترقّب ظهور المهدي من آل محمد
صلىاللهعليهوآلهوسلم من
ولده هي ثلاث مميزات تميّزت بها فترة إمامته ، ومن هنا شدّدت الرقابة إلى أقصى حدّ
ممكن حتى انتهت إلى التصفية الجسدية بعد أن سيطر الخوف والرعب على طغاة عصره .
ومن هنا فإنّ كثرة أصحاب الإمام ـ والذين
أحصاهم أحد المهتمّين بتأريخ هذا الإمام العظيم (راجع الإمام الهادي من المهد إلى اللحد ، السيد محمد كاظم القزويني .) حيث
ترجم لـ (346) شخصاً كانوا قد ارتبطوا بالإمام ورووا عنه ـ وهو في تلك الظروف
العصيبة ، لها دلالة كبيرة وواضحة على سعة نشاط الإمام الهادي عليهالسلام في تلك الظروف الصعبة ، وعظمة
هذا الإمام الذي استوعب بنشاطه السرّي والمنظّم كل تلك العقبات واجتازها بما يحقّق
له أهدافه من التمهيد فكرياً وعقائدياً ونفسيّاً لعصر الغيبة المرتقب محافظاً على
خط المعارضة بشكل تام ، مراقباً للأحداث بشكل مستمر ومقدّماً لكل ظرف مستجد ما
يتطلّبه من الخطوات والأنشطة ، مراعياً التقدّم الحضاري الذي كانت الأُمّة
الإسلامية على مشارفه وهو يريد أن تكون الجماعة الصالحة في موقع القيادة والقمّة
منه دائماً ، وهكذا كان . ومن هذه الزاوية ينبغي أن نطالع ما وصلنا من تراثه
ومعالم مدرسته .
وينقسم الحديث في هذا
الفصل إلى حقلين : الأوّل : مدرسة
الإمام الهادي المتمثلة في أصحابه ورواة حديثه . والثاني : تراثه الفكري والعلمي المدوّن أو المروي
عنه .
البحث الأوّل :
أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه
كان الإمام
الهادي عليهالسلام
مقصداً لطلاب العلوم لتنوع ثقافته وشمول معارفه ، فهو عليهالسلام المتخصّص
في جميع العلوم ، والخبير في تفسير القرآن الكريم ، والمتضلّع في الفقه الإسلامي
بشتى حقوله ومستوياته .
وقد مثّل أصحابه الخط الرسالي في الأمة
الإسلامية ، باعتبار اتصالهم بأهل البيت عليهمالسلام ،
فرووا أحاديثه ودوّنوها في أصولهم ؛ فكان لهم الفضل الكبير على العالم الإسلامي
بما دوّنوه من تراث الأئمة الطاهرين فلولاهم لضاعت ثروة كبيرة تشتمل على الإبداع
والأصالة وتساير تطوّر الفكر البشري ، بل وتتقدم عليه .
وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من ملامح
عمل الإمام الهادي عليهالسلام
تنكشف من خلال أنشطة أتباعه المعتمدين ، وتتعمّق هذه الحقيقة بمقدار اشتداد الظروف
الداعية للسرّية في عمل الإمام عليهالسلام
.
وفيما يأتي تراجم بعض
أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ، وقد رتّبناها حسب تسلسل حروف الهجاء :
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ومن أصحاب
الإمام الحسن العسكري عليهالسلام ، وذكر الكشي أنّ الإمام الحسن العسكري عليهالسلام بعث
رسالة إلى إسحاق بن إسماعيل ، سلّم فيها على إبراهيم بن عبده ، ونصّبه وكيلاً على
قبض الحقوق الشرعية وقد بعثه إلى عبد الله بن حمدويه البيهقي ، وزوّده برسالة جاء فيها : (
وبعد ، فقد بعثت لكم إبراهيم بن عبده ، ليدفع النواحي ، وأهل ناحيتك ، حقوقي
الواجبة عليكم إليه ، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليي هناك فليتقوا الله ،
وليراقبوا وليؤدّوا الحقوق ، فليس لهم عذر في ترك ذلك ولا تأخيره ، ولا أشقاهم
الله بعصيان أوليائه ورحمهم الله ـ وإيّاك معهم ـ
برحمتي لهم إنّ الله واسع كريم ) (معجم رجال الحديث : 1/232 .) .
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام
الرضا عليهالسلام ومن أصحاب الإمام الجواد والهادي عليهماالسلام ،
وقال الكشي : كان وكيله وقد حجّ أربعين حجّة . وكتب الإمام له : ( قد وصل الحساب تقبّل الله منك ورضي
عنهم ، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة ، وقد بعثت إليك من الدنانير بكذا ، ومن
الكسوة بكذا ، فبارك لك فيه ، وفي جميع نعمة الله عليك ، وقد كتبت إلى النضر أمرته
أن ينتهي عنك ، وعن التعرّض لك وبخلافك ، وأعلمته موضعك عندي ، وكتبت إلى أيوب :
أمرته بذلك أيضاً ، وكتبت إلى مواليي بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك والمصير إلى
أمرك ، وأن لا وكيل لي سواك ) (اختيار معرفة الرجال : 2/869 .) .
ودلّت هذه الرواية على وثاقته وجلالة
أمره ، وسموّ مكانته عند الإمام عليهالسلام .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الجواد ، ومن
أصحاب الإمام الهادي عليهماالسلام .
قال النجاشي : له كتاب البشارات . وروى الكشي بسنده عن محمد بن إبراهيم بن مهزيار
، قال : إنّ أبي لمّا حضرته الوفاة دفع إليّ مالاً ، وأعطاني علامة ولم يعلم بها
أحد إلاّ الله عزّ وجل ، وقال : مَن أتاك بهذه العلامة فادفع إليه المال ، قال :
فخرجت إلى بغداد ، ونزلت في خان فلمّا كان في اليوم الثاني جاء شيخ فطرق الباب
فقلت للغلام انظر من في الباب ، فخرج ، ثم جاء وقال : شيخ في الباب فأذنت له في
الدخول ، فقال : أنا العمري ، هات المال الذي عندك ، وهو كذا وكذا ومعه العلامة ،
قال : فدفعت له المال
(خلاصة
الأقوال : 51 .) .
ودلّت هذه الرواية على أنّ إبراهيم كان
وكيلاً للإمام عليهالسلام
في قبض الحقوق الشرعية ، ومن الطبيعي أنّه إنّما يؤتمن عليها فيما إذا كان ثقة
وعدلاً .
4 ـ احمد بن
إسحاق بن عبد الله الأشعري القمّي :
كان وافد القمّيين ، روى عن أبي جعفر
الثاني وأبي الحسن عليهماالسلام
وكان من خاصّة أبي محمد عليهالسلام ،
وله من الكتب :
1 ـ مسائل الرجال للإمام الهادي عليهالسلام .
2 ـ علل الصلاة .
3 ـ علل الصوم .
وهو ممّن رأى الإمام المهدي ـ عجّل الله
فرجه ـ ووردت أخبار كثيرة في مدحه والثناء عليه (رجال النجاشي : 91 ، وخلاصة الأقوال : 63 .) .
5 ـ أحمد بن
محمد بن عيسى الأشعري القمّي :
عدّه الشيخ
من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي عليهمالسلام ، يكنّى أبا جعفر وهو
شيخ القمّيين ووجيههم ، وكان الرئيس الذي يلقى السلطان ، صنّف كتباً منها :
كتاب ( التوحيد ) وكتاب ( فضل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
) وكتاب ( المتعة ) وكتاب ( النوادر ) وكتاب ( الناسخ والمنسوخ ) وكتاب ( فضائل
العرب ) وغيرها (معجم رجال الحديث : 3/86 .)
.
الثقة
الأمين ، قال النجاشي : إنّه كان وكيلاً
لأبي الحسن ، وأبي محمد عليهماالسلام
عظيم المنزلة عندهما ، مأموناً ، وكان شديد الورع ، كثير العبادة ، ثقة في رواياته
، وأبوه نوح بن دراج كان قاضياً بالكوفة ، وكان صحيح الاعتقاد ، وأخوه جميل بن
دراج (رجال النجاشي : 102 .)
، قال الشيخ : أيوب بن نوح بن دراج ثقة له كتاب وروايات ومسائل عن أبي الحسن
الثالث (الفهرست : 56 .)
. وقال الكشي : كان من الصالحين ومات وما خلف إلاّ مائة وخمسين ديناراً ، روى عن
الإمام أبي الحسن عليهالسلام
وروى عنه جماعة من الرواة
(رجال النجاشي : 102 .).
يُكنّى أبا علي مولى لآل المهلّب
البغدادي ، ثقة .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام
الهادي عليهالسلام ، وعدّه الشيخ المفيد من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم
الحلال والحرام ، الذين لا يطعن عليهم بشيء ولا طريق لذمّ واحد منهم ، وقد نصّبه
الإمام وكيلاً وبعث إليه بعدة رسائل منها (رجال الطوسي : 375 .) :
1 ـ ما رواه الكشي بسنده إلى محمد بن
عيسى اليقطيني ، قال : كتب ـ يعني الإمام الهادي ـ إلى أبي علي بن بلال في سنة
(232 هـ) رسالة جاء فيها : (
وأحمد الله إليك ، وأشكر طوله وعوده ، وأُصلّي على محمد النبي وآله ، صلوات الله
ورحمته عليهم ، ثم إنّي أقمت أبا علي مقام الحسين بن عبد ربّه ، وائتمنته على ذلك
بالمعرفة بما عنده الذي لا يقدمه أحد ، وقد أعلم أنّك شيخ ناحيتك فأحببت إفرادك
وإكرامك بالكتاب بذلك ، فعليك بالطاعة له ، والتسليم إليه جميع الحق قبلك ، وأن
تحضّ مواليّ على ذلك ، وتعرّفهم من ذلك ما يصير سبباً إلى عونه وكفايته ، فذلك
موفور ، وتوفير علينا ، ومحبوب لدينا ، ولك به جزاء من الله وأجر ، فإنّ الله يعطي
مَن يشاء ذو الإعطاء والجزاء برحمته ، وأنت في وديعة الله ، وكتبت بخطّي وأحمد
الله كثيراً )
(معجم رجال الحديث : 5/313 ـ 314 .) .
ودلّت هذه الرسالة على فضل ابن راشد
ووثاقته وأمانته ، فقد أرجع إليه الشيعة وأوصاهم بطاعته والانقياد إليه ، وتسليم
ما عندهم من الحقوق الشرعيّة إليه .
2 ـ روى الكشي بسنده إلى أحمد بن محمد بن
عيسى قال : نسخت الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد المقيمين
بها والمدائن والسواد وما يليها ، وهذا
نصّه :
( وأحمد الله إليكم ما أنا عليه من عافيته ،
وأُصلّي على نبيّه وآله أفضل صلاته وأكمل رحمته ورأفته ، وإنّي أقمت ابا علي بن
راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه ، ومَن كان من قبله من وكلائي ، وصار في
منزلته عندي ، وولّيته ما كان يتولاّه غيره من وكلائي قبلكم ليقبض حقّي ، وارتضيته
لكم ، وقدّمته على غيره في ذلك ، وهو أهله وموضعه ، فصيروا رحمكم الله إلى الدفع
إليه ذلك وإليّ ، وأن لا تجعلوا له على أنفسكم علّة ، فعليكم بالخروج عن ذلك ،
والتسرّع إلى طاعة الله ، وتحليل أموالكم ، والحقن لدمائكم ، وتعاونوا على البرّ
والتقوى واتقوا الله لعلّكم ترحمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ، ولا تموتن إلاّ
وأنتم مسلمون ، فقد أوجبت في طاعته طاعتي ، والخروج إلى عصيانه عصياني ، فالزموا
الطريق يأجركم الله ، ويزيدكم من فضله ، فإنّ الله بما عنده واسع كريم ، متطوّل
على عباده رحيم ، نحن وأنتم في وديعة الله وحفظه ، وكتبته بخطّي ، والحمد لله
كثيراً ) (معجم رجال الحديث : 5/314 .) .
وكشفت هذه الرسالة عن سموّ
مكانة ابن راشد عند الإمام عليهالسلام وعظيم منزلته عنده حتى قرن طاعته بطاعته عليهالسلام
، وعصيانه بعصيانه عليهالسلام .
3 ـ وبعث الإمام أبو الحسن عليهالسلام رسالة له وإلى أيوب بن نوح جاء
فيها بعد البسملة : (
أنا آمرك يا أيوب بن نوح أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي علي ، وأن يلزم كل واحد
منكما ما وكّل به ، وأُمر بالقيام فيه بأمر ناحيته ، فإنّكم إذا انتهيتم إلى كل ما
أُمرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي ، وآمرك يا أبا علي بمثل ما أمرت به أيوب ، أن
لا تقبل من أحد من أهل بغداد والمدائن شيئاً يحملونه ، ولا يلي لهم استيذاناً علي
، ومر مَن أتاك بشيء من غير أهل ناحيتك أن يصيّره إلى الموكّل بناحيته ، وآمرك يا
أبا علي في ذلك بمثل ما أمرت به أيوب ، وليعمل كل واحد منكما بمثل ما أمرته به ) (معجم رجال الحديث : 5/315 .) .
لقد كانت لأبي راشد مكانة مرموقة عند
الإمام عليهالسلام ،
ومن الطبيعي أنّه لم يحتل هذه المنزلة إلاّ بتقواه وورعه ، وشدّة تحرّجه في الدين
، ولمّا توفّي ابن راشد ترحّم عليه الإمام عليهالسلام
ودعا له بالمغفرة والرضوان .
ابن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب الناصر للحق من أصحاب الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، وهو والد جدّ السيد المرتضى من
جهة أُمّه ، قال السيد قدسسره في أول
كتابه ( شرح المسائل الناصريات ) : وأمّا أبو محمد الناصر الكبير وهو الحسن بن علي
ففضله في علمه وزهده وفقهه أظهر من الشمس الباهرة ، وهو الذي نشر الإسلام في
الديلم حتى اهتدوا به من الضلالة ، وعدلوا بدعائه بعد الجهالة ، وسيرته الجميلة
أكثر من أن تُحصى وأظهر من أن تخفى
(الناصريات : 63 .) .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن
الهادي عليهالسلام .
قال النجاشي : إنّه ابن بنت الياس
الصيرفي الخزّاز ، وقد روى الحسن عن جدّه الياس أنّه لمّا حضرته الوفاة ، قال :
اشهدوا عليّ وليست ساعة الكذب هذه الساعة : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : والله لا يموت عبد يحب الله ورسوله
ويتولّى الأئمة فتمسّه النار .
وروى أحمد بن محمد بن عيسى قال : خرجت
إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشا ، فسألته أن يخرج لي كتاب
العلاء بن رزين القلا ، وأبان بن عثمان الأحمر ، فأخرجهما لي فقلت له : أحب أن
تجيزهما لي فقال لي : يا هذا رحمك الله ، وما عجلتك ، اذهب فاكتبهما ، واسمع من
بعد ، فقلت : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت أنّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب
لاستكثرت منه ، فإنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلٌّ
يقول : حدثني جعفر بن محمد ، وكان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب
منها : ثواب الحج ، والمناسك والنوادر
(معجم رجال
الحديث : 6/38 .) .
يُكنّى أبا هاشم ، من أهل بغداد ، جليل
القدر عظيم المنزلة عند الأئمة عليهمالسلام
شاهد الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر عليهالسلام ، وروى عنهم كلّهم ، وله أخبار
ومسائل وله شعر جيّد فيهم ، وكان مقدّماً عند السلطان وله كتاب .
عدّه البرقي من أصحاب الإمام الجواد
والإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهمالسلام قال
الكشي : قال أبو عمرو : له ـ أي لداود ـ منزلة عالية عند أبي جعفر ، وأبي الحسن ،
وأبي محمد عليهمالسلام
وموقع جليل (اختيار معرفة الرجال : 2/841 .) .
عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام الرضا عليهالسلام ، ومن أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام وأضاف أنّه ثقة ، وروى الكشي بسنده عن معمر بن خلاد ، قال : قال
لي الريان بن الصلت : وكان الفضل بن سهل بعثه إلى بعض كور خراسان ، فقال : أحبّ أن
تستأذن لي على أبي الحسن عليهالسلام
فأسلم عليه وأودّعه وأحب أن يكسوني من ثيابه ، وأن يهب لي من الدراهم التي ضربت
باسمه ، قال : فدخلت عليه ، فقال لي مبتدئاً : يا معمر أين ريان ، أيحب أن يدخل
علينا فأكسوه من ثيابي ، وأعطيه من دراهمي ؟ قال : قلت : سبحان الله !!! والله ما
سألني إلاّ أن أسألك ذلك له ، فقال : يا معمر إنّ المؤمن موفّق ، قل له فليجيئ ،
قال : فأمرته فدخل عليه فسلّم عليه فدعا بثوب من ثيابه ، فلمّا خرج قلت : أي شيء أعطاك
؟ وإذا بيده ثلاثون درهماً (اختيار معرفة الرجال : 2/824 .) .
وقد دلّت هذه البادرة على حسن إيمانه وحسن عقيدته .
هو السيد الشريف الحسيب النسيب من مفاخر
الأسرة النبوية علماً وتقى وتحرّجاً في الدين . ونلمح إلى بعض شؤونه :
أ ـ
نسبه الوضّاح : يرجع نسبه الشريف إلى الإمام الزكي أبي
محمد الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو ابن عبد
الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام .
ب ـ
وثاقته وعلمه : كان ثقة عدلاً ، متحرّجاً في دينه كأشدّ
ما يكون التحرج ، كما كان عالماً وفاضلاً وفقيهاً فقد روى أبو تراب الروياني ، قال
: سمعت أبا حماد الرازي ، يقول : دخلت على علي بن محمد عليهالسلام بـ ( سُرّ مَن رأى )
فسألته عن أشياء من الحلال والحرام
فأجابني عنها ، فلمّا ودعته قال لي : يا
حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم الحسني واقرأه
منّي السلام
(معجم الرجال الحديث : 11/53 .) .
ودلّت هذه الرواية على
فقهه وعلمه .
ج ـ
عرض عقيدته على الهادي عليهالسلام : وتشرّف السيد الجليل عبد العظيم بمقابلة
الإمام الهادي عليهالسلام
فعرض على الإمام أصول عقيدته وما يدين به قائلاً : (يا ابن رسول الله إنّي أُريد
أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه) .
فقابله الإمام مبتسماً وقال له : ( هات يا أبا القاسم ) .
وانبرى عبد العظيم يعرض على الإمام
المبادئ التي آمن بها قائلاً : ( إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء
، خارج عن الحدّين ، حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وأنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض
ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور وخالق الأعراض والجواهر وربّ كل شيء
ومالكه وجاعله ومحدثه .
وأنّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيين ،
فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وأنّ شريعته خاتمة الشرايع فلا شريعة بعدها إلى
يوم القيامة . وأقول : إنّ الإمام والخليفة ، وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب عليهالسلام ،
ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن
جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم أنت يا مولاي ) . والتفت إليه الإمام فقال
: ( ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس
بالخلف من بعده ؟ ) .
واستفسر عبد العظيم عن الحجّة من بعده قائلاً
: وكيف ذاك يا مولاي ؟ قال الإمام عليهالسلام : ( لأنّه لا يرى شخصه ، ولا يحل ذكره
باسمه ، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما مُلئت ظلماً وجوراً )
.
وانبرى عبد العظيم يعلن إيمانه بما قال
الإمام عليهالسلام
قائلاً : ( أقررت ، وأقول : إنّ وليّهم ولي الله ، وعدوّهم عدوّ الله وطاعتهم طاعة
الله ، ومعصيتهم معصية الله .
وأقول : إنّ المعراج حق والمساءلة في
القبر حق وأنّ الجنّة حق والنار حق والصراط حق والميزان حق وأنّ الساعة آتية لا
ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور .
وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية
ـ أي الولاية لأئمة أهل البيت عليهمالسلام ـ
الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .
وبارك له الإمام عقيدته قائلاً : ( يا أبا القاسم هذا والله دين الله
الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا
والآخرة ) (كمال الدين : 379 ح 1 ، وعنه في إعلام الورى : 2/244 ، 245 .)
.
13 ـ عثمان بن
سعيد العمري السمّان :
يكنّى أبا عمرو ، الثقة الزكي ، خدم
الإمام الهادي عليهالسلام وله
من العمر إحدى عشرة سنة ، احتلّ المكانة المرموقة عند الإمام عليهالسلام ، فقد روى أحمد ابن إسحاق القمّي
قال : دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت له :
يا سيدي أنا أغيب وأشهد ، ولا يتهيّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت فقول مَن
نقبل ، وأمر مَن نمتثل ؟ فقال عليهالسلام :
هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعنّي يقوله
، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه .
فلمّا قضى أبو الحسن عليهالسلام نحبه رجعت إلى أبي محمد ابنه
الحسن العسكري وقلت له عليهالسلام ذات
يوم : مثل قولي لأبيه ، فقال لي : هذا
أبو عمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضين ، وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم
فعنّي يقوله ، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه (معجم رجال الحديث : 12/123 .) .
ودلّت هذه الرواية على وثاقته ، وأنّه قد
نال المنزلة الكريمة عند الأئمة الطاهرين عليهمالسلام
، كما دلّت على فضله وعلمه ، وأنّه كان مرجعاً للفتيا وأخذ الأحكام .
14 ـ علي بن
مهزيار الأهوازي الدورقي :
كان من مفاخر العلماء ومن مشاهير تلاميذ
الإمام الهادي عليهالسلام
ونتحدّث بإيجاز عن بعض شؤونه :
أ ـ عبادته
:
كان من عيون المتّقين والصالحين ، ويقول المؤرّخون : إنّه كان إذا طلعت الشمس سجد
لله تعالى ، وكان لا يرفع رأسه حتى يدعو لألف من إخوانه بمثل ما دعا لنفسه ، وكان
على جبهته سجّادة مثل ركبة البعير من كثرة سجوده (اختيار معرفة الرجال : 2/825 .) .
ب ـ ثناء
الإمام الجواد عليهالسلام عليه : وأثنى الإمام الجواد عليهالسلام ثناءً عاطراً على ابن مهزيار ،
وكان ممّا أثنى عليه أنّه بعث له رسالة جاء فيها :
( يا علي قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطاعة
والخدمة والتوقير ، والقيام بما يجب عليك ، فلو قلت : إنّي لم أر مثلك لرجوت أن
أكون صادقاً فجزاك الله جنّات الفردوس نزلاً . وما خفي علي مقامك ولا خدمتك ، في
الحرّ والبرد ، في الليل والنهار ، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك
برحمة تغتبط بها إنّه سميع الدعاء ) (معجم رجال الحديث : 13/211 .) .
وكشفت هذه الرسالة عن إكبار الإمام
وتقديره ودعائه له ، وأنّه عليهالسلام
لم ير في أصحابه وغيرهم مثل هذا الزكي تقوى وورعاً وعلماً .
ج ـ مؤلّفاته :
ألّف عليّ مجموعة من الكتب تزيد على ثلاثين كتاباً كان معظمها في الفقه وهذه بعضها
: كتاب الوضوء ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة ، كتاب الصوم ، كتاب الحج ، كتاب
الطلاق ، كتاب الحدود ، كتاب الديّات ، كتاب التفسير ، كتاب الفضائل ، كتاب العتق
والتدبير ، كتاب التجارات والإجارات ، كتاب المكاسب ، كتاب المثالب ، كتاب الدعاء
، كتاب التجمل والمروّة ، كتاب المزار ، وغيرها (رجال النجاشي : 253 .) .
د ـ طبقته
في الحديث : وقع علي بن مهزيار في أسناد كثير من
الروايات تبلغ (437) مورداً ، روى عن : الإمام أبي جعفر الثاني ، وأبي الحسن
الثالث ، وغيرهما . لقد كان علي بن مهزيار من دعائم الفكر الشيعي ، وكان من أفذاذ
عصره وعلماء دهره .
15 ـ الفضل بن
شاذان النيشابوري :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن
الهادي عليهالسلام ،
وهو من أساطين العلماء ، ومن أبرز رجال الفكر الإسلامي في عصره ، خاض في مختلف
العلوم والفنون وألّف فيها ، ونعرض بإيجاز لبعض شؤونه :
أ ـ
ثناء الإمام الحسن العسكري عليهالسلام عليه : وأشاد
الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
بالفضل بن شاذان ، وأثنى عليه ثناءً عاطراً ، فقد عرضت عليه إحدى مؤلّفاته فنظر
فيه فترحّم عليه وقال : (
أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم ) (جامع الرواة : 2/5 .) .
ونظر عليهالسلام
مرة أخرى إلى مؤلَّف آخر من مؤلّفاته فترحّم عليه ثلاث مرات ، وقال مقرّظاً للكتاب
: ( هذا صحيح ينبغي أن يعمل به ) (طرائف المقال : 2/632 .)
.
ب ـ
ردّه على المخالفين : انبرى الفضل للدفاع عن مبادئه ، وإبطال
الشبه التي أُثيرت حول عقيدته ، وقد قال : أنا خلف لمَن مضى أدركت محمد بن أبي
عمير ، وصفوان بن يحيى وغيرهما ، وحملت عنهم منذ خمسين سنة ، ومضى هشام بن الحكم رحمهالله
، وكان يونس بن عبد الرحمان رحمهالله خلفه ،
كان يرد على المخالفين ، ثم مضى يونس بن عبد الرحمان ولم يخلف خلفاً غير السكّاك ،
فردّ على المخالفين حتى مضى رحمهالله ، وأنا
خلف لهم من بعدهم رحمهم الله ) (اختيار معرفة الرجال : 2/818 .) .
لقد كان خلفاً لأولئك الأعلام الذين
نافحوا وناضلوا عن مبادئهم الرفيعة التي تبنّاها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
.
ج ـ مؤلّفاته :
ألّف هذا العالم الكبير في مختلف العلوم ، كعلم الفقه وعلم التفسير وعلم الكلام
والفلسفة واللغة والمنطق وغيرها ، وكانت مؤلّفاته تربو على مائة وثمانين مؤلّفاً ،
وقد ذكر بعضها الشيخ والنجاشي وابن النديم وغيرهم .
يكنّى أبا علي ، عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ،
قال الكشي : وجدت بخطّ أبي عبد الله الشاذاني في كتابه : سمعت الفضل بن هاشم
الهروي يقول : ذكر لي كثرة ما يحجّ المحمودي ، فسألته عن مبلغ حجّاته فلم يخبرني
بمبلغها ، وقال : رزقت خيراً كثيراً والحمد لله ، فقلت له : فتحجّ عن نفسك أو غيرك
؟ فقال : عن غيري بعد حجّة الإسلام أحجّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأجعل ما
أجازني الله عليه لأولياء الله وأهب ما أثاب على ذلك للمؤمنين والمؤمنات ، فقلت :
ما تقول في حجّتك ؟ فقال : أقول : اللّهمّ إنّي أهللت لرسولك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعلت جزائي
منك ومنه لأوليائك الطاهرين عليهمالسلام ،
ووهبت ثوابي عنهم لعبادك المؤمنين والمؤمنات بكتابك وسنّة نبيّك صلىاللهعليهوآلهوسلم ... إلى آخر
الدعاء (اختيار معرفة الرجال : 2/798 .) .
17 ـ محمد بن
الحسن بن أبي الخطّاب الزيّات :
الكوفي الثقة ، عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام علي الهادي عليهالسلام ،
قال النجاشي : إنّه كان جليلاً من أصحابنا ، عظيم القدر ، كثير الرواية ، ثقة ،
عين ، حسن التصانيف ، مسكون إلى روايته له كتاب التوحيد ، كتاب المعرفة والبدار ،
كتاب الرد على أهل القدر ، كتاب الإمامة ، كتاب اللؤلؤة ، كتاب وصايا الأئمة ،
كتاب النوادر .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام كانت له اتصالات وثيقة بالإمام عليهالسلام ، وجرت بينهما
عدّة مراسلات ، ومنها : ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن الفرج : قال : كتبت إلى
أبي الحسن عليهالسلام
اسأله عن أبي علي بن راشد ، وعن عيسى بن جعفر بن عاصم ، وابن بند ، فكتب عليهالسلام إليّ : ذكرت ابن راشد رحمهالله فإنّه عاش سعيداً ، ومات شهيداً .
ودعا لابن بند والعاصمي
(اختيار
معرفة الرجال : 2/863 .) .
وقد مرّت بعض المراسلات الأُخرى له مع
الإمام عليهالسلام
وهي تكشف عن ثقة الإمام بمحمد وتسديده
له ، ولمّا مرض محمد بعث له الإمام أبو الحسن عليهالسلام بثوب فأخذه ووضعه تحت
رأسه فلمّا توفّي كُفّن فيه .
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ، قال النجاشي فيه : إنّه ثقة
جليل من أصحاب الرضا عليهالسلام قال
أبو عبد الله الحسين : سمعت شيوخنا يقولون : روى معاوية بن حكيم أربعة وعشرين
أصلاً ... وله كتب منها : كتاب الطلاق ، كتاب الحيض ، كتاب الفرائض ، كتاب النكاح
، كتاب الحدود ، كتاب الديّات ، وله نوادر (رجال النجاشي : 412 .) .
أبو يوسف الدورقي الأهوازي المشهور بابن
السكّيت ، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، كان مقدّماً عند أبي جعفر
الثاني وأبي الحسن عليهالسلام
وكانا يختصّانه ، وله عن الإمام أبي جعفر عليهالسلام
رواية ومسائل .
كان ابن السكيت حامل لواء علم العربية
والأدب والشعر واللغة والنحو ، وله تصانيف كثيرة منها : ( تهذيب الألفاظ ) وكتاب (
إصلاح المنطق ) ... قتله المتوكل لولائه لأهل البيت عليهمالسلام
.
ولم يذكر الشيخ الطوسي من النساء اللاتي
روين عن الإمام الهادي عليهالسلام سوى
السيدة الكريمة كلثم الكرخية ، وقد عدّها الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام وأضاف أنّ الرّاوي عنها هو عبد
الرحمان الشعيري ، وهو أبو عبد الرحمان بن داود البغدادي (اقتبسنا ما ورد في هذا الفصل عن أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام من ( حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام) : 170 ـ 230 للشيخ باقر شريف القرشي .) .
البحث الثاني :
نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ روى العياشي بإسناده عن حمدويه ، عن
محمد بن عيسى قال : سمعته يقول : كتب إليه إبراهيم بن عنبسة ـ يعني إلى علي بن
محمد عليهالسلام ـ إن رأى
سيّدي ومولاي أن يخبرني عن قول الله : (
يسألونك عن الخمر والميسر ) فما
الميسر جُعلت فداك ؟
فكتب عليهالسلام
: كل ما قُومر به فهو الميسر وكل مسكر
حرام
(1) .
2 ـ وروى بإسناده عن أيوب بن نوح بن دراج
قال : سألت أبا الحسن الثالث عليهالسلام عن
الجاموس وأعلمته أنّ أهل العراق يقولون إنّه مسخ ، فقال : أو ما سمعت قول الله : ( ومن الإبل
اثنين ومن البقر اثنين ) (2) .
3 ـ وروى العياشي : بإسناده عن موسى بن
محمّد بن علي عن أخيه أبي الحسن الثالث عليهالسلام
قال : الشجرة التي نهى الله
آدم وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد ، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله
عليه وعلى خلايقه بعين الحسد ، ولم يجد الله له عزماً (3) .
ــــــــــــــ
(1) تفسير العيّاشي : 1 / 106
.
(2) تفسير العيّاشي : 1 / 380
.
(3) تفسير العيّاشي : 1/9 .
1 ـ عن أحمد بن إسحاق ،
قال :
كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام
أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ؟ فكتب : لا تجوز الرؤية ، ما لم يكن بين الرائي
والمرئيّ هواء ينفذه البصر فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية ;
وكان في ذلك الاشتباه ، لأنَّ الرائي متى ساوى المرئيَّ في السبب الموجب بينهما في
الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأنّ الأسباب لا بدّ من اتّصالها بالمسبّبات(الكافي : 1 / 97 ، والتوحيد : 109 .) .
2 ـ عن بشر بن بشّار
النيسابوريّ قال : كتبت إلى الرَّجل عليهالسلام : إنّ من قبلنا قد اختلفوا في
التوحيد ، فمنهم من يقول : (هو) جسم ومنهم من يقول : (هو) صورة . فكتب إليَّ :
سبحان من لا يحدُّ ولا يوصف ولا يشبهه شيء وليس كمثله شي وهو السميع البصير(الكافي : 1 / 102 .) .
3 ـ عن عليّ بن إبراهيم ،
عن المختار بن محمّد بن المختار الهمدانيّ ، ومحمّد بن الحسن ، عن عبد الله بن
الحسن العلويّ جميعاً عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليهالسلام
قال :
سمعته يقول : وهو اللّطيف الخبير
السميع البصير الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، لو
كان كما يقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه
المنشئ . فرَّق بين مَن جسّمه وصوَّره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبهه هو
شيئاً .
قلت : أجل جعلني الله فداك لكنّك قلت :
الأحد الصمد وقلت : لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت
الوحدانيّة ؟
قال : يا
فتح أحلت ثبّتك الله إنّما التشبيه في المعاني ، فأمّا في الأسماء فهي واحدة وهي
دالّة على المسمّى وذلك أنَّ الإنسان وإن قيل واحدٌ فإنّه يخبر أنّه جثّة واحدة
وليس باثنين والإنسان نفسه ليس بواحد ؛ لأنَّ أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن
ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزّأة ، ليست بسواء .
دمه غير لحمه ولحمه
غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق ،
فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى والله جلَّ جلاله هو واحد لا واحد غيره
لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع
المؤلّف من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى غير أنّه بالاجتماع شيء واحد .
قلت : جُعلت فداك فرَّجت عنّي فرَّج الله
عنك ، فقولك : اللّطيف الخبير فسّره لي كما فسّرت الواحد فإنّي أعلم أنّ لطفه على
خلاف لطف خلقه المفصل غير أنّي أُحبُّ أن تشرح ذلك لي .
فقال : يا
فتح إنّما قلنا : اللّطيف للخلق اللّطيف ( و ) لعلمه بالشيء اللّطيف أو لا ترى
وفّقك الله وثبّتك إلى أثر صنعه في النبات اللّطيف وغير اللّطيف ومن الخلق اللّطيف
ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه
العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى والحدث المولود من القديم .
فلمّا رأينا صغر ذلك
في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما
في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها
عنها ونقلها الغذاء إليها ثمَّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما
لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها .
لا تراه عيوننا ولا
تلمسه أيدينا علمنا أنَّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سمّيناه بلا علاج ولا
أداة ولا آلة ، وأنَّ كلَّ صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللّطيف الجليل خلق
وصنع لا من شيء (الكافي : 1 / 118 ، والتوحيد : 185 .) .
4 ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن المختار بن
محمّد الهمدانيّ وعن محمّد ابن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلويّ جميعاً ، عن
الفتح بن يزيد الجرجانيّ ، عن أبي الحسن عليهالسلام قال
: إنَّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم
وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو يشاء . أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن
يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لمّا غلبت مشيئتهما مشيئة الله
تعالى ، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة
إبراهيم مشيئة الله تعالى (1) .
5 ـ عن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي
الحسن عليهالسلام
يسأله عن الله عزَّ وجلَّ أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوَّنها ، أو لم
يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوَّن عند
ما كوَّن ؟ فوقَّع عليهالسلام
بخطّه : لم يزل الله عالماً
بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء (2) .
6 ـ عن الفتح بن يزيد الجرجانيِّ عن أبي
الحسن عليهالسلام ،
قال : سألته عن أدنى المعرفة ، فقال : الإقرار
بأنّه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنّه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنّه ليس
كمثله شيء
(التوحيد : 283 .) .
7 ـ عن معلى بن محمّد ، قال : سئل العالم
عليهالسلام كيف
علم الله ؟ قال : علم ، وشاء ، وأراد ،
وقدَّر ، وقضى ، وأبدى فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدَّر ، وقدَّر ما أراد ، فبعلمه
كانت المشيَّة ، وبمشيَّته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التَّقدير ، وبتقديره كان القضاء
، وبقضائه كان الإمضاء .
فالعلم متقدِّم المشيَّة
والمشيَّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتّقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فللّه
تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع
القضاء بالإمضاء فلا بداء .
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 151 . واعلم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذبح إسحاق دون
إسماعيل وهو خلاف ما تظافرت عليه أخبار الشيعة .
(2)
التوحيد : 145 .
فالعلم بالمعلوم قبل
كونه ، والمشيَّة في المنشأ قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتّقدير
لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً وقياماً ، والقضاء بالإمضاء هو المبرم
من المفعولات ذوات الأجسام .
المدركات بالحواسِّ
من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دبَّ ودرج من إنس وجنٍّ وطير وسباع وغير ذلك ممّا
يدرك بالحواسِّ ، فللّه تبارك وتعالى فيه البداء ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين
المفهوم المدرك فلا بداء .
والله يفعل ما يشاء ،
وبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيَّة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل
إظهارها وبالإرادة ميَّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها ، وبالتَّقدير قدَّر
أوقاتها وعرف أوَّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للنّاس أماكنها ودلَّهم عليها ،
وبالإمضاء شرح عللها ، وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم (التوحيد : 334 .) .
قال عليهالسلام
: إنَّ الله لا يوصف إلاّ بما وصف به
نفسه ; وأنّى يُوصف الّذي تعجز الحواسُّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن
تحدَّه والأبصار عن الإحاطة به .
نأى في قربه وقرب في نأيه
، كيَّف الكيف بغير أن يقال : كيف ، وأيَّن الأين بلا أن يقال : أين ، هو منقطع
الكيفيَّة والأينيَّة ، الواحد الأحد ، جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه (تحف العقول : 357 .) .
8 ـ رسالته عليهالسلام المعروفة في الردّ على أهل الجبر
والتّفويض : ( من عليّ بن محمّد ;
سلام عليكم وعلى مَن اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته ; فإنّه ورد عليَّ كتابكم (رواها الطبرسي بتلخيص في الاحتجاج تحت عنوان رسالته عليهالسلام إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض ، راجع بحار الأنوار :
50/68 .)
وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر ومقالة مَن يقول منكم بالجبر
ومَن يقول بالتفويض وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم ، ثمّ
سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلَّه .
اعلموا رحمكم الله
أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع مَن ينتحل
الإسلام ممّن يعقل عن الله جلَّ وعزَّ لا تخلو من معنيين : إمّا حقٌّ فيُتَّبع
وإمّا باطل فيُجتنب .
وقد اجتمعت الأُمّة
قاطبة لا اختلاف بينهم أنَّ القرآن حقٌّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال
اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون ، مهتدون وذلك بقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ( لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة ) فأخبر أنَّ جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلُّها حق
، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً .
والقرآن
حقٌّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه .
فإذا شهد القرآن
بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر طائفة من الأمة لزمهم الإقرار به ضرورة حين اجتمعت
في الأصل على تصديق الكتاب ، فإن ( هي ) جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملَّة .
فأوَّل خبر يعرف تحقيقه من الكتاب
وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم ; حيث قال : ( إنِّي مخلِّف
فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي ـ أهل بيتي ـ لن
تضلّوا ما تمسَّكتم بهما وإنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ) .
فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب
الله نصّاً مثل قوله جلَّ وعزَّ : (
إنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والّذينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الغالِبُونَ )
(المائدة
(5) : 55 ـ 56 .) .
وروت العامّة في ذلك أخباراً لأمير
المؤمنين عليهالسلام
أنّه تصدَّق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه .
فوجدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أتى بقوله : (
مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ) وبقوله : ( أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه
لا نبيَّ بعدي ) ووجدناه يقول : (
عليّ يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي ) .
فالخبر الأوَّل الَّذي
استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضاً
مُوافق للكتاب ; فلمّا شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشَّواهد الأُخر لزم على
الأمة الإقرار بها ضرورةً ؛ إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة ووافقت
القرآن والقرآن وافقها .
ثمَّ وردت حقائق الأخبار من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الصّادقين عليهماالسلام ونقلها قوم
ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كلِّ مؤمن ومؤمنة لا
يتعدَّاه إلاّ أهل العناد .
وذلك أنَّ أقاويل آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متَّصلة بقول
الله وذلك مثل قوله في محكم كتابه : (
إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً ) (الأحزاب (33) : 57 .)
ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : (
مَن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذى الله ومَن آذى الله يوشك أن ينتقم
منه ) وكذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( مَن أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني ومَن
أحبَّني فقد أحبَّ الله ) .
ومثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بني وليعة : (
لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله قم يا عليُّ
فسر إليهم ) (بنو وليعة ـ كسفينة ـ : حي من كِندة .) .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم خيبر : ( لأبعثنَّ إليهم
غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرّاراً غير فرَّار لا يرجع
حتّى يفتح الله عليه ) .
فقضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالفتح قبل
التَّوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلمّا كان من الغد دعا عليّاً عليهالسلام
فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة وسمّاه كرَّاراً غير فرَّار ، وسمّاه الله
محبّاً لله ولرسوله ، فأخبر أنَّ الله ورسوله يحبّانه .
وإنّما قدَّمنا هذا الشَّرح والبيان
دليلاً على ما أردنا وقوَّة لما نحن مبيِّنوه من أمر الجبر والتَّفويض والمنزلة
بين المنزلتين وبالله العون والقوَّة وعليه نتوكَّل في جميع أُمورنا فإنّا نبدأ من
ذلك بقول الصّادق عليهالسلام : ( لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين
المنزلتين وهي صحَّة الخلقة وتخلية السَّرب (السرب ـ بالفتح ـ : الطريق والصدر ـ وبالكسر ـ أيضاً
: الطريق والقلب ـ وبالتحريك ـ الماء السائل .) والمهلة في الوقت والزَّاد مثل
الرَّاحلة والسَّبب المهيِّج للفاعل على فعله ) ، فهذه خمسة أشياء
جمع به الصّادق عليهالسلام
جوامع الفضل ، فإذا نقص العبد منها خلَّة كان العمل عنه مطروحاً بحسبه ، فأخبر
الصّادق عليهالسلام
بأصل ما يجب على النّاس من طلب معرفته ونطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات
رسوله ؛ لأنّ الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وآله عليهمالسلام لا
يعدون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن ، فإذا وردت حقائق الأخبار والتُمست
شواهدها من التَّنزيل فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً كان الاقتداءُ بها فرضاً لا
يتعدّاه إلاّ أهل العناد كما ذكرنا في أوَّل الكتاب ، ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله
الصّادق عليهالسلام من
المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدَّق
مقالته في هذا .
وخبرٌ عنه أيضاً موافق لهذا : أنَّ
الصّادق عليهالسلام
سُئل هل أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال الصّادق عليهالسلام : هو
أعدل من ذلك .
فقيل له : فهل فوَّض إليهم ؟ فقال عليهالسلام : هو
أعزُّ وأقهر لهم من ذلك .
وروي عنه أنَّه قال : النّاس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل
يزعم أنَّ الأمر مفوّض إليه فقد وهَّن الله في سلطانه فهو هالك .
ورجل يزعم أنَّ الله
جلَّ وعزَّ أجبر العباد على المعاصي وكلَّفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو
هالك .
ورجل يزعم أنَّ الله
كلَّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء
استغفر الله فهذا مسلم بالغ . فأخبر عليهالسلام أنَّ مَن
تقلَّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحقِّ .
فقد شرحت الجبر الَّذي مَن دان به يلزمه
الخطأ ، وأنَّ الّذي يتقلَّد التّفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين
بينهما (راجع تمام الرسالة في تحف العقول والاحتجاج ، وبحار الأنوار : 50/68 .) .
ــــــــــــــ
1 ـ عن خيران الخادم قال : كتبت إلى
الرّجل ـ أيّ الإمام ـ صلوات الله عليه أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير
أيصلّى فيه أم لا ؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : صلّ فيه فإنّ الله
إنّما حرّم شربها وقال بعضهم : لا تصلّ فيه ، فكتب عليهالسلام : لا
تصلّ فيه فإنه رجسٌ
(1) .
2 ـ عن علي بن إبراهيم ، عن يحيى بن عبد
الرَّحمن بن خاقان قال : رأيت أبا الحسن الثالث عليهالسلام سجد سجدة الشكر فافترش ذراعيه
فألصق جؤجؤه وبطنه بالأرض فسألته عن ذلك ؟ فقال : كذا
نحبّ
(2) .
3 ـ وعنه أيضاً ، عن عليّ بن راشد قال : قلت
لأبي الحسن عليهالسلام
جُعلت فداك إنّك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه أنّ أفضل ما تقرأه في الفرائض بإنّا
أنزلناه وقل هو الله أحد ، وإنّ صدري ليضيق بقراءتهما في الفجر ، فقال عليهالسلام :
لا يضيقنَّ صدرك بهما فإنّ الفضل والله فيهما (3) .
4 ـ سأل داود بن أبي زيد أبا الحسن
الثالث عليهالسلام عن
: القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها هل يجوز عليها السجود ؟ فكتب : يجوز (4) .
5 ـ عن أيوب بن نوح قال : كتبت إلى أبي
الحسن الثالث عليهالسلام
أسأله عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته أم لا ؟ فكتب عليهالسلام : لا
يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة (5) .
6 ـ عن أبي إسحاق بن عبد الله العلوي
العريضي قال : وحك في صدري ما الأيام التي تُصام ؟ فقصدت مولانا أبا الحسن علي بن
محمد عليهماالسلام وهو
بصربا .
ولم أبد ذلك لأحد من خلق الله
فدخلت عليه فلما بصر بي قال عليهالسلام : يا
أبا إسحاق جئت تسألني عن الأيام التي يُصام فيهن وهي أربعة : أوّلهن يوم السابع
والعشرين من رجب يوم بعث الله تعالى محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى خلقه رحمة للعالمين ، ويوم مولده صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو السابع عشر من شهر ربيع الأول ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دُحيت
الكعبة ، ويوم الغدير فيه أقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخاه عليهالسلام
علماً للناس وإماماً من بعده ، قلت : صدقت جُعلت فداك ، لذلك
قصدت ، أشهد أنّك حجّة الله على خلقه
(تهذيب
الأحكام : 4 / 305 .) .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 3 / 405 .
(2) الكافي
: 3 / 324 .
(3) الكافي
: 3 / 290 .
(4) مَن لا
يحضره الفقيه : 1 / 270 .
(5) تهذيب الأحكام : 4 / 243 .
7 ـ عن علي بن مهزيار قال : كتبت إليه :
يا سيدي رجل دفع إليه مال يحجّ فيه ، هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس أو
على ما فضل في يده بعد الحج ؟ فكتب عليهالسلام : ليس عليه الخمس (الكافي : 1 / 547 .) .
8 ـ عن أحمد بن حمزة قال : قلت لأبي
الحسن عليهالسلام
: رجلٌ من مواليك له قرابة كلّهم يقول بك وله زكاة أيجوز له أن يعطيهم جميع زكاته
؟ قال : نعم(الكافي : 3 / 552 .)
.
9 ـ عن أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي
الحسن الثالث عليهالسلام :
إنّا نؤتى بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر عليهالسلام
عندنا ، فكيف نصنع ؟ فقال : ما
كان لأبي عليهالسلام
بسبب الإمامة فهو لي وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم (مَن لا يحضره الفقيه : 2 / 42 .) .
10 ـ عن إبراهيم بن محمد قال : كتبت إلى
أبي الحسن الثالث عليهالسلام ، أسأله عمّا
يجب في الضياع ، فكتب : الخمس بعد المؤونة ، قال : فناظرت أصحابنا فقالوا :
المؤونة بعدما يأخذ السلطان ، وبعد مؤونة الرجل ، فكتبت إليه أنّك قلت : الخمس بعد
المؤونة وإن أصحابنا اختلفوا في المؤونة ؟ فكتب : الخمس
بعدما يأخذ السلطان وبعد مؤونة الرجل وعياله (1) .
11 ـ كتب محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني
إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليهماالسلام
في رجل دفع ابنه إلى رجل وسلّمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل آخر
فقال له : سلّم ابنك منّي سنة بزيادة هل له الخيار في ذلك ؟ وهل يجوز له أن يفسخ
ما وافق عليه الأوّل أم لا ؟ فكتب عليهالسلام
بخطّه : يجب عليه الوفاء
للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف (2) .
12 ـ عن محمد بن عيسى ، عن إبراهيم
الهمداني قال : كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام
وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الأجرة في كل سنة عند انقضائها
لا يقدم لها شيء من الأجرة ما لم يمض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب
على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة بموت المرأة ؟ فكتب عليهالسلام
: إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ فماتت
فلورثتها تلك الإجارة فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه
فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله (3) .
13 ـ عن محمد بن رجاء الخياط قال : كتبت
إلى الطيب عليهالسلام إنّي كنت في
المسجد الحرام فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فإذا أنا بآخر ، ثمّ بحثت
ــــــــــــــ
(1) تفسير العياشي : 2 / 63 .
(2) الكافي : 4 / 239 .
(3) الكافي : 5 / 270 .
الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها فعرَّفتها
ولم يعرفها أحدٌ فما ترى في ذلك ؟ فكتب عليهالسلام : إنّي قد فهمت ما ذكرت من أمر الدَّنانير
فإن كنت محتاجاً فتصدّق بثلثها ، وإن كنت غنيّاً فتصدق بالكلِّ (1) .
14 ـ عن أحمد بن محمد قال : قال أبو
الحسن عليهالسلام في
قول الله عزّ وجلَّ : (وليطّوفوا
بالبيت العتيق) قال
: طواف الفريضة طواف النساء
(2) .
15 ـ روى عليُّ بن مهزيار عن محمد بن
إسماعيل قال : أمرت رجلاً أن يسأل أبا الحسن عليهالسلام عن
الرَّجل يأخذ من الرَّجل حجّة فلا تكفيه ، أله أن يأخذ من رجل آخر حجّة أُخرى
فيتّسع بها فتجزي عنهما جميعاً أو يتركهما جميعاً أن لم تكفه إحداهما ؟ فذكر أنّه
قال : أحبّ إليّ أن تكون خالصة لواحد فإن كانت لا تكفيه فلا يأخذها (3) .
16 ـ عن القاسم بن محمد الزيات قال : قلت
لأبي الحسن عليهالسلام :
إنّي ظاهرت من امرأتي فقال : كيف
قلت ؟ قال : قلت : أنت عليَّ كظهر أُمّي إن فعلت كذا وكذا ، فقال : لا شيء عليك ولا تعد (4) .
17 ـ عن الوشاء قال : كتبت إليه أسأله عن
الفقّاع ، قال : فكتب : حرام
وهو خمر ومَن شربه كان بمنزلة شارب الخمر ، قال : وقال أبو الحسن
الأخير عليهالسلام : لو أنّ الدار داري لقتلت بايعه ولجلدت
شاربه ، وقال أبو الحسن الأخير عليهالسلام : حدّه
حدُّ شارب الخمر ، وقال عليهالسلام : هي خميرة استصغرها الناس (5) .
18 ـ كتب إبراهيم بن محمد الهمداني إليه عليهالسلام : ميّت أوصى بأن يجري على رجل ما
بقي من ثلثه ولم يأمر بإنفاذ ثلثه ، هل للوصي أن يوقف ثلث الميّت بسبب الإجراء ؟
فكتب عليهالسلام : ينفذ ثلثه ولا يوقف .
21 ـ عن أبي عليّ بن راشد قال : سألت أبا
الحسن عليهالسلام قلت
: جُعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلمّا وفيت المال خبّرت أنّ
الأرض وقف ؟ فقال : لا
يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلّة في مالك ادفعها إلى مَن أوقفت عليه
.
قلت لا أعرف لها ربّاً ؟ قال : تصدق بغلّتها (الكافي : 7 / 37 .)
.
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 4 / 239 .
(2) الكافي
: 40/512 .
(3) من لا
يحضره الفقيه : 2 / 444 .
(4) الكافي
: 6 / 158 .
(5) الكافي : 6 / 423 .
4 ـ من أدعية
الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ دعاؤه عند
الشدائد : وكان يدعو به إذا ألمّت به حادثة أو حلّ به خطب أو
أراد قضاء حاجة مهمّة ، و كان قبل أن يدعو به يصوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة ،
ثم يغتسل في أوّل يوم الجمعة ويتصدق على مسكين ويصلّي أربع ركعات فيقرأ في الركعة
الأولى سورة الفاتحة وسورة يس وفي الثانية سورة الحمد وحم الدخان ، وفي الثالثة
سورة الحمد مع سورة الواقعة وفي الرابعة سورة الحمد وسورة تبارك ، وإذا فرغ منها
بسط راحتيه إلى السماء ، ودعا بإخلاص قائلاً بعد البسملة (الوسائل : 5 / 62 .) : ( اللّهمّ لك الحمد حمداً يكون أحقّ
الحمد بك ، وأرضى الحمد لك ، وأوجب الحمد لك ، وأحب الحمد إليك ، ولك الحمد كما
أنت أهله وكما رضيته لنفسك وكما حمدك مَن رضيت حمده من جميع خلقك ، ولك الحمد كما
حمدك به جميع أنبيائك ورسلك وملائكتك ، وكما ينبغي لعِزّك وكبريائك وعظمتك ، ولك
الحمد حمداً تكل الألسن عن صفته ويقف القول عن منتهاه ، ولك الحمد حمداً لا يقصر
عن رضاك ولا يفضله شيء من محامدك .
اللّهمّ ومن جودك
وكرمك أنّك لا تخيب مَن طلب إليك وسألك ورغب فيما عندك ، وتبغض مَن لم يسألك ،
وليس كذلك أحد غيرك ، وطمعي يا ربّ في رحمتك ومغفرتك ، وثقتي بإحسانك وفضلك حداني
على دعائك والرغبة إليك ، وأنزل حاجتي بك ، وقد قدمت أمام مسألتي التوجّه بنبيّك
الذي جاء بالحق والصدق فيما عندك ، ونورك وصراطك المستقيم الذي هديت به العباد ،
وأحييت بنوره البلاد ، وخصصته بالكرامة ، وأكرمته بالشهادة وبعثته على حين فترة من
الرسل .
اللّهمّ دللت عبادك
على نفسك فقلت تباركت وتعاليت : ( وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1) وقلت : ( قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ ) (2) وقلت
:
(
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ )
(3) أجل يا رب نعم المدعو
أنت ونعم الرب أنت ونعم المجيب ، وقلت : ( قُلِ ادْعُوا
اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى ) (4) ، وأنا أدعوك اللّهمّ بأسمائك التي إذا
دُعيت بها أجبت ، وإذا سُئلت بها أعطيت ، وأدعوك متضرّعاً إليك مستكيناً ، دعاء
مَن أسلمته الغفلة ، وأجهدته الحاجة ، أدعوك دعاء مَن استكان ، واعترف بذنبه ،
ورجاك لعظيم مغفرتك ، وجزيل مثوبتك .
ــــــــــــــ
(1) البقرة
(2) : 186 .
(2) الزمر
(39) : 53 .
(3)
الصافات (37) : 75 .
(4) الإسراء (17) : 110 .
2 ـ دعاء الاعتصام ،
وهذا نصّه : (
يا عدّتي عند العدد ، ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسند ويا واحد يا أحد ، يا
قل هو الله أحد ، أسألك بحق مَن خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحد أن
تصلّي عليهم ... ثمّ تذكر حاجتك )
(راجع حياة
الإمام علي الهادي : 131 ـ 136 .)
.
3 ـ مناجاته :
وكان الإمام الهادي عليهالسلام
يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم بقلب خاشع ، ونفس آمنة مطمئنّة .
وكان ممّا يقول في مناجاته : ( إلهي مسيء قد ورد ، وفقير قد قصد ،
فلا تخيّب مسعاه وارحمه واغفر له خطاه ... )
.
( إلهي صلِّ على
محمّد وآل محمّد ، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري ومُحي من المخلوقين ذكري ،
وصرت من المنسيّين كمَن نسي ، إلهي كبُر سنّي ، ورقّ جلدي ، ودقّ عظمي ، ونال
الدهر منّي واقترب أجلي ، ونفدت أيامي ، وذهبت شهواتي وبقيت تبعاتي ، إلهي ارحمني
إذا تغيّرت صورتي ... ) (حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام ، : 137 ، عن الدر النظيم .)
.
5 ـ من تراثه
التربوي والأخلاقي
وأُثرت عن الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام مجموعة من الكلمات الذهبية التي
عالج فيها مختلف القضايا التربوية والأخلاقية ، والنفسية ، وهذه بعضها :
1 ـ قال عليهالسلام : (
خير من الخير فاعله ، وأجمل من الجميل قائله ، وأرجح من العلم عامله )
.
2 ـ قال عليهالسلام : (
مَن سأل فوق قدر حقّه فهو أولى بالحرمان ) .
3 ـ قال عليهالسلام : (
صلاح من جهل الكرامة هوانه ) .
4 ـ قال عليهالسلام : (
الحلم أن تملك نفسك ، وتكظم غيظك مع القدرة عليه ) .
5 ـ قال عليهالسلام : (
الناس في الدنيا بالمال ، وفي الآخرة بالأعمال ) .
6 ـ قال عليهالسلام : (
مَن رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ) .
7 ـ قال عليهالسلام : (
تريك المقادير ما لا يخطر ببالك ) .
8 ـ قال عليهالسلام : (
شر الرزيّة سوء الخلق ) .
9 ـ قال عليهالسلام : (
الغنى قلة تمنّيك ، والرضى بما يكفيك ، والفقر شره النفس وشدّة القنوط ، والمذلّة
اتباع اليسير ، والنظر في الحقير ) .
10 ـ سُئل الإمام عليهالسلام عن الحزم ؟ فقال عليهالسلام : (
هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك ) .
11 ـ قال عليهالسلام : (
راكب الحرون ـ وهو الفرس الذي لا ينقاد ـ أسير
نفسه ) .
12 ـ قال عليهالسلام : (
الجاهل أسير لسانه ) .
13 ـ قال عليهالسلام : (
المراء يفسد الصداقة القديمة ، ويحلل العقد الوثيقة وأقل ما فيه أن تكون المغالبة
، والمغالبة أسّ أسباب القطيعة ) .
14 ـ قال عليهالسلام : (
العتاب مفتاح التعالي ، والعتاب خير من الحقد ) .
15 ـ أثنى بعض أصحاب الإمام على الإمام ،
وأكثر من تقريظه والثناء عليه ، فقال عليهالسلام له
: ( إنّ كثرة الملق يهجم على الفطنة ،
فإذا حللت من أخيك محل الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النيّة ) .
16 ـ قال عليهالسلام : (
المصيبة للصابر واحدة ، وللجازع اثنان ) .
17 ـ قال عليهالسلام
: ( الحسد ماحق الحسنات ، والزهو جالب
المقت ) .
18 ـ قال
: (
العجب صارف عن طلب العلم ، وداع إلى الغمط (غمط الناس : احتقرهم وتكبّر عليهم .)
في الجهل ) .
19 ـ قال عليهالسلام : (
البخل أذمّ الأخلاق ، والطمع سجيّة سيّئة ) .
20 ـ قال عليهالسلام : (
مخالطة الأشرار تدلّ على شرّ مَن يخالطهم ) .
21 ـ قال عليهالسلام : (
الكفر للنعم إمارة البطر ، وسبب للتغيير ) .
22 ـ قال عليهالسلام : (
اللجاجة مسلبة للسلامة ، ومؤدّية للندامة ) .
23 ـ قال عليهالسلام : (
الهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال ) .
24 ـ قال عليهالسلام : (
العقوق يعقب القلّة ، ويؤدّي إلى الذلّة ) .
25 ـ قال عليهالسلام : (
السهر ألذّ للمنام ، والجوع يزيد في طيب الطعام ) .
26 ـ قال لبعض أصحابه : (
اذكر مصرعك بين يدي أهلك حيث لا طبيب يمنعك ، ولا حبيب ينفعك ) .
27 ـ قال عليهالسلام : (
اذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم ) .
28 ـ قال عليهالسلام : (
ما استراح ذو الحرص والحكمة ) .
29 ـ قال عليهالسلام : (
لا نجع في الطبايع الفاسدة ) .
30 ـ قال عليهالسلام : (
مَن لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطى ) .
31 ـ قال عليهالسلام : (
شرٌّ من الشرّ جالبه ، وأهول من الهول راكبه ) .
32 ـ قال عليهالسلام : (
إيّاك والحسد فإنّه يبين فيك ، ولا يعمل في عدوك ) .
33 ـ قال عليهالسلام : (
إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتى يعلم ذلك منه ،
وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم
ذلك منه ) .
34 ـ قال عليهالسلام للمتوكل : ( لا تطلب الصفاء ممّن كدرت عليه ، ولا
الوفاء ممّن غدرت به ، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه ، فإنّما قلب غيرك لك
كقلبك له ) .
35 ـ قال عليهالسلام : (
ابقوا النعم بحسن مجاورتها ، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها ، واعلموا أنّ
النفس أقبل شيء لما أُعطيت ، وأمنع شيء لما مُنعت فاحملوها على مطيّة لا تبطي )
.
36 ـ قال عليهالسلام : (
الجهل والبخل أذمّ الأخلاق ) .
37 ـ قال عليهالسلام : (
حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن ) .
38 ـ قال عليهالسلام : (
إنّ من الغرة بالله أن يصرّ العبد على المعصية ويتمنّى على الله المغفرة )
.
39 ـ قال عليهالسلام : (
لو سلك الناس وادياً وسيعاً لسلكت وادي رجل عبد الله وحده خالص ) .
40 ـ قال عليهالسلام : (
والغضب على مَن تملك لؤم ) (راجع حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 156 ـ 165 .) .
41 ـ قال عليهالسلام : (
إنّ لله بقاعاً يحبُّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه والحير (الحير ـ بالفتح ـ : مخفّف حائر والمراد أنّ الحائر الحسيني عليهالسلام من هذه البقاع .) منه ) .
42 ـ وقال عليهالسلام يوماً : ( إنَّ أكل البطّيخ يورث الجذام )
، فقيل له : أليس قد أمن المؤمن إذا أتى عليه أربعون سنة من الجنون والجذام والبرص
؟ قال عليهالسلام : ( نعم ; ولكن إذا خالف المؤمن ما أُمر
به ممّن آمنه لم يأمن أن تصيبه عقوبة الخلاف ) .
43 ـ وقال عليهالسلام : (
الشّاكر أسعد بالشُّكر منه بالنّعمة الّتي أوجبت الشُّكر ؛ لأنّ النِّعم متاع
والشُّكر نعم وعقبى ) .
44 ـ وقال عليهالسلام : (
إنَّ الله جعل الدُّنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى وجعل بلوى الدُّنيا لثواب
الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدُّنيا عوضاً ) .
45 ـ وقال عليهالسلام : (
إنّ الظّالم الحالم يكاد أن يعفي على ظلمه بحلمه ، وإنّ المحقَّ السّفيه يكاد أن
يطفئ نور حقِّه بسفهه ) .
46 ـ وقال عليهالسلام : (
مَن جمع لك ودَّه ورأيه فاجمع له طاعتك ) .
47 ـ وقال عليهالسلام : (
مَن هانت عليه نفسه فلا تأمن شرَّه ) .
48 ـ وقال: (
الدُّنيا سوق ، ربح فيها قوم وخسر آخرون ) (راجع تحف العقول : 362 طبعة النجف الأشرف .) .
إلى هنا نختم الكلام عن
التراث القيّم للإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام تاركين التفصيل إلى مسنده ومصادر ترجمته .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
ــــــــــــــ
الفهرست
الفصل
الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور. 14
الفصل
الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 15
الفصل
الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 19
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين : 21
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 25
3 ـ بشارة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته. 26
الفصل
الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام. 27
الفصل
الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه الجواد عليهماالسلام. 28
الشيعة وإمامة الجواد
عليهالسلام. 29
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي... 33
زواج الإمام الجواد
عليهالسلام. 34
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم. 35
نصوص الإمام الجواد
عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام. 36
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام. 39
الفصل الأوّل :
المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام
الهادي (ع) . 41
عقبات وأخطار أمام
عملية التغيير الشاملة. 42
مضاعفات الانحراف
بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. 42
انهيار الدولة الإسلامية
ومضاعفاته. 43
المهامّ الرساليّة
للأئمّة الطاهرين. 45
موقف أهل البيت
عليهمالسلام من انحراف الحكّام. 46
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة. 46
مراحل الحركة الرسالية
للائمّة الراشدين عليهمالسلام. 47
موقع الإمام الهادي
عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة. 48
الفصل الثاني :
عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام. 49
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي... 50
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير. 52
موقف الإمام الهادي
عليهالسلام من مسألة خلق القرآن. 54
إخبار الإمام الهادي
عليهالسلام بموت الواثق. 54
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي... 57
الإمام في طريقه
إلى سامراء. 61
الإمام عليهالسلام في سامراء. 62
تفتيش دار الإمام
عليهالسلام. 65
اعتقال الإمام الهادي
عليهالسلام. 67
محاولة اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام. 68
دعاء الإمام عليهالسلام
على المتوكّل.. 69
المنتصر بالله
(247 ـ 248 هـ) 70
الفصل
الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 74
1 ـ الحالة السياسية
العامّة. 74
إنّ عواطف المسلمين
وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام. 79
الفصل الأوّل :
متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 82
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 89
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم. 89
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية. 90
3 ـ التحدّي العلمي
للسلطة وعلمائها 90
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة. 94
الفصل الثاني :
الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها 95
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة. 100
الموقف من الغلاة
والفرق المنحرفة. 103
ظاهرة الزيارة ودورها
في التحصين العقائدي.. 104
أوّلاً
: الزيارة الجامعة الكبيرة 104
3 ـ الأُسس الفكريّة
للتشيّع. 105
وكلاء الإمام الهادي
عليهالسلام. 118
الفصل
الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود 120
تجهيزه وحضور الخاصّة
والعامّة لتشييعه. 122
انتشار خبر استشهاد
الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد 124
تاريخ استشهاده
عليهالسلام. 124
الفصل
الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه. 126
البحث
الأوّل : أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه. 126
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري : 127
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني : 127
4 ـ احمد بن إسحاق
بن عبد الله الأشعري القمّي : 128
5 ـ أحمد بن محمد
بن عيسى الأشعري القمّي : 128
6 ـ أيّوب بن نوح
بن درّاج : 128
10 ـ داود بن القاسم
الجعفري : 130
13 ـ عثمان بن سعيد
العمري السمّان : 132
14 ـ علي بن مهزيار
الأهوازي الدورقي : 133
15 ـ الفضل بن شاذان
النيشابوري : 133
16 ـ محمد بن أحمد
المحمودي : 134
17 ـ محمد بن الحسن
بن أبي الخطّاب الزيّات : 135
18 ـ محمد بن الفرج
الرخجي : 135
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي : 135
البحث الثاني : نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام. 136
4 ـ من أدعية الإمام
الهادي عليهالسلام. 145
5 ـ من تراثه التربوي
والأخلاقي. 146
الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم المقدّسة
الفصل
الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور. 14
الفصل
الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 15
الفصل
الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 19
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين : 21
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 25
3 ـ بشارة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته. 26
الفصل
الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام. 27
الفصل
الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه الجواد عليهماالسلام. 28
الشيعة وإمامة الجواد
عليهالسلام. 29
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي... 33
زواج الإمام الجواد
عليهالسلام. 34
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم. 35
نصوص الإمام الجواد
عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام. 36
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام. 39
الفصل
الأوّل : المسيرة الرسالية
لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام
الهادي (ع) . 41
عقبات وأخطار أمام
عملية التغيير الشاملة. 42
مضاعفات الانحراف
بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. 42
انهيار الدولة الإسلامية
ومضاعفاته. 43
المهامّ الرساليّة
للأئمّة الطاهرين. 45
موقف أهل البيت
عليهمالسلام من انحراف الحكّام. 46
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة. 46
مراحل الحركة الرسالية
للائمّة الراشدين عليهمالسلام. 47
موقع الإمام الهادي
عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة. 48
الفصل
الثاني : عصر الإمام علي
بن محمّد الهادي عليهالسلام. 49
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي... 50
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير. 52
موقف الإمام الهادي
عليهالسلام من مسألة خلق القرآن. 54
إخبار الإمام الهادي
عليهالسلام بموت الواثق. 54
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي... 57
الإمام في طريقه
إلى سامراء. 61
الإمام عليهالسلام في سامراء. 62
تفتيش دار الإمام
عليهالسلام. 65
اعتقال الإمام الهادي
عليهالسلام. 67
محاولة اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام. 68
دعاء الإمام عليهالسلام
على المتوكّل.. 69
المنتصر بالله
(247 ـ 248 هـ) 70
الفصل
الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 74
1 ـ الحالة السياسية
العامّة. 74
إنّ عواطف المسلمين
وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام. 79
الفصل
الأوّل : متطلّبات عصر
الإمام الهادي عليهالسلام. 82
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 89
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم. 89
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية. 90
3 ـ التحدّي العلمي
للسلطة وعلمائها 90
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة. 94
الفصل
الثاني : الإمام الهادي
عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها 95
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة. 100
الموقف من الغلاة
والفرق المنحرفة. 103
ظاهرة الزيارة ودورها
في التحصين العقائدي.. 104
أوّلاً
: الزيارة الجامعة الكبيرة 104
3 ـ الأُسس الفكريّة
للتشيّع. 105
وكلاء الإمام الهادي
عليهالسلام. 118
الفصل
الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود 120
تجهيزه وحضور الخاصّة
والعامّة لتشييعه. 122
انتشار خبر استشهاد
الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد 124
تاريخ استشهاده
عليهالسلام. 124
الفصل
الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه. 126
البحث
الأوّل : أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه. 126
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري : 127
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني : 127
4 ـ احمد بن إسحاق
بن عبد الله الأشعري القمّي : 128
5 ـ أحمد بن محمد
بن عيسى الأشعري القمّي : 128
6 ـ أيّوب بن نوح
بن درّاج : 128
10 ـ داود بن القاسم
الجعفري : 130
13 ـ عثمان بن سعيد
العمري السمّان : 132
14 ـ علي بن مهزيار
الأهوازي الدورقي : 133
15 ـ الفضل بن شاذان
النيشابوري : 133
16 ـ محمد بن أحمد
المحمودي : 134
17 ـ محمد بن الحسن
بن أبي الخطّاب الزيّات : 135
18 ـ محمد بن الفرج
الرخجي : 135
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي : 135
البحث الثاني : نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام. 136
4 ـ من أدعية الإمام
الهادي عليهالسلام. 145
5 ـ من تراثه التربوي
والأخلاقي. 146
اسم الكتاب : أعلام الهداية (ج11) الإمام
علي بن محمد الهادي عليهالسلام .
المؤلّف : لجنة التأليف .
الموضوع : كلام وتاريخ .
الناشر : مركز الطباعة والنشر للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام .
الطبعة الأولى : 1422 هـ ق .
الطبعة الثانية : 1425 هـ ق .
الطبعة الثالثة : 1427 هـ ق .
المطبعة : ليلى .
الكمية : 5000 .
شابك : -28-5688-964
حقوق الطبع والترجمة محفوظة للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
أهل البيت في القرآن الكريم
(إنّما
يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)
سورة الأحزاب / آية : 33
أهل البيت في السنّة النبوية
( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً )
( الصحاح والمسانيد )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى
، ثم الصلاة والسلام على مَن اختارهم هداةً لعباده ، لا سيّما خاتم الأنبياء وسيّد
الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلى آله الميامين النجباء .
لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري
العقل والإرادة ، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل ، وبالإرادة يختار
ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه .
وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له
على خلقه ، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم
الإنسان ما لم يعلم ، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به ، وعرّفه الغاية التي خلقه
من أجلها ، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها .
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة
معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها ، كما بيّن لنا عللها
وأسبابها من جهة ، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى .
قال تعالى :
(قُلْ
إنّ هُدى الله هو الهُدى)
(الأنعام (6) : 71) .
(والله
يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم)
(البقرة (2) : 213) .
(والله
يقول الحقّ وهو يهدي السبيل)
(الأحزاب (33) : 4) .
(ومَن
يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم) (آل
عمران (3) : 101) .
(قُلِ
اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس
(10) : 35) .
(وَيَرَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ (34) : 6) .
(ومَن
أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله) (القصص (28) : 50) . فالله تعالى هو
مصدر الهداية .
وهدايته هي الهداية الحقيقية ، وهو الذي
يأخذ بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم .
وهذه الحقائق يؤيّدها العلم ويدركها
العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم .
ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع
إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به ، وأسبغ عليه نعمة
التعرّف على طريق الكمال ، ومن هنا قال تعالى : (وما خلقتُ
الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)
(الذاريات
(51) : 56) .
وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون
المعرفة ، صارت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة
الكمال .
وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب
والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال ; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة
; والهوى الناشئ منهما ، والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله
وسائر أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية ; كي تتمّ عليه الحجّة
، وتكمل نعمة الهداية ، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير
والسعادة ، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته .
ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية
أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي ، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله
لتولِّي مسؤولية هداية العباد ؛ وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء
الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة .
وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية
الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون ، ولم يترك الله عباده مهملين
دون حجّة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء ، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل
العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه ؛ لئلاّ يكون للناس على الله
حجّة ، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان
لكان أحدهما الحجّة ، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً : (إنّما أنت منذر
ولكلّ قومٍ هاد)
(الرعد
(13) : 7) .
ويتولّى أنبياء الله ورسله
وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها ، والتي تتلخّص في :
1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب
الرسالة الإلهية بصورة دقيقة .
وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام
لتلقّي الرسالة ، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه ، كما أفصح
بذلك الذكر الحكيم قائلاً : (الله
أعلم حيث يجعل رسالته)
(الأنعام (6) : 124) و(الله يجتبي من
رسله مَن يشاء)
(آل عمران (3) : 179) .
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية
ولمَن أُرسلوا إليه ، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (
الاستيعاب والإحاطة اللازمة ) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها ، و ( العصمة
) عن الخطأ والانحراف معاً ، قال تعالى : (كان
الناسُ أُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ
بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة
(2) : 213) .
3 ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية ،
وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة ،
وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً
عنواني التزكية والتعليم ، قال تعالى : (يزكّيهم
ويعلّمهم الكتابَ والحكمة)
(الجمعة
(62) : 2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان .
وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي
تتمتّع بكلّ عناصر الكمال ، كما قال تعالى : (لقد
كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)
(الأحزاب
(33) : 21) .
4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف
والضياع في الفترة المقرّرة لها ، وهذه المهمّة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية
والنفسية ، والتي تُسمّى بالعصمة .
5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية
وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية ؛ وذلك بتنفيذ
الأطروحة الربّانية ، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال
تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية ،
ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً ، وشجاعةً فائقةً ، وثباتاً كبيراً ، ومعرفةً تامةً
بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة
والتربية وسنن الحياة ، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية ،
هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من
كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة
وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها .
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم
المصطفون طريق الهداية الدامي ، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ ، وتحمّلوا في سبيل
أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب ، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية
كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته ، ولم يتراجعوا لحظة ،
ولم يتلكأوا طرفة عين .
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ ـ
على مدى العصور ـ برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحمّله الأمانة
الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها ، طالباً منه تحقيق أهدافها .
وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الطريق
الوعر خطوات مدهشة ، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات
التغييرية والرسالات الثورية ، وكانت حصيلة جهاده
وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي :
1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على
عناصر الديمومة والبقاء .
2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ
والانحراف .
3 ـ تكوين أُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً
، وبالرسول قائداً ، وبالشريعة قانوناً للحياة .
4 ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ
يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء .
5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة
الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولتحقيق أهداف الرسالة
بشكل كامل كان من الضروري :
أ ـ أن
تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر .
ب ـ أن
تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال ; على يد مربٍّ كفوء علمياً
ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته .
ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
إعداد الصفوة من أهل بيته ، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم ; لتسلّم مقاليد الحركة
النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة
الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين ، وتربية
للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها
وذخائرها على مرّ العصور ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ
عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقوله : ( إنّي تارك فيكم
الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى
يردا عليّ الحوض ) .
وكان أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم
خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده .
إنّ سيرة الأئمّة الاثنى عشر من أهل
البيت عليهمالسلام
تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودراسة
حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ
طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ الأئمة
المعصومون عليهمالسلام
يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ
للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة
والأمة جمعاء .
وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في
استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام
للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم ، فكانوا هم الأدلاّء
على الله وعلى مرضاته ، والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّته ،
والذائبين في الشوق إليه ، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود .
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر
على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام
الله تعالى ، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ ، حتى فازوا بلقاء
الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير .
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا
بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل ، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه
إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم ، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها
المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق ، عسى الله أن ينفع
بها إنّه وليّ التوفيق .
إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام الرسالية تبدأ
برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنتهي بخاتم
الأوصياء ، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار
الأرض بعدله .
ويختص هذا الكتاب بدراسة
حياة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام عاشر أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وهو المعصوم الثاني عشر من أعلام الهداية الذي جسّد الإسلام
العظيم في القول والعمل كآبائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ
الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك
وإخراجه إلى عالم النور ، لاسيّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر
الحكيم حفظه الله تعالى .
ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى
بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنّه حسبنا ونعم النصير
.
المجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم المقدّسة
الباب الأوّل : وفيه فصول :
الفصل الأول : الإمام الهادي عليهالسلام في سطور .
الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام الهادي عليهالسلام.
الفصل الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام الهادي عليهالسلام.
الفصل الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور
الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام هو عاشر أئمة أهل البيت عليهمالسلام الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
فمعدنه هو معدن الرسالة
والنبوّة وهو فرع هذا البيت النبوي الطاهر الذي جسّد
للإنسانية خطّ محمد خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجمع كل المكارم والمآثر الزاخرة بالعطاء والهداية الربّانية مؤثراً رضا الله
تعالى على كل شيء في الحياة .
ولد الإمام الهادي علي بن
محمد عليهماالسلام محاطاً بالعناية الإلهية .
فأبوه هو الإمام
المعصوم والمسدَّد من الله محمّد الجواد عليهالسلام
وأُمّه الطاهرة التقيّة سمانة المغربية .
ونشأ على مائدة القرآن المجيد وخلق النبي
العظيم المتجسّد في أبيه الكريم خير تجسيد .
لقد بدت عليه آيات الذكاء الخارق والنبوغ
المبكّر الذي كان ينبئ عن الرعاية الإلهية التي خُصّ بها هذا الإمام العظيم منذ
نعومة أظفاره .
وقد تقلّد منصب الإمامة
الإلهي بعد أبيه في الثامنة من عمره الشريف فكان مثالاً آخر للإمامة المبكّرة التي
أصبحت أوضح دليل على حقّانية خط أهل البيت الرسالي في دعوى الوصيّة والزعامة
الدينية والدنيوية للأمة الإسلامية خلافة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونيابة عنه في
كل مناصبه القيادية والرسالية .
وتنقسم حياة هذا الإمام
العظيم إلى حقبتين متميّزتين : أمضى الأولى منهما مع أبيه الجواد عليهالسلام
وهي أقلّ من عقد واحد .
بينما أمضى الثانية وهي
تزيد عن ثلاثة عقود ، عاصر خلالها ستّة من ملوك الدولة العبّاسية وهم : المعتصم
والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتز .
واستشهد في أيام حكم
المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين .
وقد عانى من ظلم العباسيين
كما عانى آباؤه الكرام حيث أحكموا قبضتهم على الحكم واتخذوا كل
وسيلة لإقصاء أهل البيت النبوي وإبعادهم عن الساحة السياسية والدينية ، وإن كلّفهم ذلك تصفيتهم جسديّاً كما فعل الرشيد مع الإمام
الكاظم
، والمأمون مع الإمام
الرضا ،
والمعتصم مع الإمام
الجواد عليهمالسلام .
وتميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بقربه من عصر الغيبة المرتقب ، فكان عليه أن يهيّئ الجماعة
الصالحة لاستقبال هذا العصر الجديد الذي لم يُعهد من قبل ، حيث لم يمارس الشيعة
حياتهم إلاّ في ظل الارتباط المباشر بالأئمة المعصومين خلال قرنين من الزمن .
ومن هنا كان دور الإمام
الهادي عليهالسلام في هذا المجال مهمّاً وتأسيسيّاً وصعباً بالرغم من كل
التصريحات التي كانت تتداول بين المسلمين عامّةً ، وبين شيعة أهل البيت خاصّةً حول غيبة
الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهمالسلام أي المهدي المنتظر الذي وعد الله
به الأمم .
وبالرغم من العزلة التي كانت قد فرضتها
السلطة العباسية على هذا الإمام حيث أحكمت الرقابة عليه في عاصمتها سامراء ولكنّ
الإمام كان يمارس دوره المطلوب ونشاطه التوجيهي بكل دقّة وحذر ، وكان يستعين بجهاز
الوكلاء الذي أسّسه الإمام الصادق عليهالسلام
وأحكم دعائمه أبوه الإمام الجواد عليهالسلام
وسعى من خلال هذا الجهاز المحكم أن يقدّم لشيعته أهمّ ما تحتاج إليه في ظرفها
العصيب .
وبهذا أخذ يتّجه بالخط
الشيعي أتباع أهل البيت عليهمالسلام نحو
الاستقلال الذي كان يتطلّبه عصر الغيبة الكبرى ،
فسعى الإمام علي الهادي عليهالسلام بكل جدّ في تربية العلماء والفقهاء إلى جانب رفده المسلمين
بالعطاء الفكري والديني ـ العقائدي والفقهي والأخلاقي .
ويمثّل لنا مسند الإمام الهادي عليهالسلام جملة من تراثه الذي وصل إلينا
بالرغم من قساوة الظروف التي عاشها هو ومَن بعده من الأئمة الأطهار عليهمالسلام .
فسلام عليه يوم وُلد ويوم
تقلّد الإمامة وهو صبيّ لم يبلغ الحلم ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً .
الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام
تعطي كلمات العلماء والعظماء في الإمام
أبي الحسن علي بن محمّد الهادي عليهالسلام ،
صورة من إكبار المؤالف والمخالف له عليهالسلام ،
وإجماع المسلمين على جلالته وعظمته . وإليك
بعض الانطباعات التي وصلتنا من معاصريه ومَن تلاهم من العلماء والمؤرّخين عن هذه
الشخصية الفريدة .
1 ـ من كتاب للمتوكل
العباسي إلى الإمام الهادي عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد : إنّ
أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راعٍ لقرابتك ، موجب لحقّك ، مؤثر في الأمور فيك وفي
أهل بيتك لما فيه صلاح حالك وحالهم ، وتثبيت عِزّك وعِزّهم ، وإدخال الأمر عليك
وعليهم ، يبتغي بذلك رضى الله وأداء ما افترضه عليه فيك وفيهم .
ثمّ ختمه بقوله : وأمير
المؤمنين مشتاق إليك ، ويحب إحداث العهد بقربك والتيمّن بالنظر إلى ميمون طلعتك
المباركة (أصول الكافي : 1/502 ، الفصول المهمّة : 265 .)
.
2 ـ
قال يحيى بن هرثمة ـ الذي أرسله المتوكل لإشخاص الإمام عليهالسلام إلى سُرّ مَن رأى ـ :
فذهبت إلى المدينة فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً
على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً
إليهم ، ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا ، ثم فتّشت منزله فلم أجد
فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني ، وتولّيت خدمته بنفسي ، وأحسنت
عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد وبدأت بإسحاق الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال
لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمتوكل مَن
تعلم فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
خصمك يوم القيامة ، فقلت له : والله ما وقفت منه إلاّ على كل أمر جميل (1) .
3 ـ قال أبو عبد الله
الجنيدي : والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله
تعالى (2) .
4 ـ قال يزداد الطبيب : إذا
كان مخلوق يعلم الغيب فهو (3) .
5 ـ وقال ابن شهرآشوب :
وكان أطيب الناس بهجةً وأصدقهم لهجة وأملحهم من قريب وأكملهم من بعيد ، إذا صمت
علته هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء ، وهو من بيت الرسالة والإمامة ومقرّ
الوصية والخلافة ، شعبة من دوحة النبوّة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرسالة
مجتناة مجتباة (4) .
6 ـ قال كمال الدين محمد
بن طلحة الشافعي : وأمّا مناقبه : فمنها ما حلّ في الأذان
محل حلاها بأشنافها واكتنفته شغفاً به اكتناف اللآلئ الثمينة بأصدافها وشهد لأبي
الحسن أنّ نفسه موصوفة بنفائس أوصافها ، وأنّها نازلة من الدوحة النبوية في ذرى
أشرافها ، وشرفات أعرافها (5) .
7 ـ قال أحمد بن محمد بن
أبي بكر بن خلكان : أبو الحسن علي الهادي ابن محمد الجواد بن
علي الرضا عليهمالسلام ،
وهو أحد الأئمة الاثنى عشر ، وكان قد سعي به إلى المتوكل وقيل : إنّ في منزله
سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، وأوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه فوجّه إليه بعدّة
من الأتراك ليلاً فهجموا عليه في منزله على غفلة ، فوجدوه في بيت مغلق عليه ،
وعليه مدرعة من شعر ، وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنّم بآيات من
القرآن والوعد والوعيد ، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصى (وفيات الأعيان : 2/435 .) .
ــــــــــــــ
(1) تذكرة
الخواص : 202 .
(2) مآثر
الكبراء : 3/96 .
(3) بحار
الأنوار : 50/161 .
(4)
المناقب : 4 / 432 .
(5) مطالب السؤول : 88 .
8 ـ قال عبد الله بن أسعد
اليافعي : أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا
بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني ، عاش اربعين سنة ، وكان متعبداً
فقيهاً إماماً (مرآة الجنان : 2/160 .) .
9 ـ قال الحافظ عماد الدين
إسماعيل بن عمر بن كثير : وأمّا أبو الحسن علي الهادي فهو ابن محمد
الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين
العابدين بن الحسين الشهيد ابن علي بن أبي طالب ، أحد الأئمة الاثنى عشر ، وهو
والد الحسن بن علي العسكري ، وقد كان عابداً زاهداً ، نقله المتوكل إلى سامراء فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر ، ومات
بها في هذه السنة ـ سنة أربع وخمسين ومائتين ـ وقد ذُكر
للمتوكل أنّ بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس ، فبعث كبسة فوجدوه جالساً
مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف ، وهو على التراب ليس دونه حائل ، فأخذوه كذلك
فحملوه إلى المتوكل ... (البداية والنهاية : 11/15 .)
.
10 ـ قال محمد سراج الدين
الرفاعي : الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد ولقبه
النقي والعالم والفقيه والأمير والدليل والعسكري والنجيب ، ولد في المدينة سنة
اثنتي عشرة ومائتين من الهجرة ، وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي يوم الاثنين
لثلاث خلون من رجب سنة اربع وخمسين ومائتين وكان له خمسة أولاد : الإمام الحسن
العسكري ، والحسين ، ومحمد ، وجعفر ، وعائشة . فالحسن العسكري أعقب صاحب السرداب
الحجّة المنتظر ولي الله محمد المهدي (1) .
11 ـ قال أحمد بن حجر
الهيثمي : علي العسكري سُمّي بذلك لأنّه لمّا وجّه لإشخاصه من
المدينة النبوية إلى سُرّ مَن رأى وأسكنه بها ، كانت تسمّى العسكر فعرف بالعسكري ،
وكان وارث أبيه علماً وسخاءً (2) .
12 ـ قال أحمد بن يوسف بن
أحمد الدمشقي القرماني : الفصل التاسع في ذكر بيت الحلم والعلم
والأيادي ، الإمام علي بن محمد الهادي ، رضي الله عنه : ولد بالمدينة وأُمّه أُمّ
ولد ، وكنيته أبو الحسن ، ولقبه الهادي والمتوكل ، وكان اسمر ، نقش خاتمه (
الله ربّي وعصمتي من خلقه ) وأمّا مناقبه فنفيسة ، وأوصافه شريفة (3) .
13 ـ قال عبد الله
الشبراوي الشافعي : العاشر من الأئمة علي الهادي ، وُلد رضياللهعنه
بالمدينة في رجب سنة أربع عشرة ومائتين ، وكراماته كثيرة (الإتحاف بحب الأشراف : 176 .) .
14 ـ قال محمد أمين
السويدي البغدادي : وُلد بالمدينة ، وكنيته أبو الحسن ،
ولقبه الهادي ، وكان أسمر اللون ، نقش خاتمه (
الله ربّي وهو عصمتي من خلقه ) ومناقبه كثيرة (سبائك الذهب : 57 .) .
15 ـ قال مؤمن الشبلنجي :
ومناقبه رضياللهعنه كثيرة ، قال
في الصواعق : كان
ــــــــــــــ
(1) صحاح
الأخبار : 56 .
(2)
الصواعق المحرقة : 205 .
(3) أخبار
الدول : 117 .
أبو الحسن العسكري وارث أبيه علماً
وسخاءً ، وفي حياة الحيوان : سُمّي العسكري لأنّ المتوكّل لما كثرت السعاية فيه
عنده أحضره من المدينة وأقرّه بسُرّ مَن رأى (نور الابصار : 149 .) .
16 ـ قال محمد أمين غالب
الطويل : كان حسن الخلق حتى لم يكن أحد يشك في عصمته ، ولكن
خطر الإمامة أوهم الخليفة المتوكل بالخطر ، وقد وشي به إليه أنّه جمع في بيته
معدّات وأسلحة استعداداً للخروج عليه ، والادعاء بالخلافة ، فأرسل الخليفة حينئذٍ
عساكره التركية فهجموا ليلاً على بيته ، وقد اختار الخليفة العساكر التركية لسوء
ظنّه بالعرب المسلمين ؛ لأنّهم يعرفون مَن الأحق بالخلافة ، أمّا الأتراك فكانوا
حديثي عهد بالإسلامية ، وكانوا لا يعرفون غوامضها ، بل كانوا يناصرون العباسيين
الذين اعتادوا التزوّج من بنات الأتراك .
ذهبت العساكر التركية ليلاً إلى بيت
الإمام ، ورأوه جالساً على التراب ، ملتفّاً برداء صوف ، وهو يقرأ القرآن وبعد
تفتيش جميع زوايا بيته أحضروه إلى الخليفة وأخبروه بالقصّة ، وكيف أنّهم رأوا
الإمام زاهداً ، وأنّهم لم يجدوا عنده شيئاً من العدّة (تاريخ العلويين : 167 .) .
17 ـ قال السيد عبد الوهاب
البدري : وبقي الإمام الهادي يتنقّل في مجالس سامراء ، يواسي
ذوي المصاب ويساعد المحتاج ، ويرحم المساكين ، ويشفق على اليتيم ويدلف ليلاً إلى
الأرامل والثكالى وثوبه كلّه ( صرر ) فينثرها عليهم ( لا نريد منكم
جزاءً ولا شكوراً )
يذهب نهاره إلى عمله فيقف تحت الشمس يعمل في مزرعته حتى يتصبّب العرق من جسمه ،
وعندما يقبل الليل يتّجه إلى ربّه ساجداً راكعاً خاشعاً ليس بين جبينه الوضاح وبين
الأرض سوى الرمل والحصى ، وأنّه يردّد دعاءه المشهور (
إلهي مسيء قد ورد ، وفقير قد قصد ، لا تخيب مسعاه وارحمه واغفر له خطأه )
(سيرة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 59 .) .
18 ـ قال خير الدين
الزركلي : أبو الحسن العسكري علي الملقّب بالهادي ابن محمد
الجواد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر ، الحسيني الطالبي ، عاشر الأئمة الاثنى عشر
، وأحد الأتقياء الصلحاء ، وُلد بالمدينة ، ووشي به إلى المتوكل العباسي فاستقدمه
إلى بغداد ، وأنزله في سامراء (الأعلام : 5/140 .) .
19 ـ قال دوايت م رونلدسن
بعد أن فصّل الحديث عنه عليهالسلام : قصده كثيرون للأخذ عنه من البلاد التي
يكثر فيها شيعة آل محمد ، وهي : العراق وإيران ومصر (عقيدة الشيعة : 215 .) .
20 ـ وقال فضل الله بن
روزبهان الشافعي : اللّهمّ صلِّ وسلّم على الإمام العاشر
مقتدى الحيّ والنادي سيّد الحاضر والبادي ، حارز نتيجة الوصاية والإمامة من
المبادي ، السيف الغاضب على رقبة كلّ مخالف معادي ، كهف الملهوفين في النوائب
والعوادي ، قاطع العطش من الأكباد الصوادي ، الشاهد بكمال فضله الأحباب والأعادي ،
ملجأ أوليائه بولائه يوم ينادي المنادي أبي الحسن عليّ النقي الهادي بن محمّد
الشهيد بكيد الأعداء ، المقبور بسرّ مَن رأى (وسيلة الخادم إلى المخدوم : صلوات الإمام الهادي عليهالسلام .) .
الفصل الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام
لقد تحلّى الإمام الهادي عليهالسلام بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه
الرسول الأعظم لتتميمها ، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا
الإحاطة بها ولا تصويرها ، ولكن هذا لا يمنع أن نشير إلى جملة من مكارم أخلاقه
التي تجلّت في صور من سلوكه .
وإليك بعض هذه المكارم التي
نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ .
كان عليهالسلام من أبسط الناس كفّاً ، وأنداهم
يداً ، وكان على غرار آبائه الذين أطعموا الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً
، وكانوا يطعمون الطعام حتى لا يبقى لأهلهم طعام ، ويكسونهم حتى لا يبقى لهم كسوة (صفة الصفوة : 2/98 .)
.
وقد روى المؤرّخون بوادر
كثيرة من برّ الإمام الهادي عليهالسلام وإحسانه إلى الفقراء وإكرامه البائسين ، نقتصر منها على ما يلي :
1 ـ وفد جماعة من أعلام
الشيعة على الإمام الهادي عليهالسلام وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وأحمد بن
إسحاق الأشعري ، وعلي بن جعفر الحمداني ، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ،
فالتفت عليهالسلام إلى
وكيله عمرو ، وقال له : ادفع له ثلاثين ألف دينار ، والى علي بن جعفر ثلاثين ألف
دينار ، كما أعطى وكيله مثل هذا المبلغ .
وعلّق ابن شهرآشوب على هذه
المكرمة العلوية بقوله : ( فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك
، وما سمعنا بمثل هذا العطاء ) (المناقب : 4/409 .) .
2 ـ اشترى
إسحاق الجلاب لأبي الحسن الهادي عليهالسلام
غنماً كثيرة يوم التروية ، فقسمها في أقاربه (مناقب آل أبي طالب : 4 / 443 .) .
3 ـ
وكان قد خرج من سامراء إلى قرية له ، فقصده رجل من الأعراب ، فلم يجده في منزله
فأخبره أهله بأنّه ذهب إلى ضيعة له ، فقصده ، ولمّا مثل عنده سأله الإمام عن حاجته
، فقال بنبرات خافتة : يا بن رسول الله ، أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين
بولاية جدّك علي بن أبي طالب ، وقد ركبني فادح ـ أي دين ـ أثقلني حمله ، ولم أرَ
مَن أقصده سواك .
فرقّ الإمام لحاله ، وأكبر ما توسّل به ،
وكان عليهالسلام في
ضائقة لا يجد ما يسعفه به ، فكتب عليهالسلام
ورقة بخطّه جاء فيها : أنّ للأعرابي ديناً عليَّ ، وعيّن مقداره
، وقال له : خذ هذه الورقة ، فإذا وصلت إلى سُرّ مَن رأى ، وحضر عندي جماعة
فطالبني بالدين الذي في الورقة ، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك ، ولا تخالفني فيما
أقول لك .
فأخذ الأعرابي الورقة ، ولمّا قفل الإمام
إلى سرّ مَن رأى حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن ، فجاء الأعرابي
فأبرز الورقة ، وطالب الإمام بتسديد دينه الذي في الورقة فجعل الإمام عليهالسلام يعتذر إليه ، والأعرابي يغلظ له
في القول ، ولما تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلى المتوكل فأخبروه بالأمر فأمر
بحمل ثلاثين ألف درهم إلى الإمام فحملت له ، ولما جاء الأعرابي قال له الإمام عليهالسلام : (
خذ هذا المال واقضِ منه دينك ، وانفق الباقي على عيالك وأهلك واعذرنا ... )
.
وأكبر الأعرابي ذلك ، وقال للإمام : إنّ
ديني يقصر على ثلث هذا المبلغ .
فأبى الإمام عليهالسلام
أن يستردّ منه من الثلاثين شيئاً ، فولّى الأعرابي وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل
رسالته (الإتحاف بحبّ الأشراف : 176 . والفصول المهمّة لابن الصباغ : 274 .
والصواعق المحرقة : 312 .)
.
لقد عزف الإمام
الهادي عليهالسلام
عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشةً زاهدة إلى أقصى حدّ ، لقد واظب على
العبادة والورع والزهد ، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة ، وآثر طاعة الله على
كل شيء ، وقد كان منزله في يثرب وسُرّ مَن رأى خالياً من كل أثاث ، فقد داهمت
منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة ،
وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سُرّ مَن رأى ، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق ،
وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى ، ليس بينه وبين الأرض فراش (أصول الكافي : 1/499 وعنه في الإرشاد : 2/302 ، 303 وعن الكليني في
إعلام الورى : 2/119 . والفصول المهمّة : 377 .)
.
وتجرّد الإمام العظيم من
الأنانية ، حتى ذكروا أنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله ، فقد روى عليّ
بن حمزة حيث قال : ( رأيت أبا
الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له : جُعلت فداك أين
الرجال ؟ فقال الإمام : يا علي قد عمل
بالمسحاة مَن هو خير منّي ومن أبي في أرضه
. قلت : مَن هو ؟ قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيّين والمرسلين
والأوصياء الصالحين ) (كتاب مَن لا يحضره الفقيه : 3 / 162 .)
.
واهتمّ
الإمام الهادي عليهالسلام اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم إلى
سواء السبيل ، وكان من بين مَن أرشدهم الإمام وهداهم : أبو
الحسن البصري المعروف بالملاح ، فقد كان واقفياً يقتصر على إمامة الإمام موسى بن
جعفر عليهماالسلام
ولا يعترف بإمامة أبنائه الطاهرين ، فالتقى به الإمام الهادي فقال له : (
إلى متى هذه النومة ؟ أما آن لك أن تنتبه منها ؟! )
. وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحقّ ، والرشاد (إعلام الورى : 2/123 عن كتاب الواحدة للعمي ، وعن الأعلام في بحار
الأنوار : 50/189 .)
.
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين :
وحذّر الإمام الهادي عليهالسلام
أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم ؛
لأنّهم مصدر غواية وضلال للناس ، فهم يظهرون التقشّف والزهد لإغراء البسطاء
والسذّج وغوايتهم.
فلقد شدّد الإمام الهادي عليهالسلام
في التحذير من الاختلاط بهم حتى روى الحسين بن أبي الخطاب قال : كنت
مع أبي الحسن الهادي عليهالسلام في
مسجد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري ، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند
الإمام عليهالسلام ،
وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه ، وأخذوا
بالتهليل ، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم : (
لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين ، ومخرّبو قواعد الدين ،
يتزهّدون لإراحة الأجسام ، ويتهجّدون لصيد الأنعام ، يتجرّعون عمراً حتى يديخوا
للايكاف (1) حمراً ، لا يهللون إلاّ لغرور الناس ،
ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس (2) ، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ ،
ويطرحونهم بإذلالهم في الجب ، أورادهم الرقص والتصدية ، وأذكارهم الترنّم والتغنية
، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء ، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء ، فمَن ذهب إلى زيارة
أحدهم حياً أو ميتاً ، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان ، ومَن أعان
واحداً منهم فكأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان ) .
فقال أحد أصحابه : وإن كان معترفاً
بحقوقكم ؟ .
فزجره الإمام وصاح به قائلاً : ( دع ذا عنك ، مَن اعترف بحقوقنا لم
يذهب في عقوقنا ، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية ، والصوفية كلّهم مخالفونا ،
وطريقتهم مغايرة لطريقتنا ، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأُمّة ، أُولئك الذين
يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون )
(3) .
ــــــــــــــ
(1) يديخوا
: أي يذلوها ويقهروها .
(2)
الدفناس : الغبيّ والأحمق ، كما في مجمع البحرين : 4/71 .
(3) حديقة الشيعة للأردبيلي :
602 ، 603 عن المرتضى الرازي في كتاب الفصول ، وابن حمزة في كتاب الهادي إلى
النجاة ، كلاهما عن الشيخ المفيد ، وعنه في روضات الجنّات : 3/134 .
وكان الإمام الهادي عليهالسلام يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي
بهم ويقدّمهم على بقية الناس ؛ لأنّهم مصدر النور في الأرض ، وكان من بين مَن
كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم ، وكان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبياً فأفحمه
وتغلّب عليه فسرّ الإمام عليهالسلام
بذلك ، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم ، وكان مجلسه مكتظّاً
بالعلويين والعباسيين ، فأجلسه الإمام على دست ، وأقبل عليه يحدّثه ، ويسأل عن
حاله سؤالاً حفياً ، وشقّ ذلك على حضّار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام ،
وقالوا له : كيف تقدّمه على سادات بني هاشم ؟ فقال لهم الإمام : ( إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله
تعالى فيهم : ( أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (آل عمران (3) : 23 .) أترضون بكتاب الله عزّ وجلّ حكماً ؟ )
فقالوا جميعاً : بلى يا ابن رسول الله (كذا ، والصحيح : ألا ترضون ، وإلاّ فالجواب بنعم
وليس ببلى .) .
وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه
قائلاً : أليس الله قال : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ـ إلى قوله ـ : وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (المجادلة (58) : 11 .)
فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن
إلاّ أن يرفع على مَن ليس بمؤمن ، أخبروني عنه قال تعالى : ( يرفع الله
الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات) أو قال : يرفع الله الذين
أُوتوا شرف النسب درجات ؟! أو ليس قال الله :
( ...
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ... )
(الزمر (35)
: 9 .)
.
فكيف تنكرون رفعي
لهذا لما رفعه الله ، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علّمه إيّاها لأشرف
من كل شرف في النسب .
وسكت الحاضرون ، فقد ردّ عليهم الإمام
ببالغ حجّته ، إلاّ أنّ بعض العبّاسيين انبرى قائلاً : يا ابن رسول الله لقد شرّفت
هذا علينا ، وقصرتنا عمّن ليس له نسب كنسبنا ، وما زال منذ أول الإسلام يقدّم
الأفضل في الشرف على مَن دونه .
وهذا منطق رخيص فإنّ الإسلام لا يخضع بموازينه إلاّ للقيم الصحيحة التي لم يعِها
هذا العباسي ، وقد ردّ عليه الإمام عليهالسلام قائلاً : سبحان
الله ! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي ، والعباس هاشمي ، أو ليس عبد الله بن
عباس كان يخدم عمر بن الخطاب ، وهو هاشمي أبو الخلفاء ، وعمر عدوي ، وما بال عمر
أدخل البعداء من قريش في الشورى ، ولم يدخل العباس ؟! فإن كان رفعاً لمَن ليس
بهاشمي على هاشمي منكراً ، فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن
عباس بخدمته لعمر ، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز
(الاحتجاج للطبرسي : 2 / 259 .)
.
إنّ الإقبال على الله والإنابة إليه
وإحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل
البيت عليهمالسلام .
أمّا الإمام الهادي عليهالسلام فلم يرَ الناس
في عصره مثله في عبادته وتقواه
وشدّة تحرّجه في الدين ، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتى بها ، وكان يقرأ في
الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأوّل سورة الحديد إلى قوله تعالى : ( انّه عليم بذات
الصدور )
وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات (وسائل الشيعة : 4/750 .)
.
وقد ذكرت بوادر كثيرة من
استجابة دعاء الإمام عليهالسلام عند الله كان منها :
1 ـ ما رواه المنصوري عن
عمّ أبيه ، قال : قصدت الإمام عليّاً الهادي ، فقلت له :
يا سيّدي إنّ هذا الرجل ـ يعني المتوكّل ـ قد اطرحني ، وقطع رزقي ، وملّني وما
أُتّهم به في ذلك هو علمه بملازمتي بك ، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند
المتوكّل ، فقال عليهالسلام : تُكفى إن شاء الله ، ولما
صار الليل طرقته رسل المتوكل فخفّ معهم مسرعاً إليه ، فلما انتهى إلى باب القصر
رأى الفتح واقفاً على الباب فاستقبله وجعل يوبّخه على تأخيره ثم أدخله على
المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً : يا أبا موسى تنشغل عنّا ، وتنسانا
؟! أي شيء لك عندي ؟ وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه ، فأمر المتوكّل
بها وبضعفها له ، وخرج الرجل مسروراً .
وانصرف الرجل فتبعه الفتح فأسرع إليه
قائلاً : لست أشكّ أنّك التمست منه ـ أي من الإمام ـ الدعاء ، فالتمس لي منه
الدعاء .
ومضى ميمّماً وجهه نحو الإمام عليهالسلام فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه قال
عليهالسلام له
: يا أبا موسى هذا وجه الرضا
.
فقال الرجل بخضوع : ببركتك يا سيّدي ،
ولكن قالوا لي : إنّك ما مضيت إليه ولا سألته .
فأجابه الإمام ببسمات قائلاً : إنّ الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ
في المهمات إلاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه
الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا .
وفطن الرجل إلى أنّ الإمام قد دعا له
بظهر الغيب ، وتذكّر ما سأله الفتح فقال : يا سيّدي إنّ الفتح يلتمس منك الدعاء .
فلم يستجب الإمام له وقال : إنّ الفتح يوالينا بظاهره ، ويجانبنا
بباطنه ، الدعاء إنّما يدعى له إذا أخلص في طاعة الله ، واعترف برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبحقّنا أهل البيت (أمالي الطوسي : 285 ح 555 وعنه في بحار الأنوار : 50/127 وفي المناقب :
4/442 .) .
2 ـ روي أنّ عليّ بن جعفر
كان من وكلاء الإمام عليهالسلام فسعي به إلى المتوكّل فحبسه ، وبقي في ظلمات
السجون مدّة من الزمن ، وقد ضاق به الأمر فتكلّم مع بعض عملاء السلطة في إطلاق
سراحه ، وقد ضمن أن يعطيه عوض ذلك ثلاثة آلاف دينار ، فأسرع إلى عبيد الله وهو من
المقرّبين عند المتوكّل ، وطلب منه التوسّط في شأن عليّ بن جعفر ، فاستجاب له ،
وعرض الأمر على المتوكل ، فأنكر عليه ذلك وقال له : لو شككت فيك لقلت : إنّك رافضي
، هذا وكيل أبي الحسن الهادي وأنا على قتله عازم .
وندم عبيد الله على التوسّط في شأنه ،
وأخبر صاحبه بالأمر ، فبادر إلى عليّ بن جعفر وعرّفه أنّ المتوكّل عازم على قتله
ولا سبيل إلى إطلاق سراحه ، فضاق الأمر بعليّ بن جعفر ، فكتب رسالة إلى الإمام جاء
فيها : ( يا سيّدي الله الله فيَّ ، فقد خفت أن أرتاب ، فوقّع الإمام على رسالته :
( أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد
الله فيك ) ، وأصبح المتوكّل محموماً دنفاً ، وازدادت به الحمّى
فأمر بإطلاق جميع المساجين ، وأمر بإطلاق سراح علي بن جعفر بالخصوص ، وقال لعبيد
الله : لِمَ لَمْ تعرض عليَّ اسمه ؟ فقال : لا أعود إلى ذكره أبداً ، فأمره بأن
يخلّي عنه ، وأن يلتمس منه أن يجعله في حلّ ممّا ارتكبه منه ، وأطلق سراحه ، ثم
نزح إلى مكّة فأقام بها بأمر من الإمام ) (1) .
هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من
استجابة دعاء الإمام ، ومن المؤكّد أنّ استجابة الدعاء ليس من عمل الإنسان وصنعه ،
وإنّما هو بيد الله تعالى فهو الذي يستجيب دعاء مَن يشاء من عباده ، وممّا لا شبهة
فيه أنّ لأئمّة أهل البيت عليهمالسلام
منزلة كريمة عنده تعالى ؛ لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الإخلاص ، وأطاعوه حقّ
طاعته وقد خصّهم تعالى باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي
يستجاب فيها الدعاء (2) .
ــــــــــــــ
(1) رجال
الكشي : 606 ح 1129 وعنه في بحار الأنوار : 50/183 .
(2) راجع حياة الإمام علي
الهادي عليهالسلام : 42 ـ 62 .
الباب الثاني : فيه فصول :
الفصل الأوّل : نشأة الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثالث : الإمام الهادي في ظلِّ أبيه عليهماالسلام .
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام
هو أبو
الحسن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد
الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب عليهمالسلام وهو العاشر من
أئمة أهل البيت عليهمالسلام .
أُمّه أُمّ ولد
يقال لها سمانة المغربية (1)
وعُرفت بأُمّ الفضل (2)
.
وُلد عليهالسلام للنصف من ذي الحجّة أو ثاني رجب
سنة اثنتي عشرة أو أربع عشرة ومائتين (3)
.
وكانت ولادته عليهالسلام في قرية ( صريا ) التي تبعد عن
المدينة ثلاثة أميال (4)
.
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 298 .
(2) مناقب
آل أبي طالب : 4 / 433 ، وعنه في بحار الأنوار : 50 / 114 .
(3) أصول
الكافي : 1 / 497 ، والإرشاد : 368 ، والمصباح : 523 .
(4) مناقب آل أبي طالب : 4 /
433 ، وثلاثة أميال تعادل خمسة كيلومترات .
3 ـ بشارة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته
وبشرّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بولادته في حديث طويل حول الأئمة عليهمالسلام
بقوله : ( ... وإنّ الله ركّب
في صلبه ـ إشارة إلى الإمام
الجواد عليهالسلام
ـ نطفة لا باغية ولا طاغية ، بارّة مباركة
، طيّبة طاهرة ، سمّاها عنده علي بن محمد فألبسها السكينة والوقار ، وأودعها
العلوم ، وكل سرّ مكتوم ، من كفّيه ، وفي صدره شيء أنبأه به ، وحذّره من عدوّه ...
) (1)
.
يُكنّى
الإمام عليهالسلام بأبي الحسن ، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا عليهماالسلام
يقال له أبو الحسن الثالث .
أمّا ألقابه فهي : الهادي
والنقيّ وهما أشهر ألقابه ، والمرتضى ، والفتّاح ، والناصح ، والمتوكّل ، وقد منع
شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العباسي كان يُلقّب به (2) .
وفي المناقب ذكر الألقاب
التالية : النجيب ، الهادي ، المرتضى ، النقي ، العالم ،
الفقيه ، الأمين ، المؤتَمن ، الطيّب ، العسكري ، وقد عرف هو وابنه بالعسكريين عليهماالسلام (3) .
ــــــــــــــ
(1) عيون أخبار الرضا عليهالسلام : 1 / 62 ، ح 29 .
(2) كشف الغمّة
: 2 / 374 .
(3) المناقب : 4 / 432 .
الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام
يمكن تقسيم حياة الإمام الهادي
عليهالسلام التي ناهزت الأربعين سنة إلى مراحل متعدّدة بلحاظ طبيعة مواقفه وطبيعة
الظروف التي كانت تحيط به .
غير أنّ التقسيم الثنائي يتواءم والمنهج
الذي اتّبعناه في دراسة حياة الأئمة عليهمالسلام ،
والذي يرتكز على تنوّع مسؤولياتهم وأدوارهم بحسب الظروف والملابسات السياسية
والاجتماعية التي كانت تحيط بكل واحد منهم ووحدة الهدف الذي يعدّ جامعاً مشتركاً
لكل مواقفهم عليهمالسلام
والذي يتمثّل في صيانة الشريعة من التحريف وحفظ الأمة الإسلامية من الانحراف عن
عقيدتها ومبادئها وصيانة دولة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
التردّي ما أمكن والتمهيد لاستلام زمام الحكم حينما لا يتنافى مع القيم التي شُرّع
الحكم من أجل تطبيقها وصيانتها .
والمرحلة الأولى من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام تتمثّل في الحقبة الزمنية التي عاشها في
ظلال إمامة أبيه الجواد عليهالسلام وهي
بين (212 هـ) إلى (220 هـ) ويبلغ أقصاها ثمان سنوات
تقريباً .
وقد عاصر فيها كلاًّ من : المأمون
والمعتصم العباسيين .
والمرحلة الثانية تتمثّل
في الفترة الزمنية بين تولّيه عليهالسلام
لمنصب الإمامة في نهاية سنة (220 هـ) والى حين استشهاده عليهالسلام في سنة (254 هـ) وهي أربع وثلاثون سنة تقريباً .
وقد عاصر في هذه الفترة
ستة من ملوك بني العباس ، وهم على الترتيب :
1 ـ المعتصم (218 ـ 227 هـ) .
2 ـ الواثق (227 ـ 232 هـ) .
3 ـ المتوكّل (232 ـ 247 هـ) .
4 ـ المنتصر (247 ـ 248 هـ) .
5 ـ المستعين (248 ـ 252 هـ) .
6 ـ المعتز (252 ـ 255 هـ) .
وسوف نتابع المرحلة الأولى
من حياة هذا الإمام العظيم في الفصل الثالث من الباب الثاني ، ونقف
عند أهم الأحداث التي ترتبط به في فترة حياته في ظل أبيه عليهالسلام .
وأمّا المرحلة الثانية من
حياته المباركة فسوف ندرس ظروفها ونقف عند ملامحها ومتطلّباتها خلال الأبواب
الثلاثة الأخيرة .
الفصل الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه
الجواد عليهماالسلام
لقد تقلّد الإمام محمد الجواد عليهالسلام الزعامة الدينية والمرجعية
الفكرية والروحية للشيعة بعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام سنة (202 هـ) (1) .
وكان عمره الشريف حوالى سبع سنوات وكان
مع حداثته يدبّر أمر الرضا عليهالسلام
بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم لا يخالف عليه أحد منهم (2) .
وقال صفوان بن يحيى : قلت للرضا عليهالسلام : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله
لك أبا جعفر فكنت تقول يهب الله لي غلاماً فقد وهب الله وأقرَّ عيوننا فلا أرانا
الله يومك فإذا كان كون فإلى مَن ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليهالسلام وهو نائم بين يديه .
فقلت : جُعلت فداك هو ابن ثلاث سنين ! (3)
فقال له أبو الحسن عليهالسلام : إنّ
الله بعث عيسى بن مريم قائماً بشريعته وهو في دون السنّ التي يقوم فيها أبو جعفر
على شريعتنا (4) .
وعاش بعد أبيه تسع
عشرة سنة إلاّ خمساً وعشرين يوماً (5) وهي مدّة إمامته عليهالسلام .
ــــــــــــــ
(1) إثبات
الوصية : 184 .
(2) إثبات
الوصية : 185 .
(3) إثبات
الوصية : 185 و186 .
(4) إثبات
الوصية : 185 و186 .
(5) الكافي : 1 / 572 ، ح 12 .
الشيعة وإمامة
الجواد عليهالسلام
بعد التحاق الإمام الرضا عليهالسلام بالرفيق الأعلى ، كان عمر الإمام
الجواد عليهالسلام سبع
سنوات وهذه الإمامة المبكّرة كانت أول ظاهرة ملفتة للنظر عند الشيعة أنفسهم فضلاً
عن غيرهم .
واحتار بعض رموز الشيعة فضلاً عن غيرهم
بالرغم من التمهيد لهذه الظاهرة من قِبل الإمام الرضا عليهالسلام قبل إشخاصه إلى خراسان وبعده .
من هنا اجتمع جملة من كبار
الشيعة في بيت أحدهم يتداولون في أمر الإمامة ، وكان من بين هؤلاء المجتمعين ، الريّان
بن الصلت ، ويونس ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن الحجاج ،
فجعلوا يبكون ، فقال لهم يونس : دعوا البكاء
حتى يكبر هذا الصبي ـ أي الإمام الجواد عليهالسلام ـ فردّ عليه الريان بن الصلت قائلاً :
( إن كان أمر من الله جلّ وعلا ، فابن
يومين مثل ابن مائة سنة ، وإن لم يكن من عند الله فلو عمَّر الواحد من الناس خمسة
آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه ، وهذا ممّا ينبغي أن ينظر
فيه ... ) (دلائل الإمامة : 205 .) .
ويتّضح من النص السابق تأكيد الريّان على
مفهوم الإمامة باعتبارها منصباً إلهياً كالنبوّة من حيث الاختيار والانتخاب لهذا
المنصب .
فإنّه بيد الله سبحانه ، قال تعالى : (الله أعلم حيث
يجعل رسالته)
وليس للناس فيها أمر واختيار .
عاصر الإمام الجواد عليهالسلام من خلفاء بني العباس المأمون
(198 ـ 218 هـ) والمعتصم (218 ـ 227 هـ) ، وكان المأمون يتظاهر بالتودّد للإمام
الجواد عليهالسلام ،
وزوّجه ابنته أم الفضل ، ومن قبل قد صاهر المأمون الإمام الرضا عليهالسلام وولاّه عهده وقرّب العلويين (تاريخ الإسلام : 2 / 66 ـ 67 للدكتور حسن إبراهيم
حسن .) .
أمّا حكم المعتصم فكان حكماً استبدادياً
مقروناً بشيء من العطف وحسن التدبير ، وقد وصفه المسعودي (مروج الذهب : 3 / 476 .)
بحسن السيرة واستقامة الطريقة .
وقد اعتمد الخلفاء العباسيون الأوائل في
إنشاء حكومتهم واستمرارها على الفرس دون العرب وأسندوا إليهم المناصب المدنيّة
والعسكرية ، ممّا أدّى إلى سيادة الفرس في مختلف الميادين وضمور دور العرب في
الدولة العباسية ومؤسّساتها المختلفة ، وأثمرت هذه الظاهرة التنافس بين العرب
والفرس ، حتى جاء المعتصم ـ وكانت أُمّه تركيّة ـ فاعتمد على العنصر التركي
واتّخذهم حرساً له ، وأسند إليهم مناصب الدولة وقلّدهم ولاية الأقاليم البعيدة عن
مركز الخلافة وأخرج العرب من ديوان العطاء وأحلّ محلّهم الترك فحقد العرب والفرس
عليهم جميعاً .
ولم يقتصر الصراع على ما كان بين العرب
والفرس والترك بل تعدّاه إلى قيام المنافسة بين العنصر العربي نفسه ، فاشتعلت
نيران العصبية بين عرب الشمال المضريين ، وعرب الجنوب اليمنيين (تاريخ الإسلام : 395 .)
.
وهذا يوضح لنا شدّة الصراع
داخل الأسرة الحاكمة نفسها .
فكان شعب الدولة العباسية
في نهاية العصر الأوّل يتكوّن من :
1 ـ العرب ( المضريين واليمنيين ) .
2 ـ الفرس ( الخراسانيين ) الذين ساعدوا
العباسيين في إنشاء حكومتهم .
3 ـ الترك ، الذين آلت إليهم إدارة
الدولة .
4 ـ أهل الذمّة ( أهل الكتاب ) وهم :
اليهود والنصارى .
وكانت الطوائف الدينية منفصلة بعضها عن
بعض تمام الانفصال ، وكان لا يجوز للمسيحي أن يتهوّد ولا لليهودي أن يتنصّر ،
واقتصر تغيير الدين على الدخول في الإسلام ، وكان الرقيق يكوّنون طبقة كبيرة من
طبقات المجتمع الإسلامي ، وكانت سمرقند تُعدّ من أكبر أسواق الرقيق ؛ إذ كان أهلها
يتخذون ذلك صناعة لهم يعيشون منها .
وكان لاتساع رقعة الدولة
العباسية ، ووفرة ثرواتها ، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها
الشرق من قبل حتى لقد غدا الناس جميعاً من الخليفة إلى العامة
طلاّباً للعلم أو على الأقلّ أنصاراً للأدب ، وكان
الناس في عهد هذه الدولة يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان
ليعودوا إلى بلادهم وهم يحملون أصنافاً من العلم ، ثم يصنّفون ما
بذلوه من جهد متصل بمصنّفات هي أشبه شيء بدوائر المعارف ، والتي كان لها أكبر
الفضل في إيصال هذه العلوم إلينا بصورة لم تكن متوقّعة من قبل (تاريخ الإسلام : 2 / 321 ـ 323 .) .
هذا في
الشرق الإسلامي ، وأمّا
في الغرب فقد نافست قرطبة بغداد والبصرة والكوفة ودمشق
والفسطاط فأصبحت حاضرة الأندلس حتى جذبت مساجدها الأوربيين الذين وفدوا لارتشاف
العلم من مناهله والتزوّد من الثقافة الإسلامية ، ومن ثم ظهرت فيها طائفة من
العلماء والشعراء والأُدباء والفلاسفة والمترجمين والفقهاء وغيرهم .
ولم يقتصر اهتمام العلماء المسلمين على العلوم النقلية مثل علم التفسير
، والقراءات وعلم الحديث والفقه والكلام ، بل
شمل اهتمامهم العلوم العقلية ، كالفلسفة ، والهندسة ، وعلم النجوم ، والطب ،
والكيمياء ، وغيرها .
وفي العصر العباسي الأوّل
اشتغل الناس بالعلوم الدينية وظهر المتكلّمون
وتكلّم الناس في مسألة خلق القرآن ، وتدخّل المأمون
في ذلك ، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته ؛ ولهذا عاب الناس عليه
تدخّله في الأمور الدينية كما عابوا عليه تفضيل علي بن أبي طالب عليهالسلام على سائر الخلفاء (تاريخ الإسلام : 2 / 321 ـ 323 .) .
وفي هذا العصر ظهر صنفان
من العلماء :
الصنف الأول : هم
الذين كان يغلب على ثقافتهم النقل والاستيعاب ويسمون أهل علم .
والصنف الثاني : هم
الذين كان يغلب على ثقافتهم الابتداع والاستنباط ويسمون أهل عقل (تاريخ الإسلام : 2 / 324 .) .
كما نشطت في هذا العصر
أيضاً ، في ميدان الفقه مدرستان : مدرسة أهل الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق .
كانت تولية العهد إلى أكثر من شخص واحد
عاملاً مهمّاً في اختلال الوضع الأمني داخل الدولة الإسلامية نتيجة التنازع
والصراع على السلطة بين ولاة العهد ؛ لأنّ أحدهما كان يرى أن يولّي العهد ابنه
بدلاً عن أخيه الذي سبق أن عهد إليه أبوه بالولاية كما
تجلّى ذلك بوضوح في عهد الأمين والمأمون (مروج الذهب : 4 / 350 ـ 353 .) .
وقد كان الأمين شديد البطش لكنّه كان
عاجز الرأي ضعيف التدبير وتجلّى ضعف تدبيره في الاضطرابات التي نشأت نتيجة صراعه مع المأمون على السلطة ، والتي استمرت من سنة (93 ـ 98هـ)
حيث تمكّن أعوان المأمون من قتل محمد الأمين والاستيلاء على بغداد ، ومن ثمّ تفرّد
المأمون في إدارة الحكم وعزل قوّاد وولاة أخيه الأمين ، وأبدلهم بأنصاره وأعوانه
الذين مكّنوه من الانتصار على الأمين .
وفي عهد المأمون قد
حدثت عدّة ثورات وحركات مسلّحة تمكّن منها جيش الدولة ،
وأعاد الأمصار التي حصلت فيها تلك الثورات وانفصلت عن الدولة إلى الخضوع إلى سلطان
الخليفة ، وكان بعد استقرار الوضع واستتباب السيطرة للمأمون أن قام بغزو بلاد
الروم عام (217 هـ) (تاريخ الطبري ، تاريخ الأُمم والملوك ، أحداث السنين (199 ـ 217 هـ) .) .
ويصوّر أحد شعراء العصر العباسي الأوّل ـ من أهل بغداد وهو يُعرف بعلي ابن أبي طالب الأعمى ـ
الحالة السياسية والاجتماعية في هذه الفترة من زمن الدولة العباسية فيما أنشده
بقوله :
أضاع الخلافة غِشُّ الوزير |
|
وفِسقُ الإمام ورأي المشير |
وما ذاك إلاّ طريق الغرور |
|
وشرّ المسالك طُرقُ الغرور |
فعال الخليفة أعجوبة |
|
وأعجب منه فعال الوزير |
وأعجب من ذا وذا أنّنا |
|
نبايع للطفل فينا الصغير |
ومَن ليس يُحسن مسح انفه |
|
ولم يخل من متنه حجرُ ظير |
وما ذاك ، إلاّ بباغٍ وغاو |
|
يريدان نقض الكتاب المنير |
وهذان لولا انقلاب الزمان |
|
أفي العير هذان أم في النفير |
ولكنّها فتن كالجبا |
|
ل نرتع فيها بصنع الحقير (1) |
مروج الذهب
: 3 / 397 .
ولمّا قُتل الأمين حُمل رأسه إلى خراسان
إلى المأمون فأمر بنصب الرأس في صحن الدار على خشبة ، وأعطى الجند ، وأمر كل مَن
قبض رزقه أن يلعنه ، فكان الرجل يقبض ويلعن الرأس ، فقبض بعض العجم عطاءه فقيل له
: العن هذا الرأس فقال : لعن الله هذا ولعن والديه وما ولدا وأدخلهم في كذا وكذا
من أُمّهاتهم ، فقيل له : لعنت أمير المؤمنين ! بحيث يسمع المأمون منه فتبسّم
وتغافل ، وأمر بحطّ الرأس وردّه إلى العراق (مروج الذهب : 3 / 414 .) .
وجابه حكم المأمون تحدّيات عديدة وخطيرة
كادت أن تسقط دولته وأهم الأحداث التي كانت أيام
حكومته هي :
1 ـ ثورة ابن طباطبا (هو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب .) سنة
(199 هـ) بقيادة أبي السرايا .
وهي من أعظم الثورات
الشعبية التي حدثت في عصر الإمام الجواد عليهالسلام وقد رفعت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم . وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة
العباسية ؛ إذ استجاب لها الكثير من أبناء الشعب المسلم . واستطاع أبو السرايا بعقله الملهم أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى
بن جعفر عليهالسلام ويجعلهم قادة في جيشه ممّا أدّى إلى
اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى الانضمام لثورته .
ووجّه إليه المأمون ، زهير بن
المسيب على عشرة آلاف مقاتل ، ولكنّ زهيراً انهزم جيشه واستبيح
عسكره ، وقد قوي شأنهم بعد ذلك وهزموا جيشاً آخر أرسله المأمون إليهم ، واستولوا على ( واسط ) .
ثم التقى بهم جيش آخر بقيادة
هرثمة بن أعين ، فهرب أبو السرايا إلى القادسية ، ودخل
هرثمة إلى الكوفة ، ثم قتل أبو السرايا ،
وكان ذلك في سنة (200 هـ) (تاريخ الذهبي ، دول الإسلام : 112 ـ 113 .) .
2 ـ ولاية العهد للإمام
علي بن موسى الرضا عليهالسلام .
وفي سنة إحدى ومائتين فرض
المأمون على الإمام علي بن موسى الرضا قبول ولاية العهد ،
وأمر عمّال الدولة برمي السواد ولبس الخضرة ؛ فشقّ ذلك على العباسيين وقامت
قيامتهم بإدخاله الرضا عليهالسلام في
الخلافة فخالفوا المأمون وبايعوا عمّه المنصور بن المهدي فضعف عن الأمر ، وقال بل
أنا خليفة المأمون فأهملوه وأقاموا أخاه إبراهيم بن المهدي فبايعوه وجرت لذلك حروب
عديدة (تاريخ الذهبي ، دول الإسلام : 112 ـ 113 .) .
وبعد أن عجز المأمون عن
تحقيق أغراضه من فرض ولاية العهد ـ كما يريد ـ على
الإمام الرضا عليهالسلام قام بدس السمّ إليه واغتياله وذلك في سنة
ثلاث ومائتين (1) .
3 ـ أحداث سنة ست ومائتين
:
وفي هذه السنة استفحل أمر بابك الخرّمي بجبال آذربيجان وأكثر الغارة والقتل وهزم
عسكر المأمون وفعل القبائح (2)
.
4 ـ
أحداث سنة تسع ومائتين :
وفي هذه السنة ظهر نصر بن أشعث العقيلي ، وكانت بينه وبين عبد الله بن طاهر
الخزاعي قائد جيش المأمون حروب كثيرة وطويلة الأمد (3)
.
5 ـ غزو بلاد الروم : وفي
سنة خمس عشرة ومائتين غزا المأمون بلاد الروم وأقام هناك ثلاثة أشهر وافتتح عدّة
حصون وبثّ سراياه تغير وتسبي وتحرق ثم قدم دمشق ودخل إلى مصر (4) .
وامتدّت هذه الحروب أكثر من
سنتين
، وقد أسرت الروم قائد جيش المأمون وحاصرت جيش المسلمين عام (217 هـ) .
(1) إثبات
الوصية : 181 ـ 183 .
(2) تاريخ
الذهبي ، دول الإسلام : 114 .
(3) تاريخ
الذهبي ، دول الإسلام : 115 ـ 117 .
(4) تاريخ الذهبي دول الإسلام
: 115 ـ 117 .
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي
لقد انتهج المأمون سياسة
خاصة تجاه الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام تباين سياسة أسلافه من ملوك بني العباس .
ويُعد هذا التحوّل في العلاقة بين السلطة
والأئمة دليلاً على اتّساع المساحة التي كان
يشغلها تأثير الأئمة وسط الأمة والمجتمع الإسلامي مع انشداد الغالبية المؤثّرة
بالأئمة عليهمالسلام والقول بمرجعيّتهم الفكرية والروحية ، وكانت
ولاية العهد للإمام الرضا عليهالسلام أحد
أوجه هذا التحوّل في السياسة والذي يعبّر عن ذكاء ودهاء المأمون في محاولته تلك
للحد من تأثير الإمام عليهالسلام
ووضعه قريباً منه لتحديد تحرّكه وتحجيم دوره ، إضافة لرصد تحرّكه وتحرّك القواعد
الشعبية المؤمنة بقيادة أهل البيت عليهمالسلام
ودورهم الريادي في الأمة ، فبعد استشهاد الإمام الرضا
عليهالسلام عمد المأمون إلى إشخاص الإمام الجواد من المدينة إلى بغداد
وتزويجه بابنته أُمّ الفضل مع احتجاج الأسرة العباسية على هذا التقريب والتزويج ،
فالمأمون كان بعيد النظر في تعامله هذا ، وكان يرمي من ورائه إلى أهداف تخدمه
وتضفي نوعاً من الشرعية على سلطته ، وقد خدع الأكثرية من أبناء الأمة بإظهاره
الحبّ والتقدير للإمام الجواد عليهالسلام من
أجل إزالة نقمتهم التي خلّفتها عهود الخلفاء قبله لاستبدادهم وبطشهم فضلاً عن
إسرافهم في اللهو والترف وخروجهم عن مبادئ الإسلام الحنيف في كثير من مظاهر حياتهم
الخاصة والعامة ، وممّا يؤكّد لنا وجهة النظر هذه في سياسة المأمون أنّه في عام
(204 هـ) وفي شهر ربيع الأول قدم بغداد ولباسه ولباس قوّاده وجنده والناس كلّهم
الخضرة فأقام جمعة ـ أي سبعة أيام ـ ثم
نزعها وأعاد لباس السواد (تاريخ اليعقوبي : 2 / 193 .) .
والذي كان قد أمر بنزعه بعد تولّيه الحكم
والعهد بالولاية من بعده للإمام الرضا عليهالسلام سنة
(201هـ) . (تاريخ أبي الفداء : 1 / 328 .)
والتي انتهت باستشهاد الإمام الرضا عليهالسلام
بعد دسّ السمّ له سنة (203 هـ) .
زواج الإمام
الجواد عليهالسلام
واستمراراً لتوطيد علاقة
المأمون بأهل البيت عليهمالسلام كان تزويجه لابنته ـ أُمّ الفضل ـ من الإمام الجواد عليهالسلام
،
ولمّا بلغ بني العباس ذلك اجتمعوا فاحتجّوا ؛ لتخوّفهم من أن يخرج السلطان عنهم
وأن ينتزع منهم ـ بحسب زعمهم ـ
لباس ألبسهم الله ذلك ، فقالوا للمأمون : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على
هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا
أمراً قد ملّكناه الله وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين
هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم
، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك ، فالله
الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى مَن
تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .
فقال لهم المأمون :
أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم
... وأمّا أبو جعفر محمد بن علي عليهالسلام فقد
اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه
بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما عرفته منه (الإرشاد : 2/282 وعنه في إعلام الورى : 2/101 بلا إسناد ، وفي كشف
الغمّة : 3/144 بالإسناد .) .
فخرجوا من عنده وأجمعوا رأيهم على مساءلة
يحيى بن أكثم وهو يومئذٍ قاضي الزمان ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها
ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك . واتفقوا مع المأمون على يوم تتمّ فيه المساءلة ،
حيث يحضر معهم يحيى بن أكثم .
ثم كان بعد ذلك أن جلس الإمام الجواد عليهالسلام يستمع إلى أسئلة يحيى بن أكثم
والذي بهت حين سأل الإمام حول محرم قتل صيداً فما كان من الإمام عليهالسلام إلاّ أن فرّع عليه سؤاله فلم يحر
جواباً وطلب من الإمام عليهالسلام أن
يوضح ذلك والمأمون جالس يستمع إلى كل ذلك ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعرفتم
الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر عليهالسلام وطلب منه أن يخطب ابنته فخطبها
واحتفل المأمون بذلك .
ثم إنّ المأمون بعد إجراء العقد وإتمام
الخطبة عاد فطلب من الإمام الجواد عليهالسلام أن
يكمل جواب ما طرحه مشكلاً به على ابن أكثم ، فأتمّ الإمام عليهالسلام الجواب ، فالتفت المأمون إلى مَن
حضره من أهل بيته فقال لهم ، هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ؟
ويعرف القول فيما تقدّم من السؤال ؟ قالوا : لا والله ، إنّ أمير المؤمنين أعلم
بما رأى .
فقال ـ المأمون ـ لهم : ويحكم إنّ أهل
البيت خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل ، وإنّ صغر السن فيهم لا يمنعهم من
الكمال ومن ثمّ ذكر لهم أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
افتتح الدعوة بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام وهو ابن عشر سنين وقبل منه
الإسلام (الإرشاد : 2/281 ـ 287 وعنه في إعلام الورى : 2/101 ـ 105 ، وفي كشف
الغمّة : 3 / 143 ـ 147 .) .
ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الاهتمام
المبالغ فيه من قِبل المأمون تجاه الإمام الجواد عليهالسلام كان قد سلك مثله مع أبيه الإمام
الرضا عليهالسلام حتى
تمّ له أن دسّ له السمّ وقتله ، فكان المأمون يتحرّك إزاء الإمام عليهالسلام بهدف إبعاد الإمام عليهالسلام عن
خاصّته وعامّة الناس ، حيث أشخصه من المدينة إلى بغداد ؛ ليكون قريباً منه وتحت
رقابته وعيونه ، فيعرف الداخل عليه والخارج منه ظنّاً من المأمون أنّه سوف يتمكّن
بذلك من تحجيم دور الإمام عليهالسلام وإبعاده عن التأثير فضلاً عن اكتساب الشرعية لحكمه من خلال وجود
الإمام عليهالسلام إلى جنبه ، ووفقاً لذلك كان موقف المأمون تجاه
العباسيين الذين كانوا لا يرون في الإمام عليهالسلام
إلاّ صبيّاً لم يتفقّه في الدين ولا يعرف الحلال والحرام .
وهكذا قضى الإمام الجواد عليهالسلام
خمس عشرة سنة خلال حكم المأمون حيث مات المأمون سنة (218 هـ) .
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم
والمعتصم هو محمد بن هارون الرشيد ثامن
خلفاء بني العباس بُويع له بالخلافة سنة (218 هـ) بعد وفاة المأمون ، وقد خرج
المعتصم سنة (217 هـ) لبناء سامراء (تاريخ أبي الفداء : 1 / 343 .) .
ثم نقل عاصمة الدولة إليها ، ولم تكن
المدّة التي قضاها الإمام الجواد عليهالسلام في
خلافة المعتصم طويلة فإنّها لم تتجاوز السنتين حيث استشهد الإمام عليهالسلام بعد أن استقدمه المعتصم إلى
بغداد سنة (220 هـ) .
وكان الإمام الجواد عليهالسلام قد خلّف ولده الإمام الهادي عليهالسلام وهو صغير بالمدينة لمّا انصرف
إلى العراق في العام الذي توفّي فيه المأمون بأرض الروم (إثبات الوصية : 192 .) وهو
عام (218 هـ) .
ونصّ الإمام الجواد عليهالسلام قبل استشهاده على إمامة ابنه علي
في أكثر من موقع .
نصوص الإمام
الجواد عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام
أ ـ النص الأوّل :
عن إسماعيل
بن مهران قال : لمّا أخرج أبو جعفر
في الدفعة الأولى من المدينة إلى بغداد فقلت له : إنّي أخاف عليك في هذا الوجه
فإلى مَن الأمر بعدك ؟ قال : فكرّ بوجهه إليَّ ضاحكاً وقال : ليس
حيث ظننت في هذه السنة ، فلمّا استدعاه
المعتصم صرت إليه فقلت : جُعلت فداك أنت خارج فإلى مَن الأمر بعدك ؟ فبكى حتى
اخضلّت لحيته ، ثم التفت إليَّ فقال : عند
هذه يخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي
) (الكافي : 1/323 ، بحار الأنوار : 50/118 باب النصوص على الخصوص عليه ،
الإرشاد ، للمفيد : 308 .)
.
ب ـ النص الثاني :
عن الخيراني ، عن أبيه ـ وكان يلزم أبا
جعفر للخدمة التي وكل بها ـ قال : كان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر
ليعرف خبر علّة أبي جعفر ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين أبي إذا حضر
قام أحمد بن عيسى وخلا به أبي فخرج ذات ليلة وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول
واستدار أحمد بن محمد ووقف حيث يسمع الكلام ، فقال الرسول لأبي : إنّ مولاك يقرأ
عليك السلام ويقول : (
إنّي ماضٍ والأمر صار إلى ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي )
، ثم مضى الرسول فرجع أحمد بن محمد بن عيسى إلى موضعه وقال لأبي : ما الذي قال لك
؟ قال : خيراً ، قال : فإنّني قد سمعت ما قال لك وأعاد إليه ما سمع فقال له أبي :
قد حرم الله عليك ذلك لأنّ الله تعالى يقول : (ولا تجسّسوا) فأمّا إذا سمعت فاحفظ هذه الشهادة
لعلّنا نحتاج إليها يوماً ، وإيّاك أن تظهرها لأحد إلى وقتها .
فلمّا أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر
رقاع بلفظها وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة وقال لهم : إن حدث بي حدث
الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها .
قال : فلمّا مضى أبو جعفر عليهالسلام لبث أبي في منزله فلم يخرج حتى
اجتمع رؤساء الإمامية عند محمد بن الفرج الرخجي يتفاوضون في القائم بعد أبي جعفر
ويخوضون في ذلك ، فكتب محمد بن أبي الفرج إلى أبي يعلمه باجتماع القوم عنده وأنّه
لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه وسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه فوجد القوم
مجتمعين عنده فقالوا لأبي : ما تقول في هذا الأمر ؟ فقال أبي لمَن عنده الرقاع
أحضروها .
فأحضروها وفضّها وقال : هذا ما أُمرت به
.
فقال بعض القوم : قد كنّا نحب أن يكون
معك في هذا الأمر شاهد آخر فقال لهم أبي : قد أتاكم الله ما تحبون ، هذا أبو جعفر
الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة ، وسأله أن يشهد فتوقّف أبو جعفر فدعاه أبي إلى
المباهلة وخوّفه بالله فلمّا حقّق عليه القول قال : قد سمعت ذلك ولكنّني توقّفت
لأنّي أحببت أن تكون هذه المكرمة لرجل من العرب فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة
أبي الحسن وزال عنهم الريب في ذلك ) (الكافي : 1/324 ، بحار الأنوار : 50/120 باب النصوص على الخصوص عليه ،
الإرشاد ، للمفيد : 308 .)
.
ج ـ النص الثالث :
عن محمد بن الحسين الواسطي أنّه سمع أحمد
بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنّه أشهده على هذه الوصية المنسوخة ( شهد أحمد
ابن أبي خالد مولى أبي جعفر أنّ أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام
أشهده أنّه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وإخوته وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه ، وجعل عبد
الله بن المساور قائماً على تركته من الضِياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك
إلى أن يبلغ علي بن محمد .
صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه
، يقوم بأمر نفسه وإخوانه ويصير أمر موسى إليه ، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما
في صدقاته التي تصدّق بها ، وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجّة سنة
عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله
بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام
، وهو الجوائي على مثل شهادة أحمد بن خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده
وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده . (1)
د ـ النص الرابع :
حدثنا محمد بن علي ، قال حدثنا عبد
الواحد بن محمد بن عبدوس العطار ، قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري ،
قال حدثنا حمدان بن سليمان ، قال حدثنا الصقر بن أبي دلف ، قال : سمعت أبا جعفر
محمد بن علي بن موسى الرضا عليهالسلام
يقول : الإمام بعدي ابني علي
، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي (2) . والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر
أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه .
ثم سكت فقلت له : يا بن رسول الله فمَن
الإمام بعد الحسن ؟ فبكى عليهالسلام
بكاءً شديداً ثم قال : إنّ
بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر ، فقلت له : يا ابن رسول الله
ولم سُمّي القائم ؟ قال : لأنّه
يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته .
فقلت له : ولم سُمّي المنتظر ؟ قال : لأنّ له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها ،
فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ به الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون
ويهلك فيها المستعجلون وينجو فيها المسلّمون ) (3) .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 1 / 383 .
(2) في طبعة : ثم سكت فقلت يا
ابن رسول الله فمَن الإمام بعد علي قال ابنه الحسن . قلت : بعد الحسن فبكى عليهالسلام بكاءً شديداً ثم قال : إنّ محمداً من بعد الحسن ابنه .
(3) إكمال الدين : 2/278
وإعلام الورى : 436 .
هـ ـ النص الخامس :
حدثنا علي بن محمد السندي ، قال محمد بن
الحسن ، قال حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن هلال ، عن [ أُمية بن
علي ] القيسي ، قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليهالسلام مَن الخلف من
بعدك ؟ قال : ابني علي .
ثم قال : إنّه
سيكون حيرة .
قال : قلت والى أين ؟ فسكت ثم قال : إلى المدينة .
قلت : والى أي مدينة ؟ قال : مدينتنا هذه ، وهل مدينة غيرها
(1)
؟
و ـ
النص السادس : قال أحمد بن هلال : فأخبرني محمد بن
إسماعيل بن بزيع أنّه حضر أُمية بن علي وهو يسأل أبا جعفر الثاني عليهالسلام عن ذلك ، فأجابه بمثل ذلك الجواب
.
وبهذا الإسناد عن أُمية بن علي القيسي ،
عن أبي الهيثم التميمي ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام
: إذا توالت ثلاثة أسماء كان رابعهم
قائمهم محمد وعلي والحسن
(2)
.
ز ـ النص السابع :
روى الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ،
عن أبيه أنّ أبا جعفر عليهالسلام
لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها أجلس أبا الحسن في حجره بعد
النصّ عليه وقال له : ما
الذي تحبّ أن أُهدي إليك من طرائف العراق ؟ فقال عليهالسلام : سيفاً
كأنّه شعلة نار ، ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له : ما تحبُّ أنت ؟ فقال : فرساً ، فقال عليهالسلام : أشبهني
أبو الحسن ، وأشبه هذا أُمّه (3) .
ــــــــــــــ
(1) غيبة النعماني : 18
باختلاف ما في اللفظ وزيادة .
(2) إكمال الدين : 2/334 وكذا
فيه : إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن كان رابعهم قائمهم .
(3) بحار الأنوار : 50/123 باب
النصوص على الخصوص عليه عليهالسلام .
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام
إنّ تقريب الإمام الرضا عليهالسلام
والعهد إليه بولاية الأمر من قِبل المأمون العباسي ، وكذا ما كان من المأمون تجاه
الإمام الجواد عليهالسلام يعبّر عن دهاء سياسي في التعامل مع أقوى معارضي الدولة ، حيث
يمتلك الإمامان القواعد الشعبية الواسعة ممّا كان يشكّل خطراً على كيان الدولة ،
فكان تصرّف المأمون معهما من أجل تطويق الخطر المحدق بالكيان السياسي للدولة
العباسية ؛ وذلك من خلال عزل الإمام عليهالسلام عن
قواعده للحدّ من تأثيره في الأمة ، فتقريبه للإمام عليهالسلام يعني إقامة جبرية ، ومراقبة
دقيقة تحصي عليه حتى أنفاسه وتتعرّف على مواليه ومقرّبيه ، لمتابعتهم والتضييق
عليهم .
قال محمد بن علي الهاشمي :
دخلت على أبي جعفر عليهالسلام
صبيحة عرسه ببنت المأمون ـ أي أُمّ الفضل ـ وكنت
تناولت من أوّل الليل دواء فأوَّل مَن دخل في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت
أن أدعو بالماء ، فنظر أبو جعفر عليهالسلام
في وجهي وقال : أراك عطشاناً قلت : أجل قال : يا غلام اسقنا ماء فقلت في نفسي :
الساعة يأتونه بماء مسموم ، واغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسّم في
وجهي ثمَّ قال : يا غلام ناولني الماء فتناول وشرب ، ثمَّ ناولني الماء وشربت (1)
.
فقال محمد بن علي الهاشمي لمحمد بن حمزة
: والله إنّي أظن أنّ أبا جعفر عليهالسلام
يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة (2) .
فالهاشمي هذا ليس من شيعة الإمام عليهالسلام ، غير أنّه كان يدرك ما يدور في
خلد العباسيين ويعرف وسائلهم في التخلّص من معارضيهم ، وربّما يستفاد من قوله هذا
تأكيد أنّ الإمام الرضا عليهالسلام قد
مضى مسموماً من قِبل المأمون .
وروى المسعودي : أنّ
المعتصم وجعفر بن المأمون دبّرا حيلة للتخلّص من الإمام الجواد عليهالسلام ، فاتفق جعفر مع أُخته أُمّ
الفضل ـ زوج الإمام الجواد عليهالسلام ـ
أن تقدّم له عنباً مسموماً ، وقد فعلت ذلك وأكل منه الإمام عليهالسلام ، فندمت وجعلت تبكي فقال لها
الإمام عليهالسلام : ما بكاؤك ! والله ليضربنك الله بفقر لا
ينجلي وبلاء لا ينستر .
فبليت بعلّة فأنفقت مالها وجميع ملكها
على تلك العلّة حتى احتاجت إلى رفد الناس ـ أي معونتهم ـ وقد تردّى أخوها جعفر في
بئر فأُخرج ميتاً وكان سكراناً .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 1 / 495 و496 .
(2) أُصول الكافي : 1/495 ح 6
ب 132 وعنه في الإرشاد : 2/291 .
ويروى أنّ ابن أبي داود
القاضي كان السبب لقتل الإمام عليهالسلام وكان سبب وشايته : أنّ سارقاً جاء
إلى الخليفة ، وأقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة أن يطهّره بإقامة الحد عليه ،
فجمع المعتصم الفقهاء وسألهم عن مكان قطع اليد لإقامة الحد على السارق هذا
فاختلفوا في مكان القطع فالبعض قال من المرفق ، وآخر قال من الكرسوع ، واستشهدوا
بآيات من القرآن الكريم تأوّلاً بغير علم ، فالتفت المعتصم إلى الإمام عليهالسلام وقال : ما تقول يا أبا جعفر ؟
قال : قد تكلّم القوم فيه
يا أمير المؤمنين .
قال : دعني ممّا تكلّموا به ، أي شيء
عندك ؟ قال : أعفني عن هذا يا أمير
المؤمنين قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه ، فقال :
إذا أقسمت عليّ بالله ، إنّي أقول :
إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل الأصابع فيترك الكف .
قال : لِمَ ؟ قال : لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من
الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تعالى :
(
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد
عليها (
فلا تدعوا مع الله أحداً ) وما كان لله لم يقطع ،
قال : فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف .
قال زرقان : إنّ
ابن أبي داود قال لي : صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين
عليّ واجبة ، وأنا أُكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار قال : ما هو ؟ قلت : إذا
جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أُمور الدين
فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك .
وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه
، وكتّابه وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل
يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم
الفقهاء .
قال ابن أبي داود : فتغيّر لونه ـ أي
المعتصم ـ وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً (تفسير العياشي : 1 / 319 ، مدينة المعاجز : 7/403 ، بحار الأنوار :
76/191 .) .
من هنا نُدرك أنّه كيف اندفع المعتصم
للتآمر على الإمام الجواد عليهالسلام مع
جعفر ابن المأمون وأخته أم الفضل فلا تعارض بين هاتين الروايتين والحال هذه .
ــــــــــــــ
الباب الثالث : وفيه فصول :
الفصل الأول : المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول (ص) حتى عصر الإمام الهادي (ع) .
الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام .
الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الأوّل : المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام الهادي (ع) .
تعتبر الرسالة الإسلامية الكون مملكة لله
سبحانه ، والإنسان خليفة له وأميناً من قِبله ، ينبغي له أن يقوم بأعباء المسؤولية
التي حمّله الله إيّاها .
ومادامت الحياة الدنيا تعتبر شوطاً
قصيراً في مسيرة الإنسان الطويلة فالأهداف التي ينبغي للمشرِّع الحكيم وللإنسان المشرَّع
إليه أن يستهدفها لا تتلخّص في تحقيق مآرب هذه الحياة الدنيا الفانية ، وإنّما
تمتد بامتداد حياته الباقية في عالم الآخرة .
والإسلام يريد للإنسان أن يتربّى على هذه
الثقافة التي تصنع منه كائناً متكاملاً سويّاً دؤوباً في تحقيق الأهداف الرسالية
الكبرى .
وقد كان التخطيط الربّاني لتربية الإنسان
في هذا الاتجاه حكيماً ومتقناً حين تزعّم الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم المجتمع
الإنساني وهيمن على كل العلاقات الاجتماعية وغيرها ليصوغ من هذا الإنسان نموذجاً
فريداً .
ولم يكن الطريق أمام عملية التغيير
الجذري التي بدأها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المجتمع
الإنساني طريقاً قصيراً يمكن تحقّقه خلال عقد أو عقدين من الزمن ، بل كان طريقاً
ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام .
ولم يكن كل ما حقّقه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه البرهة
المحدودة كافياً لاجتثاث كل الجذور الجاهلية من عامة أبناء الجيل الأوّل ، وإيصاله
إلى الدرجة اللازمة من الوعي والموضوعية ، والتحرّز من كل رواسب الماضي الجاهلي
بحيث يؤهّله للقيمومة على خط الرسالة .
وتكفي الأحداث المرّة التي أعقبت وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وما جرى بين صحابة الرسول من سجالات سجّلها المؤرّخون في المصادر التي بأيدينا
لتشهد على أنّ جيل الصحابة لم يرتقِ إلى درجة الكفاءة اللازمة ليخلف الرسول على
رسالته .
من هنا كان منطق العمل
التغييري يفرض على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصون تجربته الرائدة ، التي كان يريد لها الخلود والبقاء ، وهو
الذي أعلن بأنّه خاتم المرسلين وأنّه لا نبي بعده .
كان يفرض عليه أن يصون تجربته من كل ما
يؤدّي إلى ضعفها أو انهيارها ؛ وذلك بإعطاء القيمومة والوصاية على تجربته لقيادة
كفوءة معصومة قد أعدّها بنفسه كما يريد وكما ينبغي ; لتقوم بالمهمة التغييرية
الشاملة خلال فترة طبيعية من الزمن بحيث تحقق للرسالة أهدافها التي كانت تنشدها من
إرسال الرسل وتقديم منهج ربّاني كامل للحياة .
عقبات وأخطار
أمام عملية التغيير الشاملة
لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّد
فكرياً من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب في التطبيق ، وإنّما هو رسالة الله
التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة ، فلا
بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها
ومفاهيمها ، وإلاّ كانت مضطرّة إلى استلهام مسبقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية
؛ وذلك يؤدّي إلى نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أنّ الإسلام كان هو
الرسالة الخاتمة لرسالات السماء التي تمتد مع الزمن وتتعدّى كل الحدود الإقليمية
والقومية ، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم
فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكّل ثغرة تهدّد التجربة بالسقوط والانهيار (بحث حول الولاية : 57 ـ 58 .) .
وقد برهنت الأحداث التي جرت على آل
الرسول عليهمالسلام بعد
وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم
استئثاراً بالخلافة دونهم على هذه الحقيقة المرّة وتجلّت آثارها السلبيّة بوضوح
بعد نصف قرن أو أقلّ من ممارسة الحكم من قِبل جيل المهاجرين الذين لم يُرشّحوا من
قبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
للإمامة ولم يكونوا مؤهّلين للقيمومة على الرسالة .
فلم يمض ربع قرن حتى بدأت
الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامى
; إذ
استطاعوا أن يتسلّلوا إلى مراكز النفوذ في قيادة التجربة بالتدريج حتّى صادروا بكل
وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن
شخصيّته وقيادته وتحوّلت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء
ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدّرات الناس ، وأصبح
الفيء والسواد بستاناً لقريش ، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أُمية (بحث حول الولاية : 60 ـ 61 .) .
مضاعفات
الانحراف بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقد واجه الإسلام بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انحرافاً
خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها هذا النبي العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم لأُمّته .
وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية
والسياسية للأمّة والدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الأشياء من المفروض أن يتسع
ليتعمّق بالتدريج على مرّ الزمن ; إذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة ،
وكلّما تحقّقت مرحلة من الانحراف ; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب .
فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلى
خطٍّ منحنٍ طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدى يصل به إلى الهاوية حين تستمر
التجربة الإسلامية في طريق منحرف لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ، وتصبح عاجزة
عن تحقيق الحدّ الأدنى من متطلبات الأمة ومصالحها الإسلاميّة . وحينما يتسلسل
الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرّض التجربة لانهيار كامل ولو بعد زمن
طويل .
إذن فالدولة الإسلامية
والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية كان من المفروض أن تتعرّض كلّها للانهيار
الكامل ; لأنّ هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة
وظائفها الحقيقية ، تصبح عاجزة عن حماية نفسها ; لأنّ التجربة
تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ ، كما أنّ الأمة ليست
على مستوى حمايتها ; لأنّ الأمة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا
تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو إليها فلا ترتبط بأيّ ارتباط حياتي
حقيقي معها ، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن كنتيجة نهائية حتمية
لبذرة الانحراف التي غرست فيها .
انهيار الدولة
الإسلامية ومضاعفاته
ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط
الحضارة الإسلامية وتتخلّى عن قيادة المجتمع ويتفكّك المجتمع الإسلامي ، ويُقصى
الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأمة ، لكن الأمة تبقى طبعاً ، حين تفشل
تجربة المجتمع والدولة ، لكنّها سوف تنهار أمام أوّل غزو يغزوها ، كما انهارت أمام
الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية .
وهذا الانهيار يعني : أنّ
الدولة والتجربة قد سقطت وأنّ الأمة بقيت ، لكن هذه الأمة أيضاً بحسب تسلسل
الأحداث من المحتوم أن تنهار كأمة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه ; لأنّ هذه
الأمة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول
الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
زعامة التجربة وبعده عاشت الأمة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام
وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات
الكافية ، لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي
يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام .
ولم تجد هذه الأمة نفسها قادرة على تحصين
نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما أُهينت كرامتها وحُطِّمتْ
إرادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة ، وبعد
أن فَقَدتْ روحها الحقيقية ؛ لأنّ تلك الزعامات كانت تريد إخضاعها لزعامتها
القسريّة .
إنّ هذه الأمة من الطبيعي أن تنهار
بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الأمة وتذوب الرسالة والعقيدة
أيضاً وتصبح الأمة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي
دور الإسلام نهائياً (راجع : أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 127 ـ 129 .) .
لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة
الدولة والأمة والرسالة ، بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين أُوكِلت
إليهم من قِبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
مهمّة صيانة التجربة والدولة والأمة والرسالة جميعاً .
إنّ دور الأئمّة الاثني عشر
الذين نصّ عليهم وعلى إمامتهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
واستخلفهم لصيانة الإسلام من أيدي العابثين الذين كانوا يتربّصون به الدوائر ،
وحمّلهم مسؤولية تطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من
الانهيار والتردّي يتلخّص في أمرين مهمّين وخطّين
أساسيين :
1 ـ خط
تحصين الأمة ضدّ الانهيار بعد سقوط التجربة ، وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي
لكي تبقى واقفة على قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت .
2 ـ خط
محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة إلى
موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية الثلاثة ـ أعني الأمة والشريعة والمربّي
الكفوء ـ ولتتلاحم الأمة والمجتمع مع الدولة وقيادتها الرشيدة (أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 59 .) .
أمّا الخط الثاني
فكان على الأئمّة الراشدين أن يقوموا بإعداد طويل المدى له ، من أجل تهيئة الظروف
الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية
التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة
باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان كل ما يوصله إلى كماله اللائق .
ومن هنا كان رأي الأئمّة
المعصومين من أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في استلام زمام الحكم أنّ الانتصار
المسلّح الآنيّ غير كافٍ لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر ، بل يتوقّف ذلك على
إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته إيماناً مطلقاً بحيث يعيش أهدافه الكبيرة
ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس كل ما يحققه للأمة من مصالح وأهداف ربّانية .
وأمّا الخط الأوّل فهو الخط
الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة ، وكان يمارسه
الأئمّة الأطهار عليهمالسلام حتى
في حالة الشعور بعدم توفّر الظروف الموضوعية التي تهيّئ الإمام عليهالسلام لخوض معركة يتسلّم من خلالها
زمام الحكم من جديد .
إنّ هذا الدور
وهذا الخط هو خط تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في ضمير الأمة بغية إيجاد
تحصين كافٍ في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة
وسقوطها ، وذلك بإيجاد قواعد واعية في الأمة وإيجاد روح رسالية فيها وإيجاد عواطف
صادقة تجاه هذه الرسالة في صفوف الأمة(أهل البيت عليهمالسلام تنوّع ادوار ووحدة هدف : 131 ـ 132 و147 ـ 148 .)
.
واستلزم عمل الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام في هذين
الخطّين قيامهم بدور رسالي إيجابي وفعّال على مدى قرون ثلاثة تقريباً في مجال حفظ
الرسالة والأمة والدولة وحمايتها باستمرار .
وكلّما كان الانحراف يشتد ، كان الأئمة
الأبرار يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك ، وكلّما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة
الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمّة
المعصومون إلى تقديم الحلّ ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددّها .
فالأئمّة من أهل
البيت عليهمالسلام
كانوا يحافظون على المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي بشكل مستمر إلى درجة لا
تنتهي بالأمة إلى الخطر الماحق لها (أهل البيت عليهمالسلام تنوّع أدوار ووحدة هدف : 144 .)
.
المهامّ
الرساليّة للأئمّة الطاهرين
من هنا تنوّعت مهامّ الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام في مجالات شتّى
باعتبار تعدّد العلاقات وتعدّد الجوانب التي كانت تهمّهم كقيادة واعية رشيدة تريد
تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء .
لأنّ الأئمّة مسؤولون عن صيانة
تراث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثّلة في :
1 ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها
الرسول الأعظم من عند الله والمتمثّلة في الكتاب والسنّة الشريفين .
2 ـ الأمة التي كوّنها وربّاها الرسول
الكريم بيديه الكريمتين .
3 ـ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده
النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أو
الدولة التي أسّسها وشيّد أركانها .
4 ـ القيادة النموذجية التي حقّقها بنفسه
وربّى لتجسيدها الأكفّاء من أهل بيته الطاهرين .
لكنّ استئثار بعض الصحابة بالمركز
القيادي الذي رُشّح له الأئمّة المعصومون من قِبل الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونصّ عليهم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاستلامه ولتربية الأمة من خلاله ، لم يكن ليمنعهم ذلك من الاهتمام بالمجتمع
الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار ، بالقدر الممكن لهم بالفعل
وبمقدار ما كانت تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم .
كما أنّ سقوط الدولة الإسلامية لا يحول
دون الاهتمام بالأمة كأُمّة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة إلهيّة
وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام .
وعلى هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل
الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام
جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ، ومن حيث درجة ثقافة
الأمة ومدى وعيها وإيمانها ومعرفتها بالأئمّة عليهمالسلام
ومدى انقيادها للحكام المنحرفين ، ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي
والدولة الإسلامية ، ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ، ومن حيث نوع الأدوات
التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم .
موقف أهل البيت عليهمالسلام من انحراف الحكّام
كان للأئمّة المعصومين عليهمالسلام
نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن
المزيد من الانحراف ، بالتوجيه الكلامي تارة ، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم
حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً ـ كثورة الإمام الحسين عليهالسلام ضد يزيد بن معاوية ـ وإن
كلّفهم ذلك حياتهم وقد عملوا للحدّ من انحراف الحكّام عن طريق إيجاد المعارضة
المستمرّة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة
الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة .
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة
وكان للأئمّة الأطهار عليهمالسلام نشاط مستمر في
مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً ؛ وذلك من خلال تربية الأصحاب
العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل : نشر الوعي والفكر الإسلامي ، وتصحيح
الأخطاء المستجدّة في فهم الرسالة والشريعة ، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية
المنحرفة ، أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي
كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته .
وحيث كان الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام يُشكّلون
النموذج الحيّ للزعامة الصالحة ، عملوا على تثقيف الأمة ورفع درجة وعيها بالنسبة
لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيّتهم العامة .
وهكذا تفاعل الأئمة عليهمالسلام
مع الأمة ودخلوا إلى أعماق ضمير الأمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر
وتعاطفوا مع قطّاع واسع من المسلمين ; فإنّ الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق
التي كان يتمتّع بها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرّد الانتماء لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
; وذلك لوجود كثير ممّن كان ينتسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يكن يحظى بهذا الولاء ; لأنّ الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجّاناً ، ولا
يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام
الأمة ومشاكلها وهمومها .
وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية
سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين ، وتحولّت
الأمة إلى أُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتى استطاعت أن
تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد ، كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد
عصور الانهيار والتردّي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية إلى مرفأ الحق
التليد .
وقد حقّق الأئمّة المعصومون عليهمالسلام
كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم
وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار
وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى
مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل
نهار.
مراحل الحركة
الرسالية للائمّة الراشدين عليهمالسلام
وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيت عليهمالسلام والظروف التي
كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة ؛ استطعنا أن نصنّف
ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميّز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في
كثير من الظروف والمواقف ، ولكنّ الأدوار تتنوّع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة
التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر .
فالمرحلة الأُولى من حياة الأئمّة عليهمالسلام وهي ( مرحلة تفادي صدمة الانحراف ) بعد وفاة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة :
علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهمالسلام فقاموا
بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على
القيادة المنحرفة ، لكنّهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية
نفسها .
وبالطبع إنّهم لم يهملوا الأمة أو الدولة
الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الإسلامي والأمة
المسلمة ، فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم
.
وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر
الثاني من حياة الإمام السجّاد السياسية حتى الإمام الكاظم عليهالسلام
وتتميّز بأمرين أساسيين :
الأوّل منهما : يرتبط
بالخلافة المزيّفة ، فقد تصدّى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ
الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء ( وهم
وعّاظ السلاطين ) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ
الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا
زيف خط الخلافة ويشعروا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد
الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم .
والثاني منهما :
يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي أُرسيت دعائمه في المرحلة الأولى ، فقد تصدّى
الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط
الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام
عليه ، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدّة أجيال من
العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قِبال الخط
الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين .
هذا فضلاً عن تصدّيهم لدفع الشبهات وكشف
زيف الفرق التي استحدثت من قِبل خط الخلافة أو غيره .
والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن
زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة
ولاسيّما بعض الخطوط الثورية منها ، والتي كانت تتصدّى لمواجهة مَن تربَّع على
كرسيّ خلافة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
ثورة الإمام الحسين عليهالسلام .
وأمّا المرحلة الثالثة من حياة
الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام : فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظم عليهالسلام وتنتهي بالإمام المهدي عليهالسلام فإنّهم بعد وضع التحصينات
اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً
وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيت عليهمالسلام أصبحت بمستوى
تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، ممّا
خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّة عليهمالسلام ،
وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه
قضيّتهم .
وأمّا فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي
أوضحوا لها معالم خطّها فقد عمل الأئمّة عليهمالسلام على
دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار ، وإعطائها
درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى .
وكان يقدّر الأئمّة أنّهم بعد المواجهة
المستمرّة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم ، وسوف لن يتركهم الخلفاء
أحراراً بعد أن تبيّن زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين
الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية .
ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل
واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل
البيت عليهمالسلام في
كل قضاياهم وشؤونهم العامة ؛ تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه
والتي أخبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
تحقّقها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها .
وبهذا استطاع الأئمّة عليهمالسلام ـ ضمن تخطيط
بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية
والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح ؛ وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار
الرسالة الإلهية بشكل كامل .
موقع الإمام
الهادي عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة
والإمام علي بن محمد
الهادي عليهالسلام يُصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيت عليهمالسلام فهو
قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول إلى دور الغيبة المرتقب ،
وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار .
وسوف نقف على تفاصيل مواقف
الإمام الهادي عليهالسلام ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره ، بعد التعرّف على ملامح
عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالأمة الإسلامية جميعاً ، ضمن
الفصول القادمة إن شاء الله تعالى .
الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام
تحدّثنا عن المرحلة الأولى
من حياة الإمام الهادي عليهالسلام في ظِلال والده الإمام محمد الجواد عليهالسلام
وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها
في المدينة المنوّرة ، وكان في شطر منها بعيداً عن والده ؛
وذلك لأنّ المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (218
هـ) إلى بغداد .
والمرحلة الثانية من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ
سنة (220 هـ) إلى سنة (254هـ)
واستمرّت (34 سنة) . وعاصر
فيها كلاًّ من : المعتصم (218 ـ 227
هـ) ، والواثق (227 ـ232 هـ) ، والمتوكل (232 ـ 247 هـ) ، والمنتصر (247 ـ 248 هـ)
، والمستعين (248 ـ 252 هـ) ، والمعتز (252 ـ 255 هـ) .
هو محمد بن الرشيد ، وُلد
سنة (180 أو 178) ، واستولى على كرسي الخلافة سنة (218 هـ) أُمّه ماردة كانت أحظى
الناس عند الرشيد .
وقالوا عنه : إنّه كان ذا شجاعة وقوّة
وهمّة وكان عريّاً من العلم .
وكان إذا غضب لا يبالي من قتل ، وكان من
أشدّ الناس بطشاً ، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره .
وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان
وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً .
وهجاه دعبل الخزاعي
بالأبيات التالية :
ملوك بني العباس في الكتب
سبعة |
|
ولم يأتنا في ثامن منهم
الكُتْبُ |
كذلك أهل الكهف في الكهف
سبعة |
|
غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم
كلبُ |
وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً |
|
لأنّك ذو ذنب وليس له ذنبُ |
لقد ضاع أمر الناس حيث
يسوسهم |
|
وصيف واشناس وقد عظم الخطبُ |
وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان
الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقّة في ذلك ، وقتل عليه خلقاً من العلماء ،
وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين .
وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سُرّ مَن رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال
الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى
هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها ؛ ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد
.
وغزا المعتصم الروم سنة (223
هـ) وفتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (227 هـ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين
وثمانية أشهر .
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي
بعد اغتيال الإمام الجواد عليهالسلام
من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار
معلّماً لأبي الحسن الهادي عليهالسلام
البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً
بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهمالسلام
ليغذّيه ببغضهم .
ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي
وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ،
فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن
يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .
بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به
من مهمّة تعليم الإمام عليهالسلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر
بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ )
فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :
( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا
الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .
قال : لا .
فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف
في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس
أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .
وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى
بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟
فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : (
دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ،
وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد
أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع
أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله
إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .
وأضاف الجنيدي قائلاً : (
هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟
يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت عليهمالسلام ودان بالولاء
لهم واعتقد بالإمامة ) (مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : 3 / 91 ـ 95 .) .
لقد كان لأدب الإمام الهادي عليهالسلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي
) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيت عليهمالسلام .
ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح
لغيره أنّه تعلّم من الإمام عليهالسلام ولم يأخذ الإمام عليهالسلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائه عليهمالسلام ، فإنّ الإمام
الرضا عليهالسلام
لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجواد عليهالسلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر
الإمام الهادي عليهالسلام ،
واحتجّ الرضا عليهالسلام
بقوله تعالى : (وآتيناه
الحكم صبيّاً)
فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي
الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛
ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمة عليهمالسلام .
وتعكس لنا هذه الرواية
الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهادي عليهالسلام من
أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال
الشيعة به .
يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم
الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر
كما حدث لأبيه الجواد عليهالسلام حين
تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .
فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون
بزوغ اسم الإمام الهادي عليهالسلام
وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه
ومربّيه .
غير أنّ الإمام عليهالسلام بخُلقه وهدوئه استطاع
أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله
له .
هو هارون بن المعتصم ،
أُمّه رومية ، وُلد في شعبان (196 هـ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (227
هـ) .
وفي سنة (228 هـ) استخلف
على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً .
وكان كثير الأكل جداً حتى
قال ابن فهم : إنّه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه
عشرون رجلاً .
وكان الواثق كأسلافه
الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .
وقيل عنه إنّه كان وافر الأدب مليح الشعر
، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً
بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .
وكان يحب خادماً له أُهدي له من مصر
فأغضبه الواثق يوماً ثم إنّه سمعه يقول لبعض الخدم : والله إنّه ليروم أن أكلّمه ـ أي الواثق ـ من أمس فما أفعل ، فقال الواثق في ذلك
شعراً :
يا ذا الذي بعد أبي ظل
مختفراً |
|
ما أنت إلاّ مليك جاد إذ
قدرا |
لولا الهوى لتحاربنا على قدر |
|
وان أقف منه يوماً فسوف ترى (1) |
تاريخ
الخلفاء : 343 ـ 345 .
وفي سنة (229 هـ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة ، فأخذ
من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ أربعمائة
ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه
مائة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف
دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار (الكامل في التاريخ : 5/269 .) .
فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع
تلك الضرائب ؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي ، فكم هي ثروة الوزير نفسه ؟ ولعلّ من نافلة القول إنّ هذه الأموال إنّما اجتمعت
عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الأمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة
التقشّف التي أنتجها الظلم إلى جانب التفاضل الطبقي
الفاحش .
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير
وفي سنة (230 هـ) أغار الأعراب من بني
سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم
حتى ازداد شرّهم واستفحل ؛ فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر
آخرين وانهزم الباقون
(الكامل في التاريخ : 5/270 .) .
وللإمام حين ورود بغا بجيشه إلى المدينة
موقف تجدر الإشارة إليه ، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول : كنت بالمدينة حين مّر بها
بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب .
فقال أبو الحسن عليهالسلام :
اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي .
فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا
تركي فكلّمه أبو الحسن عليهالسلام
بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال ( أبو هاشم ) فحلّفت التركي وقلت له
: ما قال لك الرجل ؟ فقال : هذا نبيّ ؟ قلت : ليس هذا بنبيّ .
قال : دعاني باسم سُمّيت به في صغري في
بلاد الترك ما علمه أحد الساعة
(أعلام الورى : 343 .) .
وهذه الوثيقة التاريخية تتضمّن بيان
مجموعة من فضائل الإمام الهادي عليهالسلام
وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا
الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم .
وبالإضافة إلى كرامات الإمام عليهالسلام المتعدّدة لا تستبعد أن يكون
الإمام عليهالسلام قد
استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بإمكانه أن يكون حامل صورة ايجابية
ورسالة خاصة عن الإمام عليهالسلام
يمكنه إيصالها في الموقع المناسب إلى قائده بغا .
وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام
الهادي عليهالسلام في
المستقبل الذي ينتظره ، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل
المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يُلق هذا الطالبي إلى السباع (مروج الذهب : 4/76 .) .
ومن هنا قال المسعودي عنه : كان بغا كثير
التعطّف والبر على الطالبيين .
وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن
، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة مَن
قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً .
وفي سنة إحدى وثلاثين[ بعد
المائتين ] ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة
والمؤذّنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره .
وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر
الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله
فأجازوا له ذلك ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي
فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي
وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل
رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جثته في سُرّ مَن رأى ، واستمرّ ذلك ست سنين إلى
أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولمّا صُلب كتب ورقة وعُلّقت في أذنه فيها : ( هذا
رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي
التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجّله الله إلى ناره ) ووكل بالرأس مَن يحفظه .
وفي هذه السنة استفك من الروم
ألفاً وستمائة أسير مسلم ، فقال ابن داود ـ قبّحه الله ـ ! مَن قال
من الأُسارى ( القرآن مخلوق )
خلّصوه وأعطوه دينارين ومَن امتنع دعوه في الأسر (يراجع تاريخ اليعقوبي : 2 / 482 ـ 483 ، وتاريخ
الخلفاء : 401 .) .
قال الخطيب : كان أحمد ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد في المحنة ودعا
الناس إلى القول بخلق القرآن .
ومن جملة مَن شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب
بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (231هـ) محبوساً في محنة الناس
بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنّه مخلوق وكان من الصالحين (تاريخ ابن الوردي : 1 / 335 .) .
وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد
الآذرمي ( شيخ أبي داود والنسائي ) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر ، فقال
له : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يَدعُ
الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ فقال ابن أبي داود : بل علمه .
فقال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه
وأنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ
رجليه وهو يقول : وسع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن
يسكت عنه ولا يسعنا ! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن
أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ .
وعن يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل
أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير (تاريخ الخلفاء : 342 .) .
موقف الإمام
الهادي عليهالسلام من مسألة خلق القرآن
لقد عمّت الأمة فتنة كبرى
زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة
يتوقّف عليها مصير الأمة الإسلامية ، وقد بيّن
الإمام الهادي عليهالسلام
الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة ، فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنّه قال : كتب علي بن محمد
بن علي بن موسى الرضا عليهالسلام إلى بعض شيعته ببغداد :
( بسم الله الرحمن الرحيم
، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة .
نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما
ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ،
والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين . جعلنا الله وإياك
من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (أمالي الشيخ الصدوق : 489 .) .
إخبار الإمام
الهادي عليهالسلام بموت الواثق
كان الإمام الهادي عليهالسلام
يتابع التطوّرات السياسية ويرصد الأحداث بدقّة .
فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي
الحسن عليهالسلام
المدينة فقال لي : ما خبر الواثق عندك
؟ قلت : جُعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ،
عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي : إنّ
أهل المدينة يقولون إنّه مات ، فلمّا أن قال لي : ( الناس ) ، علمت
أنّه هو ، ثم قال لي : ما
فعل جعفر ؟
قلت : تركته أسوء
الناس حالاً في السجن ، فقال : أما
إنّه صاحب الأمر .
ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جُعلت فداك
الناس معه والأمر أمره . فقال : أما
إنّه شؤم عليه . ثم سكت وقال لي : لا
بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه . يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل
جعفر وقد قتل ابن الزيات
. فقلت : متى جُعلت فداك ؟ قال : بعد
خروجك بستة أيّام
(أُصول الكافي : 1 / 498 ح 1 ب 122 .)
.
وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة
الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى
متابعة الإمام عليهالسلام
للأوضاع العامة والسياسية أوّلاً بأوّل .
واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة
السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمام عليهالسلام
الشعبية ومواليه ، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً ;
ولينمّي قابليّاتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً .
هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد
، أُمّه أُمّ ولد اسمها شجاع .
أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة
وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (234 هـ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم
وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .
وقالوا عنه :
إنّه كان منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة ( أمَة يتسرّى
بها ) .
وقال علي بن الجهم : كان
المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أُم ولد له ، ومن أجل شغفه بها
أراد تقديم ابنها المعتزّ على ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ،
وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته
ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(1) .
وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت
المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس
يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل ، وفيه
قال مردان ابن أبي الجنوب :
فامسِك ندى كفّيك عنّي ولا
تزد |
|
فقد خفتُ أن أطغى وأن
اتجبّرا |
فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ،
وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً (2) .
ولعلّ مَن وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع
عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان ،
فإنّي أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :
يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي |
|
وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟ |
لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ |
|
ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ
فقدي |
أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي |
|
ومن الرزء أن تؤخّر بعدي |
حذراً أن تكون إلفاً لغيري |
|
إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي |
وقد قتل المتوكل والفتح بن
خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل
في الخامس من شوّال سنة (247 هـ) كما
سوف يأتي بيانه .
ــــــــــــــ
(1) تاريخ
الخلفاء : 349 ـ 350 .
(2) تاريخ الخلفاء : 349 ـ 350
.
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي
وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم ، ففي سنة (236
هـ)
أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليهالسلام وهدم ما حوله من الدور .
ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .
قال السيوطي :
وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على
الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .
فمّما قيل في ذلك :
بالله إن كانت أُمية قد أتت |
|
قتل ابن بنت نبيّها مظلوما |
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله |
|
هذا لعمري قبره مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا
شاركوا |
|
في قتله فتتبّعوه رميما (1) |
تاريخ
الخلفاء ، السيوطي : 347 .
ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه
لأهل البيت عليهمالسلام
وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية
يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه
المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال
ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك
فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (244 هـ) (تاريخ الخلفاء : 348 .) .
وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة
أهل البيت عليهمالسلام
بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في
الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل
للإمام علي الهادي عليهالسلام من
مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .
ففي سنة (234 هـ) أي بعد
سنتين (إنّ تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهادي عليهالسلام على ما في جملة من المصادر هو سنة (244 هـ) وليس (234 هـ) ، ويشهد
لذلك ما صرّح به الشيخ المفيد قدسسره من أنّ مدّة إقامة الإمام الهادي بسُرّ مَن رأى
عشر سنين وأشهراً ، وحيث استشهد في سنة (254 هـ) فيظهر من ذلك أنّ استقدامه كان
سنة (244 هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل
يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمام عليهالسلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة ،
ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال :
دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي عليهالسلام ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً
إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي
لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ،
وكتب علم ، فعظم في عيني
(تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : 203 .) .
ونستفيد من هذه الرواية
أُموراً منها :
1 ـ قوّة تأثير الإمام الهادي عليهالسلام وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به
لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .
2 ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر
الإمام عليهالسلام ومن
سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن
ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .
3 ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن
هرثمة ـ بالإمام عليهالسلام
وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة بالخليفة
العباسي .
4 ـ عزوف الإمام عليهالسلام عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً
من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيت عليهمالسلام وتصحيح معتقدات
الأمة .
5 ـ عزل الإمام عليهالسلام
عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية
تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة
والسلطة .
الوشاية بالإمام عليهالسلام
يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي عليهالسلام
إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان
معروفاً بالنصب لأهل البيت عليهمالسلام وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛
وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي عليهالسلام بالمدينة ، وتأثيره الكبير على
الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .
ويشهد لذلك ما قالوا : من
أنّه كتب بريحة العباسي
(1) صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في
الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).
وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه
المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (234 هـ) وكتب معه إلى أبي الحسن عليهالسلام كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد
اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه
ذلك .
ــــــــــــــ
(1) وقيل اسمه ( تريخه ) ، وعن
الطريحي في مجمع البحرين : ( بريمة ) ، بينما ذكر آخرون أنّ اسمه عبد الله بن محمد
وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، اُنظر الإرشاد : 2/309 .
وإليك نصّ رسالة المتوكل
إلى الإمام الهادي عليهالسلام ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن
محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة
كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : (
بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ،
موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت
به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم . يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما
افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان
يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛
إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك (قرف : عابه أو اتّهمه .) به
، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك
محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك
محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى
الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك
والنظر إليك . فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل
بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت
، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين
لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين
. فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا
هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )
(الكافي : 1 / 501 .) .
إنّ المتوكل قد كان يهدف في
رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ،
محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه
لأهل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم.
وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهادي عليهالسلام أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه
؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة
كيف يشاء الإمام عليهالسلام .
وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام
عليهالسلام كان
يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .
وعلى أيّة حال فقد
قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن عليهالسلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل
فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال
مشدودة قد فرغ منها .
ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمام عليهالسلام ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك
في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .
ومن هنا نعلم أنّ
استقدام الإمام عليهالسلام كان
أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن
وجود سوء ظن بالإمام عليهالسلام بعد
تلك الوشايات ؟! وخرج عليهالسلام
بولده الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وهو
صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض
الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان
مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك
ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن
فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك
إلى غيره من خلقه .
قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه
واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك
(إثبات الوصية : 196 ـ 197 .) .
وأهم الإشارات ذات الدلالة في
هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية
الإمام عليهالسلام
وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد
الإمام فعمد الإمام عليهالسلام إلى
تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر
ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمام عليهالسلام
بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمام عليهالسلام ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند
الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمام عليهالسلام ويطلب العفو منه ، فهو يعرف
منزلة الإمام وآبائه عليهمالسلام
وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمام عليهالسلام بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام
يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة
إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة
الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمام عليهالسلام وتحرّكات قواعده ، فوجوده عليهالسلام في المدينة يعني بالنسبة للخليفة
تمتّع الإمام عليهالسلام
بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد
الموالية للإمام عليهالسلام .
وقد كان الإمام عليهالسلام في كل تحرّكاته وحتى في كتبه
ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ،
وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب
الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ
مصلّياً أو قارئاً للقرآن .
وقال ابن الجوزي : إنّ
السبب في إشخاص الإمام عليهالسلام من المدينة إلى
سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنين عليهالسلام وذريّته وخشي
تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه
(تذكرة الخواص : 322 .) .
وهذا التعليل ينسجم مع كل
تحفّظات الإمام عليهالسلام تجاه السلطان .
وحاول ابن هرثمة في الطريق
إحسان عِشرة الإمام عليهالسلام وكان يرى من الإمام عليهالسلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح
له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام عليهالسلام والتجسّس عليه .
عن يحيى بن هرثمة قال :
رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء
فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد
تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .
فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا
إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .
فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد
كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من
الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا
وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .
وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في
منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل
الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على
الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع
رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام
فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .
فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدته عليهالسلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً
ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .
قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في
ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .
فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة
يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من
ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف
وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن
يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازال عليهالسلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً
من أمرنا .
قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل
امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى
يرقى عين ابني هذا .
فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى
رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين
الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة
(إثبات الوصية : 225 .) .
ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء
ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام عليهالسلام خيراً واستوثق من حياته بقوله :
يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خصمك . فأجابه
يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل (مروج الذهب : 4/85 .) .
وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة
بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في
أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به
الإمام الهادي عليهالسلام ـ
شعرة لا يكون المطالب بها غيري .
قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت
المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره
فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن
جائزته وأجزل برّه (مروج الذهب : 4/85 ، وتذكرة الخواص : 359 .) .
غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن
هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام عليهالسلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ،
ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمام عليهالسلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان
الصعاليك (الإرشاد : 313 ـ 314 .) .
قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسن عليهالسلام فقلت له : جعلت فداك في كل
الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك (الكافي : 1/498 .) .
وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها
يحيى للمتوكل عن الإمام عليهالسلام
ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليهالسلام
، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن
كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل
يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليهالسلام
بشكل خاص .
الإمام عليهالسلام في سامراء
إنّ حجب المتوكل للإمام الهادي عليهالسلام لدى وروده والأمر بإنزاله في خان
الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهادي عليهالسلام يحمل بين طيّاته صورة واضحة من
نظرة المتوكل إلى الإمام عليهالسلام ،
فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلّما سنحت له الفرصة . ولكنّه كان يحاول
التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ؛ ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل
إليها .
مع العلم بأنّ المتوكل هو الذي كان قد
استدعى الإمام عليهالسلام
وكان يعلم بقدومه عليه ، ولابد أن يكون قد استعد لذلك .
وعلى أيّة حال
فالذي يبدو من سير الأحداث أنّ المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه
فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .
وحاول المتوكل غير مرّة
إفحام الإمام عليهالسلام بالرغم من أنّه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء
البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .
وإليك جملة من هذه الموارد
:
1 ـ إنّ
نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم . فقال
ابن الأكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله . وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود . وقال آخرون
غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهادي عليهالسلام وسؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب
، كتب : يضرب حتى يموت
. فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجّة من الكتاب والسنّة
فكتب عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم :
(فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ) .
فأمر المتوكل فضرب حتى مات (الكافي : 7/238 .) .
2 ـ
وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ،
أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمام عليهالسلام
قائلاً : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : مَن تعني ؟ ويحك
! فقال له : ابن الرضا .
فقال له : وهو يحسن من هذا شيئاً ؟ فقال
: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة . فبعث مَن يسأل له
ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأنّ الكثير ثمانون .
فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب
قائلاً : (ولقد
نصركم الله في مواطن كثيرة)
فعددناها فكانت ثمانين
(الكافي :
7/463 .) .
إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمام عليهالسلام أو هذا التعجّب من أنّه قادر على
الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمام عليهالسلام أمام الآخرين . ولكنّه لم يفلح
حتى أنّه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمام عليهالسلام ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل
هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور
علمه تقوية للرافضة(المناقب : 2/443 .) .
3 ـ ومن
جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمام عليهالسلام بالنزول إلى بركة السباع .
قال أبو هاشم الجعفري :
ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال المتوكّل
: أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما
مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مسح
عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه
الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .
فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد
العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما
تقولين في هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم
يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه
الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة
.
قالوا : فأحضر ابن الرضا عليهالسلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير
ما عندنا . فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفّيت في
سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا
أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها .
قال : ولا
عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال : لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع
فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها :
ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة ولد الحسن والحسين عليهماالسلام فأنزل من شئت
منهم ، قال : فو الله لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على
غيره لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في
أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ،
قال : أفعل .
فأُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من
الأسد ، فنزل أبو الحسن إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين
يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ،
ثم يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .
فقال له الوزير : ما هذا صواباً فبادر
بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً
وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأُحب أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي
حوله تتمسّح بثيابه .
فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت
إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال : كلّ
مَن زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها
المتوكّل : انزلي ، قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ
على ما قلت ، قال المتوكلّ : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته (بحار الأنوار : 50/149 .) .
إنّ هذه المواقف من الإمام عليهالسلام
لم تكن لتثني المتوكل عمّا كان يراوده من الضغط على الإمام عليهالسلام
ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه . وكان رصده للإمام عليهالسلام
لا يشفي غليله فكان يفتّش دار الإمام عليهالسلام
بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام عليهالسلام
أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام عليهالسلام
.
تفتيش دار
الإمام عليهالسلام
لم تحقّق وسائل السلطة ـ في التضييق على
الإمام ومراقبته ـ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكّد صحّة الوشايات بالإمام ،
فكثيراً ما سعى بعض المتزلّفين للخليفة بالإمام عليهالسلام وأوغروا صدره ضد الإمام عليهالسلام واخبروا الخليفة كذباً وزوراً
بأنّ لديه السلاح وتُجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي
كانت تدفع بالخليفة إلى إرسال جنده وبعض قوّاده إلى دار الإمام عليهالسلام وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمام عليهالسلام إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملاً
على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه
ناوله الكأس .
فقال له الإمام عليهالسلام : يا
أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .
ثم قال له المتوكل : أنشدني شعراً .
فأجابه الإمام عليهالسلام : إنّي
لقليل الرواية للشعر .
فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .
فانشده الإمام عليهالسلام
الأبيات التالية :
باتوا على قلل الأجبال
تحرسهم |
|
غلب الرجال فما أغنتهم
القُلَلُ |
واستنزلوا من بعد عِزٍّ من
معاقلهم |
|
فأودعوا حفراً يا بئس ما
نزلوا |
ناداهم صارخٌ من بعد ما
قُبروا |
|
أين الأسرّة والتيجان
والحللُ |
أين الوجوه التي كانت
منعّمةً |
|
من دونها تضرب الأستار
والكللُ |
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم |
|
تلك الوجوه عليها الدود
يقتتلُ |
قد طال ما أكلوا دهراً وما
شربوا |
|
فأصبحوا بعد طول الأكل قد
أُكلوا |
فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع
الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ،
فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّماً .
ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من
خُرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة ،
فنذرت أُمّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى
هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف
له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه . فلمّا
رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما
قال ، وأُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه
ما كان فيه وبُشّرت أُمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .
ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي
العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل
وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي
سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض
الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .
فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة
، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادة على
حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنّه كان يصلّي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها
وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل
وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس ،
فأخذت ذلك وصرت إليه .
فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث
إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنّها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك
لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا
خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .
فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل
ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي : (وسيعلم الذين
ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون) .
غير أنّ الإمام عليهالسلام
لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه ، بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في
جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف .
وممّا يعزّز ذلك ما رواه الشيخ الطوسي رضياللهعنه
بإسناده عن محمد بن الفحام : أنّ الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني
أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أيّ طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى
الإمام علي بن محمد عليهماالسلام
فصادفت عنده مَن احتشمه فتبسّم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِم لم
تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : أجللتك يا سيدي . فقال لي : المال يجيء الليلة وليس
يصلون إليه فبت عندي .
فلمّا كان من الليل وقام إلى ورده قطع
الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ
فاخرج وخذ ما معه .
فخرجت فإذا معه زنفِيلجه (معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .) فيها
المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القمية
إنّها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة
التي أبدلتها منها ردّها إليها . فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي
استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .
فقال : اخرج فقل له : إنّ الله يحفظ ما
لنا وعلينا . هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج
إليه عليهالسلام ،
فقال له : قد كنت شاكاً فتيقّنت
(أمالي الشيخ الطوسي : 276 ح 528 ، والمناقب
: 4 / 444 .) .
وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما
يلفت النظر فيها هو : أولاً : إنّ الإمام كان يعرف شكّ السلطة وهو آخذ حذره
ومستيقظ ومتأهّب للأمر ; لذا أجاب مَن سأله عن المال بأنّه سيصل ولا سبيل للمتوكل
وجلاوزته عليه ، وفعلاً وصل المال سالماً .
ثانياً : إنّ
حامل المال إلى الإمام عليهالسلام كان
يُريد أن يختبر الإمام عليهالسلام أو
يبحث عن وسيلة لليقين بإمامته عليهالسلام ؛
لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبّة التي كان
قد أخفاها تحت كتفه وزاد عليهالسلام
الأمر وضوحاً بقوله : أتيقّنت ؟ مشيراً إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما
يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور ، وقد أيقن واطمأن حينما أخبره
رسول الإمام عليهالسلام بما
كان يضمره .
ثالثاً : إنّ
أنصار الإمام عليهالسلام
وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة
.
وفيما يلي من خبر اعتقال
الإمام عليهالسلام أيضاً شواهد أخرى على هذه الحقيقة .
اعتقال الإمام
الهادي عليهالسلام
إنّ المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام
وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمام عليهالسلام أمر
باعتقال الإمام عليهالسلام
وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب
وكانت له معرفة به ، كما كان عالماً بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلاً : ما شأنك ؟
وفيم جئت ؟ قال صقر : بخير.
قال الحاجب : لعلّك جئت تسأل عن خبر
مولاك ؟ قال صقر : مولاي أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) .
فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق
( يعني الإمام الهادي عليهالسلام
) فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك .
قال صقر : الحمد لله .
فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟ قال صقر :
نعم .
فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد
.
ولمّا خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب
إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ،
وخلِّ بينه وبينه .
فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى
بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالساً على حصير وبإزائه قبر
محفور قد أمر به المتوكل لإرهاب الإمام ، والتفت عليهالسلام قائلاً بحنان ولطف : يا صقر ما أتى بك ؟ قال
صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .
وأجهش الصقر بالبكاء رحمة
بالإمام وخوفاً عليه : فقال عليهالسلام : ( يا
صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء
... فهدّأ روعه وحمد الله على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب
عنها ، وانصرف مودّعاً للإمام
(رواه الصدوق في الخصال : 394 ومعالي
الأخبار : 135 وكمال الدين ط النجف الأشرف : 365 و ط الغفاري : 382 ح9 ب 37 وعنه
الطبرسي في إعلام الورى : 2/245 . وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار :
50/194 .)
، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه ) .
محاولة اغتيال
الإمام الهادي عليهالسلام
وقد دبّرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة
لقتل الإمام عليهالسلام ولكنّها لم
تنجح ، فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل
الكاتب ونحن بداره بسُرّ مَن رأى فجرى ذكر أبي الحسن عليهالسلام
فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟ قال : كنّا مع المنتصر وأبي كاتبه
فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به
وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت
وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟
ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول : هو مكذوب عليه ، وهو يتلظّى ويستشيط ويقول
: والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق وهو يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .
ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع
إليهم أسيافاً ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنه بعد
قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان وهو
غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه
يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول : يا سيدي يا بن رسول الله يا
خير خلق الله يا بن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن .
وأبو الحسن عليهالسلام
يقول : أعيذك يا أمير
المؤمنين من هذا .
فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟
قال : جاءني رسولك .
قال : كذب ابن الفاعلة .
فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد
الله يا منتصر شيّعوا سيّدكم وسيدي ، فلمّا بصر به الخزر خرّوا سجّداً ، فدعاهم
المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : شدّة هيبته ، ورأينا حوله
أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .
فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .
وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار
حجّته (الخرائج والجرائح : 1/417 ـ 419 ح 1 ب 11 وعنه في كشف الغمّة : 3/185 .) .
إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل
نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمام عليهالسلام
فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .
والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي
باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمام عليهالسلام
بأيّ نحوٍ كان ، من هنا بادر في يوم الفطر ـ وفي السنة التي قُتل فيها ـ إلى الأمر
بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي عليهالسلام
بين يديه ، فترجّل الإمام عليهالسلام
كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيّدنا
ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو
الحسن عليهالسلام
: في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على
الله من ناقة ثمود ، لمّا عقرت الناقة صاح الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله
سبحانه : (تَمَتَّعُوا فِي
دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (بحار الأنوار : 50/209 .)
.
دعاء الإمام عليهالسلام على المتوكّل
والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام إلى
الله تعالى ، وانقطع إليه ، وقد
دعاه بالدعاء الشريف الذي عُرف ( بدعاء المظلوم على الظالم )
وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت عليهمالسلام (مهج الدعوات : 50/209 .) .
واستجاب الله دعاء وليّه
الإمام الهادي عليهالسلام ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .
وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع
مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لأربع خلون
من شوّال (247 هـ) يتقدّمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملاً سكراناً
، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟! فلم يعتنوا به ورمى
بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ أنّه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً ،
وأسرعوا إليهما فقطّعوهما إرباً إرباً ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ـ كما
يقول بعض المؤرّخين ـ ودُفنا معاً .
وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من
أعدى الناس لأهل البيت عليهمالسلام .
وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم
فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وأنّه أخذ
بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .
واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك
المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح ؛ فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي
لا تطاق (الكامل في التاريخ : 10 / 349 .) .
هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد
، أُمّه أُمّ ولد رومية اسمها حبشيّة .
بُويع له بعد قتل أبيه في
شوّال سنة (247 هـ) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه :
إنّه أظهر العدل والإنصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له ، وكان
كريماً حليماً وممّا نُقل عنه قوله : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال
المقتدر الانتقام .
ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً
معدودة دون ستة أشهر .
وقال الثعالبي : ومن
العجائب أنّ أعرق الأكاسرة في الملك ـ وهو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ
ستة أشهر . وأعرق الخلفاء في الخلافة ـ وهو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتّع بعده سوى
ستة أشهر (تاريخ الخلفاء : 356 ـ 358 .) .
وكان المنتصر ليّناً مع العلويين
المظلومين في عهد أبيه ، فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة أبيه
في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله (2) .
وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم
ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين عليهالسلام
ورد على آل الحسين فدكاً . فقال يزيد المهلّبي في ذلك :
ولقد بررت الطالبية بعدما |
|
ذمّوا زماناً بعدها وزمانا |
ورددت ألفة هاشم فرأيتهم |
|
بعد العداوة بينهم إخوانا (1) |
تاريخ
الخلفاء : 417 ، 418 .
يقول أبو الفرج عنه : وكان المنتصر يظهر
الميل إلى أهل البيت عليهمالسلام
ويخالف أباه في أفعاله فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه (مقاتل الطالبيين : 419 .) .
ولمّا ولي المنتصر صار يسب الأتراك ويقول
: هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهمّوا به فعجزوا عنه ؛ لأنّه كان مهيباً شجاعاً
فطناً متحرّزاً فتحيّلوا إلى أن دسّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في
مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات (تاريخ الخلفاء : 419 .)
.
هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو
المتوكّل ، ولد سنة (221 هـ) وأُمّه أُمّ ولد اسمها مخارق ، اختاره القوّاد بعد
موت المنتصر ، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ، وقتل
وصيفاً وبُغا .
ولهذا خافهم وانحدر من سامراء إلى بغداد
، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع ، فقصدوا الحبس وأخرجوا
المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين ، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد
أهل بغداد للقتال مع المستعين .
لم يدم حكم المستعين سوى أربع سنوات
وأشهر ، وقد تميّزت فترة حكمه بالاضطرابات التي تعود إلى قوّة الأتراك وضعفه
أمامهم ، كما تعود إلى الظلم والإجحاف بالأمة إلى جانب تنازع العباسيين على السلطة
، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكمه من وثبات وثورات :
1 ـ وثبة في الأردن بقيادة رجل من لخم .
2 ـ وثب في حمص أهلها بعاملهم كيدر
الاشروسني .
3 ـ وثبة الجند في سامراء وضربة لأوتاش
التركي وهو أحد القادة .
4 ـ وثبة المعرّة بقيادة القصيص وهو يوسف
بن إبراهيم التَّنوخي .
5 ـ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن
خالد .
6 ـ وثبة إسماعيل بن يوسف الجعفري
الطالبي في المدينة .
فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً
وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين ؛ فسعوا في الصلح على خلعه ، وقام في
ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكّدة ، فخلع المستعين نفسه في أوّل سنة اثنتين
وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأُحدِر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلى سامراء . وأرسل
المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال :
والله لا أقتل أولاد الخلفاء ، فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة
وله إحدى وثلاثون سنة
(تاريخ الخلفاء للسيوطي : 358 ـ 359 .)
.
هو محمد بن المتوكل ، ولد سنة
(232 هـ) ، بُويع له وعمره تسع عشرة سنة ، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه ، وهو
أوّل خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب ، فقد كان الخلفاء
قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة . كان المعتز مستضعفاً من قِبل الأتراك
وأُلعوبة بأيديهم . وأوّل سنة تولّى فيها
السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه على السلطة وخلف خمسمائة ألف دينار ،
فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وقلّده سيفين ، ثم
عزله وخلع خلعة الملك على أخيه وتوّجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ، ووشاحين
مجوهرين وقلّده سيفين ، ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط ، وخلع على بغا الشرابي
وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه .
وفي رجب من هذه السنة خلع
المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيّده فمات بعد أيام ، فخشي المعتز أن يتحدّث عنه أنّه قتله أو
احتال عليه ، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر ، وكان المعتز مستضعفاً مع
الأتراك ، فاتفق أنّ جماعة من كبارهم أتوه وقالوا : يا أمير المؤمنين أعطنا
أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف ، وكان المعتز يخاف منهم فطلب من أُمّه ( قبيحة ) مالاً
لينفقه فيهم ، فأبت عليه وشحّت نفسها ، ولم يكن بقي في بيوت المال شيء بينما كانت
أُمه تملك الأموال العظيمة ، حيث أنفقت على صالح بن وصيف مالاً عظيماً بعد قتله ؛ ولهذا اجتمع الأتراك على خلعه ، ووافقهم صالح بن وصيف ، ومحمد بن
بُغا ، فلبسوا
السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا ، فبعث يقول : قد
شربت الدواء وأنا ضعيف ، فهجم عليه جماعة وجرّوا برجله وضربوه بالدبابيس ، وأقاموه
في الشمس في يوم صائف ، وهم يلطمون وجهه ويقولون : اخلع نفسك ، ثم احضروا القاضي
بن أبي الشوارب والشهود وخلعوه ، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة ـ وهي يومئذٍ
سامراء ـ محمد ابن الواثق ، وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد فسلّم المعتز إليه
الخلافة وبايعه (تاريخ الخلفاء للسيوطي : 359 ـ 360 .) .
ومات المعتزّ بعد خلعه من
الخلافة بطريقة غريبة ، بعد خمس ليال من خلعه ، حيث أدخلوه الحمّام
، فلمّا اغتسل عطش فمنعوه الماء ، ثم أُخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً ،
وذلك في شهر شعبان المعظّم سنة خمس وخمسين ومائتين .
لقد ذكر المؤرّخون موقف
المعتز المعادي لآل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم واضطهادهم واضطهاد شيعتهم ، ومن نماذج سيرته أنّه أعمل السيف في
العلويين وآخرين حتّى ماتوا في سجونه ، وممّن قُتل في عهده :
1 ـ جعفر بن محمد الحسيني ، وقد قُتل في
وقعة حدثت بالري بينه وبين أحمد بن عيسى عامل محمد بن طاهر (مقاتل الطالبيين : 434 .) .
2 ـ إبراهيم بن محمد العلوي فقد قتله
طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين (المصدر السابق : 433 .) ،
وغير هؤلاء كثير ممّن أعمل ولاة العباسيين فيهم السيف والقتل .
أمّا مَن مات في الحبس فكثير أيضاً ،
منهم : عيسى بن إسماعيل الحضرمي ، وأحمد بن محمد الحسيني (مقاتل الطالبيين : 434 .) .
ــــــــــــــ
الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام
مارس الإمام الهادي عليهالسلام
مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (220هـ) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (254 هـ)
وخلال هذه السنوات الأربعة والثلاثين قد عاصر ستّة
من ملوك بني العباس الذين لم يتمتّعوا بلذّة
الحكم والخلافة كما تمتّع آباؤهم ؛ حيث تراوحت فترة
خلافة كل منهم بين ستة أشهر وخمسة إلى ثمان سنوات سوى
المتوكل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً .
ويعتبر عهد المتوكل
العباسي بدء العصر العباسي الثاني ، وهو عصر نفوذ
الأتراك (232 ـ 334 هـ) واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية ،
الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (656 هـ) .
وكان لسياسة المتوكل وأسلافه الأثر
البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج ، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها :
كالسامانية ، والبويهية ، والحمدانية ، والغزنوية ، والسلجوقية ، بعد هذا العصر (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 1 بتصرّف .) .
وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدّم الحضارة الإسلامية باعتبار انفتاح بعض الأُمراء على
العلم والعلماء لكنّها أضعفت
كيان الدولة العباسية سياسيّاً ؛ لأنّها قد ساهمت في إيجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلامية الكبرى .
وقد يعزى هذا الانفصال وتشكيل هذه
الدويلات ـ إضافة إلى الاضطهاد وتعسّف سلاطين الدولة العباسية ـ إلى استخدام
الأتراك في مناصب الدولة الحسّاسة ، واعتمادهم كقوّة رادعة ضدّ معارضي الدولة
العبّاسية ؛ إذ أصبح الجيش يتكوّن منهم قيادة وأفراداً ، بينما أُبعد العرب وسواهم
عن تلك المناصب ممّا أثار حفيظة العرب ضد السلوك السياسي للدولة العبّاسية ؛
وبالتالي أدّى إلى الانفصال عنها .
وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين
الذين استعانوا بالأتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 2 ويراجع تاريخ الطبري
: 7 حول ازدياد نفوذ الأتراك في عصر المعتصم .) .
وقد انتهج المتوكل سياسة العنف
تجاه العلويين وشيعة أهل البيت عليهمالسلام فضلاً عن أهل البيت عليهمالسلام أنفسهم ، وتجلّى ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن علي عليهالسلام وما حوله من الدور ، بل أمر بحرثه وبذره وسقي موضع
القبر ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن على مَن زاره(تاريخ الطبري : 11/44 .) .
وقد أثار المتوكل بهذه
السياسة حفيظة المسلمين بشكل عام ، وأهل بغداد بشكل خاصّ ، وقد
ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقات (تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 5 .) .
وفي زمن المتوكل أصابت
مدن العراق مجاعة شديدة وهلك كثير من الناس ، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة
فاستأنفوا غاراتهم على أراضيها فأغاروا على دمياط وفتكوا بأهلها وأحرقوا دورهم ،
ثم غزوا فيليفيا جنوبي آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة (1) .
وفي عام (235 هـ) عهد المتوكل
إلى أولاده الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد ، بيد أنّه رأى أن يقدّم المعتز على
أخويه لمحبّته أم المعتز ( قبيحة ) ولكنّ المنتصر
غضب لذلك فدبّر مع أخواله الأتراك مؤامرة لاغتيال أبيه ، وحاول بعض الأتراك في
دمشق اغتيال المتوكل غير أنّ محاولتهم تلك باءت بالفشل بفضل ما عمله بغا الكبير
والفتح بن خاقان (2) .
ولم ينج المتوكل من الاغتيال
فقد قُتل فيما بعد ، بعد اتفاق بغا الصغير وباغر التركي
للتخلّص منه وتنصيب ابنه المنتصر عام (247 هـ) .
وكان المنتصر يحسن للعلويين
مخالفاً بذلك سياسة أبيه ، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم
والسماح لهم بزيارة قبر الحسين عليهالسلام .
ولم يدم حكم المنتصر
طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (248 هـ) (3) .
وبعد مقتل المنتصر تولّى كرسيّ الخلافة المستعين بالله سنة (248 هـ)
وأرجع عاصمته إلى بغداد غير أنّ الأتراك لم يأمنوا جانبه ، فاتفق باغر التركي مع جماعته على خلع المستعين ونصب المعتز مكانه (4) .
ووقعت بينهما حرب دامت عدّة أشهر انتهت بإبعاد المستعين إلى واسط ثم قتله غيلة (5) .
كما أنّ المعتز لم ينج من أعمال العنف
والتعسّف التي قام بها قوّاد الدولة العباسية من الأتراك فقُتل شرّ قتلة على أيديهم وذلك سنة (255 هـ) .
وكان اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام
في حكم المعتزّ في سنة (254 هـ)
(تاريخ
اليعقوبي : 2 / 503 .)
.
إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل
التفكّك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية ، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم
وأُمّهاتهم إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيين
والعرب ،
ــــــــــــــ
(1) تاريخ
الإسلام السياسي : 3/5 .
(2) مروج
الذهب : 2 / 390 .
(3) تاريخ
الطبري : 7 أحداث عام 248 هـ .
(4) مروج
الذهب : 2 / 407 ـ 408 .
(5) الكامل في التاريخ : 7 /
50 وما بعدها .
كما كان لظلم الأُمراء والوزراء دوره
البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين (لقد توالت حوادث الشغب في بغداد من سنة (249 هـ) وتجدّدت أربع مرات حتى
سنة (252 هـ) وبدأت مشاغبات الخوارج من سنة (252 هـ) واستمرّت إلى سنة (262 هـ) .
ورافقها ظهور صاحب الزنج سنة (255هـ) ، وهذه سوى ما سيأتي من انتفاضات العلويين
خلال النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري .) ؛
تمرّداً على ظلم الظالمين ونهب ثروات المسلمين والاستهتار بالقيم الإسلامية
والتبذير في بيت مال المسلمين .
إنّ ضعف شخصيّة الحكّام أدّى إلى سقوط
هيبتهم عند الولاة ممّا دعاهم إلى الاتّجاه نحو الاستقلال بشكل تدريجي لعلمهم بضعف
مركز الخلافة وانهماك الحكّام بالملاهي والملذّات .
وقد شجّع الحكّام الأُمراء وعمّالهم على
الاهتمام بجمع الأموال وإرسالها إلى الخليفة ونيل رضاه واتّقاء تساؤلاته عن
تصرّفات الأُمراء .
وأدّت هذه الظاهرة إلى طغيان
المقاييس المادّية واستقرارها في مختلف الشرائح الاجتماعية .
وقد ساعدت الفتوحات ـ التي كانت أشبه
بالغزو لإحكام السيطرة على الأراضي بدل فتح القلوب والعقول ـ على استحكام المقاييس
المادية ؛ لأنّها كانت تدرّ الأموال والغنائم على الجيش الفاتح فكانت مصدراً من مصادر
الثروة التي يفكّر بها الحكّام والأُمراء .
كان لترجمة الكتب
اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر ،
وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام
المأمون ، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة
والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من
اتجاهات فكرية وثقافية من جهة أخرى .
كما كان لارتحال المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافي بين شرق البلاد
الإسلامية وغربها ، وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً
وحركة فكرية ، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء
والحكّام حتى عُدّ القرن الرابع الهجري ـ فيما بعد ـ العصر الذهبي للحضارة
الإسلامية .
وقد حظي الشعراء والأدباء
بمكانة رفيعة عند الأُمراء ممّا أدّى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر .
ولا ينبغي أن نغفل عن محنة خلق القرآن وما رافقها من توتّر في المجتمع
الإسلامي طيلة عقود ثلاثة
(تاريخ الإسلام السياسي : 3 / 332 وما بعدها
.)
.
إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على
السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع
الاقتصادي .
وكان لظهور الطبقية في
المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت إلى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة
وارتفاع الأسعار ، ممّا كان له أثر كبير
في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قِبل الدولة ، وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم
الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء ؛ وهو دليل
واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم (يُراجع تاريخ الطبري : ج7 ، أحداث السنوات 247 ـ 254
هـ .)
.
4 ـ الموقع الاجتماعي
والسياسي للإمام الهادي عليهالسلام
إنّ حادثة إشخاص الإمام عليهالسلام من قِبل المتوكل من المدينة إلى
سامراء وإيكال ذلك الأمر إلى يحيى بن هرثمة ، وما نقله يحيى هذا عن حالة أهل
المدينة المنوّرة ، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمام عليهالسلام عنهم ؛ يصوّر لنا مدى تأثّر أهل
المدينة بأخلاقيّة الإمام عليهالسلام
المثلى وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدّة اندماجه في حياتهم ، ولا غرو ، فهو سليل
دوحة النبوّة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوّة ، فالإمام هو حجّة الله
سبحانه على خلقه وهو المثل والقدوة التي يُقتدى بها وهو القيّم والحافظ لرسالة
الإسلام .
وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام
الحسن العسكري عليهالسلام كان
يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له : لو رأيت أباه ـ أي الإمام الهادي عليهالسلام ـ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً
خيّراً فاضلاً (كمال الدين للشيخ الصدوق : 1 / 42 .) .
وكان للإمام عليهالسلام نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد
أُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمام عليهالسلام بعد
التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند
الله تعالى .
وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط
فضلاً عن عامّة الناس ، في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة على
تصرّفات الإمام عليهالسلام
وارتباطاته ؛ لئلاّ يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته ، بل كان يخطّط لسجنه واغتياله .
وتكفي نظرة سريعة على ما صدر من معاصريه
من تصريحات حول مكانته وسموّ منزلته ؛ لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمام عليهالسلام
بالرغم من كل محاولات التسقيط (راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب .) .
5 ـ العباسيون والإمام
الهادي عليهالسلام
تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في
مناهضة أهل البيت عليهمالسلام بعد
أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز ، وأنّهم لا يداهنون من أجل الحكم
والملك ، بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم ، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد
تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود ، ورافقها خلق
البدائل العلمية لئلاّ ينفرد أهل البيت عليهمالسلام
بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية ، فكان الدعم المباشر من الحكّام
لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق .
ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم
الإعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيت عليهمالسلام إلى
غيرهم ، فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضا عليهالسلام .
غير أنّ المأمون حين أدرك عدم إمكان
احتواء الإمام عليهالسلام قضى
عليه ، لكنّه بتزويجه لابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد عليهالسلام قد أحكم الرقابة على ولده الإمام
الجواد عليهالسلام
بشكل ذكي جداً ، ولم يسمح المعتصم للإمام الجواد عليهالسلام ـ وهو في ريعان شبابه ـ ليبقى في
مدينة جدّه ، بل استدعاه وقضى عليه بالسم ؛ لأنّه قد أدرك أيضاً عدم إمكان احتوائه
، بل عدم إمكان إحكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه .
وهنا جاء دور المتوكل ومَن تبعه لسجن
الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّى ، فتمّ استدعاء الإمام الهادي عليهالسلام وعُرِّض لأنواع الاحتقار
والتسقيط والتضييق ـ كما لاحظنا ـ وأُحكمت
الرقابة على كل تصرّفاته داخل البيت وخارجه ، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي
العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه وإعزازه عليهالسلام ، بينما وصلت الرقابة إلى أبعد
حدّ .
وكانت قضية الإمام المهدي
المنتظر عليهالسلام من الأسباب المهمّة التي
دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه ؛ لئلاّ يولد الإمام المهدي عليهالسلام
إن أمكن أو للاطلاع على وجوده إن كان قد وُلد ، ومن ثمّ القضاء
عليه .
وقد بقي الإمام الهادي عليهالسلام تحت
رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد على العشرين عاماً (وقد عرفت أنّ بعض المصادر صرّحت بأنّ مدّة إقامته عليهالسلام في سامراء عشر سنوات وأشهر .) ، وهي
فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضا عليهالسلام أو فترة بقاء
الإمام الجواد عليهالسلام في بغداد في زمن المعتصم .
وفي هذا مؤشّر واضح لتغيير
العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيت عليهمالسلام .
6 ـ اضطهاد أتباع أهل البيت عليهمالسلام
إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم
سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيت عليهمالسلام فإنّا نجد
السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم ،
وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون
باحترامه الخاص للإمام الرضا عليهالسلام .
إنّ حرمان أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم من
الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم
.
ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم
سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس ، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية
لأهل البيت عليهمالسلام في
قلوب المؤمنين .
وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من
الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيت عليهمالسلام
كان قد حظي بوظيفة حكومية ، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتى بان
الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر .
لقد تمادى المتوكل في إيذاء العلويين
ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتى أشرفوا على الهلاك من شدّة الفقر ، بل
تمادى في الجور عليهم حتى قدّم دعوى غير العلوي على دعوى العلوي إذا تحاكما عند
القضاة .
ولم نجد من العباسيين عامة إلاّ العداء
والبغض لأهل البيت عليهمالسلام
لأسباب شتّى ، منها : تفرّد أهل البيت عليهمالسلام
بالنصّ عليهم من قِبل جدّهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية ، وتأثيرهم على قلوب المسلمين ووجدانهم ،
والاهتمام بشؤونهم ، وإيثارهم للدين على الدنيا ، والموت في سبيل الله على الحياة
مع الذل والهوان في غير طاعة الله .
إنّ عواطف
المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام
وشيعتهم الذين يحذون حذوهم ، وأخذت هذه
الظاهرة تنمو وتظهر على الساحة الإسلامية ، وهذا ممّا لا يرتاح له الحكّام
العباسيون وعملاؤهم الذين جلسوا على موائدهم التي جسّدت أفضع أنواع التبذير في بيت
مال المسلمين .
وأهل البيت عليهمالسلام بعد ثورة
الحسين عليهالسلام وإن
لم يتصدّوا للثورة المسلّحة ضدّ الطغاة لأسباب تعود إلى سياستهم المبدئية لمعالجة
أنواع الانحراف في المجتمع الإسلامي ، لكنّهم قد فتحوا الطريق أمام الثوّار
العلويين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسلاح حين لا يثمر الكلام
والحجاج .
ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من
الثورات التي قام بها قادة علويون على طول الخط بعد ثورة الحسين عليهالسلام .
وقد استمرّت هذه الثورات حتى عصر الغيبة
وانتهت فيما بعد إلى تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون
ثقافة أهل البيت عليهمالسلام
ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية .
ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو من بعيد .
وهذا الخط الثوري في هذه الظروف الحرجة
يُعدّ أحد الأسباب التي حتّمت على الإمام الثاني عشر ـ باعتباره آخر القادة
المعصومين ـ أن يتستّر بستار الغيبة لئلاّ تخلو الأرض من حجج الله وبيّناته .
وقد خرج على حكّام هذا
العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوري ضدّ الظلم والظالمين وإليك
قائمة بأسمائهم مع ذكر تاريخ ومنطقة تحرّكهم وخروجهم :
1 ـ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ،
خرج في حكومة المعتصم واعتُقل في سنة (219 هـ) وروي
أنّه قُتل بالسمّ .
2 ـ محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام خرج
على المتوكّل في المدينة وأُسر وسُجن في سامراء .
3 ـ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام .
خرج على المستعين في الكوفة سنة (250 هـ)
، ارتضاه أهل بغداد وليّاً للأمر كما بايعه جملة من أهل الحل والعقد في الكوفة .
وضجّ الناس لقتله وحزنوا عليه حزناً لم
ير مثله .
4 ـ الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن
الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، خرج في
طبرستان سنة (250 هـ) واستولى على الري وآمل وامتدّ نفوذه إلى جرجان في سنة (257
هـ) واستمرّ في الحكم حتى سنة (270 هـ) ، ثم خلفه أخوه محمّد بن زيد وكان فقيهاً
أديباً وجواداً .
5 ـ محمد بن جعفر بن الحسن ، خرج في الري
سنة (250 هـ) ودعا أهل الري إلى حكم الحسن بن زيد الذي كان قد سيطر على طبرستان .
6 ـ الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد
الله بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في قزوين سنة (250 هـ) .
7 ـ الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله
بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في الكوفة سنة (251 هـ) .
8 ـ إسماعيل بن يونس بن إبراهيم بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في مكّة سنة (251 هـ) .
9 ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم
بن طباطبا ثار في سنة (255هـ) بين برقة والإسكندرية .
10 و 11 ـ عيسى بن جعفر العلوي ، ثار مع
علي بن زيد في الكوفة سنة (255 هـ) .
12 ـ علي بن زيد بن حسين بن عيسى بن زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ثار
في الكوفة سنة (256 هـ) للمرة الثانية .
13 ـ إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد
الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
المعروف بابن الصوفي ثار في مصر سنة (256 هـ) (راجع مقاتل الطالبيين : 478 ـ 536 ومروج الذهب : 4/50 ـ 180 ، والكامل
في التاريخ ، الجزء السابع .) .
هذه صورة موجزة عن الحركات
المناهضة للحكّام الذين تربّعوا على كرسيّ الخلافة وحكموا باسم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وهم بعيدون كل البعد عن هديه وسننه .
وفي مثل هذه الظروف السياسية العامة
والفتن الدينية التي أجّجها الخلفاء وسقتها الثقافات المستوردة ، ماذا كانت
تتطلّبه الساحة الإسلامية العامة من معالجات ؟ وماذا كانت تتطلّبه الساحة الخاصة
بأتباع أهل البيت عليهمالسلام
الذين أخذوا يقتربون من عصر الغيبة الذي أخبر عنه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
وبدأت تتكشّف علائمه وتتهيّأ أسبابه ؟ هذا
ما سوف ندرسه خلال الفصول التالية إن شاء الله تعالى .
ــــــــــــــ
الباب الرابع : وفيه فصول :
الفصل الأول : متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام .
الفصل الثاني : الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها .
الفصل الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود .
الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه .
الفصل الأوّل : متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بعد أن عرفنا المهمّ من ملامح عصر الإمام
الهادي عليهالسلام
نستطيع الآن أن نقف على متطلّبات عصره . وسوف
نبحث عنها في حقلين :
الأوّل
: متطلّبات
الساحة الإسلامية العامة .
الثاني
: متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد
عام لكلا الحقلين .
وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام قد تولّى الإمامة بعد استشهاد
أبيه الجواد عليهالسلام سنة
(220 هـ) وهو لمّا يبلغ الحلم ؛ إذ لم يتعدّ عمره الثامنة ـ على أكبر الفروض ـ فهو
قد شابه أباه الجواد عليهالسلام في
تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة .
وقد كان لتولّي الإمام الجواد عليهالسلام
الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا عليهالسلام
مغزى ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة ، وإليك جملة منها :
إنّ أهل البيت عليهمالسلام قد أضافوا
دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثّلت في النصوص النبويّة أوّلاً
، والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم لتولّي
شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً
.
والأئمة بعد استشهاد
الحسين عليهالسلام قد
اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الأمة الإسلامية من تبعات التلاقح
الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح على ثقافات جديدة بعد الفتوح .
وقد عادت الهمينة الفكرية
والريادة العلمية لأهل البيت عليهمالسلام بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الأمويون ومَن سار في خطّهم
؛ لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها إلى الحياة الإسلامية الجديدة .
فالإمام زين العابدين عليهالسلام
وابنه الباقر عليهالسلام الذي عرف بأنّه يبقر العلم بقراً ،
وحفيده جعفر الصادق عليهالسلام
الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومَن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في
أرجاء العالم الإسلامي ؛ قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل البيت عليهمالسلام للريادة
الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية إلى جانب نص الرسول على أنّهم
الخلفاء الحقيقيون له .
واستمرّ هذا الخط الريادي
في عصري الإمامين الكاظم والرضا عليهماالسلام وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيت عليهمالسلام
على قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم
في الحياة الإسلامية ، وانعكس هذا الأمر على
الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام
الكاظم عليهالسلام ؛
إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتى قضى عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً .
كما لم يتحمّل ابنه
المأمون الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام كذلك ، بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث
حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في إطفاء نوره بما أجراه من الحوارات
والتحدّيات العلمية الصعبة بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه
؛ إذ كان قد خطّط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص على الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني أمية وبني العباس . بعد
اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر إلى تصفيته جسدياً ليقضي على أكبر منافس
له . فإنّ الإمام الرضا
عليهالسلام كان يرى هو وكثير من
المسلمين بأنّ المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله مَن اصطفاه من
عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة .
فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي
بينما الإمام الرضا عليهالسلام ولا
سيّما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب ، بل قد تألّق نجمه ، فهو يحظى
بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيّما بعد الحوارات العلمية التي
أُجريت معه .
إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون
رغم ذكائه وحنكته السياسية ، قد سوّلت له وجرّته الى اغتيال الإمام الرضا عليهالسلام .
وهنا جاءت إمامة الجواد عليهالسلام المبكّرة
لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر على جدارة أهل البيت عليهمالسلام للقيادة
الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام .
وشكّلت هذه الإمامة تحدّياً صارخاً لا
يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الأشكال ، فقد عرّض المأمون
الإمام الجواد عليهالسلام
لأصناف الحوارات والتحدّيات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته ، ولكنّه كان لا يملك
أيّ عذر للقضاء عليه .
ولكنّ المعتصم قد دنّس
يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت على الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم
يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوى سبع عشرة سنة .
والقضاء على الإمام الجواد عليهالسلام في هذه الظروف كاشف عن مدى عمق
الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجواد عليهالسلام وهو
عميد أهل البيت وكبيرهم روحيّاً وعلمياً وقيادياً ؛ حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة
، وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه ـ فضلاً عن قلوب مَن سواهم ـ ودانت له بالولاء
أعداد غفيرة من المسلمين . وإلاّ فلماذا هذا التسرّع في القضاء عليه وهو لم يحاول
القيام بأيّة حركة أو ثورة ضدّ النظام الحاكم ؟!
وقد جاءت الإمامة المبكّرة
للإمام الهادي عليهالسلام في هذا الظرف وبعد هذه التحدّيات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية
والثقافية والدينية .
فهل نصدّق بأنّ الحكّام بعد المعتصم ،
وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيت عليهمالسلام على الساحة
الإسلامية ، سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والموقع
القيادي لأهل البيت عليهمالسلام
الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنّهم المنصّبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟
وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية
والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون المسلمين وهيمنوا على قلوب الناس وعقولهم
؟
إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق
طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيت عليهمالسلام
.
ولم يرتدع هؤلاء الحكّام عمّا سلف عليه
آباؤهم من مقارعة مَن ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتى وهو لم يبادر
إلى الثورة ضدّهم ، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين
آونة وأُخرى .
فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم ؟
وكما علمنا ـ سابقاً ـ أنّ الإمام الهادي عليهالسلام في
كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة ، وقد
جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثّل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط
العلمي تارة أُخرى ثم التحجيم بشتّى أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير
والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكرّرة خلال ثلاثة عقود ونصف
تقريباً من سنيّ عمره المبارك .
فما الذي كان ينتظره الإمام عليهالسلام من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف
ومع هذه المحاسبات ؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه
محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب ؟ على ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات
المرحلة في كلا الحقلين . كما سيأتي بيانه .
إنّ
إمامة الجواد عليهالسلام المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة
وطيدة بقضيّة الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولّى الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره
دون عمر هذين الإمامين عليهماالسلام ، كما أخبر بذلك الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من أهل البيت عليهمالسلام .
إنّ التمهيد الذي قام به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ تبعاً للقرآن
الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنّه سيولد من أبناء
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
فاطمة وعلي عليهماالسلام
وأنّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد ، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة ؛ لأنّها
نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها
، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الأخبار
السابقة لأوانها .
إنّ هذا التمهيد النبوي
الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (500) نص حول حتميّة ظهور
المهدي عليهالسلام وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي
النموذجي .
وقد سار على درب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأئمة من أهل
البيت عليهمالسلام
خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً
من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم . وقد
زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى
خطّهم المنحرف ، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين كما أنّه مصدر رعب للظالمين
المتحكّمين في رقاب المسلمين .
ولو لم يصدر من أهل البيت عليهمالسلام
إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا
كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم .
ولكنّ اضطرارهم لمراعاة
الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيت عليهمالسلام فكانت إرادة
الله تفوق إرادتهم . غير أنّهم لم يتركوا
التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم .
فعن الحسين أشاعوا أنّه قد
خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمّة جده .
والإمام الكاظم عليهالسلام
ـ ومَن سبقه ـ قد اتّهم بأنّه يُجبى له الخراج وهو يخطّط للثورة على السلطان .
والإمام الرضا والجواد عليهماالسلام
قد قُضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنّه المتهم في اغتيال
الرضا عليهالسلام ، والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال .
إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام
المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومَعْلَماً لا يمكن تجاوزه ؛ حرصاً على مستقبل
الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمّة شاهدة وأُمّة وسطاً يفيء إليها
الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله )
على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كلّه ولو كره الكافرون .
وقد ضحّى أهل البيت عليهمالسلام
لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم واعتمده أهل البيت عليهمالسلام كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين .
ويشهد لذلك ما ألّفه
العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهدي عليهالسلام
في القرنين الأوّل والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر .
فالإمام المهدي عليهالسلام قبل ولادته بأكثر من قرنين كان
قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته
الإسلامية بصلة .
واستمرّ التبليغ لذلك طوال
قرنين ونصف قرن من الزمن . والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه
جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقلّ بشأنه .
والمتيقّن أنّ عصر
الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام ومَن تلاهما من الأئمة عليهمالسلام قد
حفل بهذا التأكيد ؛ فقد أُحصيت نصوص الإمام
الصادق عليهالسلام بشأن المهدي فناهزت الـ (300) نصّاً . واستمرّ التأكيد على ذلك
خلال العقود التي تلته .
فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه
من الناحيتين السياسية والاجتماعية ؟ وما هي النتائج المتوقّعة لمثل هذه القضية
التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين ؟
وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى .
(
قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد
الكاتب رضياللهعنه قال أبو محمد عليهالسلام : قد وضع بنو أُمية
وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين : إحداهما : أنّهم
كانوا يعلمون ( أنّ )
ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها .
وثانيهما
: أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة
على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا ، وكانوا لا يشكّون أنّهم من
الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليهالسلام
أو قتله ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون
)
(منتخب الأثر : 359 ط ثانية عن أربعين الخاتون آبادي ( كشف الحق ) .) .
ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت
الاثني عشر عليهمالسلام .
كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على
تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر
النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة .
كما أنّنا يمكن أن نكتشف السرّ في أنّ
الأئمة بعد الإمام الصادق عليهالسلام
لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان ؟ بل وُلدوا من إماء طاهرات
عفيفات مصطفاة ، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود
ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيت عليهمالسلام .
وحين كان يقوم الإمام السابق بالتمهيد
لإمامته وطرح اسمه على الساحة بالتدريج ، حينئذٍ كان ينتبه الحكام لذلك وربّما
كانت تفوت عليهم الفرص لاغتياله والقضاء عليه .
ولهذا حين كان يشار إليه بالبنان وتتوجّه
إليه القلوب والنفوس كانت الدوائر الحاقدة تبدأ بالكيد له باستمرار .
قال أيوب بن نوح ، قلت للرضا عليهالسلام : نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ،
وإن يردّه الله إليك من غير سيف فقد بُويع لك وضُربت الدراهم باسمك ، فقال : ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن
المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اعتلّ ومات على فراشه حتى
يبعث الله عزّ وجل لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ حتى خفي في نفسه
(كمال الدين : 354 .) .
فالإمام
الكاظم والإمام الرضا عليهالسلام قد استشهدا وهما في الخامسة والخمسين من عمرهما بينما الإمام الجواد عليهالسلام قد
استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يكون كل واحد منهم قد أُصيب
بمرض يوجب موته ، بل كانوا أصحّاء بحيث كانت صحّتهم
وسلامتهم الجسمية مثاراً لاتّهام الحكّام الحاقدين عليهم .
إذن فالإمام الجواد عليهالسلام بإمامته المبكّرة التي أصبحت
حدثاً فريداً تتناقله الألسن ، سواء بين الأحبّة أو الأعداء ، قد ضرب الرقم
القياسي في القيادة الربّانية وذكّر الأمة بما كانت قد سمعته من إخبار القرآن
الكريم بأنّ الله قد آتى كلاًّ من يحيى وعيسى الكتاب والحكم والنبوّة في مرحلة
الصبا . بل لمست ذلك بكل وجودها وهي ترى طفلاً لا يتجاوز العقد الواحد وإذا به
يهيمن على عقول وقلوب الملايين .
وفي هذا نوع إعداد لإمامة من يليه من
الأئمة عليهمالسلام
الذين يتولّون الإمامة وهم في مرحلة الصبا خلافاً لما اعتاده الناس في الحياة .
وقد كانت إمامة ابنه
الهادي عليهالسلام ثاني مصداق لهذا الحدث الفريد الذي سوف لا يكون في تلك الغرابة ، بل
سوف يعطي للخط الرسالي لأهل البيت عليهمالسلام
زخماً جديداً وفاعلية كبيرة ؛ إذ يحظى أتباعهم بمثل هذه النماذج الفريدة من أئمة
أهل البيت عليهمالسلام .
والإمام المهدي الذي كان
يتمّ التمهيد لولادته وإمامته ، رغم مراقبة الطغاة وترقّبهم لذلك ، كان المصداق
الثالث للإمامة المبكّرة ، فلا غرابة في ذلك بعد استيناس الأمة
بنموذجين من هذا النوع من الإمامة ، على الصعيد الإسلامي العام وعلى الصعيد الشيعي
الخاص .
من هنا كان الظرف الذي يحيط بالإمام
الهادي عليهالسلام
ظرفاً انتقالياً من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن
تدبّر الأمر ومن وراء الستار ويراد للأُمّة أن تنفتح على هذا الإمام وتعتقد به
وتتفاعل معه رغم حراجة الظروف .
فهو الظرف الوحيد لإعداد
الأمة لاستقبال الظرف الجديد . ولا سيّما إذا عرفنا أنّ الإمام
الهادي هو السابع من تسعة أئمة من أبناء الحسين ، والمهدي الموعود هو التاسع منهم
وهو الذي مهّد لولادة حفيده من خلال ما خطط له من زواج خاص لولده الحسن العسكري
دون أي إعلان عن ذلك ، فلا توجد إلاّ مسافة زمنية قصيرة جداً ينبغي له اغتنامها
للإعداد اللازم والشامل .
إذن ما أقلّ الفرص المتاحة للإمام الهادي
عليهالسلام
للقيام بهذا العبء الثقيل حيث إنّه لابد له أن يجمع بين الدقّة والحذر من جهة ،
والإبلاغ العام ليفوّت الفرص على الحكّام ويعمّق للأمة مفهوم الانتظار والاستعداد
للظهور والنهوض بوجه الظالمين . ولا أقل من إتمام الحجّة على المسلمين ولو بواسطة
المخلصين من أتباعه عليهالسلام .
ومن هنا كان على الإمام
الهادي عليهالسلام تحقيقاً للأهداف الكبرى أن يتجنب كل
إثارة أو سوء ظن قد يوجّه له من قِبل الحكّام المتربّصين له ولأبنائه من أجل أن
يقوم بإنجاز الدور المرتقب منه . وهو
تحقيق همزة الوصل الحقيقية بين ما حقّقه الأئمة الطاهرون من آبائه
الكرام وما سوف ينبغي تحقيقه بواسطة ابنه وحفيده عليهماالسلام ؛ ولهذا لم يُمهل الإمام الحسن العسكري سوى ست سنين فقط وهي أقصر عمر
للإمامة في تاريخ أهل البيت عليهمالسلام إذ دامت إمامة الإمام علي عليهالسلام ثلاثين
سنة
، والإمام الحسن السبط عشر سنين ،
والإمام الحسين عشرين سنة ،
والإمام زين العابدين خمساً أو أربعاً وثلاثين
سنة .
والإمام الباقر تسع عشرة سنة ، والإمام الصادق أربعاً وثلاثين سنة ، والإمام
الكاظم خمساً وثلاثين سنة ، والإمام
الرضا عشرين سنة ، والإمام الجواد
رغم قصر عمره كانت إمامته سبع عشرة سنة ، والإمام الهادي
أربعاً وثلاثين سنة .
وتأتي في هذا السياق كل الإجراءات التي
قام بها الإمام الهادي عليهالسلام من الحضور
الرتيب في دار الخلافة وما حظي به من مقام رفيع عند جميع الأصناف والطبقات بدءاً
بالأُمراء والوزراء وقادة الجيش والكتّاب وعامّة المرتبطين بالبلاط ـ كما سوف يأتي توضيحه فيما بعد إن شاء الله تعالى ـ
وهكذا كل ما قام به بالنسبة للجماعة الصالحة ، التي
سوف نفصّل الحديث عنها في فصل لاحق إن شاء الله تعالى .
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ ترك مقارعة الحاكمين
وتجنّب إثارتهم .
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية .
3 ـ التحدّي العلمي للسلطة
وعلمائها .
4 ـ توسيع دائرة النفوذ في
جهاز السلطة .
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم
اتّسم سلوك الإمام الهادي عليهالسلام طوال فترة
إمامته بالتجنّب من أيّة إثارة للسلطة بدءاً بما فرض عليه من مُؤدّب يتولّى أمره ،
ثم الاستجابة لدعوة المتوكل واستقدامه إلى سامراء وفسح المجال للتفتيش الذي قد
تكرّر في المدينة وسامراء ، بل تعدّى ذلك إلى تطمين المتوكل بأنّ الإمام عليهالسلام لا يقصد الثورة عليه حين استعرض
المتوكل قوّاته وقدرته العسكرية وأحضر الإمام في هذا الاستعراض ليطلعه على ما
يملكه من قوّة لئلاّ يفكّر واحد من أهل بيته عليهمالسلام
بالخروج على الخليفة . وإذا بالإمام الهادي عليهالسلام
يجيبه بأنّا لا نناقشكم في الدنيا نحن مشتغلون بأمر الآخرة فلا عليك شيء ممّا تظن (بحار الأنوار : 50/155 .) .
ولم يحصل المتوكل على أيّ مستمسك ضدّ
الإمام بالرغم من التفتيش المفاجئ والمتكرّر .
وقد لاحظنا كيف يتجنّب الإمام عليهالسلام مثل هذه الإثارات إلى جانب
تقديمه للنصح والإرشاد والموعظة للمتوكل .
روى ابن شهرآشوب بإسناده
عن أبي محمد الفحّام أنّه قال : سأل المتوكل ابن الجهم مَن أشعر
الناس ؟ فذكر الجاهلية والإسلام . ثم أنّه سأل أبا الحسن عليهالسلام ، فقال عليهالسلام الحمّاني حيث يقول :
لقد فاخرتنا من قريش عصابة |
|
بمدّ خدود وامتداد أصابع |
فلمّا تنازعنا المقال قضى
لنا |
|
عليهم بما نهوى نداء الصوامع |
ترانا سكوتاً والشّهيد
بفضلنا |
|
عليهم جهير الصوت في كل جامع |
فإنّ رسول الله أحمد جدّنا |
|
ونحن بنوه كالنجوم الطوالع |
قال : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟
قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد
أنّ محمّداً رسول الله جدّي أم جدّك ؟
فضحك المتوكل ثم قال : هو
جدّك لا ندفعك عنه (أمالي الطوسي : 287 ح 557 ومناقب آل أبي طالب : 4 /
438 .) .
ولم يبخل الإمام الهادي (ع) بالإجابة العلمية
فيما كان يشكل عليهم أمره كما لاحظنا ، بل تعدّى ذلك الى وصف دواء ناجع لداء عدوّه
المتوكل حين أيس من معالجات أطبّائه بالرغم من تظاهره بالعداء للعلويين (راجع الكافي : 1/499 .)
.
2 ـ الردّ على
الإثارات الفكرية والشبهات الدينية
وقد لاحظنا في عصر الإمام عليهالسلام ما امتحنت به
الأمة الإسلامية بما عرف بمحنة خلق القرآن ، والإثارات المستمرّة حول الجبر
والتفويض والاختيار .
وكانت للإمام الهادي عليهالسلام مساهمات جادّة في كيفية معالجة
الموقف بشكل ذكي ، والرسالة التي أُثيرت عن الإمام الهادي عليهالسلام لأهل الأهواز
تضمّنت ردّاً علمياً تفصيلياً على شبهة الجبر والتفويض ، بل تضمّنت بيان منهج بديع
سلكه الإمام عليهالسلام
في مقام الرد . وحيث كان الغلو والتصرّف من الظواهر المنحرفة في المجتمع الإسلامي
، فقد واجههما الإمام الهادي عليهالسلام
بالشكل المناسب مع هاتين الظاهرتين(راجع الفصل الثالث من الباب الأول مبحث ( التحذير من مجادلة الصوفيين )
. وراجع أيضاً مبحث ( الإمام والغلاة ) في الفصل الثاني من الباب الرابع .)
.
3 ـ التحدّي
العلمي للسلطة وعلمائها
لقد كان الاختبار العلمي لأئمة أهل البيت
عليهمالسلام
أقصر طريق للحكام لمعرفة ما هم عليه من الجدارة العلمية التي هي أحدى مقوّمات
الإمامة . وهو في نفس الوقت أقصر طريق لأهل البيت عليهمالسلام للتألّق العلمي
في المجتمع الإسلامي .
ومن هنا كانت السلطة بعد إجراء أيّ
اختبار علمي تحاول التعتيم عليه لئلاّ يستفيد أتباع أهل البيت عليهمالسلام من هذه الورقة
المهمّة ضدّ السلطة الحاكمة .
ولكن المصادر التاريخية قد حفظت لنا نصوص
هذه الاختبارات وفيها ما يدلّ على الرّد القاطع من أهل البيت عليهمالسلام على جميع
التحدّيات العلمية التي خطّطت لهم وانتصارهم في هذا الميدان الذي كان يعيد لهم
مرجعيّتهم الدينية في الأمة الإسلامية .
وإليك نموذجاً من هذا
الاختبار الذي أجراه ابن الأكثم في عصر المتوكل ثم حاول التعتيم عليه .
فقد روى ابن شهر آشوب أنّه
: قال المتوكل لابن السكّيت اسأل ابن
الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي . فسأله ، فقال : لم بعث الله موسى بالعصا ، وبعث عيسى
بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف ؟ فقال أبو الحسن عليهالسلام : بعث
الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر ، فأتاهم من ذلك
ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجّة عليهم ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء
الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطّب فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص
وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم .
وبعث محمّداً بالقرآن
في زمان الغالب على أهله السّيف والشّعر فأتاهم من القرآن الزاهر والسّيف القاهر
ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم وأثبت الحجّة عليهم ،
فقال ابن السّكيت : فما الحجّة الآن ؟ قال : العقل
، يعرف به الكاذب على الله فيكذّب .
فقال يحيى بن أكثم : ما
لابن السّكيت ومناظرته ؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاساً فيه مسائل فأملى عليّ بن محمد عليهماالسلام على ابن السّكيت جوابها (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 25 .) .
وجاء في رواية أخرى أنّ
هذه الأسئلة قد كتبها ابن الأكثم لموسى بن محمد بن الرضا ، ومن الواضح أنّ المقصود
بها هو الإمام الهادي عليهالسلام
بلاريب ؛ ولهذا جاء بها أخوه موسى إليه فأجاب عنها الإمام عليهالسلام ، وإليك نصّ الرواية :
عن موسى بن محمد بن الرضا قال
:
لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد عليهماالسلام فدار بيني
وبينه من المواعظ ما حمّلني وبصّرني طاعته ، فقلت له : جُعلت فداك إنّ ابن أكثم
كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ، فضحك عليهالسلام ثم
قال : وما هي ؟
قلت : كتب
يسألني عن قول الله : (قَالَ
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل (27) : 40 .) نبي
الله كان محتاجاً إلى علم آصف ؟
وعن قوله : (وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)
(يوسف (12)
: 100 .) سجد
يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء ؟
وعن قوله : ( فَإِنْ كُنْتَ
فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ ) (يونس (10) : 94 .) ،
مَن المخاطب بالآية ؟ فإن كان المخاطب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد
شكّ ، وإن كان المخاطب غيره ، فعلى مَن إذن أُنزل الكتاب .
وعن قوله : ( وَلَوْ أَنَّ
مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ )
(لقمان : (31) : 27 .) ما
هذه الأبحر ؟ وأين هي ؟
وعن قوله : ( وفيها ما
تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ) (الزخرف (43) : 71 .)
فاشتهت نفس آدم عليهالسلام أكل البر فأكل وأطعم وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف
عُوقب ؟
وعن قوله ( أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (الشورى (42) : 50 .) يزوّج
الله عباده الذكران وقد عُوقب قوم فعلوا ذلك ؟
وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال
الله : (
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (الطلاق (65) : 2 .)
؟
وعن الخنثى ، وقول علي عليهالسلام : يورث من المبال ، فمَن ينظر ـ
إذا بال ـ إليه ؟ مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليها الرجال ، أو عسى أن
يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل . وشهادة الجارّ إلى نفسه لا
تقبل .
وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي
ينزو على شاة منها فلمّا بصر بصاحبها خلّى سبيلها ، فدخلت بين الغنم كيف تذبح ؟
وهل يجوز أكلها أم لا ؟
وعن صلاة الفجر لِمَ يجهر
فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار ؟ وإنّما يجهر في صلاة الليل .
وعن قول علي عليهالسلام لابن جرموز : بشّر قاتل ابن صفية
بالنار ، فلِمَ لم يقتله وهو إمام ؟!
وأخبرني عن علي عليهالسلام لم قتل أهل صفّين وأمر بذلك
مقبلين ومدبرين وأجاز على الجرحى ؟ وكان حكمه يوم الجمل أنّه لم يقتل مولّياً ولم
يجهز على جريح ولم يأمر بذلك ، وقال مَن دخل داره فهو آمن ، ومَن ألقى سلاحه فهو
آمن . لِمَ فعل ذلك ؟ فإن كان الحكم الأوّل صواباً فالثاني خطأ . وأخبرني عن رجل
أقرّ باللواط على نفسه أيحد أم يدرأ عنه الحد ؟
قال عليهالسلام
: اكتب إليه : قلت : وما اكتب ؟ قال عليهالسلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأنت
فألهمك الله الرشد ، أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنّتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن
قصرنا فيها والله يكافيك على نيّتك ، وقد شرحنا مسائلك فاصغ إليها سمعك وذلّل لها
فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجّة والسلام . سألت عن قول الله عزّ وجل : (قَالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز
سليمان عليهالسلام عن
معرفة ما عرف آصف لكنّه صلوات الله عليه أحب أن يعرّف أُمّته من الجن والإنس أنّه
الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان عليهالسلام
أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهّمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته ، كما
فهّم سليمان عليهالسلام في حياة داود عليهالسلام لتعرف نبوّته وإمامته من بعد لتأكّد الحجّة على الخلق .
وأمّا سجود يعقوب عليهالسلام
وولده كان طاعة لله ومحبّة ليوسف عليهالسلام ، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم عليهالسلام
لم يكن لآدم عليهالسلام وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم عليهالسلام
، فسجود يعقوب وولده ويوسف عليهالسلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم
تره يقول في شكره ذلك الوقت : (رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ـ
إلى آخر الآية ـ ) (يوسف (12) : 102 .) .
وأمّا قوله : (فَإِنْ كُنْتَ
فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ ) .
فإنّ المخاطب به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم
يكن في شكّ ممّا انزل إليه ولكن قالت الجهلة كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة
إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق ؟!
فأوحى الله إلى نبيه ، ( فسئل الذين يقرءون الكتاب ) بمحضر الجهلة ، هل بعث الله
رسولاً قبلك إلاّ هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أُسوة ، وإنّما قال :
فإن كنت في شكّ ولم يكن شكّ ولكن للمنفعة كما قال : (تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (آل عمران (3) : 61 .)
.
ولو قال ( عليكم ) لم يجيبوا إلى
المباهلة ، وقد علم الله أنّ نبيّه يؤدّي عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، فكذلك
عرف النبي أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه .
وأمّا قوله : (وَلَوْ أَنَّ
مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ) .
فهو كذلك لو أنّ أشجار الدنيا أقلام
والبحر يمدّه سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي
عين الكبريت وعين التمر وعين الـ ( برهوت ) وعين طبرية وحمّة ماسبندان وحمّة
افريقية يدعى لسان وعين بحرون ، ونحن كلمات الله لا تنفد ولا تُدرك فضائلنا .
وأمّا الجنّة فإنّ فيها من المآكل
والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأباح الله ذلك كلّه لآدم عليهالسلام والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليهالسلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد
عهد إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين
الحسد ولم يجد له عزماً .
وأمّا قوله : (أو يزوّجهم
ذكراناً واناثاً) أي
يولد له ذكور ويولد له إناث يقال لكل اثنين مقرنين زوجان كل واحد منهما زوج ،
ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ، (... ومَن يفعل
ذلك يلقَ اثاماً * يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويَخْلُدْ فيه مهاناً )
(الفرقان (25) : 68 ـ 69 .) إن
لم يتب .
وأمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي
القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضى فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان
بدل الرجل للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل
قولها مع يمينها .
وأمّا قول علي عليهالسلام في الخنثى فهي كما قال : ينظر
قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة وينظرون في المرايا
فيرون الشبح فيحكمون عليه .
وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا
على شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما
فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال
كذلك حتى تبقى شاتان فيقرع بينهما فأيتها وقع السهم بها ذُبحت وأُحرقت ونجا سائر
الغنم .
وأمّا صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة ؛
لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يغلس بها فقراءتها من الليل .
وأمّا قول علي عليهالسلام
:
بشّر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان ممّن خرج
يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين عليهالسلام
بالبصرة ؛ لأنّه علم أنّه يُقتل في فتنة نهروان .
وأمّا قولك : إنّ
عليّاً عليهالسلام قتل
أهل صفّين مُقبلين ومُدبرين وأجاز على جريحهم وأنّه يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم
يجهز على جريح ومَن ألقى سلاحه آمنه ومَن دخل داره آمنه ، فإنّ أهل الجمل قتل
امامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وإنّما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين
ولا مخالفين ولا متنابذين ، رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيها رفع السيف عنهم والكف
عن أذاهم ؛ إذ لم يطلبوا عليه أعواناً .
وأهل صفّين كانوا يرجعون
إلى فئة مستعدّة وإمام يجمع لهم السلاح : الدروع والرماح
والسيوف ويسني لهم العطاء ، يهيّئ لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي
جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فلم يساوِ
بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتل أهل التوحيد لكنّه شرح ذلك لهم ،
فمَن رغب عرض على السيف أو يتوب من ذلك .
وأمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم
تقم عليه بيّنة وإنّما تطوع بالإقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله أن
يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله ، أمّا ما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) ،
قد انبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك (تحف العقول : 352 .) .
وقد أوضحت هذه الرواية الموقع العلمي
للإمام عليهالسلام
ومدى تحدّيه لعلماء عصره ولاسيّما علماء البلاط الذين لا يروق لهم مثل هذا التحدّي
.
ولهذا قال ابن أكثم
للمتوكل بعد ما قرأ هذه الأجوبة : ما نحب أن نسأل
هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه ، وأنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي
ظهور علمه تقوية للرافضة
(المناقب : 3/443 .)
.
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة
إنّ النفوذ الذي نجده للإمام الهادي عليهالسلام هو النفوذ المعنوي على عامّة
رجال السلطة بما فيهم مَن لا يدين بالولاية لأهل البيت عليهمالسلام .
وقد كانت أساليب الإمام عليهالسلام
في هذا المجال متنوّعة وواسعة فإنّه كان مطالباً بالحضور في دار الخلافة بشكل
مستمر .
ومن هنا كان التعرّف على شخص الإمام عليهالسلام وهديه
وسكونه واتّزانه أمراً طبيعياً وفّر له هذه الفرصة والتي لم يلتفت الحكّام إلى مدى
تبعاتها وآثارها التي تركتها في الساحة الإسلامية العامة وروّاد البلاط بشكل خاص .
وقد كانت للإمام عليهالسلام
كرامات شتّى كلّما دخل وخرج من دار الخلافة .
وقد قال أحد ندماء المتوكل
للمتوكل : ما يعمل أحد بك أكثر ممّا تعمله بنفسك في علي بن محمد
، فلا يبقى في الدار إلاّ مَن يخدمه ولا يتبعونه بشيل ستر ولا فتح باب ولا شيء ،
وهذا إذا علمه الناس قالوا : لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل به هذا ، دعه إذا
دخل عليه يشيل الستر لنفسه ويمشي كما يمشي غيره فيمسّه بعض الجفوة .
فتقدم ألاّ يخدم ولا يشال بين يديه ستر ،
وكان المتوكل ما رأى أحداً ممّن يهتم بالخبر مثله .
قال : فكتب
صاحب الخبر إليه : أنّ علي بن محمد دخل الدار فلم يخدم ولم
يشل أحد بين يديه ستر فهبّ هواء رفع الستر له فدخل .
فقال : اعرفوا حين خروجه ، فذكر صاحب
الخبر أنّ هواء خالف ذلك الهواء شال الستر له حتى خرج ، فقال
: ليس نريد هواء يشيل الستر ، شيلوا الستر بين يديه (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 39 .) .
كما نجد جملة من الكتّاب
والحجّاب والعيون وحتى السجّان ، فضلاً عن بعض القادة والأُمراء كانوا يدينون
بالولاء والحبّ الخاص للإمام الهادي عليهالسلام ، وقد رأينا في قصّة مرض المتوكل ونذر أُمّه للإمام
الهادي عليهالسلام (راجع مبحث تفتيش دار الإمام عليهالسلام في حكم المتوكلّ .) ما
يدل دلالة واضحة على مدى نفوذ الإمام عليهالسلام في
هذه الأوساط ، بينما كان المتوكّل قد خطّط لإبعاد الإمام عن شيعته ومحبّيه وإذا
بالإمام عليهالسلام
يكتسح نفوذه المعنوي أرباب البلاط ويستبصر على يديه مجموعة ممّن لم يكن يعرف
الإمام عليهالسلام أو
لم يكن ليواليه ، وكان الإمام عليهالسلام
يستفيد من هؤلاء في تحرّكه وارتباطاته التي خطّط الحكّام لمراقبتها أو قطعها
وإبعاد الإمام عليهالسلام عن قواعده وعن الوسط الاجتماعي الذي يريد أن يتحرّك
فيه .
الفصل الثاني : الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها
1 ـ الإمام الهادي عليهالسلام
وقضيّة حفيده المهدي عليهالسلام
عرفنا أنّ قضية الإمام المهدي عليهالسلام في عصر الإمام الهادي عليهالسلام تُعدّ قضية أساسية للمسلمين بشكل
عام ، ولأتباع أهل البيت عليهمالسلام
بشكل خاص ، والظروف التي كانت تحيط بالإمام الهادي عليهالسلام كانت تزداد حراجة كلّما اقتربت
أيّام ولادة الإمام المهدي عليهالسلام
وغيبته .
ولابد أن نبحث عن هذه القضية في محورين :
الأول منهما خاص بالإمام المهدي عليهالسلام ،
والثاني منهما يرتبط بأتباعه وشيعته .
أمّا المحور الأول ،
فالإمام الهادي عليهالسلام
مسؤول عن ترتيب التمهيدات اللازمة لولادة الإمام المهدي عليهالسلام بحيث يطّلع الأعداء عليها وهم
يراقبون بدقّة كل تصرّفات الإمام الهادي ونشاط ابنه الحسن العسكري عليهماالسلام .
وتشير النصوص إلى كيفية تدخّل الإمام
الهادي عليهالسلام
لاختيار زوجة صالحة للإمام الحسن العسكري عليهالسلام
بحيث تقوم بالدور المطلوب منها في إخفاء ولادة ابنها المنتظر (راجع القصّة في كمال الدين : 417 ، ومسند الإمام الهادي عليهالسلام : 98 ـ 104 .) .
وقد تظافرت نصوص الإمام الهادي عليهالسلام على أنّ المهدي الذي ينتظر هو
حفيده وولد الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
وأنّه الذي يولد خفية ويقول الناس عنه إنّه لم يولد بعد ، وإنّه الذي لا يرى شخصه
ولا يحل ذكره باسمه .
وهكذا ، وتضمّنت هذه النصوص جملة من
التعليمات الكفيلة بتحقيق غطاء ينسجم مع مهمّة الاختفاء والغيبة من قِبل الإمام
المهدي عليهالسلام .
ومن أجل تحقيق عنصر الارتباط بالإمام في
مرحلة الغيبة الأولى والتي تُعرف بالصغرى عمل الإمام على ربط شيعته ببعض وكلائه
بشكل خاص وجعله حلقة الوصل بعد كسب ثقة شيعته بهذا الوكيل الذي تولّى مهمّة
الوكالة للإمام الهادي والعسكري والمهدي عليهمالسلام
معاً ؛ وبذلك يكون قد مهّد لسفارة أوّل سفراء الإمام المهدي عليهالسلام من دون حدوث مضاعفات خاصة ؛ لأنّ
أتباع أهل البيت عليهمالسلام قد
اعتادوا على الارتباط بالإمام المعصوم من خلاله .
وإليك نصوص الإمام الهادي عليهالسلام
حول قضيّة الإمام المهدي عليهالسلام :
1 ـ الكليني ، عن علي بن محمد ، عن بعض
أصحابنا ، عن أيوب بن نوح ، عن أبي الحسن الثالث عليهالسلام قال : إذا
رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا الفرج من تحت أقدامكم .
2 ـ الصدوق قال : حدّثنا علي بن أحمد بن
موسى الدقّاق ، وعليّ بن عبد الله الورّاق رضي الله عنهما قالا : حدّثنا محمد بن
هارون الصوفي قال : حدثنا أبو تراب عبد الله بن موسى الرّوياني ، عن عبد العظيم بن
عبد الله الحسنيّ قال : دخلت على سيدي علي بن محمد عليهماالسلام فلمّا بصر بي
قال لي : مرحباً بك يا أبا
القاسم أنت وليّنا حقّاً قال : فقلت له : يا بن رسول الله إنّي أريد
أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه حتى ألقى الله عزّ وجل .
فقال : هات
يا أبا القاسم ، فقلت : إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى واحد ،
ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وإنّه ليس بجسم ولا
صورة ، وعرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، وخالق الأعراض
والجواهر ، وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وإنّ محمداً صلّى الله عليه وآله
عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وإن شريعته خاتمة
الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة .
وأقول : إنّ
الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم
الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر
، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي ، فقال عليهالسلام : ومن
بعدي الحسن ابني فكيف للناس بالخلق من بعده ؟ قال : قلت : وكيف ذاك
يا مولاي ؟ قال : لأنّه لا يرى شخصه ،
ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً .
قال : فقلت : أقررت وأقول : إنّ وليّهم
ولي الله ، وعدوّهم عدوّ الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله .
وأقول : إنّ المعراج حقٌّ ، والمساءلة في
القبر حقٌّ ، وإنّ الجنة حقٌّ ، والنار حقٌّ ، والميزان حقٌّ ، ( وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .
وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية
: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
.
فقال علي بن محمد عليهماالسلام
:
يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي
ارتضاه لعباده فاثبت عليه ، ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و
( في ) الآخرة (كمال الدين : 379 .) .
3 ـ عنه قال : حدثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عمر الكاتب ، عن عليّ بن محمد
الصيمريّ ، عن علي بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليهالسلام اسأله عن الفرج ، فكتب إليّ : إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين
فتوقّعوا الفرج (كمال الدين : 380 .) .
4 ـ عنه قال : حدّثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدّثني إبراهيم بن مهزيار ، عن أخيه عليّ بن
مهزيار ، عن عليّ بن محمد بن زياد قال : كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليهالسلام اسأله عن الفرج ، فكتب إليّ : إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقّعوا
الفرج (كمال الدين : 381 .) .
5 ـ عنه قال : حدثنا أبي رضياللهعنه
قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي غانم القزويني
قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن فارس قال : كنت أنا[ ونوح ] وأيوب بن نوح في طريق
مكة فنزلنا على وادي زبالة فجلسنا نتحدّث فجرى ذكر ما نحن فيه وبعد الأمر علينا
فقال أيوب بن نوح : كتبت في هذه السنة أذكر شيئاً من هذا ، فكتب إليّ : إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقّعوا
الفرج من تحت أقدامكم
(كمال الدين
: 381 .) .
6 ـ عن أبي جعفر محمد بن أحمد العلوي عن
أبي هاشم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن (ع)يقول
: الخلف بعدي ابني الحسن فكيف بالخلف بعد
الخلف ؟! فقلت : ولم ، جعلني الله فداك ؟ قال : إنّكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره
باسمه ، قلت : فكيف نذكره ؟ فقال : قولوا
الحجّة من آل محمد
( ص) (إثبات
الوصية : 208 .) .
7 ـ عن الصقر بن أبي دلف قال : سمعت علي
بن محمد بن علي الرضا عليهمالسلام
يقول : الإمام بعدي الحسن
ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما
مُلئت جوراً وظلماً
(كمال الدين : 383 ح 10 وعنه في إعلام الورى
: 2/247 .) .
ــــــــــــــ
8 ـ روى علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن علي
بن صدقة ، عن علي بن عبد الغفار قال : لمّا مات أبو جعفر الثاني كتبت الشيعة إلى
أبي الحسن صاحب العسكر يسألونه عن الآخر فكتب عليهالسلام
: الأمر بي ما دمت حيّاً فإذا نزلت بي
مقادير الله تبارك وتعالى أتاكم الخلف منّي ، فأنّى لكم بالخلف بعد الخلف ؟!
9 ـ وروى إسحاق بن محمد بن أيوب قال :
سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول : صاحب هذا الأمر مَن يقول الناس لم يولد
بعد (إعلام الورى : 2/247 الحديث الأخير وقبله .) .
وأمّا المحور الثاني فهو الأعداد النفسي
وتحقيق الاستعداد الواقعي لدور غيبة الإمام المهدي عليهالسلام
من قِبل شيعة الإمام عليهالسلام .
وقد حقّق الإمام هذا الاستعداد وأخرجه من
عالم القوّة إلى عالم الفعلية بما خطّطه لشيعته من تعويدهم على الاحتجاب عنهم ،
والارتباط بهم من خلال وكلائه ونوّابه ، وتوعيتهم على الوضع المستقبلي ؛ لئلاّ
يُفاجأوا بما سيطر عليهم من ظروف جديدة لم يألفوها من ذي قبل .
وكان للإمام الهادي عليهالسلام
أسلوب خاص لطرح إمامة ابنه الحسن العسكري عليهالسلام
بما يتناسب مع مهمّته المستقبلية في الحفاظ على حجّة الله ووليّه الذي سيولد في
ظرف حرج جدّاً ؛ ليتسنّى لأتباعه الانقياد للإمام من بعده والتسليم له فيما سيخبر
به من وقوع الولادة وتحقّق الغيبة وتحقّق الارتباط به عبر سفيره الذي تعرّفت عليه
الشيعة ووثقت به .
ولهذا تفنّن الإمام الهادي عليهالسلام
في كيفية طرح إمامة الحسن عليهالسلام وزمن
طرح ذلك وكيفيّة الإشهاد عليه .
ومنه يبدو أنّ التعتيم الإعلامي حتى على
إمامة الحسن العسكري عليهالسلام كان
مقصوداً للإمام الهادي عليهالسلام ،
فتارة ينفي إمامة غيره وأخرى يكنّيه وثالثة يصفه ببعض الصفات التي قد توهم إرادة
غيره في بادئ النظر وترشد إليه في نهاية المطاف كما ورد عنه أنّ هذا الأمر في
الكبير من ولدي .
حيث إنّ الكبير هو ( محمد ) المكنّى بأبي
جعفر غير أنّه قد مات في حياة والده فلم يكن الكبير سوى الحسن عليهالسلام .
وإليك جملة من هذه النصوص
التي يمكن تصنيفها بحسب تسلسلها الزمني إلى ما صدر من الإمام الهادي عليهالسلام
قبل وفاة أبي جعفر ، وما صدر حين وفاته ، وما صدر بعدها ، وما صدر منه قُبيل
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام .
ويكفي الاطلاع عليها بتسلسلها التاريخي
لنطمئن بتخطيط الإمام الهادي عليهالسلام من
أجل تحصين الجماعة الصالحة من كل إبهام أو تشكيك أو فراغ عقائدي أو انهيار ، بعد
إيضاح الحق وتبلّجه لأهله الذين عرفوا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إمّا ظاهر مشهور
أو خائف مستور .
وإليك هذه النصوص كالآتي :
1 ـ عن علي بن عمرو العطار قال : دخلت
على أبي الحسن العسكري عليهالسلام
وأبو جعفر ابنه في الاحياء ، وأنا أظن أنّه هو فقلت : جُعلت فداك مَن أخصّ من ولدك
؟ فقال : لا تخصّوا أحداً حتى
يخرج إليكم أمري .
قال : فكتبت إليه بعد : فيمَن يكون هذا
الأمر ؟ قال : فكتب إليّ : في
الكبير من ولدي
(أُصول الكافي : 1 / 326 ح 7 .) .
ولا تعني إشارة الإمام إلى ولده أبي جعفر
فهو يعلم أنّه سيمضي في حياته وسيكون الكبير أبا محمد العسكري عليهالسلام وهو المؤهّل لها دون غيره من
إخوته .
2 ـ وعن علي بن عمر النوفلي قال : كنت مع
أبي الحسن عليهالسلام في
صحن داره فمرّ محمد ابنه فقلت له جُعلت فداك هذا صاحبنا بعدك ؟ فقال : لا ، صاحبكم بعدي الحسن (1) .
3 ـ عن إسحاق بن محمد عن محمد بن يحيى بن
رئاب قال : حدثني أبو بكر الفهفكي قال : كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام أسأله عن مسائل فلمّا نفذ الكتاب
قلت في نفسي : إنّي كتبت فيما كتب أسأله عن الخلف من بعده وذلك بعد مضي محمد ابنه
فأجابني عن مسائلي : وكنت
أردت أن تسألني عن الخلف ، أبو محمد ابني اصح آل محمد صلّى الله عليه وآله غريزة
وأوثقهم عقيدة بعدي وهو الأكبر من ولدي إليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها فما كنت
سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يحتاج إليه والحمد لله (2) .
4 ـ عن علان الكلابي عن إسحاق بن إسماعيل
النيشابوري قال حدثني شاهويه بن عبد الله الجلاب قال : كنت رويت دلائل كثيرة عن
أبي الحسن عليهالسلام في
ابنه محمد فلمّا مضى بقيت متحيّراً وخفت أن أكتب في ذلك فلا أدري ما يكون فكتبت
اسأل الدعاء ، فخرج الجواب بالدعاء لي وفي آخر الكتاب :
أردت أن تسأل عن الخلف وقلقت لذلك فلا تغتم فإنّ الله عزّ وجلّ لا يضل قوماً بعد
أن هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون ، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني عنده علم ما تحتاجون
إليه يقدّم الله ما يشاء ويؤخّر ما يشاء قد كتبت بما فيه تبيان لذي لبٍّ يقظان (3) .
5 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضياللهعنه قال
: حدثنا الصقر ابن أبي دلف قال : سمعت علي بن محمد بن علي الرضا عليهالسلام
يقول : إنّ الإمام بعدي
الحسن ابني ، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت
جوراً وظلماً (كمال الدين : 382 ح 8 وعنه في إعلام الورى : 2/ 247
.) .
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 325 ح 2 .
(2) إثبات
الوصية : 208 .
(3) إثبات الوصية : 209 .
6 ـ عن علي بن محمد ، عن محمد بن أحمد
النهدي ، عن يحيى بن يسار القنبري قال : أوصى أبو الحسن عليهالسلام
إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر ، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (أصول الكافي : 1 / 325 ح 1 ب النصّ على إمامة أبي محمد عليهالسلام .)
.
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة
إنّ هذا الترصين وإكمال البناء الذي نريد
الحديث عنه قد قام به الإمام الهادي عليهالسلام في كل المجالات التي تهمّ الجماعة الصالحة التي سوف
تفقد نعمة الارتباط بالإمام المعصوم عليهالسلام
في
وقت لاحق وقريب جداً .
فلابدّ أن يتكامل بناؤها بحيث تكتفي بما
لديها من نصوص وتراث علمي وعلماء بالله تعالى يمارسون مهمّة الريادة الاجتماعية
والفكرية والدينية ، ويسهرون على مصالح وشؤون هذه الجماعة ؛ لتستمر في مسيرتها
التكاملية باتجاه الأهداف الرسالية المرسومة لها .
ونلخّص هذا التحصين في المجالات
التالية :
أ : التحصين العقائدي .
ب : التحصين العلمي .
ج : التحصين التربوي .
د : التحصين الأمني .
هـ : التحصين الاقتصادي
ــــــــــــــ
تمثَّلَ التحصين العقائدي الذي مارسه
الإمام عليهالسلام في
تبيان وشرح وتعميق المفاهيم العقائدية بشكل خاص والدينية بشكل عام .
كما تمثّل في دفع الشبهات والإثارات
الفكرية التي كانت تتداولها المدارس الفكرية آنذاك .
والنصوص التي أُثرت عن الإمام عليهالسلام حول الرؤية والجبر والاختيار
والتفويض والرد على الشبهات المثارة حول آيات القرآن الكريم تفيد تصدّي الإمام عليهالسلام لهذا التحصين
العقائدي في الساحة الإسلامية العامة والخاصة معاً .
ولم يكتف الإمام عليهالسلام بالردّ على الشبهات العامة بل
تصدّى للردّ الخاص على ما كان يُثار من تساؤلات خاصة تعرض لأفراد من أتباعه أو
ممّن كان يتوسّم فيهم الإمام عليهالسلام
الانقياد للحق كبعض الواقفة الذين اهتدوا بفضل توجيهات الإمام عليهالسلام .
قال علي بن مهزيار :
وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم الربيع
إلاّ أنّه صائف والناس عليهم ثبات الصيف وعلى أبي الحسن لباد وعلى فرسه تجفاف لبود
وقد عقد ذنب الفرس ، والناس يتعجّبون منه ويقولون ألا ترون هذا المدني ما قد فعل
بنفسه ، فقلت في نفسي : لو كان هذا إماماً ، ما فعل هذا .
فلمّا خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا
أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتلّ حتى غرق بالمطر وعاد عليهالسلام وهو سالم من جميعه ، فقلت في
نفسي : يوشك أن يكون هو الإمام ، ثم قلت : أُريد أن اسأله عن الجنب إذا غرق في
الثوب فقلت في نفسي : إن كشف وجهه فهو الإمام.
فلمّا قرب منّي كشف وجهه ثم قال : إن كان
عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه ، وإن كان جنابته من حلال
فلا بأس .
فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة (المناقب : 2/451 .)
.
وروى هبة الله ابن أبي منصور الموصلي
أنّه كان بديار ربيعة كاتب نصراني وكان من أهل كفرتوثا يسمّى يوسف بن يعقوب وكان
بينه وبين والدي صداقة ، قال : فوافى فنزل عند والدي فقال له : ما شأنك قدمت في
هذا الوقت ؟ قال : دعيت إلى حضرة المتوكّل ولا أدري ما يراد منّي إلاّ أنّي اشتريت
نفسي من الله بمائة دينار ، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا عليهمالسلام معي فقال له
والدي : قد وفّقت في هذا .
قال : وخرج إلى حضرة المتوكّل وانصرف
إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي : حدثني حديثك ، قال : صرت إلى
سرّ مَن رأى وما دخلتها قطّ فنزلت في دار وقلت أُحبّ أن أُوصل المائة إلى ابن
الرضا عليهالسلام قبل
مصيري إلى باب المتوكل وقبل أن يعرف أحد قدومي ، قال : فعرفت أنّ المتوكل قد منعه
من الركوب وأنّه ملازم لداره ، فقلت : كيف أصنع ؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن
الرضا ؟ لا آمن أن يبدر بي فيكون ذلك زيادة فيما أُحاذره .
قال : ففكّرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي
أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعلّي أقف على معرفة داره من
غير أن اسأل أحداً ، قال : فجعلت الدنانير في كاغذة وجعلتها في كمّي وركبت فكان
الحمار يتخرّق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار ، فوقف
الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل ، فقلت للغلام : سل لمَن هذه الدار ، فقيل : هذه دار
ابن الرضا ! فقلت : الله أكبر دلالة والله مقنعة .
قال : وإذا خادم أسود قد خرج ، فقال :
أنت يوسف بن يعقوب ؟ قلت : نعم .
قال : انزل ، فنزلت فأقعدني في الدّهليز
فدخل ، فقلت في نفسي : هذه دلالة أخرى من أين عرف هذا الغلام اسمي وليس في هذا
البلد مَن يعرفني ولا دخلته قط .
قال : فخرج الخادم فقال : مائة دينار
التي في كمّك في الكاغذ هاتها ! فناولته إيّاها ، قلت : وهذه ثالثة .
ثم رجع إليّ وقال : ادخل فدخلت إليه وهو
في مجلسه وحده فقال : يا يوسف ما آن لك ؟ فقلت : يا مولاي قد بان لي من البرهان ما
فيه كفاية لمَن اكتفى .
فقال : هيهات
إنّك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا ، يا يوسف إنّ أقواماً يزعمون
أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم ، كذبوا والله إنّها لتنفع أمثالك امض فيما وافيت له
فإنّك سترى ما تحبّ .
قال : فمضيت إلى باب المتوكّل فقلت كلّ
ما أردت فانصرفت .
قال هبة الله : فلقيت ابنه بعد هذا ـ
يعني بعد موت والده ـ والله وهو مسلم حسن التشيّع فأخبرني أنّ أباه مات على
النصرانية ، وأنّه أسلم بعد موت أبيه ، وكان يقول : أنا بشارة مولاي عليهالسلام
(بحار الأنوار : 50/142 .) .
وروى أبو القاسم البغدادي ، عن
زرارة قال : أراد المتوكّل : أن يمشي علي ابن محمد بن الرضا عليهمالسلام يوم السّلام
فقال له وزيره : إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل ، قال : لا بدّ من هذا
.
قال : فإن لم يكن بُدٌّ من هذا فتقدّم
بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم ، حتى لا يظن الناس أنّك قصدته بهذا دون غيره ،
ففعل ومشى عليهالسلام
وكان الصيف فوافى الدهليز وقد عرق .
قال : فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت
وجهه بمنديل وقلت : ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك ، فلا تجد عليك في قلبك .
فقال : إيهاً عنك ( تَمَتَّعُوا
فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .
قال زرارة :
وكان عندي معلّم يتشيّع وكنت كثيراً أمازحه بالرافضيّ فانصرفت إلى منزلي وقت
العشاء وقلت : تعال يا رافضي حتى أُحدثك بشيء سمعته
اليوم من إمامكم ، قال لي : وما سمعت ؟ فأخبرته بما قال ، فقال : أقول لك فاقبل
نصيحتي .
قلت : هاتها ، قال : إن كان عليّ بن محمد
قال بما قلت فاحترز واخزن كلّ ما تملكه فإنّ المتوكّل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة
أيام .
فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يديّ
فخرج .
فلمّا خلوت بنفسي ، تفكّرت وقلت : ما
يضرّني أن آخذ بالحزم ، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم
يضرّني ذلك ، قال : فركبت إلى دار المتوكلّ فأخرجت كل ما كان لي فيها وفرّقت كلّ
ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه .
فلمّا كانت الليلة الرابعة قُتل المتوكل
وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك ، فصرت إليه ، ولزمت خدمته ، وسألته أن يدعو لي
وتواليته حق الولاية
(بحار الأنوار : 50/147 .) .
وبإسناده عنه قال : اجتمعنا أيضاً في
وليمة لبعض أهل سُرّ مَن رأى وأبو الحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا نرى له
إجلالاً ، فاقبل على جعفر وقال : إنّه لا يأكل من هذا الطعام وسوف يرد عليه من خبر
أهله ما ينغّص عليه عيشه ، فقدمت المائدة فقال : ليس بعد هذا خبر ،وقد بطل قوله فو
الله لقد غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فإذا
غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال : الحق أُمّك فقد وقعت من فوق البيت وهي
بالموت ، فقال جعفر : قلت : والله لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه (الثاقب : 214 .)
.
الموقف من
الغلاة والفرق المنحرفة
ويعتبر موقف الإمام الهادي عليهالسلام الصارم مع
الغلاة خطوة من خطوات التحصين العقائدي للجماعة الصالحة وإبعادها من عوامل
الانحراف والزيغ العقائدي الذي ينتهي إلى الكفر بالله تعالى أو الشرك به .
ويكمن نشاطه عليهالسلام في فضح حقيقة هذا الخط المنحرف
كما تجلّى في فضح عناصره .
والنصوص التي بأيدينا أشارت إلى أنّ
الذين عرفوا بالغلو في عصره هم : أحمد بن هلال العبرطائي البغدادي ، والحسين بن
عبيد الله القمّي الذي أُخرج من قم لاتّهامه بالغلو ، ومحمد بن أرومة ، وعلى بن
حسكة القمّي ، والقاسم اليقطيني ، والفهري ، والحسن بن محمد بن بابا القمّي ،
وفارس بن حاتم القزويني .
وأمّا كيفية تعامل الجماعة الصالحة ، مع
هؤلاء فقد بيّنه عليهالسلام
فيما يلي : فعن أحمد بن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى الإمام الهادي عليهالسلام في قوم يتكلّمون ويقرأون أحاديث
ينسبونها إليك والى آبائك فيها ما تشمئز منها القلوب ، وأشياء من الفرائض والسنن
والمعاصي تأوّلوها فإن رأيت أن تبيّن لنا وأن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم
ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تصيّرهم إلى
العطب والهلاك ؟ والذين ادّعوا هذه الأشياء ، ادعّوا أنّهم أولياء ، ودعوا إلى
طاعتهم منهم : علي بن حسكة ، والقاسم اليقطيني ، فما تقول في القبول منهم جميعاً ؟
فكتب الإمام الهادي عليهالسلام : (
ليس هذا ديننا فاعتزله )
(رجال الكشي : 517 ح 994 و995 .) .
ظاهرة الزيارة
ودورها في التحصين العقائدي
إنّ ظاهرة الاهتمام بالزيارة لأهل البيت عليهمالسلام جميعاً أو
لآحاد من الأئمة عليهمالسلام
كالزيارة المعروفة بالجامعة الكبيرة ، أو زيارة أمير المؤمنين عليهالسلام هي خطوة مهمة
في مجال تعميق الوعي وترسيخ الولاء والانشداد لأهل بيت الرسالة عليهمالسلام ، وفي هذا
التعميق الواعي والانشداد العاطفي تحصين عقائدي واضح تميّز به الإمام الهادي عليهالسلام .
وحين نقف على جملة المفاهيم التي وردت في
هذه الزيارات نلمس بوضوح هذا الخط من التحصين العقائدي فيها .
ولنقف بعض الوقت متأمّلين عند
هاتين الزيارتين المأثورتين عن الإمام الهادي عليهالسلام :
أوّلاً :
الزيارة الجامعة الكبيرة
عن موسى بن عمران النخعي قال : قلت لعلي
بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام : علمني يا ابن
رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم فقال عليهالسلام : قل
: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط
الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزان العلم ، ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم ، وقادة الأمم
، وأولياء النعم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وساسة العباد ، وأركان
البلاد ، وأبواب الإيمان ، وأُمناء الرحمان ، وسلالة النبيّين ، وصفوة المرسلين ،
وعترة خيرة ربّ العالمين ، ورحمة الله وبركاته .
وتعتبر هذه الزيارة من
المصادر الفكرية المهمّة ومن الوثائق التي نستل منها ملامح التصوّر السليم .
ولذا نشير إلى بعض ما جاء فيها
من مفاهيم :
1 ـ اصطفاء أهل البيت عليهمالسلام
في المقطع الأوّل الذي بدأت به
الزيارة حدّد الإمام عليهالسلام المعاني التالية :
أ ـ إنّ
الله اختصّ أهل البيت عليهمالسلام بكرامته فجعلهم موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط
الوحي .
ب ـ إنّ
هذا الجعل الإلهي نابع من الصفات الكمالية التي يبلغون القمّة فيها كالعلم والحلم
والكرم والرحمة .
ج ـ إنّ
أهل البيت عليهمالسلام هم
موضع الرسالة ؛ لأنّ الله قد اختارهم لمنصب القيادة العليا للبشرية فضلاً عن قيادة
المسلمين .
2 ـ حركة أهل البيت عليهمالسلام
وقال الإمام الهادي عليهالسلام : ( السلام على أئمة الهدى ، ومصابيح
الدجى ، وأعلام التقى ، وذوي النهى ، وأُولي الحجى ، وكهف الورى ، وورثة الأنبياء
، والمثل الأعلى ، والدعوة الحسنى ، وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى
ورحمة الله وبركاته . السلام على محال معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن
حكمة الله ، وحفظة سرّ الله ، وحملة كتاب الله ، وأوصياء نبي الله ، وذرّية رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورحمة الله وبركاته . السلام على الدعاة إلى الله ، والأدلاّء على مرضات الله ،
والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّة الله ، والمخلصين في توحيد الله ،
والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرّمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره
يعملون ورحمة الله وبركاته ) .
وقد دلّ هذا النصّ على ما
يلي :
أ ـ في المسيرة البشرية ينفرز
دائماً خطّان هما : خطّ الهدى وخطّ الضلالة ولكل من الخطّين
قيادته ، وأئمة أهل البيت هم أئمة الهدى ، أمّا غيرهم ممّن يتصدّى للإمامة مخالفاً
لخطّ الهدى فهو من أئمة الضلال ؛ فلذلك لا يكون التلقّي إلاّ منهم ولا يكون نهج
التحرّك إلاّ نهجهم .
ب ـ أمّا واقع الأئمة فهم ذوو
العقول التامّة وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الأعلى
والدعوة الحسنى التي يُحتذى بها .
ج ـ إنّ حركة أهل البيت حركة
إسلامية أصيلة ذات جذور ضاربة في الأعماق ، وهي استمرار
المسيرة النبوية الراشدة وكل حركة تدّعي المنهج الديني أو الإصلاح الدنيوي ولا
تسير على خطاهم فهي منحرفة ؛ فأهل البيت عليهمالسلام
محلّ معرفة الله ، ومساكن بركته ، ومعادن حكمته ، وحفظة سرّه ، وحملة كتابه ،
وأوصياء نبيّه .
د ـ إنّ الدعاة مظاهر أصالة
أهل البيت في المسيرة الإلهيّة كما يلي :
1 ـ أنّهم الدعاة إلى الله والأدلاّء على
مرضاته .
2 ـ ويتميّزون بالثبات على أمر الله .
3 ـ كما يتميّزون بالحب التام لله .
4 ـ والإخلاص في التوحيد .
5 ـ والإظهار لشعائر الله من أمره ونهيه
.
6 ـ وعدم سبق الله بقول ، والعمل بأمره .
ويمكن أن نحدّد
نقاطاً توضح الأُسس الفكرية التي تقوم عليها دعوة أهل البيت ، والتي يجب أن تسير
الحركة الشيعية عليها وتلتزم بحدودها من خلال قوله عليهالسلام
: ( السلام على الأئمة الدعاة ، والقادة
الهداة ، والسادة الولاة ، والذادة الحماة ، وأهل الذكر ، وأُولي الأمر ، وبقيّة
الله وخيرته ، وحزبه وعيبة علمه ، وحجّته وصراطه ، ونوره وبرهانه ورحمة الله
وبركاته .
أشهد أن لا إله إلاّ
الله وحده لا شريك له كما شهد الله لنفسه وشهدت له ملائكته وأُولوا العلم من خلقه
لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم وأشهد أنّ محمداً عبده المنتخب ورسوله المرتضى أرسله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون .
وأشهد أنّكم الأئمة
الراشدون المهديّون المعصومون المكرّمون المقرّبون المتّقون الصادقون المصطفون
المطيعون لله القوّامون بأمره العاملون بإرادته الفائزون بكرامته .
اصطفاكم بعلمه وارتضاكم
لغيبه واختاركم لسرّه واجتباكم بقدرته وأعزّكم بهداه وخصّكم ببرهانه وانتجبكم
لنوره وأيّدكم بروحه ورضيكم خلفاء في أرضه وحججاً على بريّته وأنصاراً لدينه
وحفظةً لسرّه وخزنةً لعلمه ومستودعاً لحكمته وتراجمةً لوحيه وأركاناً لتوحيده
وشهداء على خلقه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وأدلاّء على صراطه .
عصمكم الله من الزلل
وآمنكم من الفتن وطهّركم من الدنس وأَذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً .
فعظَّمتم جلاله
وأكبرتم شأنه ومجّدتم كرمه وأدمتم ذكره ووكّدتم ميثاقه وأحكمتم عقد طاعته ونصحتم
له في السرّ والعلانية ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبذلتم أنفسكم في
مرضاته وصبرتم على الأذى في جنبه وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف
ونهيتم عن المنكر وجاهدتم في الله حقّ جهاده حتى أعلنتم دعوته وبيّنتم فرائضه
وأقمتم حدوده ونشرتم شرايع أحكامه وسننتم سنّته وصرتم في ذلك منه إلى الرضا وسلمتم
له القضاء وصدقتم من رسله من مضى ) .
إنّ العناصر الفكرية الأساسية
للتشيّع والتي تُستفاد من هذا النص هي :
1 ـ الإيمان بالله وحده لا شريك له .
2 ـ محمّد عبده المنتخب ورسوله المرتضى .
3 ـ الأئمة هم بشر راشدون مهديّون
معصومون مكرّمون ، وقيمتهم نابعة من تكريم الله لهم .
على أنّ الجانب العملي لحركة
الأئمّة هو كما يلي :
1 ـ تعظيم الله وإكبار شأنه وتمجيد كرمه
.
2 ـ توكيد ميثاقه وإحكام عقد طاعته .
3 ـ النصح له بالسرّ والعلن .
4 ـ الدعوة له بالحكمة والموعظة الحسنة .
5 ـ التضحية المستمرّة في سبيل الله ببذل
النفس والصبر على المكروه .
6 ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وممارسة
باقي العبادات والحدود الإسلامية .
7 ـ الحفاظ على سلامة الشريعة من التحريف
.
8 ـ التسليم بالقضاء والقدر .
9 ـ التأكيد على وحدة المسيرة النبوية
وتصديق الرسل .
4 ـ الموالون لأهل البيت عليهمالسلام
وبيّن الإمام أنّ هناك صنفين من الناس
قسم يوالي أهل البيت عليهمالسلام
فيسير في طريق الهدى ، وآخر يوالي أعداءهم فيسير في طريق الضلال ، قال عليهالسلام
:
( فالراغب عنكم مارق
، واللازم لكم لاحق ، والمقصّر في حقّكم زاهق .
والحق معكم وفيكم
ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه وميراث النبوّة عندكم وإياب الخلق إليكم وحسابهم
عليكم وفصل الخطاب عندكم وآيات الله لديكم وعزائمه فيكم ونوره وبرهانه عندكم وأمره
إليكم .
مَنْ والاكم فقد والى
الله ، ومَنْ عاداكم فقد عادى الله ، ومَنْ أحبّكم فقد أَحبَّ الله ، ومَن أبغضكم
فقد أبغض الله ، ومَن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله .
وأنتم الصراط الأقوم
وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة والآية المخزونة والأمانة
المحفوظة والباب المبتلى به الناس .
مَنْ أتاكم نجى ومَنْ
لم يأتِكم هلك .
إلى الله تدعون وعليه
تدلّون وبه تؤمنون وله تسلّمون وبأمره تعملون والى سبيله ترشدون وبقوله تحكمون .
سَعَدَ مَن والاكم ،
وهلك مَن عاداكم ، وخاب مَن جحدكم ، وضلّ مَن فارقكم ، وفاز مَن تمسّك بكم ،
وأمن مَن لجأَ اليكم ،
وسلم مَن صدقكم ، وهدي مَن اعتصم بكم .
مَن اتبعكم فالجنّة
مأواه ، ومَن خالفكم فالنار مثواه ، ومَن جحدكم كافر ، ومَن حاربكم مشرك ، ومَن
ردّ عليكم في أسفل درك من الجحيم ) .
الحقيقة الثانية : إنّ
الموالي لأهل البيت عليهمالسلام
يعلم قيمتهم الحقيقية عند الله ؛ لذلك نجده يقول
عليهالسلام
:
( أشهدُ أنَّ هذا
سابق لكم فيما مضى وجارٍ لكم فيما بقي وأنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت
وطهرت بعضها من بعض .
خلقكم الله أنواراً
فجعلكم بعرشه محدقين حتى مَنَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذِنَ اللهُ أن تُرفع
ويُذكر فيها اسمه .
وجعل صلواتنا عليكم
وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارة لأنفسنا وتزكية لنا وكفّارة لذنوبنا
فكنّا عنده مسلمين بفضلكم ومعروفين بتصديقنا إيّاكم ) .
الحقيقة الثالثة : الرغبة في انتشار
أمرهم وتشعشع فضلهم فلا يبقى خير إلاّ وأضاءه نورهم الشريف :
( فبلغ الله بكم أشرف
محلّ المكرمين وأعلى منازل المقرّبين وأرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا
يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع في إدراكه طامع حتى لا يبقى ملك مقرّب ولا نبي
مرسل ولا صدّيق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دنيّ ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا
فاجر طالح ولا جبّار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلاّ عرفهم
جلالة أمركم وعظم خطركم وكبر شأنكم وتمام نوركم وصدق مقاعدكم وثبات مقامكم وشرف
محلّكم ومنزلتكم عنده وكرامتكم عليه وخاصّتكم لديه وقرب منزلتكم منه ).
الحقيقة الرابعة :
الإقرار الدائم بمعتقدات أهل البيت عليهمالسلام
والعمل بموجبها : ( بأبي أنتم وأُمّي
وأهلي ومالي وأُسرتي أُشهد الله وأُشهدكم أنّي مؤمن بكم وبما آمنتم به ، كافر
بعدوّكم وبما كفرتم به ، مستبصر بشأنكم وبضلالة مَن خالفكم موالٍ لكم ولأوليائكم
مبغض لأعدائكم ومعادٍ لهم ، سِلْمٌ لمَن سالمكم وحرب لمَن حاربكم محقّق لما حقّقتم
مبطل لما أبطلتم مطيع لكم عارف بحقّكم مقرّ بفضلكم محتمل لعلمكم ) .
ومن مصاديق الإيمان بقضيّة
أهل البيت قول الإمام عليهالسلام :
( محتجب بذمّتكم ومعترف بكم مؤمن بإيابكم مُصدِّق
برجعتكم منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم آخذ بقولكم عامل بأمركم مستجير بكم زائر لكم
عائذ بقبوركم مستشفع إلى الله عزّ وجلّ بكم ومتقرّب بكم إليه ومقدّمكم أمام طلبتي
وحوائجي وإرادتي في كل أحوالي وأُموري ، مؤمن بسرّكم وعلانيتكم وشاهدكم وغائبكم
وأوّلكم وآخركم ومفوّض في ذلك كلّه إليكم ومسلّم
فيه معكم وقلبي لكم مسلم ورأيي لكم تبع ونصرتي لكم مُعدَّة حتى يحيي الله تعالى
دينه بكم ويردّكم في أيامه ويظهركم لعدله ويُمكّنكم في أرضه فمعكم معكم لا مع
غيركم ، آمنت بكم وتولّيت آخركم بما تولّيت به أوّلكم وبرئت إلى الله عزّ وجلّ من
أعدائكم ومن الجبت والطاغوت والشياطين وحزبهم الظالمين لكم الجاحدين لحقّكم
والمارقين من ولايتكم الغاصبين لإرثكم الشاكين فيكم المنحرفين عنكم ومن كلِّ وليجة
دونكم وكل مطاع سواكم ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار.
فثبّتني الله أبداً ما حييت على موالاتكم ومحبّتكم
ودينكم ووفّقني لطاعتكم ورزقني شفاعتكم وجعلني من خيار مواليكم التابعين لما دعوتم
إليه وجعلني ممّن يقتصُّ آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهديكم ويحشر في زمرتكم ويكرّ
في رجعتكم ويُملَّك في دولتكم ويشرّف في عافيتكم ويُمكَّن في أيامكم وتقرّ عينه
غداً برؤيتكم .
بأبي أنتم وأُمّي ونفسي وأهلي ومالي مَن أراد الله
بدأ بكم ومَن وحَّده قبل عنكم ومَن قصده توجّه بكم .
مواليّ لا أُحصي ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن
الوصف قدركم وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبّار .
بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك
السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه وبكم يُنفّس الهمّ ويكشف الضر .
وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته والى جدّكم
بُعث الروح الأمين ، آتاكم الله ما لم يُؤتِ أحداً من العالمين .
طأطأ كل شريف لشرفكم
وبخع كل متكبّر لطاعتكم وخضع كل جبّار لفضلكم وذلّ كل شيء لكم وأشرقت الأرض بنوركم
وفاز الفائزون بولايتكم ، بكم يُسلك إلى الرضوان وعلى مَن جحد ولايتكم غضب الرحمان
.
بأبي أنتم وأُمّي
ونفسي وأهلي ومالي ذكركم في الذاكرين وأسماؤكم في الأسماء وأجسادكم في الأجساد
وأرواحكم في الأرواح وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار وقبوركم في القبور فما
أحلى أسماءكم وأكرم أنفسكم وأعظم شأنكم وأجلَّ خطركم وأوفى عهدكم وأصدق وعدكم .
كلامكم نور وأمركم
رشد ووصيّتكم التقوى وفعلكم الخير وعادتكم الإحسان وسجيّتكم الكرم وشأنكم الحق
والصدق والرفق وقولكم حكم وحتم ورأيكم علم وحلم وحزم ، إنْ ذُكِرَ الخير كنتم
أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه .
بأبي انتم وأُمّي
ونفسي كيف أصف حسن ثنائكم وأحصي جميل بلائكم وبكم أخرَجنا الله من الذلّ وفَرّج
عنّا غمرات الكروب وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار .
بأبي أنتم وأُمّي
ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم
تَمَّت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ،
ولكم المودّة الواجبة والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله
عزّ وجلّ والجاه العظيم والشأن الكبير والشفاعة المقبولة .
(
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ )
(
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ( سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً) .
يا أولياء الله إنّ
بيني وبين الله عزّ وجلّ ذنوباً لا يأتي عليها إلاّ رضاكم فبحق مَن ائتمنكم على
سرّه واسترعاكم أمر خلقه وقرن طاعتكم بطاعته لمّا استوهبتم ذنوبي وكنتم شفعائي
فإنّي لكم مطيع ؛ مَن أطاعكم فقد أطاع الله ومَن عصاكم فقد عصى الله ومَن أحبّكم
فقد أحبَّ الله ومَن أبغضكم فقد أبغض الله .
اللّهمّ إنّي لو وجدت
شفعاء أقرب إليك من محمّد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي
فبحقّهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقّهم وفي
زمرة المرحومين بشفاعتهم إنّك أرحم الراحمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين
وسلّم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل ) .
ومن هذه الفقرات نستلهم
النقاط التالية :
1 ـ ضرورة الإيمان بإيابهم وقيام دولتهم
.
2 ـ أهمّية زيارة قبورهم .
3 ـ أهمّية الإيمان بالرجعة .
4 ـ أهمّية الإيمان بسرّهم وعلانيتهم .
5 ـ ضرورة الاستعداد لنصرة دولتهم لحدّ
التمكين في الأرض .
6 ـ ضرورة البراءة من عدوّهم .
7 ـ فرح المؤمن بما رزقه الله على يد أهل
البيت .
8 ـ إنّ وحدة المسلمين السليمة لا تتمّ
إلاّ تحت لوائهم عليهمالسلام .
9 ـ إنّ الإيمان بهم لا يكون عاطفياً ،
بل يكون عن وعي وإدراك وبحث وتمحيص (منهاج التحرّك عند الإمام الهادي عليهالسلام: 113 ـ 120 .)
.
من أهمّ زيارات الأئمة الطاهرين ـ عند
الشيعة الإمامية ـ زيارة الغدير ، فقد اهتمّوا بها اهتماماً بالغاً ؛ لأنّها رمز
لذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام ، ذلك اليوم الذي قرّر فيه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المصير الحاسم
لأُمّته ، فنصب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
خليفة على المسلمين .
وقد زار الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام جدّه أمير المؤمنين في السنة
التي أشخصه فيها المعتصم من يثرب إلى سُرّ مَن رأى (مفاتيح الجنان : 363 .) .
نعم زاره بهذه الزيارة التي هي من أروع
وأجلّ الزيارات ، فقد تحدّث فيها عن فضائل الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وما عاناه في عصره من المشاكل
السياسية والاجتماعية .
وإليك بعض ما حفلت به هذه
الزيارة التي هي من ملاحم أهل البيت عليهمالسلام :
1 ـ تحدّث الإمام أبو الحسن الهادي عليهالسلام
في زيارته ( الغديرية ) عن أنّ جدّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
هو أوّل مَن أسلم وآمن بالله واستجاب لدعوة نبيّه ، قال عليهالسلام
مخاطباً جدّه :
( وأنت أوّل مَن آمن
بالله وصلّى له ، وجاهد ، وأبدى صفحته في دار الشرك ، والأرض مشحونة ضلالة والشيطان
يعبد جهرة ... ) .
لقد تظافرت الأخبار بأنّ الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام هو
أوّل مَن أذعن لرسالة خاتم النبيّين ، واستجاب لنداء الله ، ودعى إلى دين الله بعد
رسول الله ، فقد روى ابن إسحاق ، قال :
كان أوّل ذكر آمن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصلّى معه ، وصدّق بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب عليهالسلام
وهو يومئذٍ ابن عشر سنين
(1) .
وروى الطبراني بسنده عن
أبي ذرّ قال : أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيد علي عليهالسلام فقال : ( هذا أوّل مَن آمن بي وأوّل مَن
يصافحني يوم القيامة ... ) (2) .
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعائشة : (
هذا علي بن أبي طالب أوّل الناس إيماناً ) (3). وكثير
من أمثال هذه الأخبار قد أعلنت ذلك .
2 ـ وتحدّث الإمام عليهالسلام في زيارته عن جهاد الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وبسالته وشجاعته وصموده في الحروب قائلاً :
( ولك المواقف المشهودة ، والمقامات المشهورة ،
والأيام المذكورة يوم بدر ، ويوم الأحزاب ( ... وَإِذْ
زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً ) (الأحزاب (33) : 10 ـ 13 .) .
وقال الله تعالى : ( وَلَمَّا رَأَى
الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )
(الأحزاب (33) : 22 .) .
فقتلت عمرهم وهزمت جمعهم ، وردّ الله
الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله
قوياً عزيزاً ، ويوم أحد إذ يصعدون ولا يلوون على أحد والرسول يدعوهم في أًخراهم
وأنت تذود بهم المشركين عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات
اليمين وذات
الشمال حتى ردّهم الله تعالى عنها خائفين ونصر بك الخاذلين .
ويوم حنين على ما نطق
به التنزيل : ( إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
والمؤمنون أنت ومَن
يليك ، وعمّك العباس ينادي المنهزمين يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ،
فاستجاب له قوم قد كفيتهم المؤونة وتكلّفت دونهم المعونة ، فعادوا آيسين من
المثوبة ، راجين وعد الله تعالى بالتوبة ، وذلك قول الله جل ذكره :
(
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) .
ــــــــــــــ
(1) السيرة النبوية ، ابن
إسحاق : 1/262 وعنه في الطبري : 2/312 .
(2) فيض القدير : 4 / 358 .
(3) الاستيعاب : 2 / 759 .
وأنت حائز درجة الصبر
، فائز بعظيم الأجر .
ويوم خيبر إذ اظهر
الله خور المنافقين ، وقطع دابر الكافرين ـ والحمد لله ربّ العالمين ـ ولقد كانوا
عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار ، وكان عهد الله مسؤولاً .
وأضاف الإمام قائلاً : وشهدت مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية أمامه ، وتضرب بالسيف قدّامه ، ثم لحزمك المشهور
وبصيرتك في الأمور أمّرك في المواطن ، ولم يكن عليك أمير ... ) .
3 ـ وعرض الإمام في زيارته إلى مبيت
الإمام على فراش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ووقايته له بنفسه حينما اجمعت قريش على قتله ، فكان الإمام الفدائي الأوّل في
الإسلام ، يقول عليهالسلام
:
( وأشبهت في البيات
على الفراش الذبيح عليهالسلام
إذ أجبت كما أجاب ، وأطعت كما أطاع إسماعيل محتسباً صابراً إذ قال : ( يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .
وكذلك أنت لمّا أباتك
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمرك أن تضطجع في مرقده واقياً له بنفسك أسرعت إلى إجابته مطيعاً ، ولنفسك على
القتل موطّناً فشكر الله تعالى طاعتك وأبان من جميل فعلك بقوله جلّ ذكره : ( وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) (راجع حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 140 ـ 147 .) .
إنّ النقطة الجوهرية لتحقيق ورفع المستوى
العلمي الذي تحتاجه الجماعة الصالحة هي تربية العلماء والكفاءات العلمية المتخصّصة
في مختلف الفروع العلمية الإسلامية ، ثمّ إعطاء العلماء بالشريعة الدور المتميّز
في المجتمع الإسلامي . وهذا ما سار عليه أئمة أهل البيت عليهمالسلام بلا استثناء .
وتميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام
بأنّه العصر الممهّد لعصر الغيبة حيث ينقطع الناس عن إمامهم ولا يبقى للناس أيّ
ملجأ فكريّ وديني سوى العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه .
ومن هنا كان اهتمام الإمامين العسكريين
بالعلماء بليغاً جدّاً حيث عُبّر عنهم بأنّهم الكافلون لأيتام آل محمد ، وكان
التبجيل والإجلال في سيرة الإمام الهادي عليهالسلام
لمثل هؤلاء العلماء ملفتاً للنظر جدّاً (1) .
ومَن يقرأ تراث الإمام الهادي عليهالسلام يلاحظ استمرار العطاء العلمي في
هذا العصر إلى جانب الاهتمام بإيضاح المنهج العلمي الذي كان يبتغيه أهل البيت عليهمالسلام والتصدّي منهم
لتعميقه .
وتكفي قراءة سريعة لرسالة
الإمام الهادي عليهالسلام إلى أهل الأهواز لتلمّس مدى
اهتمامه عليهالسلام
بالتأصيل النظري وبالتربية على سلوك المنهج العلمي السليم (2) .
ــــــــــــــ
(1) راجع
الفصل الثالث من الباب الأوّل .
(2) راجع الفصل الرابع من
الباب الرابع ، رسالة الإمام إلى أهل الأهواز .
بالرّغم من كل الظروف التي فرضت على
الإمام الهادي عليهالسلام
لعزله عن شيعته ومحبّيه فإنّا نجد الإمام عليهالسلام
يمارس مسؤولياته التربوية بكل ما يتسنّى له من الوسائل التي تكون أبلغ في التأثير
، فهو تارة يدعو لبعض شيعته ويتوجّه إلى الله ليقضي حوائجهم ، وأخرى يلبّي حاجاتهم
المادية فيسعفهم بمقدار من المال ، وثالثة يباشرهم بالكلام الصريح حول المزالق
التي تنتظرهم .
فهذا أخوه موسى الذي نصب له المتوكل
مصيدة ليوقعه فيما هو غير لائق به ويفضحه ويفضح أخاه الإمام الهادي عليهالسلام يتصدّى الإمام بنفسه ليواجهه قبل
أن يلتقي بالمتوكل ويحاول أن يبصّره بحقيقة ما ينتظره من مخاوف وأخطار معنوية (راجع الكافي : 1/502 .)
.
وفي أكثر من مورد يبادر
الإمام عليهالسلام لتقديم تجربة حسّيّة يعيش من خلالها أتباعه معنى التوجّه إلى الله
واللجوء إليه في المهمّات ثم يبصّرهم بعد ذلك أهمّية هذا المبدأ .
فعن أبي محمد الفحّام بالإسناد
عن أبي الحسن محمد بن أحمد قال : حدثني عمّ أبي قال : قصدت الإمام
يوماً فقلت إنّ المتوكّل قطع رزقي وما اتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك ،
فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته فقال : تكفى إن شاء الله فلمّا كان في الليل طرقني
رسل المتوكل رسولاً يتلو رسولاً ، فجئت إليه فوجدته في فراشه فقال : يا أبا موسى
تشغل شغلي عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي ؟ قلت : الصّلة الفلانية ، وذكرت أشياء
فأمر لي بها وبضعفها ، فقلت للفتح وافى عليّ بن محمد إلى هاهنا وكتب رقعة ؟ قال :
لا ، قال : فدخلت على الإمام فقال لي : يا
أبا موسى هذا وجه الرضّا ، قلت : يا سيّدي ولكن قالوا إنّك ما مضيت
إليه ولا سألت قال : إنّ
الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ولا نتوكّل في الملمّات
إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل .
وعن علي بن جعفر قال :
عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل عليّ عبيد الله بن يحيى فقال : لا تتعبن نفسك ،
فإنّ عمر بن أبي الفرج أخبرني أنّه رافضي فإنّه وكيل علي بن محمد ، فأرسل عبيد
الله إليّ فعرفني أنّه قد حلف ألا يخرجني من الحبس إلاّ بعد موتي بثلاثة أيام .
قال فكتب إلى أبي الحسن : إنّ نفسي قد
ضاقت وقد خفت الزيغ ، فوقّع إلي : أمّا
إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا ، فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك .
فما انقضت أيام الجمعة حتى خرجت من الحبس (راجع مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 112 و 121 .) .
ويمكن تلخيص المنهج العام
للتربية وبناء الذات عند الإمام الهادي عليهالسلام بما يلي :
1 ـ التوجيه التربوي من خلال الأحاديث
التربوية التي تقدّم للإنسان أهمّ المفاهيم التربوية (راجع تراثه التربوي والأخلاقي في الفصل الأخير من
الباب الرابع .) .
2 ـ التأكيد على طاعة الله تعالى .
3 ـ التأكيد على أهمّية التوجّه إلى الله
في الحوائج وعدم طلب الحوائج من غيره
(راجع تحف العقول : 361 ، وكشف الغمّة :
3/176 .) .
4 ـ أهمّية الدعاء والالتزام به في بلورة
روح التوحيد والتوكّل على الله .
5 ـ الدعاء للمؤمنين .
6 ـ السعي في قضاء حوائجهم .
7 ـ الربط العاطفي بالقدوة الصالحة المتمثّلة
في أهل البيت عليهمالسلام من
خلال زياراتهم ودراسة سيرتهم .
وأمّا دعاؤه للمؤمنين
وسعيه في قضاء حوائجهم فيشهد له ما يلي :
1 ـ ما مرّ من أنّ الإمام عليهالسلام أجاب على كتاب عمر بن أبي الفرج
إليه بأنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقّع الإمام عليهالسلام إليه
: أمّا إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا
فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك . فما انقضت أيام حتى خرج من الحبس (1) .
2 ـ روى المجلسي عن الخرائج : روى عن
محمد بن الفرج أنّه قال : إنّ أبا الحسن كتب إليّ : اجمع
أمرك ، وخذ حذرك ، قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد
فيما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّداً مصفّداً بالحديد ، وضرب
على كلّ ما أملك .
فمكثت في السجن ثماني سنين ثم
ورد عليّ كتاب من أبي الحسن عليهالسلام وأنا في السجن (
لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ ) فقرأت الكتاب فقلت في نفسي :
يكتب إليّ أبو الحسن عليهالسلام
بهذا وأنا في الحبس إنّ هذا لعجيب ! فما مكثت إلاّ أياماً يسيرة حتى أُفرج عنّي ،
وحُلّت قيودي وخُلّي سبيلي .
ولمّا رجع إلى العراق لم يقف ببغداد لما
أمره أبو الحسن عليهالسلام
وخرج إلى سرّ مَن رأى .
قال : فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن
يسأل الله ليردّ عليّ ضياعي فكتب إليّ سوف يردّ عليك ، وما يضرّك أن لا تردّ عليك
.
قال علي بن محمد النوفلي : فلمّا شخص
محمد بن الفرج إلى العسكر كتب له بردّ ضياعه ، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات (2) .
وقضاء حوائج المؤمنين بالإضافة إلى دوره
التربوي يُعدّ خطوة من خطوات التحصين الاقتصادي لهم ، حيث يشكّل عاملاً من عوامل
استقلالهم وعدم اضطرارهم للخضوع إلى كثير ممّا يستذلّ به الحكّام رعيّتهم .
ــــــــــــــ
(1) مسند الإمام الرضا عليهالسلام : 121 .
(2) بحار الأنوار : 50/140 .
لقد مارس الإمام الهادي عليهالسلام وظيفته بصفته الإمام والقائد
لمواليه والراعي لمصالحهم بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بالإمام عليهالسلام وبشيعته من تتبّع السلطة لهم
ومطاردتهم ، وفرض الإقامة الجبرية على الإمام بعد إشخاصه من المدينة إلى سامراء
ليكون قريباً من السلطان وتحت رقابته ، وتتجلّى لنا مواقف الإمام عليهالسلام في هذا الاتجاه في المحافظة
التامّة على شيعته ورعاية مصالحهم الخاصّة والعامّة وقضاء حوائجهم وتحذيرهم ممّا
تحوكه السلطة ضدّهم ، وما يجب أن يتخذوه من حيطة وكتمان لنشاطهم واتصالاتهم حتى لا
يقعوا في حبائل السلطة الغاشمة التي كانت تتربّص بهم وبالإمام عليهالسلام الدوائر .
إنّ وصايا الإمام عليهالسلام لأتباعه تظهر مدى اهتمامه بما يجري في الساحة أوّلاً ،
ومدى قربه من الأحداث العامة والخاصة ثانياً . وكانت أوامره تصل الجماعة الصالحة
بشكل دقيق وسريع ، بل قد تكون سابقة للأحداث في بعض الأحيان ؛ لتتمكّن تلك الجماعة
من تجاوز ما يحاك ضدّها . كما أنّ إجراءات الإمام وأساليبه كانت مظهراً لعمل حركي
وتنظيمي وعلى درجة عالية من الدقّة والتخطيط ، وهذا ما تكشفه لنا خطابات الإمام عليهالسلام
إلى شيعته والتي كانت تحمل بين طيّاتها أدوات ووسائل مختلفة ومتعدّدة لمواجهة
الظروف التي تحيط بها . وإليك بعض أساليبه ووسائله وتعليماته الخاصّة بهذا الصدد :
أ ـ الحذر من تدوين الأُمور
كان الإمام عليهالسلام يحذّر أصحابه
من تدوين وكتابة بعض الأمور ، وخصوصاً ما كان يتعلّق بعلاقات ووضع الجماعة الصالحة
ومواقفها ، فعن داود الصرمي قال : أمرني سيدي بحوائج كثيرة فقال عليهالسلام لي :
قل كيف تقول ؟ فلم أحفظ
مثل ما قال لي ، فمدّ الدواة وكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم اذكره إن شاء الله والأمر بيد الله ) ،
فتبسّمت ، فقال عليهالسلام : ما لك ؟ قلت : خير ، فقال
: اخبرني ؟ قلت جُعلت فداك
ذكرت
حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدّك
الرضا عليهالسلام إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم ، اذكر إن
شاء الله فتبسّمت ، فقال عليهالسلام لي
: يا داود ولو قلت : إنّ تارك التقيّة
كتارك الصلاة لكنت صادقاً (مسند الإمام الهادي عليهالسلام : 301 .) .
فالإمام عليهالسلام هنا
يربط الكتمان والحذر بمفهوم إسلامي وهو ( التقيّة ) والتي وردت بها أحاديث وآيات
كريمة كقوله تعالى : (
إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) وكذا قوله تعالى : ( إلاّ مَن أُكره
وقلبه مطمئن بالإيمان ) ،
وهي الآية التي نزلت في قضيّة عمار بن ياسر رضياللهعنه
حيث عذّبه المشركون في مكة لكي ينال من الرسول ويتركوه ، ثم جاء إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : إن عادوا فعد . فلم تكن
أوامر الإمام عليهالسلام
بهذا الصدد فقط خشية من انكشافها ، بل إنّه طرحها تأكيداً لهذا المفهوم الذي عُرفت
به الشيعة منذ نشوئها امتثالاً لوصايا الأئمة عليهمالسلام والقرآن الكريم
.
ب ـ تغيير الأسماء
كان الإمام عليهالسلام
يذكر في توقيعاته إلى بعض أصحابه وينسبهم إلى عبيد بن زرارة وكانوا قد عُرفوا ببني
الجهم وهم من أكابر بيوت الشيعة وأصحاب الأئمة عليهمالسلام
، فعن الزراري ( أحدهم ) قال : إنّ ذلك تورية وستراً من قِبل الإمام عليهالسلام
ثم اتسع ذلك وسمّينا به ، وكان عليهالسلام
يكاتبه في أمور له بالكوفة وبغداد (تاريخ الكوفة : 393 .)
.
ج ـ التحذير من الحديث في الأماكن
العامّة
كان الإمام عليهالسلام يمنع بعض أصحابه من الحديث
والمساءلة في الطريق وغيره من الأماكن التي يكون فيها عيون للسلطان .
فعن محمد بن شرف قال : كنت مع أبي الحسن عليهالسلام
أمشي في المدينة فقال لي : ألست
ابن شرف ؟ قلت بلى ، فأردت أن
أسأله عن مسألة فابتدأني من غير أن أسأله فقال : (
نحن على قارعة الطريق وليس هذا موضع مسألة )
.
د ـ النفوذ في جهاز السلطة
لقد استولى بنو العباس على السلطة
وتولّوا أمر الأمة بالقهر والغلبة بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132 هـ) ، وعاثوا
في الأرض الفساد حيث استشرى أمرهم فكان القتل والتشريد وابتزاز الأموال على قدمٍ
وساق ، ولم تكن حكومتهم ذات شرعية إسلامية ، ومن هنا كان العمل معهم غير مشروع ،
وقد كتب محمد بن علي بن عيسى ـ أحد أصحاب الإمام عليهالسلام ـ إلى الإمام الهادي عليهالسلام يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ
ما يتمكّن من أموالهم ، هل فيه رخصة ؟ فقال عليهالسلام : ( ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر
فالله قابل به العذر ، وما خلا ذلك فمكروه ، ولا محالة قليله خير من كثيره ، وما
يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبّب على يديه ما يسرك فينا وفي موالينا )
.
ولمّا وافى كتاب الإمام عليهالسلام إلى محمد بن علي بن عيسى بادر
فكتب للإمام عليهالسلام : (
إنّ مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوّه وانبساط
اليد في التشفّي منهم بشيء أتقرّب به إليهم ، فأجاب الإمام عليهالسلام مَن
فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً ) (مستطرفات السرائر : 68 ح 14 وعنه في وسائل الشيعة 17 : 19 ح 9 ب 45 ،
وسائل الشيعة : 12 / 137 .) .
لقد وضع الإمام عليهالسلام
في النصّين أعلاه ضوابط العمل مع السلطان الجائر التي تتلخّص في توفير وسيلة
لإضعاف الظالمين ، أو تحقيق خدمة لمواليه المظلومين .
بعد أن أكّد الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام على دورهم
القيادي الديني في أوساط الجماعة الصالحة وأوضحوا أهمّيّة الولاء لهم ، وأخذت تتسع
الرقعة الجغرافية لأتباع أهل البيت عليهمالسلام ،
واحتاجوا إلى مَن يلبّي حاجاتهم الدينية ويكون حلقة وصل بينهم وبين أئمتهم عليهمالسلام بادر الأئمة عليهمالسلام إلى تعيين
الوكلاء المعتمدين لهم في مختلف المناطق وأرجعوا إليهم أتباعهم .
والمهامّ التي تولاّها الوكلاء لهم
تمثّلت في بيان الأحكام الشرعية والمواقف السياسية والاجتماعية ، وتوجيه النصائح
الأخلاقية والتربوية ، واستلام الحقوق الشرعية وتوزيعها ، وفصل النزاعات وتولّي
الأوقاف وأمور القاصرين الذين لا وليّ لهم .
وتعتبر الوثاقة أو العدالة شرطاً أساسياً
في الوكيل فضلاً عن إيمانه ومعرفته بأحكام الشريعة وشؤونها ، ولباقته السياسية
وقدرته على حفظ أسرار الإمام وأتباعه من الحكّام وعيونهم .
والوكلاء منهم مَن يرتبط بالإمام عليهالسلام بشكل مباشر ، ومنهم مَن يرتبط به
بواسطة وكيل آخر يعتبر محوراً لمجموعة من الوكلاء في مناطق متقاربة .
ويعود تاريخ تأسيس هذا النظام إلى عصر
الإمام الصادق عليهالسلام أو
مَن سبقه من الأئمة عليهمالسلام غير
أنّه قد اتّسع نطاقه وبدأ يتكامل بعد عصر الإمام الصادق عليهالسلام نظراً للتطوّرات السياسية
والمشاكل الأمنية التي أخذت تحيط بالجماعة الصالحة وتهدّد وجودهم وكيانهم .
ومنذ عصر الإمام الجواد عليهالسلام وحتى ابتداء الغيبة الصغرى كان
لهذا النظام دور فاعل وكبير جداً في حفظ كيان الجماعة الصالحة ووقايته من التفتّت
والانهيار .
وبفضل هذا النظام والعناصر الفاعلة فيه
أصبح الانتقال إلى عصر غيبة الإمام المهدي عليهالسلام
ميسوراً ، وقلّت المخاطر الناشئة من ظاهرة الغيبة للإمام المعصوم إلى حدّ كان نظام
الوكلاء بكل خصائصه قد تطوّر إلى نظام النيابة الخاصّة في عصر الغيبة الصغرى ؛
فكان السفير هو النائب الخاص الذي يقوم بدور الإمام الموجّه لمجموعة الوكلاء ...
وهو الذي يقوم بدور الوساطة بين الإمام والوكلاء وبين الإمام وأتباع الإمام عبر
هؤلاء الوكلاء .
أمّا مناطق النفوذ ومناطق تواجد الوكلاء
، ففي الحجاز كانت المدينة ومكة واليمن ، وفي العراق ، كانت الكوفة وبغداد وسامراء
وواسط والبصرة . وفي إيران كانت خراسان الكبرى ، بما فيها نيسابور وبيهق وسبزوار
وبخارا وسمرقند وهرات ، وقم وآوه والري وقزوين وهمدان وآذربايجان وقرميسين
والأهواز وسيستان وبست . وفي شمال أفريقيا كانت مصر أيضاً من مناطق تواجد أتباع
أهل البيت عليهمالسلام
التي استقرّ فيها وكلاؤهم وقاموا بدور همزة الوصل المهمّة وحقّقوا بذلك جملة من
مهامّ الأئمة عليهمالسلام .
وكلاء الإمام
الهادي عليهالسلام
قد وقفنا على أسماء جملة
من وكلاء الإمام الهادي عليهالسلام في مختلف المناطق وهم:
1 ـ إبراهيم بن محمد الهمداني .
2 ـ أبو علي ابن راشد .
3 ـ أحمد بن إسحاق الرازي .
4 ـ علي بن جعفر الوكيل .
5 ـ محمد بن إبراهيم بن مهزيار .
6 ـ الحسين بن عبد ربّه .
7 ـ أبو علي بن بلال .
8 ـ أيوب بن نوح .
9 ـ جعفر بن سهيل الصيقل .
10 ـ علي بن مهزيار الأهوازي .
11 ـ فارس بن حاتم .
12 ـ علي بن الحسين بن عبد ربّه
13 ـ عثمان بن سعيد العمري .
وقد انحرف بعضهم عن الطريق الذي رُسم له
، وكان الأئمة عليهمالسلام
يوضحون الأمر عند انحراف بعض الوكلاء عن الطريق المقرر لهم حينما كانت تغريهم
الأموال التي يحصلون عليها فيستغلون منصب الوكالة لأغراض دنيوية مادية . ولا
يسمحون لهم بإغراء الناس واستغلالهم .
إنّ جهاز الوكلاء الذي عرفنا مهامّه
يعتبر أحد عوامل التحصين الأمني للجماعة الصالحة في عصر الإمام بالنسبة للإمام
وبالنسبة لأتباعه أيضاً .
وسوى هذه المهمّة الكبيرة يساهم نظام
الوكلاء في التحصين الاقتصادي والقضائي والسياسي للجماعة الصالحة . فهو جهاز حسّاس
ومهمّ للغاية ، وهذا هو السبب في اهتمام الأئمة عليهمالسلام به وسعيهم
المتواصل لتطويره والسهر على صيانته من عوامل الضعف والانهدام .
وسوف نرى ضرورة تكوين هذا الجهاز من حيث
إنّه خير وسيلة لإعداد الجماعة الصالحة للدخول في عصر الغيبة والحيلولة دون تأثير
صدمة الغيبة والانقطاع عن الإمام المعصوم عليهالسلام
على أتباع أهل البيت عليهمالسلام
الذين ألفوا رؤية الإمام واللقاء به خلال قرنين ونصف قرن من الزمن .
عرفنا ـ ممّا ذكر ـ أنّ التحصين
الاقتصادي هو أحد الأهداف المنظورة في تخطيط أهل البيت عليهمالسلام للجماعة
الصالحة التي أرادوا لها أن تستقلّ في كيانها ، وتبتعد عن عوامل الضعف والانهيار
التي تفرضها الظروف السياسية أو الاقتصادية العامّة .
ولنظام الوكلاء دور مهم في هذا التحصين ،
كما أنّ الإمام عليهالسلام
بنفسه كان يباشر قضاء حوائجهم المادية في جملة من الأحيان .
دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن
إسحاق الأشعري وعليّ بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكريّ فشكا إليه أحمد بن
إسحاق ديناً عليه ، فقال : يا أبا عمر ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار
وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار (المناقب : 2/488 .) .
وعن أبي هاشم قال :
شكوت إليه قصور يدي فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفّاً وقال :
اتّسع بهذا . فقلت لصايغ : اسبك هذا فسبكه وقال : ما رأيت ذهباً أشدّ حمرة منه (المناقب : 2/488 .) .
وعن عبد الله بن عبد الرحمان
الصّالحي أنّه شكا أبو هاشم إلى أبي الحسن عليهالسلام ما لقي من السوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد وقال : يا
سيّدي ادع الله لي فمالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه . قال : قوّاك الله يا أبا
هاشم وقوى برذونك . قال : وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد والظهر بسُرّ مَن رأى
والمغرب ببغداد إذا شاء
(المناقب : 2/448 .) .
وبهذا نختم الكلام عن الخطوط العامّة
لدور الإمام عليهالسلام في
إكمال بناء الجماعة الصالحة وتحصينها وإعدادها للدخول إلى عصر الغيبة الذي سوف
تقترب منه بسرعة .
ــــــــــــــ
الفصل الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام
ظلّ الإمام الهادي عليهالسلام يعاني من ظلم الحكّام وجورهم
حتّى دُسّ إليه السمّ كما حدث لآبائه الطّاهرين ، وقد قال الإمام الحسن عليهالسلام : ما
منّا إلاّ مقتول أو مسموم (1) .
قال الطبرسي وابن الصباغ المالكي : في
آخر ملكه ( أي المعتز ) ، استشهد وليّ الله علي بن محمد عليهماالسلام (2) .
وقال ابن بابويه : وسمّه المعتمد (3) .
وقال المسعودي : وقيل إنّه مات مسموماً (4) ;
ويؤيد ذلك ما جاء في الدّعاء الوارد في شهر رمضان : وضاعف العذاب على مَن شرك في
دمه (5) .
وقال سراج الدين الرفاعي في
صحاح الأخبار : ( وتوفّي شهيداً بالسمّ في خلافة المعتز
العباسي ... ) .
وقال محمد عبد الغفار الحنفي
في كتابه أئمة الهدى : ( فلمّا ذاعت شهرته عليهالسلام استدعاه الملك المتوكل من
المدينة المنوّرة حيث خاف على ملكه وزوال دولته وأخيراً دسّ إليه السمّ ... ) (راجع : الإمام الهادي من المهد إلى اللحد : 509 ـ
510 .) .
والصحيح أنّ المعتز هو الذي
دسّ إليه السمّ وقتله به .
ويظهر أنّه اعتلّ من أثر السمّ الذي سُقي
كما جاء فى رواية محمّد بن الفرج عن أبي دعامة ، حيث قال : أتيت عليّ بن محمد عليهالسلام عائداً في علّته التي كانت وفاته
منها ، فلمّا هممت بالانصراف قال لي : يا
أبا دعامة قد وجب عليّ حقّك ، ألا أُحدّثك بحديث تسرّ به ؟ قال :
فقلت له : ما أحوجني الى ذلك يا ابن رسول الله .
قال : حدّثني
أبي محمد بن عليّ ، قال : حدثّني أبي عليّ بن موسى ، قال : حدثّني أبي موسى بن
جعفر ، قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، قال : حدّثني أبي محمّد بن عليّ ، قال :
حدّثني أبي عليّ بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، قال : حدّثني أبي
علي ابن أبي طالب عليهمالسلام
، قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: يا عليّ اكتب : فقلت : وما أكتب ؟ فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان
ما وقّرته القلوب وصدّقته الأعمال ، و الإسلام ما جرى على اللّسان ، وحلّت به
المناكحة .
ــــــــــــــ
(1) بحار
الأنوار : 27/216 ، ح 18 .
(2) إعلام
الورى : 339 ـ الفصول المهمّة : 283 .
(3) بحار
الأنوار : 50/206 ، ح 18 ، المناقب : 4/401 .
(4) مروج
الذهب : 4/195 .
(5) بحار الأنوار : 50/206 ح
19 .
قال أبو دعامة : فقلت : يا ابن رسول الله
، والله ما أدري أيّهما أحسن ؟ الحديث أم الإسناد ! فقال : إنّها لصحيفة بخطّ علي بن أبي طالب عليهالسلام
وإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
نتوارثها صاغراً عن كابر (2) .
قال المسعودي : واعتلّ أبو الحسن عليهالسلام علّته التي مضى فيها فأحضر أبا
محمّد ابنه عليهالسلام
فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح(3) .
ونصّ عليه وأوصى إليه بمشهد من ثقات
أصحابه ومضى عليهالسلام
وله أربعون سنة (4)
.
ــــــــــــــ
(2) بحار الأنوار : 50/208 ، مروج الذهب : 4/194
.
(3) إثبات
الوصيّة : 257 .
(4) بحار الأنوار : 50/210 .
تجهيزه وحضور
الخاصّة والعامّة لتشييعه
ولمّا قضى نحبه تولّى تغسيله وتكفينه
والصلاة عليه ولده الإمام أبو محمّد الحسن العسكري عليهالسلام ؛ وذلك لأنّ الإمام لا يتولّى
أمره إلاّ الإمام .
وما انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى
حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمام عليهالسلام وخيّم على سامراء جو من الحزن
والحداد .
قال المسعودي : وحدّثنا جماعة كل واحد
منهم يحكي أنّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين
( والقوّاد وغيرهم ) ، واجتمع خلق من الشّيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد عليهالسلام ولا عرف خبرهم ، إلاّ الثّقاه
الذين نصّ أبو الحسن عليهالسلام
(عندهم) عليه ، فحكوا أنّهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذ خرج من الدار
الداخلة خادم فصاح بخادم آخر يا رياش خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير
المؤمنين وادفعها إلى فلان ، وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي . فاستشرف النّاس
لذلك . ثم فتح من صدر الرّواق باب وخرج خادم أسود ، ثم خرج بعده أبو محمد عليهالسلام حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب
وعليه مبطنة ( ملحمة ) بيضاء .
وكان عليهالسلام
وجهه وجه أبيه عليهالسلام
لا يخطئ منه شيئاً ، وكان في الدّار أولاد المتوكّل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق
أحد إلاّ قام على رجله ووثب إليه أبو أحمد [ محمّد ] الموفّق ، فقصده أبو محمّد عليهالسلام
فعانقه ، ثم قال له : مرحباً بابن العمّ وجلس بين بابي الرّواق ، والناس كلّهم بين
يديه ، وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث ، فلما خرج عليهالسلام
وجلس أمسك الناس ، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة ، وخرجت جارية تندب
أبا الحسن عليهالسلام
، فقال أبو محمد : ما هاهنا مَن يكفينا مؤونة هذه الجاهلة ، فبادر الشيعة إليها
فدخلت الدار .
ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهض عليهالسلام ، وأُخرجت الجنازة ، وخرج يمشي
حتى أُخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا ، وقد كان أبو محمد عليهالسلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى
النّاس ، وصلّى عليه لمّا أُخرج المعتمد .
قال المسعودي :
وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول : ماذا لقينا في يوم الاثنين ( قديماً
وحديثاً ) (بحار الأنوار : 50/207 ح 22 ، مروج الذهب 4/193 .) .
ودُفن في داره بسرّ من رأى ، وكان مقامه عليهالسلام ( بسرّ مَن رأى ) إلى أن توفّي
عشرين سنة وأشهراً (إعلام الورى : 339 .) .
قال المسعودي :
واشتدّ الحرّ على أبي محمد عليهالسلام
وضغطه النّاس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فسار في طريقه إلى
دكّان لبقّال رآه مرشوشاً فسلّم واستأذنه في الجلوس فأذن له ، وجلس ووقف الناس
حوله .
فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه
نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه ، فسأله أن يركبه فركب
حتّى أتى الدار ونزل ، وخرج في تلك العشيّة إلى الناس ما كان يخرج عن أبي الحسن عليهالسلام
حتّى لم يفقدوا منه إلاّ الشّخص
(إثبات الوصية : 257 ، الدمعة الساكبة :
8/222 .)
.
لماذا دُفن الإمام عليهالسلام في بيته ؟
لقد جرت العادة عند العامّة والخاصّة
أنّه إذا توفّي أحدٌ أن يدفن في المكان المعدّ للموتى المسمّى ـ بالمقبرة أو
الجبّانة ـ كما هو المتعارف في هذا العصر أيضاً ، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة
لأيّ شخص مهما كان له من المكانة والمنزلة ، فقد كان ولا يزال في المدينة المحل
المُعدّ للدّفن ـ البقيع ـ حيث إنّه مثوى لأئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وزوجات النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وأولاده ، وكبار الصحابة والتابعين وغيرهم ، كما وأنّ مدفن الإمامين الجوادين عليهماالسلام في مقابر قريش
.
وأمّا السبب في دفن الإمام
الهادي عليهالسلام داخل بيته ، يعود إلى حصول ردود الفعل من
الشيعة يوم استشهاده عليهالسلام ؛
وذلك عندما اجتمعوا لتشييعه مظهرين البكاء والسخط على السلطة والذي كان بمثابة
توجيه أصابع الاتهام إلى الخليفة لتضلّعه في قتله .
وللشارع الذي أُخرجت جنازة الإمام عليهالسلام إليه الأثر الكبير ؛ حيث كان
محلاًّ لتواجد معظم الموالين آل البيت عليهمالسلام إذ
ورد في وصفه : الشارع الثّاني يعرف بأبي أحمد أول هذا الشارع من المشرق دار
بختيشوع المتطبّب التي بناها المتوكل ، ثم قطائع قوّاد خراسان وأسبابهم من العرب ،
ومن أهل قم ، وإصبهان ، وقزوين ، والجبل ، وآذربيجان ، يمنة في الجنوب ممّا يلي
القبلة (موسوعة العتبات المقدّسة : 12/82 .) .
ويشير إلى تواجد أتباع مدرسة أهل البيت
في سامراء المظفري في تاريخه إذ يقول : فكم كان بين الجند ، والقوّاد ، والأُمراء
، والكتّاب ، مَن يحمل بين حنايا ضلوعه ولاء أهل البيت عليهمالسلام (تاريخ الشيعة : 101 .) .
كلّ هذا أدّى إلى اتّخاذ السلطة القرار
بدفنه عليهالسلام في
بيته ، وإن لم تظهر تلك الصورة في التاريخ بوضوح ، إلاّ أنّه يفهم ممّا تطرّق إليه
اليعقوبي في تاريخه عند ذكره حوادث عام (254 هـ) ووفاة الإمام الهادي عليهالسلام حيث يقول : وبعث المعتز بأخيه
أحمد بن المتوكّل فصلّى عليه في الشارع المعروف
بشارع أبي أحمد ، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم ، فردّ النعش إلى
داره ، فدُفن فيها ... (تاريخ اليعقوبي : 2/503 .
)
وتمكّنوا بذلك من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة ، وهذا
إن دلّ على شيء فإنّما يدل على وجود التحرّك الشيعي رغم الظروف القاسية التي كان
يعاني منها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة .
انتشار خبر
استشهاد الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد
روى
الحسين بن حمدان الحضيني في كتاب الهداية في الفضائل :
عن أحمد ابن داود القميّ ، ومحمّد بن عبد الله الطلحي قالا : حملنا مالاً اجتمع من
خُمس ونذور من بين ورق وجوهر وحُليّ وثياب من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد
سيّدنا أبا الحسن علي بن محمد عليهماالسلام
بها ، فلمّا صرنا إلى دسكرة الملك (الدسكرة : قرية في طريق خراسان قريبة من شهربان ( وهي قرية كبيرة ذات
نخل وبساتين من نواحي الخالص شرقي بغداد ) ، وهي دسكرة الملك ( معجم البلدان :
2/455 و3/375 ) .)
تلقّانا
رجل راكب على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة ، فقصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو
يعارضنا بجمله حتى وصل إلينا ، فقال : يا أحمد ابن داود ومحمّد بن عبد الله الطلحي
معي رسالة إليكم ، فأقبلنا إليه فقلنا له : ممّن يرحمك الله فقال : من سيّدكما أبي
الحسن عليّ بن محمّد عليهماالسلام
يقول لكما : أنا راحل إلى الله في هذه الليلة ، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر
ابني أبي محمد الحسن ، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك ، ولم نظهره ، ونزلنا
بدسكرة الملك واستأجرنا منزلاً وأحرزنا ما حملناه فيه ، وأصبحنا والخبر شائع في
الدّسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن(ع) ،
فقلنا : لا إله إلاّ الله أترى الرّسول الذي جاء برسالته أشاع الخبر في الناس ؟
فلمّا أن تعالى النّهار رأينا قوماً من الشّيعة على أشدّ قلق ممّا نحن فيه ،
فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره
(الدمعة الساكبة : 8/223 .)
.
تاريخ استشهاده عليهالسلام
اختلف المؤرّخون في يوم
استشهاده عليهالسلام ،
كما اختلفوا في مَن دسّ إليه السمّ .
والتحقيق أنّه عليهالسلام
استشهد في أواخر ملك المعتزّ كما نصّ عليه غير واحد من المؤرّخين ، وبما أنّ أمره
كان يهمّ حاكم الوقت ، وهو الذي يتولّى تدبير هذه الأمور كما هو الشأن ، فإنّ
المعتزّ أمر بذلك ، ويمكن أنّه استعان بالمعتمد في دسّ السمّ إليه .
وأمّا يوم شهادته عليهالسلام
فقد قال ابن طلحة في مطالب السؤول : إنّه مات في جمادى الآخرة لخمس ليال بقين منه
ووافقه ابن خشّاب (2) ،
وقال الكليني في الكافي : مضى صلوات الله عليه لأربع بقين من جمادى الآخرة (3) ;
ووافقه المسعودي (4) .
وأمّا المفيد في الإرشاد ، والإربلي في
كشف الغمّة ، والطبرسي في إعلام الورى ، فقالوا : قبض عليهالسلام
في رجب ، ولم يحدّدوا يومه
(5) .
وقال أبو جعفر الطوسي في
مصابيحه ، وابن عيّاش ، وصاحب الدّروس :
ــــــــــــــ
(2) الدمعة الساكبة : 8/225 و 227 .
(3) الكافي : 1/497 .
(4) مروج الذهب : 4/193 .
(5) الدمعة الساكبة : 8/226 و
227 ، إعلام الورى : 339 ، كشف الغمّة 2 : 376 .
إنّه قُبض بسرّ مَن رأى يوم الاثنين ثالث
رجب (1) .
ووافقهم الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين حيث قال : توفّي عليهالسلام بـ (سرّ مَن رأى) لثلاث ليال
خلون نصف النّهار من رجب (2) ;
وللزرندي قول : بأنّه توفّي يوم الاثنين الثالث عشر من رجب (3) .
ولكنّ الكلّ متّفقون على أنّه استشهد في
سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة (4) .
وعن الحضيني أنّه قال : حدّثني أبو الحسن
عليّ بن بلال وجماعة من إخواننا أنّه لما كان اليوم الرابع من وفاة سيّدنا أبي
الحسن عليهالسلام أمر
المعتزّ بأن ينفذ إلى أبي محمد عليهالسلام مَن
يستركبه إليه ليعزّيه ويسأله ، فركب أبو محمد عليهالسلام إلى المعتزّ فلمّا دخل عليه رحّب
به وقرّبه وعزّاه وأمر أن يُثبت في مرتبة أبيه عليهماالسلام . وأثبت له
رزقه وأن يدفعه فكان الذي يراه لا يشكّ أنّه في صورة أبيه عليهماالسلام .
واجتمعت الشيعة كلّها من المهتدين على
أبي محمد بعد أبيه إلاّ أصحاب فارس بن حاتم بن ماهويه فإنّهم قالوا بإمامة أبي
جعفر محمد بن أبي الحسن صاحب العسكر
(5) .
إنّ ما صدر من المعتزّ هذا كان من باب
التمويه والخداع لكي يغطّي على جريمته التي ارتكبها بحقّ أبيه ، وهذا كان ديدن مَن
تقدّمه من الطواغيت تجاه أئمة أهل البيت عليهمالسلام (6) .
ــــــــــــــ
(1) الدمعة
الساكبة : 8/225 ، بحار الأنوار : 50/206 ، ح 17 .
(2) روضة
الواعظين : 1/246 .
(3) الدمعة
الساكبة : 8/226 .
(4) راجع : لمحات من حياة
الإمام الهادي عليهالسلام : 112 ـ 120 محمد رضا سيبويه .
(5) الدمعة
الساكبة : 8/225 .
(6) لمحة من حياة الإمام
الهادي عليهالسلام : 121 ـ 122 .
الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه
لقد تميّز عصر الإمام الهادي عليهالسلام عن عصر أبيه الإمام محمد الجواد عليهالسلام بزيادة الكبت والضغط عليه من
قِبل السلطة حتى كانت الرقابة الدائمة هي الأمر المميّز والفارق الواضح في حياته
وحياة ابنه الإمام الحسن العسكري عليهالسلام .
كما أنّ الإمام الهادي عليهالسلام شارك أباه الجواد عليهالسلام في تولّي مهمّة الإمامة في صغر
السن وقبل إكمال عقده الأوّل من العمر . فكانت الإمامة المبكّرة وتوجّس السلطة من
قيادة خط المعارضة الذي دام قرنين وثلاثة عقود من الزمن في عهده عليهالسلام ، وترقّب ظهور المهدي من آل محمد
صلىاللهعليهوآلهوسلم من
ولده هي ثلاث مميزات تميّزت بها فترة إمامته ، ومن هنا شدّدت الرقابة إلى أقصى حدّ
ممكن حتى انتهت إلى التصفية الجسدية بعد أن سيطر الخوف والرعب على طغاة عصره .
ومن هنا فإنّ كثرة أصحاب الإمام ـ والذين
أحصاهم أحد المهتمّين بتأريخ هذا الإمام العظيم (راجع الإمام الهادي من المهد إلى اللحد ، السيد محمد كاظم القزويني .) حيث
ترجم لـ (346) شخصاً كانوا قد ارتبطوا بالإمام ورووا عنه ـ وهو في تلك الظروف
العصيبة ، لها دلالة كبيرة وواضحة على سعة نشاط الإمام الهادي عليهالسلام في تلك الظروف الصعبة ، وعظمة
هذا الإمام الذي استوعب بنشاطه السرّي والمنظّم كل تلك العقبات واجتازها بما يحقّق
له أهدافه من التمهيد فكرياً وعقائدياً ونفسيّاً لعصر الغيبة المرتقب محافظاً على
خط المعارضة بشكل تام ، مراقباً للأحداث بشكل مستمر ومقدّماً لكل ظرف مستجد ما
يتطلّبه من الخطوات والأنشطة ، مراعياً التقدّم الحضاري الذي كانت الأُمّة
الإسلامية على مشارفه وهو يريد أن تكون الجماعة الصالحة في موقع القيادة والقمّة
منه دائماً ، وهكذا كان . ومن هذه الزاوية ينبغي أن نطالع ما وصلنا من تراثه
ومعالم مدرسته .
وينقسم الحديث في هذا
الفصل إلى حقلين : الأوّل : مدرسة
الإمام الهادي المتمثلة في أصحابه ورواة حديثه . والثاني : تراثه الفكري والعلمي المدوّن أو المروي
عنه .
البحث الأوّل :
أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه
كان الإمام
الهادي عليهالسلام
مقصداً لطلاب العلوم لتنوع ثقافته وشمول معارفه ، فهو عليهالسلام المتخصّص
في جميع العلوم ، والخبير في تفسير القرآن الكريم ، والمتضلّع في الفقه الإسلامي
بشتى حقوله ومستوياته .
وقد مثّل أصحابه الخط الرسالي في الأمة
الإسلامية ، باعتبار اتصالهم بأهل البيت عليهمالسلام ،
فرووا أحاديثه ودوّنوها في أصولهم ؛ فكان لهم الفضل الكبير على العالم الإسلامي
بما دوّنوه من تراث الأئمة الطاهرين فلولاهم لضاعت ثروة كبيرة تشتمل على الإبداع
والأصالة وتساير تطوّر الفكر البشري ، بل وتتقدم عليه .
وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من ملامح
عمل الإمام الهادي عليهالسلام
تنكشف من خلال أنشطة أتباعه المعتمدين ، وتتعمّق هذه الحقيقة بمقدار اشتداد الظروف
الداعية للسرّية في عمل الإمام عليهالسلام
.
وفيما يأتي تراجم بعض
أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ، وقد رتّبناها حسب تسلسل حروف الهجاء :
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ومن أصحاب
الإمام الحسن العسكري عليهالسلام ، وذكر الكشي أنّ الإمام الحسن العسكري عليهالسلام بعث
رسالة إلى إسحاق بن إسماعيل ، سلّم فيها على إبراهيم بن عبده ، ونصّبه وكيلاً على
قبض الحقوق الشرعية وقد بعثه إلى عبد الله بن حمدويه البيهقي ، وزوّده برسالة جاء فيها : (
وبعد ، فقد بعثت لكم إبراهيم بن عبده ، ليدفع النواحي ، وأهل ناحيتك ، حقوقي
الواجبة عليكم إليه ، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليي هناك فليتقوا الله ،
وليراقبوا وليؤدّوا الحقوق ، فليس لهم عذر في ترك ذلك ولا تأخيره ، ولا أشقاهم
الله بعصيان أوليائه ورحمهم الله ـ وإيّاك معهم ـ
برحمتي لهم إنّ الله واسع كريم ) (معجم رجال الحديث : 1/232 .) .
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام
الرضا عليهالسلام ومن أصحاب الإمام الجواد والهادي عليهماالسلام ،
وقال الكشي : كان وكيله وقد حجّ أربعين حجّة . وكتب الإمام له : ( قد وصل الحساب تقبّل الله منك ورضي
عنهم ، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة ، وقد بعثت إليك من الدنانير بكذا ، ومن
الكسوة بكذا ، فبارك لك فيه ، وفي جميع نعمة الله عليك ، وقد كتبت إلى النضر أمرته
أن ينتهي عنك ، وعن التعرّض لك وبخلافك ، وأعلمته موضعك عندي ، وكتبت إلى أيوب :
أمرته بذلك أيضاً ، وكتبت إلى مواليي بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك والمصير إلى
أمرك ، وأن لا وكيل لي سواك ) (اختيار معرفة الرجال : 2/869 .) .
ودلّت هذه الرواية على وثاقته وجلالة
أمره ، وسموّ مكانته عند الإمام عليهالسلام .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الجواد ، ومن
أصحاب الإمام الهادي عليهماالسلام .
قال النجاشي : له كتاب البشارات . وروى الكشي بسنده عن محمد بن إبراهيم بن مهزيار
، قال : إنّ أبي لمّا حضرته الوفاة دفع إليّ مالاً ، وأعطاني علامة ولم يعلم بها
أحد إلاّ الله عزّ وجل ، وقال : مَن أتاك بهذه العلامة فادفع إليه المال ، قال :
فخرجت إلى بغداد ، ونزلت في خان فلمّا كان في اليوم الثاني جاء شيخ فطرق الباب
فقلت للغلام انظر من في الباب ، فخرج ، ثم جاء وقال : شيخ في الباب فأذنت له في
الدخول ، فقال : أنا العمري ، هات المال الذي عندك ، وهو كذا وكذا ومعه العلامة ،
قال : فدفعت له المال
(خلاصة
الأقوال : 51 .) .
ودلّت هذه الرواية على أنّ إبراهيم كان
وكيلاً للإمام عليهالسلام
في قبض الحقوق الشرعية ، ومن الطبيعي أنّه إنّما يؤتمن عليها فيما إذا كان ثقة
وعدلاً .
4 ـ احمد بن
إسحاق بن عبد الله الأشعري القمّي :
كان وافد القمّيين ، روى عن أبي جعفر
الثاني وأبي الحسن عليهماالسلام
وكان من خاصّة أبي محمد عليهالسلام ،
وله من الكتب :
1 ـ مسائل الرجال للإمام الهادي عليهالسلام .
2 ـ علل الصلاة .
3 ـ علل الصوم .
وهو ممّن رأى الإمام المهدي ـ عجّل الله
فرجه ـ ووردت أخبار كثيرة في مدحه والثناء عليه (رجال النجاشي : 91 ، وخلاصة الأقوال : 63 .) .
5 ـ أحمد بن
محمد بن عيسى الأشعري القمّي :
عدّه الشيخ
من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي عليهمالسلام ، يكنّى أبا جعفر وهو
شيخ القمّيين ووجيههم ، وكان الرئيس الذي يلقى السلطان ، صنّف كتباً منها :
كتاب ( التوحيد ) وكتاب ( فضل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
) وكتاب ( المتعة ) وكتاب ( النوادر ) وكتاب ( الناسخ والمنسوخ ) وكتاب ( فضائل
العرب ) وغيرها (معجم رجال الحديث : 3/86 .)
.
الثقة
الأمين ، قال النجاشي : إنّه كان وكيلاً
لأبي الحسن ، وأبي محمد عليهماالسلام
عظيم المنزلة عندهما ، مأموناً ، وكان شديد الورع ، كثير العبادة ، ثقة في رواياته
، وأبوه نوح بن دراج كان قاضياً بالكوفة ، وكان صحيح الاعتقاد ، وأخوه جميل بن
دراج (رجال النجاشي : 102 .)
، قال الشيخ : أيوب بن نوح بن دراج ثقة له كتاب وروايات ومسائل عن أبي الحسن
الثالث (الفهرست : 56 .)
. وقال الكشي : كان من الصالحين ومات وما خلف إلاّ مائة وخمسين ديناراً ، روى عن
الإمام أبي الحسن عليهالسلام
وروى عنه جماعة من الرواة
(رجال النجاشي : 102 .).
يُكنّى أبا علي مولى لآل المهلّب
البغدادي ، ثقة .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام
الهادي عليهالسلام ، وعدّه الشيخ المفيد من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم
الحلال والحرام ، الذين لا يطعن عليهم بشيء ولا طريق لذمّ واحد منهم ، وقد نصّبه
الإمام وكيلاً وبعث إليه بعدة رسائل منها (رجال الطوسي : 375 .) :
1 ـ ما رواه الكشي بسنده إلى محمد بن
عيسى اليقطيني ، قال : كتب ـ يعني الإمام الهادي ـ إلى أبي علي بن بلال في سنة
(232 هـ) رسالة جاء فيها : (
وأحمد الله إليك ، وأشكر طوله وعوده ، وأُصلّي على محمد النبي وآله ، صلوات الله
ورحمته عليهم ، ثم إنّي أقمت أبا علي مقام الحسين بن عبد ربّه ، وائتمنته على ذلك
بالمعرفة بما عنده الذي لا يقدمه أحد ، وقد أعلم أنّك شيخ ناحيتك فأحببت إفرادك
وإكرامك بالكتاب بذلك ، فعليك بالطاعة له ، والتسليم إليه جميع الحق قبلك ، وأن
تحضّ مواليّ على ذلك ، وتعرّفهم من ذلك ما يصير سبباً إلى عونه وكفايته ، فذلك
موفور ، وتوفير علينا ، ومحبوب لدينا ، ولك به جزاء من الله وأجر ، فإنّ الله يعطي
مَن يشاء ذو الإعطاء والجزاء برحمته ، وأنت في وديعة الله ، وكتبت بخطّي وأحمد
الله كثيراً )
(معجم رجال الحديث : 5/313 ـ 314 .) .
ودلّت هذه الرسالة على فضل ابن راشد
ووثاقته وأمانته ، فقد أرجع إليه الشيعة وأوصاهم بطاعته والانقياد إليه ، وتسليم
ما عندهم من الحقوق الشرعيّة إليه .
2 ـ روى الكشي بسنده إلى أحمد بن محمد بن
عيسى قال : نسخت الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد المقيمين
بها والمدائن والسواد وما يليها ، وهذا
نصّه :
( وأحمد الله إليكم ما أنا عليه من عافيته ،
وأُصلّي على نبيّه وآله أفضل صلاته وأكمل رحمته ورأفته ، وإنّي أقمت ابا علي بن
راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه ، ومَن كان من قبله من وكلائي ، وصار في
منزلته عندي ، وولّيته ما كان يتولاّه غيره من وكلائي قبلكم ليقبض حقّي ، وارتضيته
لكم ، وقدّمته على غيره في ذلك ، وهو أهله وموضعه ، فصيروا رحمكم الله إلى الدفع
إليه ذلك وإليّ ، وأن لا تجعلوا له على أنفسكم علّة ، فعليكم بالخروج عن ذلك ،
والتسرّع إلى طاعة الله ، وتحليل أموالكم ، والحقن لدمائكم ، وتعاونوا على البرّ
والتقوى واتقوا الله لعلّكم ترحمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ، ولا تموتن إلاّ
وأنتم مسلمون ، فقد أوجبت في طاعته طاعتي ، والخروج إلى عصيانه عصياني ، فالزموا
الطريق يأجركم الله ، ويزيدكم من فضله ، فإنّ الله بما عنده واسع كريم ، متطوّل
على عباده رحيم ، نحن وأنتم في وديعة الله وحفظه ، وكتبته بخطّي ، والحمد لله
كثيراً ) (معجم رجال الحديث : 5/314 .) .
وكشفت هذه الرسالة عن سموّ
مكانة ابن راشد عند الإمام عليهالسلام وعظيم منزلته عنده حتى قرن طاعته بطاعته عليهالسلام
، وعصيانه بعصيانه عليهالسلام .
3 ـ وبعث الإمام أبو الحسن عليهالسلام رسالة له وإلى أيوب بن نوح جاء
فيها بعد البسملة : (
أنا آمرك يا أيوب بن نوح أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي علي ، وأن يلزم كل واحد
منكما ما وكّل به ، وأُمر بالقيام فيه بأمر ناحيته ، فإنّكم إذا انتهيتم إلى كل ما
أُمرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي ، وآمرك يا أبا علي بمثل ما أمرت به أيوب ، أن
لا تقبل من أحد من أهل بغداد والمدائن شيئاً يحملونه ، ولا يلي لهم استيذاناً علي
، ومر مَن أتاك بشيء من غير أهل ناحيتك أن يصيّره إلى الموكّل بناحيته ، وآمرك يا
أبا علي في ذلك بمثل ما أمرت به أيوب ، وليعمل كل واحد منكما بمثل ما أمرته به ) (معجم رجال الحديث : 5/315 .) .
لقد كانت لأبي راشد مكانة مرموقة عند
الإمام عليهالسلام ،
ومن الطبيعي أنّه لم يحتل هذه المنزلة إلاّ بتقواه وورعه ، وشدّة تحرّجه في الدين
، ولمّا توفّي ابن راشد ترحّم عليه الإمام عليهالسلام
ودعا له بالمغفرة والرضوان .
ابن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب الناصر للحق من أصحاب الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، وهو والد جدّ السيد المرتضى من
جهة أُمّه ، قال السيد قدسسره في أول
كتابه ( شرح المسائل الناصريات ) : وأمّا أبو محمد الناصر الكبير وهو الحسن بن علي
ففضله في علمه وزهده وفقهه أظهر من الشمس الباهرة ، وهو الذي نشر الإسلام في
الديلم حتى اهتدوا به من الضلالة ، وعدلوا بدعائه بعد الجهالة ، وسيرته الجميلة
أكثر من أن تُحصى وأظهر من أن تخفى
(الناصريات : 63 .) .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن
الهادي عليهالسلام .
قال النجاشي : إنّه ابن بنت الياس
الصيرفي الخزّاز ، وقد روى الحسن عن جدّه الياس أنّه لمّا حضرته الوفاة ، قال :
اشهدوا عليّ وليست ساعة الكذب هذه الساعة : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : والله لا يموت عبد يحب الله ورسوله
ويتولّى الأئمة فتمسّه النار .
وروى أحمد بن محمد بن عيسى قال : خرجت
إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشا ، فسألته أن يخرج لي كتاب
العلاء بن رزين القلا ، وأبان بن عثمان الأحمر ، فأخرجهما لي فقلت له : أحب أن
تجيزهما لي فقال لي : يا هذا رحمك الله ، وما عجلتك ، اذهب فاكتبهما ، واسمع من
بعد ، فقلت : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت أنّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب
لاستكثرت منه ، فإنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلٌّ
يقول : حدثني جعفر بن محمد ، وكان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب
منها : ثواب الحج ، والمناسك والنوادر
(معجم رجال
الحديث : 6/38 .) .
يُكنّى أبا هاشم ، من أهل بغداد ، جليل
القدر عظيم المنزلة عند الأئمة عليهمالسلام
شاهد الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر عليهالسلام ، وروى عنهم كلّهم ، وله أخبار
ومسائل وله شعر جيّد فيهم ، وكان مقدّماً عند السلطان وله كتاب .
عدّه البرقي من أصحاب الإمام الجواد
والإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهمالسلام قال
الكشي : قال أبو عمرو : له ـ أي لداود ـ منزلة عالية عند أبي جعفر ، وأبي الحسن ،
وأبي محمد عليهمالسلام
وموقع جليل (اختيار معرفة الرجال : 2/841 .) .
عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام الرضا عليهالسلام ، ومن أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام وأضاف أنّه ثقة ، وروى الكشي بسنده عن معمر بن خلاد ، قال : قال
لي الريان بن الصلت : وكان الفضل بن سهل بعثه إلى بعض كور خراسان ، فقال : أحبّ أن
تستأذن لي على أبي الحسن عليهالسلام
فأسلم عليه وأودّعه وأحب أن يكسوني من ثيابه ، وأن يهب لي من الدراهم التي ضربت
باسمه ، قال : فدخلت عليه ، فقال لي مبتدئاً : يا معمر أين ريان ، أيحب أن يدخل
علينا فأكسوه من ثيابي ، وأعطيه من دراهمي ؟ قال : قلت : سبحان الله !!! والله ما
سألني إلاّ أن أسألك ذلك له ، فقال : يا معمر إنّ المؤمن موفّق ، قل له فليجيئ ،
قال : فأمرته فدخل عليه فسلّم عليه فدعا بثوب من ثيابه ، فلمّا خرج قلت : أي شيء أعطاك
؟ وإذا بيده ثلاثون درهماً (اختيار معرفة الرجال : 2/824 .) .
وقد دلّت هذه البادرة على حسن إيمانه وحسن عقيدته .
هو السيد الشريف الحسيب النسيب من مفاخر
الأسرة النبوية علماً وتقى وتحرّجاً في الدين . ونلمح إلى بعض شؤونه :
أ ـ
نسبه الوضّاح : يرجع نسبه الشريف إلى الإمام الزكي أبي
محمد الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو ابن عبد
الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهالسلام .
ب ـ
وثاقته وعلمه : كان ثقة عدلاً ، متحرّجاً في دينه كأشدّ
ما يكون التحرج ، كما كان عالماً وفاضلاً وفقيهاً فقد روى أبو تراب الروياني ، قال
: سمعت أبا حماد الرازي ، يقول : دخلت على علي بن محمد عليهالسلام بـ ( سُرّ مَن رأى )
فسألته عن أشياء من الحلال والحرام
فأجابني عنها ، فلمّا ودعته قال لي : يا
حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم الحسني واقرأه
منّي السلام
(معجم الرجال الحديث : 11/53 .) .
ودلّت هذه الرواية على
فقهه وعلمه .
ج ـ
عرض عقيدته على الهادي عليهالسلام : وتشرّف السيد الجليل عبد العظيم بمقابلة
الإمام الهادي عليهالسلام
فعرض على الإمام أصول عقيدته وما يدين به قائلاً : (يا ابن رسول الله إنّي أُريد
أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه) .
فقابله الإمام مبتسماً وقال له : ( هات يا أبا القاسم ) .
وانبرى عبد العظيم يعرض على الإمام
المبادئ التي آمن بها قائلاً : ( إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء
، خارج عن الحدّين ، حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وأنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض
ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور وخالق الأعراض والجواهر وربّ كل شيء
ومالكه وجاعله ومحدثه .
وأنّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيين ،
فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وأنّ شريعته خاتمة الشرايع فلا شريعة بعدها إلى
يوم القيامة . وأقول : إنّ الإمام والخليفة ، وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب عليهالسلام ،
ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن
جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم أنت يا مولاي ) . والتفت إليه الإمام فقال
: ( ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس
بالخلف من بعده ؟ ) .
واستفسر عبد العظيم عن الحجّة من بعده قائلاً
: وكيف ذاك يا مولاي ؟ قال الإمام عليهالسلام : ( لأنّه لا يرى شخصه ، ولا يحل ذكره
باسمه ، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما مُلئت ظلماً وجوراً )
.
وانبرى عبد العظيم يعلن إيمانه بما قال
الإمام عليهالسلام
قائلاً : ( أقررت ، وأقول : إنّ وليّهم ولي الله ، وعدوّهم عدوّ الله وطاعتهم طاعة
الله ، ومعصيتهم معصية الله .
وأقول : إنّ المعراج حق والمساءلة في
القبر حق وأنّ الجنّة حق والنار حق والصراط حق والميزان حق وأنّ الساعة آتية لا
ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور .
وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية
ـ أي الولاية لأئمة أهل البيت عليهمالسلام ـ
الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .
وبارك له الإمام عقيدته قائلاً : ( يا أبا القاسم هذا والله دين الله
الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا
والآخرة ) (كمال الدين : 379 ح 1 ، وعنه في إعلام الورى : 2/244 ، 245 .)
.
13 ـ عثمان بن
سعيد العمري السمّان :
يكنّى أبا عمرو ، الثقة الزكي ، خدم
الإمام الهادي عليهالسلام وله
من العمر إحدى عشرة سنة ، احتلّ المكانة المرموقة عند الإمام عليهالسلام ، فقد روى أحمد ابن إسحاق القمّي
قال : دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت له :
يا سيدي أنا أغيب وأشهد ، ولا يتهيّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت فقول مَن
نقبل ، وأمر مَن نمتثل ؟ فقال عليهالسلام :
هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعنّي يقوله
، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه .
فلمّا قضى أبو الحسن عليهالسلام نحبه رجعت إلى أبي محمد ابنه
الحسن العسكري وقلت له عليهالسلام ذات
يوم : مثل قولي لأبيه ، فقال لي : هذا
أبو عمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضين ، وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم
فعنّي يقوله ، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه (معجم رجال الحديث : 12/123 .) .
ودلّت هذه الرواية على وثاقته ، وأنّه قد
نال المنزلة الكريمة عند الأئمة الطاهرين عليهمالسلام
، كما دلّت على فضله وعلمه ، وأنّه كان مرجعاً للفتيا وأخذ الأحكام .
14 ـ علي بن
مهزيار الأهوازي الدورقي :
كان من مفاخر العلماء ومن مشاهير تلاميذ
الإمام الهادي عليهالسلام
ونتحدّث بإيجاز عن بعض شؤونه :
أ ـ عبادته
:
كان من عيون المتّقين والصالحين ، ويقول المؤرّخون : إنّه كان إذا طلعت الشمس سجد
لله تعالى ، وكان لا يرفع رأسه حتى يدعو لألف من إخوانه بمثل ما دعا لنفسه ، وكان
على جبهته سجّادة مثل ركبة البعير من كثرة سجوده (اختيار معرفة الرجال : 2/825 .) .
ب ـ ثناء
الإمام الجواد عليهالسلام عليه : وأثنى الإمام الجواد عليهالسلام ثناءً عاطراً على ابن مهزيار ،
وكان ممّا أثنى عليه أنّه بعث له رسالة جاء فيها :
( يا علي قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطاعة
والخدمة والتوقير ، والقيام بما يجب عليك ، فلو قلت : إنّي لم أر مثلك لرجوت أن
أكون صادقاً فجزاك الله جنّات الفردوس نزلاً . وما خفي علي مقامك ولا خدمتك ، في
الحرّ والبرد ، في الليل والنهار ، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك
برحمة تغتبط بها إنّه سميع الدعاء ) (معجم رجال الحديث : 13/211 .) .
وكشفت هذه الرسالة عن إكبار الإمام
وتقديره ودعائه له ، وأنّه عليهالسلام
لم ير في أصحابه وغيرهم مثل هذا الزكي تقوى وورعاً وعلماً .
ج ـ مؤلّفاته :
ألّف عليّ مجموعة من الكتب تزيد على ثلاثين كتاباً كان معظمها في الفقه وهذه بعضها
: كتاب الوضوء ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة ، كتاب الصوم ، كتاب الحج ، كتاب
الطلاق ، كتاب الحدود ، كتاب الديّات ، كتاب التفسير ، كتاب الفضائل ، كتاب العتق
والتدبير ، كتاب التجارات والإجارات ، كتاب المكاسب ، كتاب المثالب ، كتاب الدعاء
، كتاب التجمل والمروّة ، كتاب المزار ، وغيرها (رجال النجاشي : 253 .) .
د ـ طبقته
في الحديث : وقع علي بن مهزيار في أسناد كثير من
الروايات تبلغ (437) مورداً ، روى عن : الإمام أبي جعفر الثاني ، وأبي الحسن
الثالث ، وغيرهما . لقد كان علي بن مهزيار من دعائم الفكر الشيعي ، وكان من أفذاذ
عصره وعلماء دهره .
15 ـ الفضل بن
شاذان النيشابوري :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن
الهادي عليهالسلام ،
وهو من أساطين العلماء ، ومن أبرز رجال الفكر الإسلامي في عصره ، خاض في مختلف
العلوم والفنون وألّف فيها ، ونعرض بإيجاز لبعض شؤونه :
أ ـ
ثناء الإمام الحسن العسكري عليهالسلام عليه : وأشاد
الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
بالفضل بن شاذان ، وأثنى عليه ثناءً عاطراً ، فقد عرضت عليه إحدى مؤلّفاته فنظر
فيه فترحّم عليه وقال : (
أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم ) (جامع الرواة : 2/5 .) .
ونظر عليهالسلام
مرة أخرى إلى مؤلَّف آخر من مؤلّفاته فترحّم عليه ثلاث مرات ، وقال مقرّظاً للكتاب
: ( هذا صحيح ينبغي أن يعمل به ) (طرائف المقال : 2/632 .)
.
ب ـ
ردّه على المخالفين : انبرى الفضل للدفاع عن مبادئه ، وإبطال
الشبه التي أُثيرت حول عقيدته ، وقد قال : أنا خلف لمَن مضى أدركت محمد بن أبي
عمير ، وصفوان بن يحيى وغيرهما ، وحملت عنهم منذ خمسين سنة ، ومضى هشام بن الحكم رحمهالله
، وكان يونس بن عبد الرحمان رحمهالله خلفه ،
كان يرد على المخالفين ، ثم مضى يونس بن عبد الرحمان ولم يخلف خلفاً غير السكّاك ،
فردّ على المخالفين حتى مضى رحمهالله ، وأنا
خلف لهم من بعدهم رحمهم الله ) (اختيار معرفة الرجال : 2/818 .) .
لقد كان خلفاً لأولئك الأعلام الذين
نافحوا وناضلوا عن مبادئهم الرفيعة التي تبنّاها أئمة أهل البيت عليهمالسلام
.
ج ـ مؤلّفاته :
ألّف هذا العالم الكبير في مختلف العلوم ، كعلم الفقه وعلم التفسير وعلم الكلام
والفلسفة واللغة والمنطق وغيرها ، وكانت مؤلّفاته تربو على مائة وثمانين مؤلّفاً ،
وقد ذكر بعضها الشيخ والنجاشي وابن النديم وغيرهم .
يكنّى أبا علي ، عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ،
قال الكشي : وجدت بخطّ أبي عبد الله الشاذاني في كتابه : سمعت الفضل بن هاشم
الهروي يقول : ذكر لي كثرة ما يحجّ المحمودي ، فسألته عن مبلغ حجّاته فلم يخبرني
بمبلغها ، وقال : رزقت خيراً كثيراً والحمد لله ، فقلت له : فتحجّ عن نفسك أو غيرك
؟ فقال : عن غيري بعد حجّة الإسلام أحجّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأجعل ما
أجازني الله عليه لأولياء الله وأهب ما أثاب على ذلك للمؤمنين والمؤمنات ، فقلت :
ما تقول في حجّتك ؟ فقال : أقول : اللّهمّ إنّي أهللت لرسولك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعلت جزائي
منك ومنه لأوليائك الطاهرين عليهمالسلام ،
ووهبت ثوابي عنهم لعبادك المؤمنين والمؤمنات بكتابك وسنّة نبيّك صلىاللهعليهوآلهوسلم ... إلى آخر
الدعاء (اختيار معرفة الرجال : 2/798 .) .
17 ـ محمد بن
الحسن بن أبي الخطّاب الزيّات :
الكوفي الثقة ، عدّه الشيخ من أصحاب
الإمام علي الهادي عليهالسلام ،
قال النجاشي : إنّه كان جليلاً من أصحابنا ، عظيم القدر ، كثير الرواية ، ثقة ،
عين ، حسن التصانيف ، مسكون إلى روايته له كتاب التوحيد ، كتاب المعرفة والبدار ،
كتاب الرد على أهل القدر ، كتاب الإمامة ، كتاب اللؤلؤة ، كتاب وصايا الأئمة ،
كتاب النوادر .
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام كانت له اتصالات وثيقة بالإمام عليهالسلام ، وجرت بينهما
عدّة مراسلات ، ومنها : ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن الفرج : قال : كتبت إلى
أبي الحسن عليهالسلام
اسأله عن أبي علي بن راشد ، وعن عيسى بن جعفر بن عاصم ، وابن بند ، فكتب عليهالسلام إليّ : ذكرت ابن راشد رحمهالله فإنّه عاش سعيداً ، ومات شهيداً .
ودعا لابن بند والعاصمي
(اختيار
معرفة الرجال : 2/863 .) .
وقد مرّت بعض المراسلات الأُخرى له مع
الإمام عليهالسلام
وهي تكشف عن ثقة الإمام بمحمد وتسديده
له ، ولمّا مرض محمد بعث له الإمام أبو الحسن عليهالسلام بثوب فأخذه ووضعه تحت
رأسه فلمّا توفّي كُفّن فيه .
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي :
عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام ، قال النجاشي فيه : إنّه ثقة
جليل من أصحاب الرضا عليهالسلام قال
أبو عبد الله الحسين : سمعت شيوخنا يقولون : روى معاوية بن حكيم أربعة وعشرين
أصلاً ... وله كتب منها : كتاب الطلاق ، كتاب الحيض ، كتاب الفرائض ، كتاب النكاح
، كتاب الحدود ، كتاب الديّات ، وله نوادر (رجال النجاشي : 412 .) .
أبو يوسف الدورقي الأهوازي المشهور بابن
السكّيت ، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، كان مقدّماً عند أبي جعفر
الثاني وأبي الحسن عليهالسلام
وكانا يختصّانه ، وله عن الإمام أبي جعفر عليهالسلام
رواية ومسائل .
كان ابن السكيت حامل لواء علم العربية
والأدب والشعر واللغة والنحو ، وله تصانيف كثيرة منها : ( تهذيب الألفاظ ) وكتاب (
إصلاح المنطق ) ... قتله المتوكل لولائه لأهل البيت عليهمالسلام
.
ولم يذكر الشيخ الطوسي من النساء اللاتي
روين عن الإمام الهادي عليهالسلام سوى
السيدة الكريمة كلثم الكرخية ، وقد عدّها الشيخ من أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام وأضاف أنّ الرّاوي عنها هو عبد
الرحمان الشعيري ، وهو أبو عبد الرحمان بن داود البغدادي (اقتبسنا ما ورد في هذا الفصل عن أصحاب الإمام الهادي عليهالسلام من ( حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام) : 170 ـ 230 للشيخ باقر شريف القرشي .) .
البحث الثاني :
نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ روى العياشي بإسناده عن حمدويه ، عن
محمد بن عيسى قال : سمعته يقول : كتب إليه إبراهيم بن عنبسة ـ يعني إلى علي بن
محمد عليهالسلام ـ إن رأى
سيّدي ومولاي أن يخبرني عن قول الله : (
يسألونك عن الخمر والميسر ) فما
الميسر جُعلت فداك ؟
فكتب عليهالسلام
: كل ما قُومر به فهو الميسر وكل مسكر
حرام
(1) .
2 ـ وروى بإسناده عن أيوب بن نوح بن دراج
قال : سألت أبا الحسن الثالث عليهالسلام عن
الجاموس وأعلمته أنّ أهل العراق يقولون إنّه مسخ ، فقال : أو ما سمعت قول الله : ( ومن الإبل
اثنين ومن البقر اثنين ) (2) .
3 ـ وروى العياشي : بإسناده عن موسى بن
محمّد بن علي عن أخيه أبي الحسن الثالث عليهالسلام
قال : الشجرة التي نهى الله
آدم وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد ، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله
عليه وعلى خلايقه بعين الحسد ، ولم يجد الله له عزماً (3) .
ــــــــــــــ
(1) تفسير العيّاشي : 1 / 106
.
(2) تفسير العيّاشي : 1 / 380
.
(3) تفسير العيّاشي : 1/9 .
1 ـ عن أحمد بن إسحاق ،
قال :
كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام
أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ؟ فكتب : لا تجوز الرؤية ، ما لم يكن بين الرائي
والمرئيّ هواء ينفذه البصر فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية ;
وكان في ذلك الاشتباه ، لأنَّ الرائي متى ساوى المرئيَّ في السبب الموجب بينهما في
الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأنّ الأسباب لا بدّ من اتّصالها بالمسبّبات(الكافي : 1 / 97 ، والتوحيد : 109 .) .
2 ـ عن بشر بن بشّار
النيسابوريّ قال : كتبت إلى الرَّجل عليهالسلام : إنّ من قبلنا قد اختلفوا في
التوحيد ، فمنهم من يقول : (هو) جسم ومنهم من يقول : (هو) صورة . فكتب إليَّ :
سبحان من لا يحدُّ ولا يوصف ولا يشبهه شيء وليس كمثله شي وهو السميع البصير(الكافي : 1 / 102 .) .
3 ـ عن عليّ بن إبراهيم ،
عن المختار بن محمّد بن المختار الهمدانيّ ، ومحمّد بن الحسن ، عن عبد الله بن
الحسن العلويّ جميعاً عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليهالسلام
قال :
سمعته يقول : وهو اللّطيف الخبير
السميع البصير الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، لو
كان كما يقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه
المنشئ . فرَّق بين مَن جسّمه وصوَّره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبهه هو
شيئاً .
قلت : أجل جعلني الله فداك لكنّك قلت :
الأحد الصمد وقلت : لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت
الوحدانيّة ؟
قال : يا
فتح أحلت ثبّتك الله إنّما التشبيه في المعاني ، فأمّا في الأسماء فهي واحدة وهي
دالّة على المسمّى وذلك أنَّ الإنسان وإن قيل واحدٌ فإنّه يخبر أنّه جثّة واحدة
وليس باثنين والإنسان نفسه ليس بواحد ؛ لأنَّ أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن
ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزّأة ، ليست بسواء .
دمه غير لحمه ولحمه
غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق ،
فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى والله جلَّ جلاله هو واحد لا واحد غيره
لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع
المؤلّف من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى غير أنّه بالاجتماع شيء واحد .
قلت : جُعلت فداك فرَّجت عنّي فرَّج الله
عنك ، فقولك : اللّطيف الخبير فسّره لي كما فسّرت الواحد فإنّي أعلم أنّ لطفه على
خلاف لطف خلقه المفصل غير أنّي أُحبُّ أن تشرح ذلك لي .
فقال : يا
فتح إنّما قلنا : اللّطيف للخلق اللّطيف ( و ) لعلمه بالشيء اللّطيف أو لا ترى
وفّقك الله وثبّتك إلى أثر صنعه في النبات اللّطيف وغير اللّطيف ومن الخلق اللّطيف
ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه
العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى والحدث المولود من القديم .
فلمّا رأينا صغر ذلك
في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما
في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها
عنها ونقلها الغذاء إليها ثمَّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما
لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها .
لا تراه عيوننا ولا
تلمسه أيدينا علمنا أنَّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سمّيناه بلا علاج ولا
أداة ولا آلة ، وأنَّ كلَّ صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللّطيف الجليل خلق
وصنع لا من شيء (الكافي : 1 / 118 ، والتوحيد : 185 .) .
4 ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن المختار بن
محمّد الهمدانيّ وعن محمّد ابن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلويّ جميعاً ، عن
الفتح بن يزيد الجرجانيّ ، عن أبي الحسن عليهالسلام قال
: إنَّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم
وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو يشاء . أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن
يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لمّا غلبت مشيئتهما مشيئة الله
تعالى ، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة
إبراهيم مشيئة الله تعالى (1) .
5 ـ عن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي
الحسن عليهالسلام
يسأله عن الله عزَّ وجلَّ أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوَّنها ، أو لم
يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوَّن عند
ما كوَّن ؟ فوقَّع عليهالسلام
بخطّه : لم يزل الله عالماً
بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء (2) .
6 ـ عن الفتح بن يزيد الجرجانيِّ عن أبي
الحسن عليهالسلام ،
قال : سألته عن أدنى المعرفة ، فقال : الإقرار
بأنّه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنّه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنّه ليس
كمثله شيء
(التوحيد : 283 .) .
7 ـ عن معلى بن محمّد ، قال : سئل العالم
عليهالسلام كيف
علم الله ؟ قال : علم ، وشاء ، وأراد ،
وقدَّر ، وقضى ، وأبدى فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدَّر ، وقدَّر ما أراد ، فبعلمه
كانت المشيَّة ، وبمشيَّته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التَّقدير ، وبتقديره كان القضاء
، وبقضائه كان الإمضاء .
فالعلم متقدِّم المشيَّة
والمشيَّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتّقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فللّه
تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع
القضاء بالإمضاء فلا بداء .
ــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي : 1 / 151 . واعلم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذبح إسحاق دون
إسماعيل وهو خلاف ما تظافرت عليه أخبار الشيعة .
(2)
التوحيد : 145 .
فالعلم بالمعلوم قبل
كونه ، والمشيَّة في المنشأ قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتّقدير
لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً وقياماً ، والقضاء بالإمضاء هو المبرم
من المفعولات ذوات الأجسام .
المدركات بالحواسِّ
من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دبَّ ودرج من إنس وجنٍّ وطير وسباع وغير ذلك ممّا
يدرك بالحواسِّ ، فللّه تبارك وتعالى فيه البداء ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين
المفهوم المدرك فلا بداء .
والله يفعل ما يشاء ،
وبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيَّة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل
إظهارها وبالإرادة ميَّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها ، وبالتَّقدير قدَّر
أوقاتها وعرف أوَّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للنّاس أماكنها ودلَّهم عليها ،
وبالإمضاء شرح عللها ، وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم (التوحيد : 334 .) .
قال عليهالسلام
: إنَّ الله لا يوصف إلاّ بما وصف به
نفسه ; وأنّى يُوصف الّذي تعجز الحواسُّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن
تحدَّه والأبصار عن الإحاطة به .
نأى في قربه وقرب في نأيه
، كيَّف الكيف بغير أن يقال : كيف ، وأيَّن الأين بلا أن يقال : أين ، هو منقطع
الكيفيَّة والأينيَّة ، الواحد الأحد ، جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه (تحف العقول : 357 .) .
8 ـ رسالته عليهالسلام المعروفة في الردّ على أهل الجبر
والتّفويض : ( من عليّ بن محمّد ;
سلام عليكم وعلى مَن اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته ; فإنّه ورد عليَّ كتابكم (رواها الطبرسي بتلخيص في الاحتجاج تحت عنوان رسالته عليهالسلام إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض ، راجع بحار الأنوار :
50/68 .)
وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر ومقالة مَن يقول منكم بالجبر
ومَن يقول بالتفويض وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم ، ثمّ
سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلَّه .
اعلموا رحمكم الله
أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع مَن ينتحل
الإسلام ممّن يعقل عن الله جلَّ وعزَّ لا تخلو من معنيين : إمّا حقٌّ فيُتَّبع
وإمّا باطل فيُجتنب .
وقد اجتمعت الأُمّة
قاطبة لا اختلاف بينهم أنَّ القرآن حقٌّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال
اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون ، مهتدون وذلك بقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: ( لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة ) فأخبر أنَّ جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلُّها حق
، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً .
والقرآن
حقٌّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه .
فإذا شهد القرآن
بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر طائفة من الأمة لزمهم الإقرار به ضرورة حين اجتمعت
في الأصل على تصديق الكتاب ، فإن ( هي ) جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملَّة .
فأوَّل خبر يعرف تحقيقه من الكتاب
وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم ; حيث قال : ( إنِّي مخلِّف
فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي ـ أهل بيتي ـ لن
تضلّوا ما تمسَّكتم بهما وإنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ) .
فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب
الله نصّاً مثل قوله جلَّ وعزَّ : (
إنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والّذينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الغالِبُونَ )
(المائدة
(5) : 55 ـ 56 .) .
وروت العامّة في ذلك أخباراً لأمير
المؤمنين عليهالسلام
أنّه تصدَّق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه .
فوجدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أتى بقوله : (
مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ) وبقوله : ( أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه
لا نبيَّ بعدي ) ووجدناه يقول : (
عليّ يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي ) .
فالخبر الأوَّل الَّذي
استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضاً
مُوافق للكتاب ; فلمّا شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشَّواهد الأُخر لزم على
الأمة الإقرار بها ضرورةً ؛ إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة ووافقت
القرآن والقرآن وافقها .
ثمَّ وردت حقائق الأخبار من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الصّادقين عليهماالسلام ونقلها قوم
ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كلِّ مؤمن ومؤمنة لا
يتعدَّاه إلاّ أهل العناد .
وذلك أنَّ أقاويل آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متَّصلة بقول
الله وذلك مثل قوله في محكم كتابه : (
إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً ) (الأحزاب (33) : 57 .)
ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : (
مَن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذى الله ومَن آذى الله يوشك أن ينتقم
منه ) وكذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( مَن أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني ومَن
أحبَّني فقد أحبَّ الله ) .
ومثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بني وليعة : (
لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله قم يا عليُّ
فسر إليهم ) (بنو وليعة ـ كسفينة ـ : حي من كِندة .) .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم خيبر : ( لأبعثنَّ إليهم
غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرّاراً غير فرَّار لا يرجع
حتّى يفتح الله عليه ) .
فقضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالفتح قبل
التَّوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلمّا كان من الغد دعا عليّاً عليهالسلام
فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة وسمّاه كرَّاراً غير فرَّار ، وسمّاه الله
محبّاً لله ولرسوله ، فأخبر أنَّ الله ورسوله يحبّانه .
وإنّما قدَّمنا هذا الشَّرح والبيان
دليلاً على ما أردنا وقوَّة لما نحن مبيِّنوه من أمر الجبر والتَّفويض والمنزلة
بين المنزلتين وبالله العون والقوَّة وعليه نتوكَّل في جميع أُمورنا فإنّا نبدأ من
ذلك بقول الصّادق عليهالسلام : ( لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين
المنزلتين وهي صحَّة الخلقة وتخلية السَّرب (السرب ـ بالفتح ـ : الطريق والصدر ـ وبالكسر ـ أيضاً
: الطريق والقلب ـ وبالتحريك ـ الماء السائل .) والمهلة في الوقت والزَّاد مثل
الرَّاحلة والسَّبب المهيِّج للفاعل على فعله ) ، فهذه خمسة أشياء
جمع به الصّادق عليهالسلام
جوامع الفضل ، فإذا نقص العبد منها خلَّة كان العمل عنه مطروحاً بحسبه ، فأخبر
الصّادق عليهالسلام
بأصل ما يجب على النّاس من طلب معرفته ونطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات
رسوله ؛ لأنّ الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وآله عليهمالسلام لا
يعدون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن ، فإذا وردت حقائق الأخبار والتُمست
شواهدها من التَّنزيل فوجد لها موافقاً وعليها دليلاً كان الاقتداءُ بها فرضاً لا
يتعدّاه إلاّ أهل العناد كما ذكرنا في أوَّل الكتاب ، ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله
الصّادق عليهالسلام من
المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدَّق
مقالته في هذا .
وخبرٌ عنه أيضاً موافق لهذا : أنَّ
الصّادق عليهالسلام
سُئل هل أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال الصّادق عليهالسلام : هو
أعدل من ذلك .
فقيل له : فهل فوَّض إليهم ؟ فقال عليهالسلام : هو
أعزُّ وأقهر لهم من ذلك .
وروي عنه أنَّه قال : النّاس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل
يزعم أنَّ الأمر مفوّض إليه فقد وهَّن الله في سلطانه فهو هالك .
ورجل يزعم أنَّ الله
جلَّ وعزَّ أجبر العباد على المعاصي وكلَّفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو
هالك .
ورجل يزعم أنَّ الله
كلَّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء
استغفر الله فهذا مسلم بالغ . فأخبر عليهالسلام أنَّ مَن
تقلَّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحقِّ .
فقد شرحت الجبر الَّذي مَن دان به يلزمه
الخطأ ، وأنَّ الّذي يتقلَّد التّفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين
بينهما (راجع تمام الرسالة في تحف العقول والاحتجاج ، وبحار الأنوار : 50/68 .) .
ــــــــــــــ
1 ـ عن خيران الخادم قال : كتبت إلى
الرّجل ـ أيّ الإمام ـ صلوات الله عليه أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير
أيصلّى فيه أم لا ؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : صلّ فيه فإنّ الله
إنّما حرّم شربها وقال بعضهم : لا تصلّ فيه ، فكتب عليهالسلام : لا
تصلّ فيه فإنه رجسٌ
(1) .
2 ـ عن علي بن إبراهيم ، عن يحيى بن عبد
الرَّحمن بن خاقان قال : رأيت أبا الحسن الثالث عليهالسلام سجد سجدة الشكر فافترش ذراعيه
فألصق جؤجؤه وبطنه بالأرض فسألته عن ذلك ؟ فقال : كذا
نحبّ
(2) .
3 ـ وعنه أيضاً ، عن عليّ بن راشد قال : قلت
لأبي الحسن عليهالسلام
جُعلت فداك إنّك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه أنّ أفضل ما تقرأه في الفرائض بإنّا
أنزلناه وقل هو الله أحد ، وإنّ صدري ليضيق بقراءتهما في الفجر ، فقال عليهالسلام :
لا يضيقنَّ صدرك بهما فإنّ الفضل والله فيهما (3) .
4 ـ سأل داود بن أبي زيد أبا الحسن
الثالث عليهالسلام عن
: القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها هل يجوز عليها السجود ؟ فكتب : يجوز (4) .
5 ـ عن أيوب بن نوح قال : كتبت إلى أبي
الحسن الثالث عليهالسلام
أسأله عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته أم لا ؟ فكتب عليهالسلام : لا
يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة (5) .
6 ـ عن أبي إسحاق بن عبد الله العلوي
العريضي قال : وحك في صدري ما الأيام التي تُصام ؟ فقصدت مولانا أبا الحسن علي بن
محمد عليهماالسلام وهو
بصربا .
ولم أبد ذلك لأحد من خلق الله
فدخلت عليه فلما بصر بي قال عليهالسلام : يا
أبا إسحاق جئت تسألني عن الأيام التي يُصام فيهن وهي أربعة : أوّلهن يوم السابع
والعشرين من رجب يوم بعث الله تعالى محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى خلقه رحمة للعالمين ، ويوم مولده صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو السابع عشر من شهر ربيع الأول ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دُحيت
الكعبة ، ويوم الغدير فيه أقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخاه عليهالسلام
علماً للناس وإماماً من بعده ، قلت : صدقت جُعلت فداك ، لذلك
قصدت ، أشهد أنّك حجّة الله على خلقه
(تهذيب
الأحكام : 4 / 305 .) .
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 3 / 405 .
(2) الكافي
: 3 / 324 .
(3) الكافي
: 3 / 290 .
(4) مَن لا
يحضره الفقيه : 1 / 270 .
(5) تهذيب الأحكام : 4 / 243 .
7 ـ عن علي بن مهزيار قال : كتبت إليه :
يا سيدي رجل دفع إليه مال يحجّ فيه ، هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس أو
على ما فضل في يده بعد الحج ؟ فكتب عليهالسلام : ليس عليه الخمس (الكافي : 1 / 547 .) .
8 ـ عن أحمد بن حمزة قال : قلت لأبي
الحسن عليهالسلام
: رجلٌ من مواليك له قرابة كلّهم يقول بك وله زكاة أيجوز له أن يعطيهم جميع زكاته
؟ قال : نعم(الكافي : 3 / 552 .)
.
9 ـ عن أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي
الحسن الثالث عليهالسلام :
إنّا نؤتى بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر عليهالسلام
عندنا ، فكيف نصنع ؟ فقال : ما
كان لأبي عليهالسلام
بسبب الإمامة فهو لي وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم (مَن لا يحضره الفقيه : 2 / 42 .) .
10 ـ عن إبراهيم بن محمد قال : كتبت إلى
أبي الحسن الثالث عليهالسلام ، أسأله عمّا
يجب في الضياع ، فكتب : الخمس بعد المؤونة ، قال : فناظرت أصحابنا فقالوا :
المؤونة بعدما يأخذ السلطان ، وبعد مؤونة الرجل ، فكتبت إليه أنّك قلت : الخمس بعد
المؤونة وإن أصحابنا اختلفوا في المؤونة ؟ فكتب : الخمس
بعدما يأخذ السلطان وبعد مؤونة الرجل وعياله (1) .
11 ـ كتب محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني
إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليهماالسلام
في رجل دفع ابنه إلى رجل وسلّمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل آخر
فقال له : سلّم ابنك منّي سنة بزيادة هل له الخيار في ذلك ؟ وهل يجوز له أن يفسخ
ما وافق عليه الأوّل أم لا ؟ فكتب عليهالسلام
بخطّه : يجب عليه الوفاء
للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف (2) .
12 ـ عن محمد بن عيسى ، عن إبراهيم
الهمداني قال : كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام
وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الأجرة في كل سنة عند انقضائها
لا يقدم لها شيء من الأجرة ما لم يمض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب
على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة بموت المرأة ؟ فكتب عليهالسلام
: إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ فماتت
فلورثتها تلك الإجارة فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه
فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله (3) .
13 ـ عن محمد بن رجاء الخياط قال : كتبت
إلى الطيب عليهالسلام إنّي كنت في
المسجد الحرام فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فإذا أنا بآخر ، ثمّ بحثت
ــــــــــــــ
(1) تفسير العياشي : 2 / 63 .
(2) الكافي : 4 / 239 .
(3) الكافي : 5 / 270 .
الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها فعرَّفتها
ولم يعرفها أحدٌ فما ترى في ذلك ؟ فكتب عليهالسلام : إنّي قد فهمت ما ذكرت من أمر الدَّنانير
فإن كنت محتاجاً فتصدّق بثلثها ، وإن كنت غنيّاً فتصدق بالكلِّ (1) .
14 ـ عن أحمد بن محمد قال : قال أبو
الحسن عليهالسلام في
قول الله عزّ وجلَّ : (وليطّوفوا
بالبيت العتيق) قال
: طواف الفريضة طواف النساء
(2) .
15 ـ روى عليُّ بن مهزيار عن محمد بن
إسماعيل قال : أمرت رجلاً أن يسأل أبا الحسن عليهالسلام عن
الرَّجل يأخذ من الرَّجل حجّة فلا تكفيه ، أله أن يأخذ من رجل آخر حجّة أُخرى
فيتّسع بها فتجزي عنهما جميعاً أو يتركهما جميعاً أن لم تكفه إحداهما ؟ فذكر أنّه
قال : أحبّ إليّ أن تكون خالصة لواحد فإن كانت لا تكفيه فلا يأخذها (3) .
16 ـ عن القاسم بن محمد الزيات قال : قلت
لأبي الحسن عليهالسلام :
إنّي ظاهرت من امرأتي فقال : كيف
قلت ؟ قال : قلت : أنت عليَّ كظهر أُمّي إن فعلت كذا وكذا ، فقال : لا شيء عليك ولا تعد (4) .
17 ـ عن الوشاء قال : كتبت إليه أسأله عن
الفقّاع ، قال : فكتب : حرام
وهو خمر ومَن شربه كان بمنزلة شارب الخمر ، قال : وقال أبو الحسن
الأخير عليهالسلام : لو أنّ الدار داري لقتلت بايعه ولجلدت
شاربه ، وقال أبو الحسن الأخير عليهالسلام : حدّه
حدُّ شارب الخمر ، وقال عليهالسلام : هي خميرة استصغرها الناس (5) .
18 ـ كتب إبراهيم بن محمد الهمداني إليه عليهالسلام : ميّت أوصى بأن يجري على رجل ما
بقي من ثلثه ولم يأمر بإنفاذ ثلثه ، هل للوصي أن يوقف ثلث الميّت بسبب الإجراء ؟
فكتب عليهالسلام : ينفذ ثلثه ولا يوقف .
21 ـ عن أبي عليّ بن راشد قال : سألت أبا
الحسن عليهالسلام قلت
: جُعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلمّا وفيت المال خبّرت أنّ
الأرض وقف ؟ فقال : لا
يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلّة في مالك ادفعها إلى مَن أوقفت عليه
.
قلت لا أعرف لها ربّاً ؟ قال : تصدق بغلّتها (الكافي : 7 / 37 .)
.
ــــــــــــــ
(1) الكافي
: 4 / 239 .
(2) الكافي
: 40/512 .
(3) من لا
يحضره الفقيه : 2 / 444 .
(4) الكافي
: 6 / 158 .
(5) الكافي : 6 / 423 .
4 ـ من أدعية
الإمام الهادي عليهالسلام
1 ـ دعاؤه عند
الشدائد : وكان يدعو به إذا ألمّت به حادثة أو حلّ به خطب أو
أراد قضاء حاجة مهمّة ، و كان قبل أن يدعو به يصوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة ،
ثم يغتسل في أوّل يوم الجمعة ويتصدق على مسكين ويصلّي أربع ركعات فيقرأ في الركعة
الأولى سورة الفاتحة وسورة يس وفي الثانية سورة الحمد وحم الدخان ، وفي الثالثة
سورة الحمد مع سورة الواقعة وفي الرابعة سورة الحمد وسورة تبارك ، وإذا فرغ منها
بسط راحتيه إلى السماء ، ودعا بإخلاص قائلاً بعد البسملة (الوسائل : 5 / 62 .) : ( اللّهمّ لك الحمد حمداً يكون أحقّ
الحمد بك ، وأرضى الحمد لك ، وأوجب الحمد لك ، وأحب الحمد إليك ، ولك الحمد كما
أنت أهله وكما رضيته لنفسك وكما حمدك مَن رضيت حمده من جميع خلقك ، ولك الحمد كما
حمدك به جميع أنبيائك ورسلك وملائكتك ، وكما ينبغي لعِزّك وكبريائك وعظمتك ، ولك
الحمد حمداً تكل الألسن عن صفته ويقف القول عن منتهاه ، ولك الحمد حمداً لا يقصر
عن رضاك ولا يفضله شيء من محامدك .
اللّهمّ ومن جودك
وكرمك أنّك لا تخيب مَن طلب إليك وسألك ورغب فيما عندك ، وتبغض مَن لم يسألك ،
وليس كذلك أحد غيرك ، وطمعي يا ربّ في رحمتك ومغفرتك ، وثقتي بإحسانك وفضلك حداني
على دعائك والرغبة إليك ، وأنزل حاجتي بك ، وقد قدمت أمام مسألتي التوجّه بنبيّك
الذي جاء بالحق والصدق فيما عندك ، ونورك وصراطك المستقيم الذي هديت به العباد ،
وأحييت بنوره البلاد ، وخصصته بالكرامة ، وأكرمته بالشهادة وبعثته على حين فترة من
الرسل .
اللّهمّ دللت عبادك
على نفسك فقلت تباركت وتعاليت : ( وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1) وقلت : ( قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ ) (2) وقلت
:
(
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ )
(3) أجل يا رب نعم المدعو
أنت ونعم الرب أنت ونعم المجيب ، وقلت : ( قُلِ ادْعُوا
اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى ) (4) ، وأنا أدعوك اللّهمّ بأسمائك التي إذا
دُعيت بها أجبت ، وإذا سُئلت بها أعطيت ، وأدعوك متضرّعاً إليك مستكيناً ، دعاء
مَن أسلمته الغفلة ، وأجهدته الحاجة ، أدعوك دعاء مَن استكان ، واعترف بذنبه ،
ورجاك لعظيم مغفرتك ، وجزيل مثوبتك .
ــــــــــــــ
(1) البقرة
(2) : 186 .
(2) الزمر
(39) : 53 .
(3)
الصافات (37) : 75 .
(4) الإسراء (17) : 110 .
2 ـ دعاء الاعتصام ،
وهذا نصّه : (
يا عدّتي عند العدد ، ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسند ويا واحد يا أحد ، يا
قل هو الله أحد ، أسألك بحق مَن خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحد أن
تصلّي عليهم ... ثمّ تذكر حاجتك )
(راجع حياة
الإمام علي الهادي : 131 ـ 136 .)
.
3 ـ مناجاته :
وكان الإمام الهادي عليهالسلام
يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم بقلب خاشع ، ونفس آمنة مطمئنّة .
وكان ممّا يقول في مناجاته : ( إلهي مسيء قد ورد ، وفقير قد قصد ،
فلا تخيّب مسعاه وارحمه واغفر له خطاه ... )
.
( إلهي صلِّ على
محمّد وآل محمّد ، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري ومُحي من المخلوقين ذكري ،
وصرت من المنسيّين كمَن نسي ، إلهي كبُر سنّي ، ورقّ جلدي ، ودقّ عظمي ، ونال
الدهر منّي واقترب أجلي ، ونفدت أيامي ، وذهبت شهواتي وبقيت تبعاتي ، إلهي ارحمني
إذا تغيّرت صورتي ... ) (حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام ، : 137 ، عن الدر النظيم .)
.
5 ـ من تراثه
التربوي والأخلاقي
وأُثرت عن الإمام أبي الحسن الهادي عليهالسلام مجموعة من الكلمات الذهبية التي
عالج فيها مختلف القضايا التربوية والأخلاقية ، والنفسية ، وهذه بعضها :
1 ـ قال عليهالسلام : (
خير من الخير فاعله ، وأجمل من الجميل قائله ، وأرجح من العلم عامله )
.
2 ـ قال عليهالسلام : (
مَن سأل فوق قدر حقّه فهو أولى بالحرمان ) .
3 ـ قال عليهالسلام : (
صلاح من جهل الكرامة هوانه ) .
4 ـ قال عليهالسلام : (
الحلم أن تملك نفسك ، وتكظم غيظك مع القدرة عليه ) .
5 ـ قال عليهالسلام : (
الناس في الدنيا بالمال ، وفي الآخرة بالأعمال ) .
6 ـ قال عليهالسلام : (
مَن رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ) .
7 ـ قال عليهالسلام : (
تريك المقادير ما لا يخطر ببالك ) .
8 ـ قال عليهالسلام : (
شر الرزيّة سوء الخلق ) .
9 ـ قال عليهالسلام : (
الغنى قلة تمنّيك ، والرضى بما يكفيك ، والفقر شره النفس وشدّة القنوط ، والمذلّة
اتباع اليسير ، والنظر في الحقير ) .
10 ـ سُئل الإمام عليهالسلام عن الحزم ؟ فقال عليهالسلام : (
هو أن تنظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك ) .
11 ـ قال عليهالسلام : (
راكب الحرون ـ وهو الفرس الذي لا ينقاد ـ أسير
نفسه ) .
12 ـ قال عليهالسلام : (
الجاهل أسير لسانه ) .
13 ـ قال عليهالسلام : (
المراء يفسد الصداقة القديمة ، ويحلل العقد الوثيقة وأقل ما فيه أن تكون المغالبة
، والمغالبة أسّ أسباب القطيعة ) .
14 ـ قال عليهالسلام : (
العتاب مفتاح التعالي ، والعتاب خير من الحقد ) .
15 ـ أثنى بعض أصحاب الإمام على الإمام ،
وأكثر من تقريظه والثناء عليه ، فقال عليهالسلام له
: ( إنّ كثرة الملق يهجم على الفطنة ،
فإذا حللت من أخيك محل الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النيّة ) .
16 ـ قال عليهالسلام : (
المصيبة للصابر واحدة ، وللجازع اثنان ) .
17 ـ قال عليهالسلام
: ( الحسد ماحق الحسنات ، والزهو جالب
المقت ) .
18 ـ قال
: (
العجب صارف عن طلب العلم ، وداع إلى الغمط (غمط الناس : احتقرهم وتكبّر عليهم .)
في الجهل ) .
19 ـ قال عليهالسلام : (
البخل أذمّ الأخلاق ، والطمع سجيّة سيّئة ) .
20 ـ قال عليهالسلام : (
مخالطة الأشرار تدلّ على شرّ مَن يخالطهم ) .
21 ـ قال عليهالسلام : (
الكفر للنعم إمارة البطر ، وسبب للتغيير ) .
22 ـ قال عليهالسلام : (
اللجاجة مسلبة للسلامة ، ومؤدّية للندامة ) .
23 ـ قال عليهالسلام : (
الهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال ) .
24 ـ قال عليهالسلام : (
العقوق يعقب القلّة ، ويؤدّي إلى الذلّة ) .
25 ـ قال عليهالسلام : (
السهر ألذّ للمنام ، والجوع يزيد في طيب الطعام ) .
26 ـ قال لبعض أصحابه : (
اذكر مصرعك بين يدي أهلك حيث لا طبيب يمنعك ، ولا حبيب ينفعك ) .
27 ـ قال عليهالسلام : (
اذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم ) .
28 ـ قال عليهالسلام : (
ما استراح ذو الحرص والحكمة ) .
29 ـ قال عليهالسلام : (
لا نجع في الطبايع الفاسدة ) .
30 ـ قال عليهالسلام : (
مَن لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطى ) .
31 ـ قال عليهالسلام : (
شرٌّ من الشرّ جالبه ، وأهول من الهول راكبه ) .
32 ـ قال عليهالسلام : (
إيّاك والحسد فإنّه يبين فيك ، ولا يعمل في عدوك ) .
33 ـ قال عليهالسلام : (
إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتى يعلم ذلك منه ،
وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم
ذلك منه ) .
34 ـ قال عليهالسلام للمتوكل : ( لا تطلب الصفاء ممّن كدرت عليه ، ولا
الوفاء ممّن غدرت به ، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه ، فإنّما قلب غيرك لك
كقلبك له ) .
35 ـ قال عليهالسلام : (
ابقوا النعم بحسن مجاورتها ، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها ، واعلموا أنّ
النفس أقبل شيء لما أُعطيت ، وأمنع شيء لما مُنعت فاحملوها على مطيّة لا تبطي )
.
36 ـ قال عليهالسلام : (
الجهل والبخل أذمّ الأخلاق ) .
37 ـ قال عليهالسلام : (
حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن ) .
38 ـ قال عليهالسلام : (
إنّ من الغرة بالله أن يصرّ العبد على المعصية ويتمنّى على الله المغفرة )
.
39 ـ قال عليهالسلام : (
لو سلك الناس وادياً وسيعاً لسلكت وادي رجل عبد الله وحده خالص ) .
40 ـ قال عليهالسلام : (
والغضب على مَن تملك لؤم ) (راجع حياة الإمام علي الهادي عليهالسلام : 156 ـ 165 .) .
41 ـ قال عليهالسلام : (
إنّ لله بقاعاً يحبُّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه والحير (الحير ـ بالفتح ـ : مخفّف حائر والمراد أنّ الحائر الحسيني عليهالسلام من هذه البقاع .) منه ) .
42 ـ وقال عليهالسلام يوماً : ( إنَّ أكل البطّيخ يورث الجذام )
، فقيل له : أليس قد أمن المؤمن إذا أتى عليه أربعون سنة من الجنون والجذام والبرص
؟ قال عليهالسلام : ( نعم ; ولكن إذا خالف المؤمن ما أُمر
به ممّن آمنه لم يأمن أن تصيبه عقوبة الخلاف ) .
43 ـ وقال عليهالسلام : (
الشّاكر أسعد بالشُّكر منه بالنّعمة الّتي أوجبت الشُّكر ؛ لأنّ النِّعم متاع
والشُّكر نعم وعقبى ) .
44 ـ وقال عليهالسلام : (
إنَّ الله جعل الدُّنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى وجعل بلوى الدُّنيا لثواب
الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدُّنيا عوضاً ) .
45 ـ وقال عليهالسلام : (
إنّ الظّالم الحالم يكاد أن يعفي على ظلمه بحلمه ، وإنّ المحقَّ السّفيه يكاد أن
يطفئ نور حقِّه بسفهه ) .
46 ـ وقال عليهالسلام : (
مَن جمع لك ودَّه ورأيه فاجمع له طاعتك ) .
47 ـ وقال عليهالسلام : (
مَن هانت عليه نفسه فلا تأمن شرَّه ) .
48 ـ وقال: (
الدُّنيا سوق ، ربح فيها قوم وخسر آخرون ) (راجع تحف العقول : 362 طبعة النجف الأشرف .) .
إلى هنا نختم الكلام عن
التراث القيّم للإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام تاركين التفصيل إلى مسنده ومصادر ترجمته .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
ــــــــــــــ
الفهرست
الفصل
الأوّل : الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام في سطور. 14
الفصل
الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 15
الفصل
الثالث : مظاهر من شخصيّة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 19
5 ـ التحذير عن
مجالسة الصوفيّين : 21
الفصل الأوّل : نشأة الإمام علي بن محمد الهادي عليهالسلام. 25
3 ـ بشارة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم بولادته. 26
الفصل
الثاني : مراحل حياة الإمام الهادي عليهالسلام. 27
الفصل
الثالث : الإمام علي بن محمد الهادي في ظلّ أبيه الجواد عليهماالسلام. 28
الشيعة وإمامة الجواد
عليهالسلام. 29
الإمام الجواد عليهالسلام والمأمون العباسي... 33
زواج الإمام الجواد
عليهالسلام. 34
الإمام الجواد عليهالسلام والمعتصم. 35
نصوص الإمام الجواد
عليهالسلام على إمامة ولده الهادي عليهالسلام. 36
استشهاد الإمام
الجواد عليهالسلام. 39
الفصل الأوّل :
المسيرة الرسالية لأهل البيت (ع) منذ عصر الرسول(ص) حتى عصر الإمام
الهادي (ع) . 41
عقبات وأخطار أمام
عملية التغيير الشاملة. 42
مضاعفات الانحراف
بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. 42
انهيار الدولة الإسلامية
ومضاعفاته. 43
المهامّ الرساليّة
للأئمّة الطاهرين. 45
موقف أهل البيت
عليهمالسلام من انحراف الحكّام. 46
أهل البيت عليهمالسلام وتربية الأُمّة. 46
مراحل الحركة الرسالية
للائمّة الراشدين عليهمالسلام. 47
موقع الإمام الهادي
عليهالسلام في عملية التغيير الشاملة. 48
الفصل الثاني :
عصر الإمام علي بن محمّد الهادي عليهالسلام. 49
الإمام الهادي عليهالسلام والمعتصم العباسي... 50
الإمام الهادي عليهالسلام وبغا الكبير. 52
موقف الإمام الهادي
عليهالسلام من مسألة خلق القرآن. 54
إخبار الإمام الهادي
عليهالسلام بموت الواثق. 54
الإمام الهادي عليهالسلام والمتوكّل العبّاسي... 57
الإمام في طريقه
إلى سامراء. 61
الإمام عليهالسلام في سامراء. 62
تفتيش دار الإمام
عليهالسلام. 65
اعتقال الإمام الهادي
عليهالسلام. 67
محاولة اغتيال الإمام
الهادي عليهالسلام. 68
دعاء الإمام عليهالسلام
على المتوكّل.. 69
المنتصر بالله
(247 ـ 248 هـ) 70
الفصل
الثالث : ملامح عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 74
1 ـ الحالة السياسية
العامّة. 74
إنّ عواطف المسلمين
وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهمالسلام. 79
الفصل الأوّل :
متطلّبات عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 82
متطلّبات الساحة
الإسلامية في عصر الإمام الهادي عليهالسلام. 89
1 ـ تجنّب إثارة
الحكّام وعمّالهم. 89
2 ـ الردّ على الإثارات
الفكرية والشبهات الدينية. 90
3 ـ التحدّي العلمي
للسلطة وعلمائها 90
4 ـ توسيع دائرة
النفوذ في جهاز السلطة. 94
الفصل الثاني :
الإمام الهادي عليهالسلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها 95
2 ـ تحصين الجماعة
الصالحة وإعدادها لمرحلة الغيبة. 100
الموقف من الغلاة
والفرق المنحرفة. 103
ظاهرة الزيارة ودورها
في التحصين العقائدي.. 104
أوّلاً
: الزيارة الجامعة الكبيرة 104
3 ـ الأُسس الفكريّة
للتشيّع. 105
وكلاء الإمام الهادي
عليهالسلام. 118
الفصل
الثالث : الإمام الهادي عليهالسلام في ذمّة الخلود 120
تجهيزه وحضور الخاصّة
والعامّة لتشييعه. 122
انتشار خبر استشهاد
الإمام الهادي عليهالسلام في البلاد 124
تاريخ استشهاده
عليهالسلام. 124
الفصل
الرابع : مدرسة الإمام الهادي عليهالسلام وتراثه. 126
البحث
الأوّل : أصحاب الإمام عليهالسلام ورواة حديثه. 126
1 ـ إبراهيم بن
عبده النيسابوري : 127
2 ـ إبراهيم بن
محمد الهمداني : 127
4 ـ احمد بن إسحاق
بن عبد الله الأشعري القمّي : 128
5 ـ أحمد بن محمد
بن عيسى الأشعري القمّي : 128
6 ـ أيّوب بن نوح
بن درّاج : 128
10 ـ داود بن القاسم
الجعفري : 130
13 ـ عثمان بن سعيد
العمري السمّان : 132
14 ـ علي بن مهزيار
الأهوازي الدورقي : 133
15 ـ الفضل بن شاذان
النيشابوري : 133
16 ـ محمد بن أحمد
المحمودي : 134
17 ـ محمد بن الحسن
بن أبي الخطّاب الزيّات : 135
18 ـ محمد بن الفرج
الرخجي : 135
19 ـ معاوية بن
حكيم بن معاوية بن عمار الكوفي : 135
البحث الثاني : نماذج من تراث الإمام الهادي عليهالسلام. 136
4 ـ من أدعية الإمام
الهادي عليهالسلام. 145
5 ـ من تراثه التربوي
والأخلاقي. 146