- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
اعلام الهداية
الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)
|
|
المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم
المقدسة |
|
أهل
البيت في القرآن الكريم (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب: 33 /
33 |
|
أهل
البيت في الُسنّة النبويّة (إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن
تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) (الصحاح
والمسانيد) |
|
الفهرس إجمالي
|
|
الباب الأول: |
|
المقدمة
|
|
الحمد
لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً
لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد
(ص) وعلى آله الميامين النجباء. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام
(6): 71). (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة
(2): 213). (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(الأحزاب
(33): 4). (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران (3): 101). (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(يونس (10): 35). (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(سبأ
(34): 6). (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص
(28):50). فالله
تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان
إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه
الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد
أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى
الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات
(51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة
والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال. وبعد
أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال;
لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن
هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له
سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه
كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء
إرادته. ويتولّى
أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها،
والتي تتلخّص في: 1
ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة
تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله
شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً:
(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6): 124) و(اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل
عمران (3): 179). 2
ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على
الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة
وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة
(2): 213). 3
ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل
تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه
المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى:
(يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62): 2)
والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة
الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33):
21). وقد
سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل
التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في
سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في
مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين. ولتحقيق
أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري: وتبلورت
حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم
والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم،
فكانوا هم الأدلَّاء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين
في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ
المنشود. ويختص
هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) تاسع أئمة أهل
البيت(ع) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو المعصوم الحادي عشر من أعلام
الهداية والذي تمثلت كل جوانب الشريعة في حياته فكراً وخلقاً وسلوكاً فكان
نبراساً ومثلاً أعلى للبشرية بعد سيّد المرسلين وآبائه الطاهرين الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى
كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع
المبارك وإخراجه إلى عالم النور ، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالى . ولا
يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه
الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير. المجمع
العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة |
|
الباب الأول:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: الإمام محمّد
الجواد (عليه السلام) في سطور
|
|
الإمام
أبو جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) هو التاسع من أئمة أهل البيت الذين
أوصى إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر من الله سبحانه ـ لتولّي مهام
الإمامة والقيادة من بعده، بعد أن نصّ القرآن على عصمتهم وتواترت السنة الشريفة
بذلك. |
|
الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
إنّ
مواهب الإمام التقي محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) قد ملكت عقول كل من عاصره
وتطّلع إلى شخصيته العملاقة واطلع على عظمة فكره وكمال علمه. وكل من كان يراه لم
يقدر أن يتمالك نفسه أمامه ويخرج من عنده إلاّ والإعجاب والخضوع يتسابق بين
يديه. ب ـ وقال عنه بعد ولادته: (هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه)( الكافي: 1 / 321.). وقال
في وصف الإمام أبي جعفر (عليه السلام) حينما أراد تزويجه واعترض عليه العباسيون:
(وأما أبو جعفر محمد بن علي قد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم
والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك.. ثم قال لهم: وَيْحَكم إني أعرف بهذا
الفتى منكم، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله، ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه
أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال(الإرشاد: 2 / 282.). يباري
الغيث جوداً وعطيةً، ويجاري الليث نجدةً وحميّة، ويبذّ السير سيرةً رضية، مرضية
سريّة. إذا عُدِّدَ آباؤه الكرام، وأبناؤه (عليهم السلام) نظَم اللئالي الأفراد
في عدِّه، وجاء بجماع المكارم في رسمه وحدِّه، وجَمَع أشتات المعالي فيه، وفي
آبائه من قبله، وفي أبنائه من بعده، فمن له أبٌ كأبيه أو جد كجدّه ؟ !. فهو
شريكهم في مجدهم، وهم شركاؤه في مجده، وكما ملأوا أيدي العفاة بِرِفْدِهم، ملأ
أيديهم بِرِفده... بهم اتَّضحت سُبُل الهُدى، وبهم سُلِمَ من الردى، وبِحُبِّهم
تُرجى النجاة والفوز غداً، وهم أهل المعروف، وأولوا النَّدى. كُلُّ المدائح دون
استحقاقهم، وكُلُّ مكارم الأخلاق مأخوذة من كريم أخلاقهم وكُلّ صفات الخير
مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم، فالجنة في وصالهم، والنار في فراقهم. وهذه
الصفات تصدق على الجمع والواحد، وتثبت للغائب منهم والشاهد، وتتنزَّل على الولد
منهم والوالد. حُبُّهم فريضة لازمة، ودولتهم باقية دائمة، وأسواق سُؤدَدِهم
قائمة، وثغور محبيهم باسمة، وكفاهم شَرَفاً أن جدّهم محمد، وأبوهم علي، وأُمُّهم
فاطمة (عليهم السلام))( راجع كشف الغُمّة في معرفة الأئمة: الإمام محمّد الجواد:
2/370 ـ 371.). الناس
كلّهم عيال عليهم ومنتسبون انتساب العبودية إليهم. عنهم أُخذت المآثر، ومنهم
تعلّمت المفاخر، وبشرفهم شرف الأوّل والآخر. ولو أطلتُ في صفاتهم لم آتِ بطائل،
ولو حاولت حصرها نادتني الثريا: مَن يد المتناول؟ وكيف تطيق حصر ما عجز عنه
الأواخر والأوائل؟) 12 ـ ووصفه محمود بن وهيب البغدادي بقوله:
(هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً وأجلّ إخوته قدراً وكمالاً..)( جوهرة الكلام: 147.). هذه بعض النصوص التي أدلى بها معاصرو الإمام الجواد(عليه السلام) ومن
جاء بعدهم في القرون اللاحقة وهي تمثّل إعجابهم بمواهب الإمام وشخصيّته الفذّة
التي تحكي شخصيّة آبائه الكرام الذين حملوا مشاعل الهداية وأعلامها بعد خاتم
المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله). |
|
الفصل الثالث: مظاهر من شخصيّة
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
لا
ريب في أن فضائل الأئمة الإثني عشر المعصومين (عليهم السلام) ـ والإمام الجواد
منهم ـ كثيرة لا تحصى، كيف وقد اختارهم الله تعالى للإمامة على علم، وهذا
الاختيار يكشف عن اختصاصهم بكمالات ومناقب تفرّدوا بها وامتازوا عن من سواهم
وبذلك جعلهم حججه على خلقه وأمناء على وحيه. |
|
أ ـ تكلّمه في المهد:
|
ذكر
المؤرخون أن الإمام الجواد (عليه السلام) تشهّد الشهادتين لمّا وُلد، وأنه حمد
الله تعالى وصلّى على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الراشدين في
يومه الثالث. فعن
حكيمة ابنة موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) قالت: (لمّا حملت أم أبي جعفر
الجواد (عليه السلام) به كتبتُ إليه [يعني: إلى الإمام الرضا(عليه السلام)]:
(جاريتك سبيكة قد علقت. فكتب إليَّ: (إنها علقت ساعة
كذا، من يوم كذا، من شهر كذا، فإذا هي ولدت فألزميها سبعة أيام). قالت:
فلمّا ولدته، وسقط إلى الأرض، قال: (أشهد أن لا إله
إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله). فلمّا كان اليوم الثالث، عطس، فقال: (الحمد لله، وصلّى الله على محمد وعلى الأئمة الراشدين)( مستدرك عوالم العلوم:
23 / 151 ـ 152.). |
|
ب ـ إتيانه الحكمَ
صبياً:
|
|
أصبح
الإمام الجواد (عليه السلام) خليفة الله تعالى في خلقه وإماماً لهم وهو لم يزل
حديث السن، وذلك ما اقتضته مشيئة الله (جلّ جلاله) مثلما اقتضت ذلك مع عيسى
وسليمان (ع). وقد أثارت حداثة سنة (ع) استغراب بعض
الناس وتشكيكهم، الأمر الذي دعا الإمام الجواد (عليه السلام) إلى توضيح الأمر
لهم، وهو ما نجده في الروايات الآتية: 3 ـ قال الراوي لأبي جعفر (عليه السلام):
يا سيدي إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، فقال: (وما
ينكرون من ذلك قول الله عَزَّ وجَلَّ، لقد قال الله عَزَّ وجَلَّ لنبيه (صلى
الله عليه وآله): (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)( يوسف (12): 108.) فو الله ما تبعه إلاّ
علي(عليه السلام) وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين)( أصول الكافي: 1 / 315.). |
|
|
ج ـ علمه:
|
|
لابدَّ للإمام من أن يكون واسع
العلم والمعرفة، فهو أعلم أهل زمانه، وأدراهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين مع
الإحاطة بالنواحي السياسية والإدارية وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس. وقد دلّ الإمام
الجواد (عليه السلام) بنفسه على ذلك، إذ خاض ـ وهو في سنّه المبكّر ـ في مختلف
العلوم، وسأله العلماء والفقهاء عن أعقد المسائل الشرعية والعلمية فأجاب عنها
بكل إحاطة ودقة مما أدى ذلك إلى انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتزايد
الإقبال عليه في ذلك العصر وذهب كثير من العلماء إلى القول بالإمامة(حياة الإمام الجواد: 66.). |
|
ومن هنا ينبغي أن
نعرض بإيجاز إلى بعض ما أُثر عنه من العلوم:
|
|
1 ـ التوحيد:
|
|
أثيرت
في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) كثير من الشكوك والأوهام حول قضايا التوحيد
وقد أثارها من لا حريجة له في الدين من الحاقدين على الإسلام لزعزعة العقيدة في
نفوس المسلمين، ولتشكيكهم في مبادئ دينهم العظيم، وقد أجاب الإمام (عليه السلام)
عن تلك الشبهات وفنّدها خير تفنيد، وكان من بينها ما
يلي: |
|
2 ـ تفسير القرآن الكريم وتأويله:
|
|
وردت عن الإمام الجواد (عليه السلام) نصوص كثيرة في تفسير وتأويل بعض
آيات القرآن الكريم. |
|
3 ـ الحديث:
|
|
روى الإمام الجواد (عليه السلام) طائفة من الأحاديث
بسنده عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروى أيضاً عن جدّه الإمام أمير
المؤمنين (ع) وعن آبائه (ع) وفيما يلي مختارات من ذلك
التراث الذي يكشف بثّه من قِبَل الإمام(ع) عن
اهتمامه بنشر حديث الرسول(ص) وآبائه الميامين: |
|
4 ـ نماذج من فقهه (عليه السلام):
|
|
تشكّل
الأحاديث التي تُروى عن الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) مصدراً خصباً
لاستنباط الأحكام الشرعية لدى فقهاء الشيعة الإمامية، لأنها تعبّر عن سنة
المعصومين وسنّة المعصوم هي قوله وفعله وتقريره. |
الصلاة: |
|
1 ـ قال الراوي: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) (في
السنجاب والفنك والخزّ، وقلت: جعلت فداك، أحبّ أن لا تجيبني
بالتقيّة في ذلك فكتب بخطّه إلي: صلّ فيها)( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 286. الفنك: حيوان صغير من فصيلة
الكلبيات، شبيه بالثعلب، لكن أذنيه كبيرتان، لا يتجاوز طوله أربعين سنتيمتراً
بما فيه الذنب، فَرْوته من أحسن الفِراء. 2 ـ قال الراوي: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) صلّى
حين زالت الشمس يوم التروية ست ركعات خلف المقام، وعليه نعلاه لم ينزعهما(مستدرك عوالم العلوم: 23
/ 389.). |
|
الزكاة: |
|
وردت
عن الإمام الجواد (عليه السلام) عدة أخبار في فروع الزكاة كان من بينها ما يأتي:
استدل الفقهاء على جواز إخراج القيمة دون العين فيما تجب فيه الزكاة بما جاء عنه
(عليه السلام) في جوابه عن السؤال: (هل يجوز أن أخرج عمّا يجب في الحرث من
الحنطة والشعير، وما يجب على الذهب دراهم بقيمة ما يسوي ؟ أم لا يجوز إلاّ أن
يخرج من كل شيء ما فيه ؟ فأجاب (عليه السلام) : أيّما
تيسّر يخرج)( مستدرك عوالم العلوم:
23/411.). |
|
الحج: |
|
|
واستند
الفقهاء في فتاواهم في بعض فروع الحج ومسائله إلى ما أُثر عن الإمام الجواد
(عليه السلام) فيها، وفيما يأتي بعض ذلك: |
|
5 ـ فلسفة التشريع وعلل
الأحكام:
|
|
وكشف
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) النقاب عن بعض العلل في تشريع بعض الأحكام
الشرعيّة، وكان من بينها: |
|
د ـ عبادته ونسكه:
|
|
كان الإمام الجواد (عليه السلام)
أعبد أهل زمانه، وأشدهم حبّاً لله عَزَّ وجَلَّ وخوفاً منه، وأخلصهم في طاعته
وعبادته، شأنه شأن الأئمة الطاهرين من آبائه (عليهم السلام) الذين عملوا كلّ ما
يقرّبهم إلى الله زلفى. |
|
ومن مظاهر عبادة
الإمام الجواد (عليه السلام) نشير إلى ما يلي:
|
|
1 ـ نوافله: كان
(عليه السلام) كثير النوافل، ويقول المؤرخون إنه: كان يصلّي ركعتين يقرأ في كل
ركعة سورة الفاتحة، وسورة الإخلاص سبعين مرة(حياة الإمام محمّد الجواد: 67.). وإنه (عليه السلام) إذا دخل شهر جديد يصلّي أول يوم منه
ركعتين يقرأ في أول ركعة (الحمد) مرة، و(قل هو الله أحد) لكل يوم إلى آخره ـ
يعني ثلاثين مرة ـ . وفي أول الركعة الأخرى (الحمد) و(إنا أنزلناه) مثل ذلك
ويتصدق بما يتسهل، يشتري به سلامة ذلك الشهر كله(مستدرك عوالم العلوم: 23 / 220.). وجاء
في الرواية أنه صام أبو جعفر الثاني (عليه السلام) لمّا كان ببغداد يوم النصف من
رجب، ويوم سبع وعشرين منه، وصام معه جميع حشمه، وأمرنا أن نصلّي بالصلاة التي هي
اثنتى عشرة ركعة: تقرأ في كل ركعة الحمد وسورة، فإذا
فرغت قرأت (الحمد) أربعاً، و (قل هو الله أحد) أربعاً، والمعوّذتين أربعاً،
وقلت: (لا إله إلاّ الله والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة
إلاّ بالله العلي العظيم) أربعاً، (الله الله ربي لا أُشرك به شيئاً) أربعاً،
(لا أُشرك بربّي أحداً) أربعاً(مستدرك عوالم العلوم: 23 / 222.). 2ـ حجه: وكان
الإمام (عليه السلام) كثير الحج، وقد جاء في الرواية: (رأيت أبا جعفر الثاني
(عليه السلام) في سنة خمس عشرة ومائتين ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس، وطاف
بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط، فلمّا كان الشوط السابع استلمه واستلم
الحجر ومسح بيده ثم مسح وجهه بيده، ثم أتى المقام، فصلّى خلفه ركعتين ثم خرج إلى
دبر الكعبة إلى الملتزم، فالتزم البيت، ... ثم وقف عليه طويلاً يدعو، ثم خرج من
باب الحناطين. وهنا
نورد بعضاً من أذكار الإمام وأدعيته ومناجاته التي كان يناجي بها ربّه الأعلى
كأحد مظاهر التسبيح والتمجيد في محراب عبادته لله جلّ جلاله: من أدعيته إذا انصرف من الصلاة: (رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبمحمد
نبياً، وبعليٍّ ولياً، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن
محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي،
والحجة بن الحسن بن علي، أئمة. |
|
هـ ـ معجزاته
وكراماته (عليه السلام):
|
|
ورغم
أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان معجزة بذاته، حيث تصدى لإمامة المسلمين وهو
صبي لم يبلغ السابعة من عمره، فإنّ الله جّل جلاله أجرى على يديه كرامات أخرى في
مناسبات عديدة لكي يتم بها الحجة على العباد ويقطع بها ألسنة المعاندين وتطمئن
بسببها قلوب الموالين. 2 ـ قال أبو هاشم: ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت
له: جعلت فداك، إني مولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثم قال لي بعد أيام ابتداءً
منه ـ: (يا أبا هاشم، قد أذهب الله عنك أكل الطين). فأتانا
خبر أبي الحسن)الرضا((عليه السلام) بعد ذلك بأيّام، فإذا هو قد مات في ذلك
اليوم). |
|
و ـ من مكارم أخلاقه
الاجتماعية.
|
|
لقد
كان الإمام الجواد(عليه السلام) شاباً في مقتبل العمر، وكان المأمون يغدق عليه
الأموال الوافرة وقد بلغت مليون درهم. وكانت الحقوق الشرعية ترد إليه من الطائفة
الشيعية التي كانت تعتقد بإمامته بالإضافة إلى الأوقاف التي كانت في قم وغيرها
إلاّ أنّه لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصّة وإنّما كان ينفقها على
الفقراء والمعوزين والمحرومين.. وقد رآه الحسين المكاري في بغداد، وكان محاطاً
بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسمية والشعبية فظنّ أن
الإمام(عليه السلام) سوف لا يرجع إلى وطنه يثرب بل يقيم في بغداد راتعاً في
النعم والترف، وعرف الإمام قصده، فانعطف عليه وقال له:
(يا حسين، خبز الشعير، وملح الجريش في حرم جدّي رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) أحب إليَّ ممّا تراني فيه ..)( إثبات الهداة: 6 / 185.). |
|
1 ـ السخاء:
|
|
كان
الإمام أبو جعفر (عليه السلام) من أندى الناس كفّاً وأكثرهم سخاءً، وقد لُقِّب
بالجود لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى النّاس وقد ذكر المؤرّخون قصصاً كثيرة من
كرمه. |
|
2 ـ الإحسان إلى الناس:
|
|
أمّا الإحسان إلى الناس والبرّ بهم
فإنّه من سجايا الإمام الجواد ومن أبرز صفاته، وقد سجل التاريخ قصصاً كثيرة من
إحسانه منها: |
|
3 ـ المواساة للناس:
|
|
وواسى
الإمام الجواد (عليه السلام) الناس في البأساء والضرّاء، فقد ذكروا: أنه قد جرت
على إبراهيم بن محمّد الهمداني مظلمة من قِبل الوالي، فكتب إلى الإمام
الجواد(عليه السلام) يخبره بما جرى عليه، فتألّم الإمام وأجابه بهذه الرسالة: (عجّل الله نصرتك على من ظلمك، وكفاك مؤنته، وابشر بنصر
الله عاجلاً إن شاء الله، وبالآخرة آجلاً، وأكثر من حمد الله..)( بحار الأنوار: 12 /
126.). ومن مواساته للناس: تعازيه للمنكوبين والمفجوعين، فقد
بعث رسالة إلى رجل قد فجع بفقد ولده، وقد جاء فيها بعد البسملة: (ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك،
وكذلك الله عَزَّ وجَلَّ إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله، ليعظم به
أجر المصاب بالمصيبة، فأعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وربط على قلبك، إنّه قدير،
وعجّل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله...)( وسائل الشيعة: 2 / 874.). وأعربت
هذه الرسالة الرقيقة عن مدى تعاطف الإمام مع الناس، ومواساته لهم في البأساء
والضرّاء. |
|
الباب الثاني:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: نشأة الإمام محمّد
الجواد (عليه السلام)
|
|
1 ـ نسبه: الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
من الأسرة النبوية وهي أجلّ وأسمى الأسر التي عرفتها البشرية، فهو ابن الإمام
علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد
الباقر ابن الإمام علي السجاد ابن الإمام الحسين سبط رسول الله (ص) وابن الإمام
علي بن أبي طالب (ع). |
|
الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام
محمد الجواد(عليه السلام)
|
|
ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (195 هـ) أي في السنة التي بويع
فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضا (ع) حوالي
سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد
لأبيه الرضا (عليه السلام) وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن
أبيه (عليه السلام) في اغتيال المأمون للرضا (عليه السلام) . وبقي
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) بعد حادث استشهاد أبيه (عليه السلام) في منعة
من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضا(عليه السلام) وبقي عند الناس متّهماً
بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في
القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيت (عليهم السلام)
وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية
والاجتماعية. إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث
مراحل: القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة
الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً. والقسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى
شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة. وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين: المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي
المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة
، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة. وهكذا تتلخص مراحل حياته (عليه السلام) كما يلي: المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه
الرضا(عليه السلام) حيث ولد سنة (195 هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ
واستشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في صفر من سنة (203 هـ). المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم
المأمون من سنة (203 هـ) إلى سنة (218هـ). المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من
أيّام حكم المعتصم أي من سنة (218 ـ 220 هـ). |
|
الفصل الثالث: الإمام الجواد في
ظل أبيه (عليهما السلام)
|
|
قامت
الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل
البيت(عليهم السلام)، ثم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان سرّ
نجاحها في ربطها بأهل البيت(عليهم السلام)، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على
الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله). وقد كان الخلفاء من بني العباس
يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في
السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض
ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما
خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر
منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)( الحياة السياسية للإمام
الرضا (عليه السلام): 66.). |
|
سياسة العباسيين مع
الرعية:
|
|
لا
نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا
يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة. يا ليت جور
بني مروان دام لنا = وليت عدل
بني العباس في النا ر (الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 108.) إنّ
المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً
من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم
بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ
الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله
المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)،
بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(الحياة السياسية للإمام الرضا(ع): 108 ـ 109.). وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ
يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون
إن المنصور كان بخيلاً. |
|
الحالة السياسية في
هذه المرحلة:
|
|
لا
يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع
الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد. إن الفتنة بين محمد
الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في
هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر
عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين
ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل
منهما. |
|
محمّد الأمين: نزعاته
وسياسته
|
|
لم تكن في
الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع
المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب
الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما
يلي بعض صفاته: ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ
عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على
الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب (عيون التواريخ: 3، ورقة: 212.). وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن
تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين. 3 ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين
عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(سمط النجوم: 3 / 306.) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن
الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين
إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك
وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من
احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم،
ومراجعة لآمالهم. واستجاب
له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب
الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف
دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على
مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر. لقد كان الأمين إنساناً
تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة
الإسلامية. 4 ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي
الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد
الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل
العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة
من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون
بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه. |
|
الحروب الطاحنة:
|
|
وبعد
ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي
بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به
إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى
نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير،
وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى
الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً
انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش
الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل
وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس
علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على
المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى
طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد
سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء
على أخيه الأمين. وخفّت
جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام
الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع
سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال
وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن
سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(اتّجاهات الشعر العربي:
73.). وقد
زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن
قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية بالإضافة
إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح. |
|
قتل الأمين:
|
|
وكان
الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان
فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره
فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت
عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على
رمح وتلا قوله تعالى: (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)( عيون التواريخ: 3،
ورقة: 211 / حياة الإمام محمد الجواد: 193 ـ 197.). |
|
خلافة إبراهيم
الخليع:
|
|
سمّي
إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً
على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على
المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ
الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج
إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا
إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة
أصوات فتكون عطاءً لهم...)( حياة الإمام محمّد الجواد(عليه السلام): 198.). وزحف
المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من
كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد
ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه. |
|
ثورة أبي السرايا:
|
|
من
أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) ثورة أبي
السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار
الدعوة إلى (الرضا من آل محمّد (عليه السلام)) الذين كانوا هم الأمل الكبير
للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب
لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته
الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع بمهارته أن يجلب
الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا
أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ
المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في
مهدها، فقد جلب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية
العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى
جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين
على جميع صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة
واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة (راجع حياة الإمام محمد
الجواد (عليه السلام): 198 ـ 199.) |
|
عبد الله المأمون:
نزعاته وسياسته
|
|
عبد
الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد
الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (170 هـ) وبويع له بمرو فتوجه
إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. من أبرز نزعات المأمون وصفاته: 1 ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى
من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً
من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على
كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه،
فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل
الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية
مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية
حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّد
(صلى الله عليه وآله) فحمل الإمام الرضا(ع) إلى خراسان،
وكان(ع) زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى
جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على
الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا
حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام(ع) على ولاية العهد، وقضى بذلك
على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي
عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ. لعبه بالشطرنج: أرض مربّعة حمراء من أدم = ما بين ألفين موصوفين بالكرم (المستطرف: 2 / 306.) وألمّ
هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه،
وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً
في بعض متاحف فرنسا. ولعبه بالموسيقى: |
|
تظاهره بالتشيّع:
|
|
لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ;
لأنّه قام بما يلي: وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات
التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمام (ع)، والحطّ من
شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه. |
|
وقفة عند سلوك
المأمون ونزعاته:
|
|
كانت
حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه
الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم. |
|
التحدّيات التي واجهت
حكم المأمون وموقفه منها
|
|
لقد
جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في
السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء. وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي: |
|
العلاقة بين الإمام
الرضا (عليه السلام) والمأمون
|
|
وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة
الرضا(عليه السلام) إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة
السابقون على الإمام الرضا(عليه السلام) مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول
فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد والإيحاء
بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيت (عليهم السلام). ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية: |
|
أ ـ حالة الأمة بلحاظ
القيادة الشرعية:
|
|
يبدو أن الأمة كانت تؤيّد
قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وتعتقد بها ولكن ضمن ثلاثة مستويات، هي: |
|
ب ـ تحرك المأمون على
واقع المستويات الثلاثة:
|
|
انتهج المأمون سياسة المراحل في احتواء المستويات الثلاثة وإجهاضها
بحنكة ودهاء وبالشكل التالي: وقد
كان الإمام (عليه السلام) مرغَماً على قبول ولاية العهد ، أي أنه لم يكن له
الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة. فعن
الريان بن الصلت أنه قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا
ابن رسول الله، إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا
؟ فقال (عليه السلام): (قد علم الله كراهتي لذلك
فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا
أن يوسف(عليه السلام) كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن
العزيز قال له: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ودفعتني
الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت
في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)( الحياة السياسية للإمام
الرضا (عليه السلام): 141.). وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (إن المأمون
قال للرضا علي بن موسى (عليه السلام) يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك
وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة منّي، فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو
النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في
الدنيا أرجو الرفعة عند الله عَزَّ وجَلَّ. فقال له المأمون:
فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا (ع): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع
لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل
لي ما ليس لك. فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا
الأمر، فقال: (لست أفعل ذلك طائعاً أبداً).
فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم
تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضا (عليه
السلام): والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير
المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً
بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى
جنب هارون الرشيد. فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي
يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضا (عليه السلام): أما أني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت. فقال
المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر
عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عَزَّ وجَلَّ وما زهدت في
الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أريد ؟ قال: الأمان على الصدق ؟ قال: لك الأمان. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في
الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟ فغضب
المأمون ثم قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله أُقسم
لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. فقال
الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن
أُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك
على أنّي لا أُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة، وأكون في
الأمر من بعيد مشيراً. فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد على كراهة منه (عليه
السلام) لذلك)(
الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 141.). |
|
ج ـ مع المؤمنين
الواعين
|
|
كان المأمون حذراً من الإمام الرضا
(عليه السلام) يتحيّن الفرص لاغتياله، وقد فعل ذلك في أول فرصة مناسبة فأوعز
لعملائه باغتياله، وذلك بعد نحو عامين من ولاية العهد. ففي أول شهر رمضان سنة
إحدى ومئتين كانت البيعة للرضا صلوات الله عليه(الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 141.) وقبض الرضا (عليه السلام) بطوس من أرض خراسان في
صفر سنة ثلاث ومئتين وله يومئذ خمس وخمسون سنة..( الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 66.). |
|
طبيعة حكم المأمون
|
|
لقد
شخّص السيد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب(ع)، طبيعة حكم المأمون وأساليبه برسالة تسلط مزيداً من الأضواء على العلاقة
بين هذا الحاكم وبين الإمام الجواد (عليه السلام)، فقد كان تشخيص هذا السيد
دقيقاً وعميقاً، فقد كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه
الأمان ويضمن له أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ما ظننت أن
أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه. وصل
كتابك وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد
لسفك دمي، وعجبت من بَذْلِك العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما
فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي قد غرتك
حلاوته ؟! فوالله لأَنْ أُقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي
أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسموم
الذي قتلت به الرضا ؟ أم ظننت أن الاستتار قد أمّلني وضاق به صدري؟ فوالله إني
لذلك. ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى
تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي، وليتك
قدرتَ عليَّ من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عَزَّ وجَلَّ بدمي،
ولقيتُه قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا. واعلم
أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عَزَّ وجَلَّ عنّي وفي عمل
أتقرب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه
الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه
من الشهادة في طلب مرضاته. ثم
تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ وعلا يقول: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام، وأقرب
من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس
في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت
بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت المال من غير حِلِّه فأنفقته في غير محله، وشربت
الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين وأعطيته المغنين، ومنعته من
حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك،
وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني الدهر، ويعينني
الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه منّي، وإن يمهلك ويؤخرك
ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الأيام قبل ذلك،فحسبي من سعيي ما
يعلمه الله عَزَّ وجَلَّ من نيتي، والسلام)( نظرية الإمامة: 381، نقلاً عن الحياة السياسية للإمام
الرضا(عليه السلام): 465.). |
|
استشهاد الرضا(عليه
السلام) والنصّ على إمامة الجواد(عليه السلام)
|
|
لقد
رسّخ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إمامة ابنه الجواد(عليه السلام)
كما قام بذلك الأئمة (عليهم السلام) الذين سبقوه حيث نوهوا باسم من يأتي من
بعدهم من أئمة، وفي هذا المجال سنعرض المواقف التي ثبّت
بها الإمام الرضا (عليه السلام) إمامة الجواد (عليه السلام) ودعا شيعته للاعتصام
بها، ومن ذلك: |
|
الإمام الجواد (عليه
السلام) عند استشهاد أبيه
|
|
عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (بينا أنا
واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي: (ياأبا الصلت، أدخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون وآتني
بتراب من أربعة جوانبها). قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال
لي: (ناولني (من)
هذا التراب)، ـ وهو من عند الباب ـ فناولته
فأخذه وشمّه ثم رمى به، ثمّ قال: (سيحفر لي (قبر) ههنا، فتظهر صخرة لو
جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها)، ثمّ قال في الذي عند
الرّجل والّذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: (ناولني
هذا التراب فهو من تربتي). ثمّ قال (عليه السلام): (ياأبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن خرجت (وأنا) مكشوف الرأس،
فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني). |
|
الباب الثالث:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: ملامح عصر الإمام
الجواد (عليه السلام)
|
|
كان
عصر الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) من أزهى العصور الإسلامية وأروعها، من
حيث تميّزه في نهضته العلمية وحضارته الفكرية، وقد ظل المسلمون وغيرهم أجيالاً
وقروناً يقتاتون من موائد الثروات الفكرية والعلمية التي أسست في ذلك العصر. |
|
1 ـ الحياة الثقافية:
|
|
تعتبر
الحياة الثقافية في ذلك العصر من أبرز معالم الحياة في العصور الإسلامية على
الإطلاق، فقد ازدهرت الحركة الثقافية، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً، وتأسّست
المعاهد الدراسية، وشاعت الحلقات العلمية، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم،
يقول نيكلسون: وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها
أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس
جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على
الأقل أنصاراً للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات
سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى
جموع التلاميذ المتلهّفين، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات
التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم
الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل(تاريخ الإسلام: 2 / 322 للدكتور حسن إبراهيم حسن.). ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية. المراكز الثقافية: أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فهي: 2 ـ الكوفة: وتأتي الكوفة بعد المدينة في
الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الإسلامية، فقد انتشرت
فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الإسلامية من الفقه
والتفسير والحديث وغيرها. 4 ـ بغداد: حيث ازدهرت بالحركات العلمية
والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من
العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الإسلامية، وإنّما شملت
جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد أصبحت أعظم حاضرة
علمية في ذلك العصر، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا.
يقول غوستاف لوبون: (كان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل من
يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في
الدنيا)، قال أبو الفرج عن المأمون: (إنّه كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم،
ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من
عباده(حضارة العرب:
218.). |
|
العلوم السائدة:
|
|
وكانت العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها، هي:
|
|
1 ـ علوم القرآن:
|
|
أ ـ علم القراءات: ويُعنى هذا العلم بالبحث عن قراءة
القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ، ومن
أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة (145 هـ) وحمزة بن
حبيب الزيات المتوفّى سنة (156 هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفّى سنة (213
هـ) وخلف بن هشام البزاز المتوفّى سنة (229 هـ)( المعارف: 230 ـ 231، الفهرست: 42 ـ 45.). ب ـ التفسير: ويُراد به إيضاح الكتاب العزيز
وبيان معناه، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره اتجاهين: الأوّل: التفسير بالمأثور، ونعني به
تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهُدى(ع) وهذا ما
سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي والعسكري والبرهان؛ وحجّتهم في ذلك أنّ
أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه،
وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله: (ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه
غير الأوصياء)( التبيان: 1 / 4.)
وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن، يقول الشيخ الطوسي:
(إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله)
وعن الأئمّة الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه وآله))( حياة الإمام محمّد
الباقر: 1 / 181.). |
|
2 ـ علم الحديث:
|
|
ونعني
به ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أحد أوصيائه الأئمّة
الطاهرين، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة. وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث، فقد حثّ
الأئمّة الطاهرون أصحابهم على ذلك، حيث روى أبو بصير فقال: دخلت على أبي عبد
الله (عليه السلام) فقال: (ما يمنعكم من الكتابة،
إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء
فكتبوها) وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جمع
الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة، وهي الجوامع الأولى للإمامية والتي تعدّ
الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة
(مقدّمة المقنع والهداية: 10.). |
|
|
|
3 ـ الفقه:
|
|
ومن
أبرز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم
الفقه الذي يتكفل بيان التكاليف اللازمة على المكلّفين وما هم مسؤولون عنه عند
الله ومطالبون بامتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة
علم الفقه أكثر من سائر العلوم، وقد قام أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بدور
فعّال في إنشاء مدرستهم الفقهيّة التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال :
زرارة ومحمّد بن مسلم وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء، وقد
دوّنوا ما سمعوه من الأئمّة الطاهرين في أصولهم التي بلغت زهاء أربعمئة أصل، ثمّ
هذّبت، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم
للأحكام الشرعية. ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على
الشيعة، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية. |
|
4 ـ علم أصول الفقه:
|
|
وأسّس
هذا العلم الإمام أبو جعفر محمّد الباقر(عليه السلام)، وهذا العلم ممّا يتوقّف
عليه الاجتهاد والاستنباط، وكان موضع دراسة في ذلك العصر. |
|
5 ـ علم النحو:
|
|
وهو
من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي، فقد كانت بحوثه موضع جدل،
وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء
هذا الفنّ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم
الكسائي والفراء وسيبويه، وقد أسّس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام) رائد العلم والحكمة في الأرض. |
|
6 ـ علم الكلام:
|
|
ويقصد
به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلميّة، وقد تأسّس هذا الفنّ على
أيدي الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) وتخصّص فيه جماعة من تلاميذهم، يعدّ في
طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة: واصل
بن عطاء وأبو الهذيل العلاّف وأبو الحسن الأشعري والغزالي. |
|
7 ـ علم الطب:
|
|
وقد
شجّع ملوك بني العبّاس على دراسة الطب، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة
للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني. |
|
8 ـ علم الكيمياء: 9 ـ علم الهندسة
المعمارية والمدنية. 10 ـ علم الفلك.
|
|
وقد
تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي، وقد تلقّى معلوماته في هذا المجال
من الإمام جعفر الصادق العقلية المفكّرة الفريدة في العالم الإنساني والمؤسس
لهذا العلم. |
|
ترجمة الكتب:
|
|
وكان
من مظاهر الحياة الثقافية في ذلك العصر الإقبال على ترجمة الكتب إلى اللغة العربية،
وقد تناولت كتب الطب، والرياضة، والفلك، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة، ذكر
أسماء كثير منها ابن النديم في الفهرست، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن إسحاق،
وقد روى ابن النديم: أنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر
عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ من يختار من العلوم القديمة
المخزونة، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك
جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق ومسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا
ممّا وجدوا، فلمّا حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..( الفهرست: 339.). |
|
المعاهد والمكتبات:
|
|
وأنشأت
الحكومة في هذا العصر الكثير من المدارس والمعاهد في بغداد لتدريس العلوم
الإسلامية وغيرها، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة، وما فيها من مدرسة إلاّ
ويقصر القصر البديع عنها. كما
أسست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة، فقد نقل إليها
الرشيد مكتبته الخاصة، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي،
وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية، فلمّا وصلت
إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب،
وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في
العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على
بغداد سنة (656 هـ) عمدوا إلى إتلافها، وبذلك خسر العالم الإسلامي أعظم تراث
علمي له (تاريخ
الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: 4/160 ـ 162.). |
|
الخرائط والمراصد:
|
|
أمر
المأمون بوضع خريطة للعالم سُمّيت (الصورة المأمونية) وهي أوّل خريطة صُنعت
للعالم في العصر العباسي، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فأنشي بالشماسية وهي إحدى
محلاّت بغداد(عصر
المأمون: 1 / 375.). في
هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) الرائد الأعلى
للحركة الثقافية، فقد التفّ حوله العلماء أثناء إقامته في بغداد وهم ينهلون من نمير
علومه، وقد سألوه عن أدقّ المسائل الفلسفية والكلامية فكان يجيبهم عليها ويتحدّى
الزمن مما منّ الله به عليه من معارف وعلوم (راجع: حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 179 ـ 188.). |
|
2 ـ الحياة السياسية:
|
|
لقد
كانت الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفر(عليه السلام) سيئة وكانت الظروف
حرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت كذلك لعموم المسلمين وذلك لما وقع فيها
من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات، وقبل أن
نتحدّث عنها نرى من اللازم أن نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا
يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك: منهج
الحكم: فقد كان على غرار الحكم الأموي، في الأهداف والأساليب وقد وصفه (نكلسون)
بأنّه نظام استبدادي، وأنّ العباسيين حكموا البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي
كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم (اتّجاهات الشعر العربي: 49.). لقد
كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم، ولم يكن له أي التقاء مع
معايير الدين الإسلامي، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا
قنّنه الإسلام في هذه المجالات. واستبدّ
ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة
والرأفة، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة والقوانين الهادفة
إلى بسط العدل، ونشر المساواة والحق بين الناس. الخلافة
والوراثة: لم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصلية لقانون الوراثة ولا لأي
لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعصبيات، فقد حارب الإسلام
جميع هذه المظاهر واعتبرها من عوامل الانحطاط والتأخر الفكري والاجتماعي، وأناط
الخلافة بالقيم الكريمة، والمُثل العُليا، والقدرة على إدارة شؤون الأمة، فمن
يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمة وسعادتها. وأمّا
الشيعة فقد خصَّصت الخلافة بالأئمّة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام) لا
لقرابتهم من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وكونهم ألصق الناس به وأقربهم
إليه، وإنّما لمواهبهم الربّانية، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها
أحد غيرهم فضلاً عن النصّ عليهم، بما لا يدع مجالاً للاختيار. وأمّا
الذين تمسكوا بعنصر الوراثة فهم العباسيّون، على غرار الأمويين فاعتبروها
القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة بحجة أنّهم أبناء عم الرسول(صلى الله عليه
وآله) وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس. وقد
هبّت إلى تأييد ودعم الوسط العباسي الأوساط المرتزقة من خلال انتقاص العلويين
فتتقرب إليهم بذلك وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس أولى بالنبي(صلى الله عليه وآله)
من السادة الأطهار من آل الرسول(صلى الله عليه وآله)( راجع حياة الإمام محمّد الجواد: 190 بتصرف بسيط.). 1
ـ إسناد الخلافة إلى من لم يبلغ الرشد، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه
الأمين، وكان له من العمر خمس سنين، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشرة سنة،
من دون أن يكونا قد حازا العلم والحكمة والحنكة الإدارية والسياسية، حتى كان
يسيّرهما مَن سواهما من أصحاب البلاط. علماً
بأن الإمامة والخلافة للرسول(صلى الله عليه وآله) منصب ربّاني وعهد إلهي لا
يرتقي إليه إلاّ من اعتدلت فطرته وسلمت سيرته من الخطل والخطأ والانحراف في كل
مجالات حياته، ليكون قادراً على قيادة الأمة إلى طرق الرشاد. وهكذا
انحرف العبّاسيون بذلك عمّا قرّره الإسلام من أن منصب الخلافة إنّما يُسند إلى
من يتمتع بالحكمة والصيانة والمعرفة بالشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما
تحتاج إليه الأمة في جميع شؤونها. 2
ـ إسناد ولاية العهد إلى أكثر من واحد فانّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمة وتصديعاً
لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون،
وقد ألقى الصراع بينهما، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادّة، والفتن الخطيرة،
وسنعرض لها في البحوث الآتية. الوزارة: من الأجهزة الحساسة في الدولة
العباسية هي الوزارة، فكانت ـ على الأكثر ـ وزارة تفويض، فكان الخليفة يعهد إلى
الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون، فقد استوزر
المهدي العباسي يعقوب بن داود، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته. واستوزر
الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته
فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك. وتصرّف
يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته، فقد أنفق الأموال الطائلة على
الشعراء المادحين له، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت تدرّ عليه
بالملايين، الكثير الكثير وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله، وقتل ابنه
جعفر ومصادرة جميع أموالهم. وفي
عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها كيفما شاء،
وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات، وقد عانت الأمة
من ضروب المحن والبلاء في عهدهم مما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب، فقد
استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون. وكان
الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور، وقد نصح
دعبل الخزاعي الفضلَ بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف
والإحسان إلى الناس، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه
إلى كرسي الحكم، وهم الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل، فإنهم
لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط. ومن
غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي
ولّى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحد رشوة (تاريخ التمدّن الإسلامي:
4 / 182.) إلى غير ذلك من هذه
الفضائح والمنكرات الكثيرة عند بعض وزراء العباسيين(راجع حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 188 ـ 192.). اضطهاد العلويّين: اضطهدت أكثر الحكومات العبّاسيّة
رسمياً العلويّين، وقابلتهم بمنتهى القسوة والشدّة، وقد رأوا من العذاب ما لم
يروه في العهد الأموي وأوّل من فتح باب الشر والتنكيل بهم الطاغية فرعون هذه
الأمة المنصور الدوانيقي (تاريخ الخلفاء للسيوطي: 261.)
وهو القائل: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن
محمّد)( الأدب في
ظلّ التشيّع: 68.) ، وهو صاحب خزانة
رؤوس العلويّين التي تركها لابنه المهدي تثبيتاً لملكه وسلطانه وقد ضمّت تلك
الخزانة رؤوس الأطفال والشباب والشيوخ من العلويّين (تاريخ الطبري 10 / 446.)
!! ، وهو الذي وضع أعلام العلويّين وأعيانهم في سجونه الرهيبة حتى قتلتهم
الروائح الكريهة وردم على بعضهم السجون حتى توفّوا دفناً تحت أطنان الأتربة
والأحجار!! أمّا موسى الهادي فقد زاد على سلفه المنصور، وهو
صاحب واقعة فخ التي لا تقل في مشاهدها الحزينة عن واقعة كربلاء، وقد ارتكب فيها
هذا السفاك من الجرائم ما لم يُشاهد مثله، فقد أوعز بقتل الأطفال وإعدام الأسرى،
وظلّ يطارد العلويّين، ويلحّ في طلبهم فمن ظفر به قتله، ولكن لم تطل أيام هذا
الجلاّد حتى قصم الله ظهره. ولما آلت الخلافة إلى المأمون رفع عنهم
المراقبة، وأجرى لهم الأرزاق وشملهم برعايته وعنايته، ولكن لم يدم ذلك طويلاً إذ
انّه بعد ما اغتال الإمام الرضا (عليه السلام) بالسمّ، أخذ في مطاردة العلويّين
والتنكيل بهم كما فعل معهم أسلافه. وعلى أيّة حال فإنّ من أعظم المشاكل السياسية
التي أُمتحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً هي التنكيل بعترة النبيّ (صلى الله
عليه وآله) وذرّيته وقتلهم بيد الزمرة العبّاسية الغاشمة والتي فاقت في قسوتها
وشرورها أعمال بني أمية، حتى انتهى الأمر بأبناء النبيّ العظيم(صلى الله عليه
وآله) أنّهم كانوا يتضورون جوعاً وسغباً، سوى المآسي الأخرى التي حلّت بهم، وكان
من الطبيعي أن تؤلم هذه الحالة قلب الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام)،
وتصيبه بالأسى والحزن (الحدائق الوردية: 2 / 220.). مشكلة خلق القرآن: لعلّ من أعقد المشاكل السياسية
التي اُبتلي بها المسلمون في ذلك العصر هي محنة خلق القرآن التي أوجدت الفتن
والخطوب في البلاد. فقد أظهر المأمون هذه المسألة في سنة (212 هـ).
واُمتحن بها العلماء امتحاناً شديداً، وأرهقوا إلى حدّ بعيد فمن لا يقول بمقالة
المأمون سجَنه أو نفاه أو قتله وقد حمل الناس على ما يذهب إليه بالقوّة والقهر. |
|
3 ـ الحياة الاقتصادية:
|
|
اهتم
الإسلام بالحالة الاقتصادية وازدهارها، واعتبر الفقر كارثة مدمّرة يجب القضاء
عليه بكافة الطرق والوسائل، وألزم ولاة الأمور والمسؤولين أن يعملوا جاهدين على
تنمية الاقتصاد العام، وزيادة دخل الفرد، وبسط الرخاء والرفاهية بين الناس ليسلم
المسلمون من الشذوذ والانحراف الذي هو ـ على الأكثر ـ وليد الفقر والحرمان، وكان
من بين ما عنى به أنّه حرّم على ولاة الأمور إنفاق أموال الدولة في غير صالح
المسلمين، ومنعهم أن يصطفوا منها لأنفسهم وأقربائهم، ومن يمتّ إليهم، ولكن ملوك
بني العبّاس تجاهلوا ما أمر به الإسلام في هذا المجال فاتّخذوا مال الله دولاً
وعباد الله خولاً، وأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملاذهم من دون تحرج!!،
وقد أدّت هذه السياسة المنحرفة إلى أزمات حادّة في الاقتصاد العام، حيث انقسم
المجتمع إلى طبقتين: الأولى وهي الطبقة الراقية في الثراء التي لا عمل لها إلاّ
اللهو واللعب، والأخرى الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض، وتعمل في الصناعة، وتشقى
في سبيل أولئك السادة ولا تحصل بجهدها إلاّ على ما يسدّ رمقها، وترتّب على فقدان
التوازن في الحياة الاقتصادية انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية
على السواء (الإدارة
الإسلامية في عزّ العرب: 82.) وفيما
يلي نتحدث ـ بإيجاز ـ عن الحياة الاقتصادية في ذلك العصر: واردات الدولة: كانت واردات الدولة الإسلامية في
العصر العبّاسي الذي عاش فيه الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) ضخمة للغاية،
فقد أحصى ابن خلدون الخراج في عهد المأمون فكان مجموعه ما يزيد على (400) مليون
درهم (المقدّمة:
179 ـ 180.)، وقد بلغ من كثرة المال
ووفرته أنّه كان لا يُعدّ، وإنّما كان يوزن، فكانوا يقولون: إنّه بلغ ستة أو
سبعة آلاف قنطار من الذهب (المقدّمة: 179 ـ 180.)،
وقد حسب عامل المعتصم على الروم خراجها فكان أقلّ من ثلاثة آلاف ألف، فكتب إليه
المعتصم يعاتبه، وممّا جاء في عتابه: (إنّ أخسّ ناحية عليها أخس عبيدي خراجها
أكثر من خراج أرضك)( أحسن التقاسيم للمقدسي: 64 (طبع ليدن).).
ومن المؤسف أنّ هذه الأموال الوفيرة لم تنفق على تحسين أوضاع المسلمين وتطوير
حياتهم، وإنّما كان الكثير منها يصرف على الشهوات والملذّات، وقد عكست تلك
الإنفاقات الهائلة ترف بغداد في ذلك العصر ذلك الترف الذي تحكيه قصص (ألف ليلة
وليلة) التي مثّلت حياة اللهو في ذلك العصر. التهالك على جمع المال: وتهالك الناس
في ذلك العصر على جمع المال بكلّ وسيلة كانت، مشروعة أم غير مشروعة، فقد أصبح
المال هو المقياس في قيم الرجال، وأخذ يتردّد في الأمثلة الجارية في بغداد
(المال مال، وما سواه محال) وتوسّل
الناس إلى جمعه بكلّ طريق لا يعفون عن محرم، ولا يتورّعون عن خبيث، وأصبح الخداع
والغشّ هو الوسيلة في جمعه (مقدّمة البخلاء: 24.). تضخّم الثروات: وتضخّمت الثروات الهائلة عند بعض
الناس خصوصاً في بغداد عاصمة العالم الإسلامي آنذاك، فقد وجدت فيها طبقة
رأسمالية كانت تملك الملايين، وكذلك البصرة فقد ضمّت طبقة كبيرة من أهل الثراء
العريض وكانت البصرة ثغر العراق والمركز التجاري الخطير الذي يصل بين الشرق
والغرب، وتستقبل متاجر الهند، وجزر البحار الشرقية، ومن أجل ذلك سمّيت البصرة
أرض الهند وأم العراق (مقدّمة البخلاء: 24.). نفقات المأمون في زواجه: وكان من مظاهر
ذلك الإسراف والبذخ والتصرف الظالم في أموال المسلمين ما أنفقه المأمون من
الأموال الطائلة المذهلة في زواجه بالسيّدة بوران فقد أمهرها ألف ألف دينار،
وشرط عليه أبوها الحسن بن سهل أن يبني بها في قريته الواقعة بفم الصلح فأجابه
إلى ذلك، ولمّا أراد الزواج سافر إلى فم الصلح ونثر على العسكر الذي كان معه ألف
ألف دينار وكان معه في سفره ثلاثون ألفاً من الغلمان الصغار والخدم الصغار
والكبار وسبعة آلاف جارية... وعرض العسكر الذي كان معه فكان أربعمئة ألف فارس،
وثلاثمئة ألف راجل.. وكان الحسن بن سهل يذبح لضيوفه ثلاثين ألف رأس من الغنم،
ومثليها من الدجاج، وأربعمئة بقرة، وأربعمئة جمل وسمّى الناس هذه الدعوة (دعوة
الإسلام) وهو ليس من الإسلام في شيء، فإنّ الإسلام احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط
في بيت مال المسلمين فحرم إنفاق أي شيء في غير صالحهم. وحينما بنى المأمون ببوران نثروا من سطح دار الحسن بن سهل بنادق عنبر
فاستخفّ بها الناس، وزهدوا فيها، ونادى شخص من السطح قائلاً:
كلّ من وقعت بيده بندقة فليكسرها فإنّه يجد فيها رقعة، وما فيها له وكسر الناس
البنادق فوجدوا فيها رقاعاً في بعضها تحويل بألف دينار وفي أخرى خمسمئة دينار
إلى أن تصل إلى المئة دينار، وفي بعضها عشرة أثواب من الديباج، وفي بعضها خمسة
أثواب، وفي بعضها غلام، وفي بعضها جارية، وحمل كلّ من وقعت بيده رقعة إلى
الديوان واستلم ما فيها (تاريخ الطبري: 7 / 149، وابن الأثير: 4 / 206.) كما أنفق على قادة الجيش فقط خمسين ألف ألف درهم (تزيين الأسواق للأنطاكي
3 / 117.). هبات وعطايا: ووهب ملوك بني العبّاس أموال
المسلمين بسخاء إلى المغنّين والمغنّيات والخدم والعملاء، فقد غنّى إبراهيم بن
المهدي العبّاسي محمّد الأمين صوتاً فأعطاه ثلاثمئة ألف ألف درهم فاستكثرها
إبراهيم، وقال له: يا سيّدي لو قد أمرت لي بعشرين ألف ألف درهم فقال له الخليفة:
هل هي إلاّ خراج بعض الكور (الإسلام والحضارة العربية 2 / 231.)، وغنّى ابن محرز عند الرشيد بأبيات مطلعها :
(واذكر أيام الحمى ثمّ انثن) فاستخفّ به الطرب فأمر له بمئة ألف درهم، وأعطى مثل
ذلك للمغنّي دحمان الأشقر (المستطرف: 182 ـ 184.)
ولمّا تقلّد المهدي العبّاسي الخلافة وزّع محتويات إحدى خزانات بيت المال بين
مواليه وخدمه (تاريخ
بغداد: 5 / 393.) إلى غير ذلك من
الهبات والهدايا التي كانت من الخزينة المركزية التي كان ملزماً شرعاً بإنفاقها
على المشاريع الحيوية التي تزدهر بها البلاد. اقتناء الجواري: وبدل أن يتّجه ملوك بني العبّاس
إلى إصلاح البلاد وتنميتها الاقتصادية فقد اتّجهوا بنهم وجشع إلى اقتناء
الجواري، والمغالاة في شرائها، فقد جلبت إلى بغداد الجواري الملاح من جميع أطراف
الدنيا، فكان فيهنّ الحبشيات، والروميّات، والجرجيات، والشركسيات، والعربيات من
مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر من ذوات الألسنة العذبة، والجواب الحاضر،
وكان بينهنّ الغانيات اللاتي يعزفن مع ما عليهن من اللباس الفاخر وما يتّخذن من
العصائب التي ينظمنها بالدرّ والجواهر، ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهب (حضارة الإسلام: 98.) وقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية، وعند
المتوكّل أربعة آلاف جارية (الأغاني: 9 / 88.)
وقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن
مثل العساكر صفّين صفّين، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع
مقاصير القصر (حضارة
الإسلام في دار السلام: 96.) وكان
عند والدة جعفر البرمكي مئة وصيفة لباس كلّ واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الأخرى
وحليّها (الجهشياري:
246.) لقد كان اقتناء الجواري بهذه
الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في
كيفيّة صرف ما عندها من الأموال. التفنّن في البناء: وتفنّن ملوك بني العبّاس في بناء
قصورهم، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في البلاد وقد بنوا في بغداد
قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي وعد الله بها المتّقين، وكان من أعظم
الأبنية الإيوان الذي بناه الأمين، وقد وصفه المؤرّخون
بأنّه جعله كالبيضة بياضاً ثمّ ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد، وكان ذا
أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس
وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد نقش بتصاوير من الذهب، وتماثيل العقيان، ونضّد
فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد (طبقات الشعراء لابن المعتزّ: 209.) وقد أنفق جعفر البرمكي على بناء داره نحواً من
عشرين مليون درهم (تاريخ
الطبري: 10 / 92.). أثاث البيوت: وحفلت قصور العبّاسيّين بأنواع
الأثاث وأفخرها في العالم، ويقول المؤرّخون: إنّ السيّدة زبيدة قد اصطفت بساطاً
من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب،
وأعينها اليواقيت والجواهر يقال إنّها أنفقت على صنعه مليون دينار (حضارة الإسلام: 95،
نقلاً عن المستطرف: 96.)، كما اتّخذت
الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر، والآبنوس، والصندل عليها الكلاليب من الذهب
الملبّس بالوشي والديباج، والسمور، وأنواع الحرير، كمثل اتّخاذها شمع العنبر،
واصطناعها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية (حضارة الإسلام: 95.). أمّا مجالس البرامكة فكانت مذهلة،
فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة،
والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر، ويستقبلنه
بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي، خيّل إليه أنّه في الجنّة بين الجمال
والجوهر والطيب (حضارة
الإسلام: 96.). الثياب: وكان من نتائج بذخ العبّاسيّين
وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنّه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور
الطراز، وكان القائم عليها ينظر في أمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم (المقدّمة: 267.). ألوان الطعام: وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم
الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمّد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع
على المائدة ثلاثمئة لون من الطعام (تاريخ بغداد لطيفور: 36.)
ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها
بالذهب للعلاج (التنظيمات
الاجتماعية والاقتصادية لصالح أحمد: 177.). مخلّفات العبّاسيّين من الأموال: وخلّف ملوك
بني العبّاس ووزراؤهم من الأموال ما لا يحصى، وفيما يلي
بعض ما تركوه: 1
ـ ترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من
الأموال التي سرقها من المسلمين ما يقرب من ستمئة مليون درهم و أربعة عشر مليون
دينار(أمراء الشعر
العربي: 45.) وقد كدّس هذه الأموال
الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية. حياة اللهو والطرب: وعاش أكثر خلفاء بني العبّاس عيشة
اللهو والطرب والمجون، عيشة ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر، وقضوا أيامهم في
هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط. وقد روى أحمد بن صدقة قال: دخلت على
المأمون في يوم السعانين (يوم السعانين: عيد للنصارى.)
وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في
أعناقهنّ صلبان الذهب، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون. وكان
من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج، والعناية بتربية الحمام
والمغالاة في أثمانه (حياة الحيوان: 3 / 91.)
كما تهارشوا بالديوك والكلاب (الأغاني: 6 / 74 ـ 75.)
ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء (حياة الحيوان: 5 / 115.). ومن
المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا
بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن
المحدّث محمّد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم ; لأنّه كان من
المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور، وكان أبو نؤاس يزوره في الكوفة في بيت
خمّار يقال له جابر (الأوراق: 61.). التقشّف والزهد: وبجانب حياة اللهو والطرب التي
عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت هناك طائفة من الناس
قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار، فكان من
بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله وكان يردّد هذا البيت: اتّخذ الله صاحباً = ودع الناس جانبا وكان
يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص (حلية الأولياء: 7 / 367 ـ 373.) مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي
فكان يبكي وينشد في السحر: أي شيء تريد منّي الذنوب =
شغفت بي فليس عنّي تغيب (حلية الأولياء: 2 / 181.) وكان
من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل: قطع الليالي مع الأيام في خلق = والقوم تحت رواق الهمّ والقلق (صفة الصفوة: 2 / 189.) ومن
الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت كرد فعل لإفراط ملوك العبّاسيّين
والطبقة الرأسماليّة في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي
. وبهذا
ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد(ع)( راجع حياة الإمام محمد الجواد (ع): 206 ـ 216.). إلى هنا نكون قد وقفنا على ملامح هذا العصر وخصائصه الثقافية
والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوف نردفها
ببيان طبيعة علاقة حكّام عصر الإمام مع الإمام(عليه السلام) من جهة، ثم ندرس
متطلبات هذا العصر على ضوء هذه الملامح وعلى ضوء رسالة الإمام الجواد(عليه
السلام) في تلك الظروف التي أحاطت به آخذين بنظر الاعتبار مجمل أهداف
الإمام(عليه السلام) باعتباره أحد عناصر أهل بيت الرسالة الذين أوكلت إليهم مهمة
الحفاظ على الرسالة والأمة المسلمة لإيصالهما إلى شاطئ الأمن والسلام الذي نادى
به الإسلام ووعد به المؤمنين بل المسلمين فضلاً عن العالَمين. |
|
الفصل الثاني: الإمام الجواد
(عليه السلام) وحكّام عصره
|
|
1 ـ المأمون العبّاسي
|
|
استمرّ المأمون على منهجه السابق في
التظاهر بالإحسان لأهل البيت (عليهم السلام) وقد تظاهر بإكرام الإمام الجواد
(عليه السلام) فزوّجه ابنته وحاول التقرّب إليه كثيراً لكنه في الوقت ذاته كان
يكيد للإمام من خلال تحجيم دوره وتشديد الرقابة عليه، بالرغم من تظاهره بالولاء
لأهل البيت(عليهم السلام) والرعاية له بشكل خاص. وذلك لما عرفناه من موقف المأمون
من أبيه الرضا(عليه السلام) فيما سبق من بحوث، وبه نفسّر كل ما صدر من المأمون
تجاه الإمام الجواد(عليه السلام). |
|
تزويج المأمون ابنته
من الإمام الجواد (عليه السلام):
|
|
قال المؤرخون: (لمّا أراد المأمون أن يزوج ابنته
أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم،
واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرّضا (ع) فخاضوا في ذلك
واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه. فقالوا:
ننشدك الله ياأمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن
الرضا فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملّكناه الله عَزَّ وجَلَّ، وينزع منّا
عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما
كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا (ع) ما عملت فكفانا الله
المهم من ذلك. فالله الله إن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك
عن ابن الرضا واعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. قالوا: قد رضينا لك ياأمير المؤمنين
ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه
الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة
سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم. فقال
أبو جعفر (عليه السلام): (قتله في حلّ أو في حرم،
عالماً كان المحرم أو جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً،
صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من
غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان
قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟) (الحمد لله إقراراً بالنعمة، ولا اله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيته
وصلَّى الله على محمد سيد بريّته، والأصفياء من عترته. أما
بعد فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). ثم
إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من
الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد(ع) وهو خمسمئة درهم جياداً فهل زوّجته ياأمير
المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟) قال
أبو جعفر (عليه السلام): (قد قبلت ذلك ورضيت به). فأمر
المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة. فقال المأمون: أحسنت ياأبا جعفر أحسن الله إليك
فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال
له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه،
فإن رأيت أن تفيدناه. فقال
أبو جعفر (عليه السلام): (هذه أمة لرجل من الناس، نظر
إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار
ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان
وقت العصر تزوّجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهَر منها فحرمت عليه، فلما
كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها
واحدة، فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له). |
|
حقيقة العلاقة بين
الإمام (عليه السلام) والمأمون
|
|
بعد استعراضنا لقضية زواج الإمام
(عليه السلام) من بنت المأمون وبيان ملابساتها وما دار خلالها من نقاش وسجال
وحوار، نسجل الملاحظات الآتية لبيان الثغرة في علاقة
المأمون العباسي بالإمام الجواد (ع). |
|
السبب في تزويج
المأمون ابنته للإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
انّ هذا الزواج إضافة لما سيحققه من
دعاية للمأمون تُظهر حبّه وولاءه لأهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ ثمة سبباً آخر
نرجّحه على غيره ونراه السبب الأساس وهو وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمام
(عليه السلام) يلازمه في بيته، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها إلى الجهة التي
زرعته وهكذا كانت أم الفضل ابنة المأمون العبّاسي مع الإمام الجواد (عليه
السلام). |
|
موقف العباسيين:
|
|
اتّسم موقف العباسيين بالحقد
والتعصب والسذاجة. فقد استاءوا مما تصوروه من تساهل المأمون مع الإمام (ع) فقد
كانت المظاهر تؤثر عليهم كثيراً، دون إدراكهم البعد العميق والحقيقي الذي كان
يقصده المأمون وقد استفاد المأمون من وضعهم هذا عندما راح يفنّد مزاعمهم فيظهر
وكأنه موال حقيقةً لأهل البيت (ع). |
|
موقف الإمام الجواد
(عليه السلام) من ابن الأكثم:
|
|
لقد تصدى الإمام (عليه السلام) للرد على ابن الأكثم وإظهار عجزه أمام
الناس للأسباب الآتية. ج ـ تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم
من خلال الإجابات على أسئلته. |
|
مدة إمامة
الجواد(عليه السلام) في عهد المأمون:
|
|
استلم الإمام الجواد (عليه السلام)
منصب الإمامة ونهض بأعباء قيادة الأمة سنة (203 هـ) بعد شهادة أبيه الإمام الرضا
(عليه السلام)، وكان المأمون قد تسنّم منبر الخلافة وقتذاك. وتوفي المأمون سنة
(218 هـ) بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طوس فدفن فيها(تاريخ الخلفاء: 333 ـ
334.). |
|
2 ـ المعتصم العباسي
|
|
المعتصم
هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد ولد سنة ثمانين ومئة، كذا قال الذهبي. وقال
الصولي: في شعبان سنة ثمان وسبعين. المعتصم والطليعة الإسلامية الواعية: على
خلفية الخلاف العقائدي الشديد بين أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم
المؤمنين من جهة والخلافة العباسية وأتباعها من جهة أخرى، استمر العداء بين
الخطين وإن اتخذ في كل فترة لوناً أو درجة من الشدة، ولم يكن المعتصم بمنفصل عن
سياسة أسلافه المعادين لأهل البيت(عليهم السلام) وحزبهم. لقد كاد للإسلام وخطه الصحيح فواجه معارضة شديدة من أهل البيت (عليه
السلام) وشيعتهم وسنتناول الانتفاضات التي انطلقت في عصره خلال فصل قادم.
|
|
الإمام الجواد (عليه
السلام) والمعتصم:
|
|
لم تكن المدة التي قضاها الإمام
الجواد (عليه السلام) في خلافة المعتصم طويلة فهي لم تتجاوز السنتين، كان ختامها
شهادة الإمام (عليه السلام) على يد النظام المنحرف، وفيما يلي استعراض للعلاقة
بين الإمام الجواد (عليه السلام) والمعتصم. |
|
أ ـ استقدام الإمام
(عليه السلام) إلى بغداد:
|
|
لقد
خشي المعتصم من بقاء الإمام الجواد (عليه السلام) بعيداً عنه في المدينة، لذلك
قرر استدعاءه إلى بغداد، حتى يكون على مقربة منه يحصي عليه أنفاسه ويراقب
حركاته، ولذلك جلبه من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين
ومائتين، وتوفي بها(عليه السلام) في ذي القعدة من هذه السنة (كشف الغمة: 2 / 361.). |
|
ب ـ اغتيال الإمام
الجواد (عليه السلام):
|
|
كان
وجود الإمام الجواد (عليه السلام) يمثل خطراً على النظام الحاكم لما كان يملكه
هذا الإمام من دور فاعل وقيادي للأمة، لذلك قررت السلطة أن تتخلّص منه مع عدم
استبعادها وجود العلاقة بين الإمام القائد والتحركات النهضوية في الأمة. فقد
روى المؤرخون عن زرقان صاحب ابن أبي دُوَاد قاضي المعتصم قوله: (رجع ابن أبي
دُوَاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم أني
قد مت منذ عشرين سنة، قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي
جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له: وكيف كان
ذلك ؟ قال: إن سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ
عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في أي
موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قلت:
لأن اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع(الكرسوع: كعصفور: طرف الزند الذي يلي الخنصر الناتئ عند
الرسغ.)، لقول الله في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (المائدة (5): 5.) واتفق معي ذلك قوم. لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام) يتوقع استشهاده بعد هذا
الاستدعاء فقد روي عن إسماعيل بن مهران قوله:
(لمّا أُخرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من
خرجتيه قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من
الأمر بعدك ؟ قال: فكرّ بوجهه إليَّ فقال: (عند هذه
يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي)( الإرشاد: 2 / 298.). لقد درس المعتصم أكثر السبل التي يستطيع بها أن يصفي الإمام فاعليةً
وأقلَّها ضرراً، فلم يجد أفضل من أم الفضل بنت أخيه المأمون للقيام بهذه المهمّة
فهي التي تستطيع أن تقتله بصورة أكيدة دون أن تثير ضجة في الأمة، مستغلاً نقطتين
في شخصيتها، هما: 1 ـ كونها تنتمي للخط الحاكم انتماءً
حقيقياً، فهي بنت المأمون وعمّها المعتصم، وليست بالمستوى الإيماني الذي يجعلها
تنفك عن انتمائها النسبي هذا، لذلك كانت تخضع لتأثيراته وتنفذ ما يريده ضد
الإمام. ولقد كان أمر غيرتها شائعاً بين الناس لذلك قال المؤرخون:
(وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: إنه
يتسرى علي ويغيرني. فكتب إليها المأمون: يا بنيّة إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرّم
عليه حلالاً، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها)( كشف الغمة: 2 / 358.). ولم تخل هذه الفترة من الاعتداءات الظاهرية على الإمام (عليه السلام)
من أذناب السلطة، ومن ذلك ما فعله عمر بن فرج
الرخجي الرجل المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) والعامل عند السلطة العباسية. فمثلاً روى المؤرخون عن محمد بن سنان قوله: دخلت على
أبي الحسن الهادي(عليه السلام) فقال: (يا محمد حدث
بآل فرج حدث ؟) فقلت: مات عمر. فقال: (الحمد
لله على ذلك)، أحصيت أربعاً وعشرين مرة، ثم قال: (أو لا تدري ما قال ـ لعنه الله ـ لمحمد بن علي أبي؟) قال: قلت:
لا، قال: (خاطبه في
شيء، فقال: أظنّك سكران، فقال أبي: اللهمّ إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً فأذقه طعم الحرب وذلّ
الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حُرب ماله، وما كان له، ثم أُخذ أسيراً فهو ذا
مات)( بحار
الأنوار: 50/62 ـ 63.). |
|
استشهاد الإمام
الجواد (عليه السلام)
|
|
تحدثنا
عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) وعن اختياره أم الفضل
لتنفيذ الجريمة. ومما يشير إلى أسباب استغلال المعتصم لأُمّ الفضل وكيفية
تحريضها على الإقدام على قتل الإمام (عليه السلام) ما روي من شدة غيرتها أيام
أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه. (حياة الإمام محمد الجواد
(عليه السلام): 264.) قال
أبو نصر الهمداني: (حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بنجعفر عمّة أبي
محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) قالت: لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضا (عليه
السلام) أتيت زوجته أم عيسى(أم عيسى هي كنية أخرى لأُم الفضل، واسمها زينب، كما في بعض
النصوص.) بنت المأمون فعزّيتها
فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل، فخفت عليها أن
تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما أعطاه الله تعالى من
الشّرف والإخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة، إذ قالت أم عيسى: ألا أخبرك عنه
بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت: وما ذاك ؟ قالت: كنت أغار عليه
كثيراً وأراقبه أبداً وربما يسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول يابنيّة
احتمليه فإنّه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبينما أنا جالسة ذات
يوم إذ دخلت عليّ جارية فسلّمت، فقلت: من أنت ؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمّار
بن ياسر وأنا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) زوجك. فدخلني من
الغيرة ما لا أقدر على احتمال ذلك هممت أن أخرج وأسيح في البلاد وكاد الشيطان أن
يحملني على الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها، فلمّا خرجت من عندي
المرأة نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل. فقال: ياغلام
عليّ بالسّيف، فأتى به، فركب وقال: والله لأقتلنّه ، فلمّا رأيت ذلك قلت: إنا
لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه
والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه. فقال(عليه
السلام): (ياياسر هكذا كان العهد بيننا وبينه حتّى
يهجم علي، أما علم أن لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه). فقلت: ياسيّدي
، ياابن رسول الله ، دع عنك هذا العتاب واصفح، والله وحق جدّك رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ما كان يعقل شيئاً من أمره وما علم أين هو من أرض الله وقد نذر
لله نذراً صادقاً وحلف إن لا يسكر بعد ذلك أبداً، فإن ذلك من حبائل الشّيطان،
فإذا أنت ياابن رسول الله أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه. وروي
أنه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها غزا أهل
الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء الله ولم يفارق هذا
الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عَزَّ وجَلَّ بفضله ويرزقه الفتح
بمشيّته أنَّه وليّ ذلك بحوله وقوته) (بحار الأنوار: 50 / 62 ـ 63.). ويقول المؤرخون إن أم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام الجواد (عليه
السلام) عندما سقته السمّ. فقد روي: (أنّ المعتصم جعل يعمل
الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه
لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه... فأجابته
إلى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت
تبكي فقال: (ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا
ينجبر، وبلاء لا ينستر)، فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، صارت
ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة، حتى احتاجت إلى الاسترفاد)( بحار الأنوار: 50 / 17.). وأثّر
السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله
تعالى، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة المعصومة في
الإسلام. لقد
استشهد الإمام الجواد (عليه السلام) على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت
بموته صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر ورفعت منار العلم
والفضيلة في الأرض. |
|
تجهيزه ودفنه:
|
|
وجُهّز
بدن الإمام (عليه السلام) فغسّل وأدرج في أكفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصليا
عليه (إن الصلاة من
قبل المعتصم والواثق على الإمام (عليه السلام) إنما هو للتعتيم الإعلامي على قتل
الإمام (عليه السلام) والمعروف أن المعصوم (عليه السلام) يقوم بتجهيز المعصوم
والصلاة عليه. فلا مانع من حضور الإمام الهادي(عليه السلام) عند تجهيز أبيه
الجواد (عليه السلام). راجع النص من الإمام الهادي على حضوره تغسيل وصلاة ودفن
أبيه في مسند الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 125 ـ 126.)، وحمل الجثمان العظيم إلى مقابر قريش، وقد احتفت
به الجماهير الحاشدة، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في
مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها
المسلمون في فقدهم للإمام الجواد (عليه السلام) وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق
لقبر جده العظيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فواروه فيه وقد واروا معه
القيم الإنسانية وكل ما يعتز به الإنسان من المثل الكريمة(حياة الإمام محمد الجواد
(عليه السلام): 263.). عن
أبي جعفر المشهدي بإسناده عن محمد بن رضيّة عن مؤدّب لأبي الحسن (الهادي(عليه
السلام))، قال: (إنه كان بين يديَّ يوماً يقرأ في اللوح إذ رمى اللوح من يده
وقام فزعاً وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون مضى
والله أبي (عليه السلام)) فقلت: من أين علمت هذا ؟ فقال(عليه السلام): (من إجلال الله وعظمته شيء لا أعهده). فقلت: وقد
مضى، قال: (دع عنك هذا ، ائذن لي أن أدخل البيت وأخرج
إليك واستعرضني بآي القرآن إن شئت أقل لك بحفظ)، فدخل البيت فقمت ودخلت
في طلبه إشفاقاً مني عليه وسألت عنه فقيل دخل هذا البيت وردّ الباب دونه وقال
لي: (لا تؤذن عليّ أحداً حتى أخرج عليكم). فخرج(عليه
السلام) إليَّ متغيّراً وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه
راجعون مضى والله أبي)، فقلت: جعلت فداك، قد مضى؟ فقال: (نعم ، وتولّيت غسله وتكفينه وما كان ذلك لِيلَي منه غيري)
، ثم قال لي: (دع عنك واستعرضني آي القرآن إن شئت
أفسر لك تحفظه) فقلت: الأعراف. فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * ... *وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ
بِهِمْ ...)( الثاقب: 204.). |
|
عمره وتاريخ استشهاده
|
|
أما
عمر الإمام الجواد(عليه السلام) حين قضى نحبه مسموماً فكان خمساً وعشرين سنة (حياة الإمام محمد
الجواد (عليه السلام): 264.) على ما
هو المعروف، وهو أصغر الائمة الطاهرين الاثني عشر(عليهم السلام) سنّاً، وقد أمضى
حياته في سبيل عزة الإسلام والمسلمين ودعوة الناس إلى رحاب التوحيد والإيمان
والتقوى. واستشهد
الإمام الجواد (عليه السلام) سنة (220 هـ) يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة،
وقيل: لخمس ليال بقين من ذي الحجة وقيل: لست ليال خلون من ذي الحجة، وقيل: في
آخر ذي القعدة (الكافي:
1 / 497 / 12، إعلام الورى عن ابن عياش، التهذيب: 6 / 90.). فسلام
عليه يوم ولد ويوم تقلّد الإمامة وجاهد في سبيل ربّه صابراً محتسباً ويوم استشهد
ويوم يبعث حيّاً. |
|
الفصل الثالث: متطلّبات عصر
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
بعد
أن وقفنا في الفصلين السابقين على ملامح عصر الإمام الجواد(عليه السلام) وطبيعة
تعامل الحكّام مع الإمام(عليه السلام) وخطّه الرسالي والجماعة الصالحة التي تقف
إلى جانب الإمام الحق الذي تمثّل مسيرته خطّ الهداية الربّانية للبشرية.. لابدّ أن نقف في هذا الفصل على مجمل متطلّبات عصر الإمام
الجواد(عليه السلام) الخاص بظروفه ومستجداته الثقافية والسياسية والاجتماعية من
خلال مجموعة المهام الرسالية التي جُعلت في الشريعة الإسلامية على عاتق أهل
البيت(عليهم السلام) بشكل عام وعلى عاتق (التاسع منهم) الإمام الجواد بشكل خاص. وذلك
لأن أهل البيت(عليهم السلام) هم أهل بيت النبوّة والرسالة الذين ربّاهم
الرسول(صلى الله عليه وآله) بيديه الكريمتين وجعلهم الدرع الحصينة التي تقي
الرسالة من أن يتلاعب بها الحكّام ووعّاظ السلاطين بعد رسول الله(صلى الله عليه
وآله)، كما أنها تقي الأمة الإسلامية من السقوط والتردّي إلى المهوى السحيق، بعد
أن أصبحت الأمة الإسلامية هي الأمة الحية التي لابدّ لها أن تحمل مشعل الحضارة
الإسلامية والربّانية إلى العالم أجمع، وقد مُنيت بصدمة كبيرة تمثّلت في
الانحراف الذي طال القيادة السياسية والذي أخذ يستشري في سائر مجالات الحياة
الإسلامية. والإمام الجواد(عليه السلام) في عصره الخاص أمام مجموعة من الإنجازات
التي حققها آباؤه الطاهرون في هذين الحقلين المهمّين،
كما أنّه أمام مستجدات ومتغيّرات في الوضع السياسي والاجتماعي
والديني بعد أن سمحت الدولة الإسلامية للتيارات المنحرفة لتعمل بحرّية في الساحة
الإسلامية وذلك لأن الحكام المنحرفين قد استهدفوا إضعاف جبهة أهل البيت الرسالية
دون مواجهة علنية سافرة. 3 ـ التمهيد العام لدولة الحق المرتقبة
رغم محاولات السلطة للقضاء على قضية الإمام المهدي(عليه السلام) بأشكال شتى. |
|
الباب الرابع:
|
|
وفيه فصول: الفصل
الأول: الإمام الجواد (عليه السلام) و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة. |
|
الفصل الأول: الإمام الجواد(عليه
السلام) و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة
|
|
1 ـ أهل البيت (عليه السلام) والقيادة
الرسالية
|
|
لم
يستطع المأمون العبّاسي أن يحقّق نواياه الخفية في تسقيط شخصية الإمام
الرضا(عليه السلام) وإخراجها من القلوب العامرة بحب أهل
البيت(ع)، لأنّ الإمام الرضا(ع) استطاع أن يخترق العقول والنفوس على
مستوى اجتماعي عام، فتلألأت شخصيته العملية وتجلّت ذاته السامية للقريب والبعيد. ومع
شعورهم بقرب ولادة المهدي(عليه السلام) مع جهلهم بزمان ولادته وظهوره، لابد
وأنهم يحاولون صد أهل البيت(ع) من إنجاب الإمام المهدي(ع) قبل كل شيء كما حدث
لفرعون مع موسى النبي(عليه السلام). |
|
2 ـ الساحة الإسلامية وظاهرة الإمامة
المبكّرة في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)
|
|
يشكّل
وجود الإمام الجواد (عليه السلام) ـ كما أشرنا ـ برهاناً على صحة عقيدة أهل
البيت (عليهم السلام) في الإمامة ؛ وذلك لأن ظاهرة تولّي شخص في سنّ الطفولة
لمنصب الإمامة وما رافقها من شؤون تستطيع أن تقدم لنا دليلاً قاطعاً على سلامة
هذه العقيدة التي يتميز بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عمّا سواه من المذاهب
في قضية الإمامة باعتبارها منصباً ربّانياً لا
يكون على أساس الانتخاب والترشيح البشري وإنما يكون على
أساس التعيين والنصب الإلهي لشخص تجتمع في وجوده كل عناصر الكفاءة والقدرة
الحقيقية لإدارة هذا المنصب الربّاني من قيادة فكرية علمية ودينية وعملية
للمؤمنين بإمامته ، بل للمسلمين جميعاً. الفرض الأول: أن
الطائفة الشيعية التي آمنت بإمامة هذا الشخص لم ينكشف لديها بوضوح أن هذا المدعي
للإمامة هو صبي. إن
الإمام الجواد مثل غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان مكشوفاً أمام الطائفة وكانت الطائفة بكل طبقاتها تتفاعل
معه مباشرة في مسائلها الدينية وفي قضاياها الروحية والأخلاقية. إن
الإمام الجواد (عليه السلام) نفسه كان قد أصرّ على
المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة وسمح له
بالرجوع إلى المدينة فرجع وقضى بقية عمره أو أكثر عمره فيها. وهكذا
بقي الإمام الجواد (عليه السلام) مكشوفاً أمام مختلف طبقات المسلمين بما فيهم
الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته. الفرض الثاني: أن
المستوى الفكري والعلمي للطائفة الشيعية التي آمنت بالإمام (عليه السلام) وقتئذٍ
لم يكن بالمستوى المطلوب الذي تستطيع من خلاله أن تميّز الخطأ من الصواب في مجال
الإيمان بإمامة طفل يدّعي الإمامة وهو ليس بإمام. الفرض الثالث: إن
مفهوم الإمام والإمامة لم يكن واضحاً عند الطائفة الشيعية ، بل إنها كانت تتصوّر
أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي ووراثي ولم تكن تعرف ما هو الإمام وما هي قيمة الإمام
وما هي شروط الإمام. وهذا
الافتراض يكذّبه واقع التراث المتواتر من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
الإمام الرضا (عليه السلام) عن شروط الإمامة وحقيقتها وعلامات الإمام عند هذه
الطائفة بنحو يميّزها عما سواها من الطوائف والمذاهب التي تجعل الإمامة منصباً
بشرياً لا يصعب لكثير من الناس التسلق إليه وانتحالها وادعائها. بينما قام التشيّع على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة وهو من
المفاهيم الأولى والبديهية للتشيّع، فإنّ الإمام
في المفهوم الشيعي إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وأقواله وأعماله. وهذا
المفهوم قد بشّرت به مجموعة كبيرة من عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى عهد
الإمام الرضا (عليه السلام) (راجع في هذا
الجانب بالخصوص الحديث التفصيلي الذي ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) حول
الإمام والإمامة في (تحف العقول).). وقد أصبحت كل التفاصيل والخصوصيات بالتدريج واضحة ومرتكزة عند
الطائفة الشيعية. يقول الراوي: دخلت المدينة بعد وفاة الإمام
الرضا (عليه السلام) أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا (ع). فقيل: إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة فخرجت إلى
تلك القرية ودخلت القرية وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر انتقل إلى أولاده. فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا (عليه
السلام) كان جالساً يتصدّر المجلس إلاّ أن الناس يقولون : إن هذا ليس هو
الإمام بعد الرضا (عليه السلام) لأننا سمعنا من الأئمة أن الإمامة لا تكون في
أخوين بعد الحسن والحسين. نعم
، كل هذه التفاصيل والخصوصيات النسبية والمعنوية كانت واضحة ومحدّدة عند
الطائفة. إذاً فهذا الافتراض الثالث أيضاً يكذّبه واقع التراث الثابت والمتواتر
عن الأئمة السابقين على الإمام الجواد (ع). الفرض الرابع: أن يكون هناك بين أبناء الطائفة الشيعية نوع من التواطؤ على الزور
والباطل. إنّ
هذه الظروف الموضوعية ألا تكون شاهداً ودليلاً على أن هذا الاعتقاد إنما كان
ناشئاً عن حقيقة ثابتة وملزمة لأبناء الطائفة قد وعوها وآمنوا بها واستسلموا
للوازمها وآثارها بالرغم من أنها كانت تكلّفهم حياتهم المادية على طول الخط. إذن لا يبقى إلاّ القبول بالافتراض الأخير ، وهو :
أن الإمام الجواد (عليه السلام) بدعواه الإمامة المبكرة وتحدّيه لكل من وقف
أمامه، وصموده أمام كل الإثارات والتساؤلات والاختبارات شكّل دليلاً تاريخياً
علمياً قاطعاً على حقّانية دعواه ومذهبه وخطّه ، وهو خط أهل البيت (عليهم
السلام) الذي كان يمثّله الإمام الجواد(عليه السلام) في مجال إمامة المسلمين
وزعامة الأمة الإسلامية التي بدأت بالقيادة النبوية تلك الأمة التي خلّفها
الرسول (صلى الله عليه وآله) لتتكامل وتؤسّس الحضارة الإسلامية على أسس إلهية
وقيم ربّانية. وإن
التراث القيّم الذي تركه لنا هذا الإمام العظيم لدليل قاطع على عظمة الدور الذي
قام به هذا الإمام في تبلور العقيدة الشيعية في مجال القيادة الإسلامية التي
أكّدتها الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة (اعتمدنا في هذا البحث على محاضرة للشهيد السعيد آية الله
السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) حول الإمام الجواد (عليه السلام) وعرضناها
بتصرّف.). |
|
3 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والمفاهيم
المنحرفة عند الأمة
|
|
لم
يتخذ الغلو لوناً واحداً بل كانت ثمة ألوان متعددة، منها الغلو بالصحابة، وفي
حوار مفتوح للإمام الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن الأكثم أمام جماعة كبيرة من
الناس منهم المأمون العبّاسي فنّد الإمام الجواد(عليه السلام) التوجهات المغالية
في شأن الصحابة، وإليك نص الحديث: ثم قال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن
مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء. فقال يحيى: قد روي إن النبي (صلَّى الله عليه
وآله) قال: لو لم أُبعث لبُعث عمر. |
|
4 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والتوجّه
إلى هموم أبناء الأمة الإسلامية
|
|
اهتمّ الإمام الجواد (عليه السلام) بخدمة الناس وبدعوتهم إلى الإسلام
المحمدي الأصيل وكسبهم إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أمثلة ذلك: 2 ـ روي عن الشيخ أبي بكر
بن إسماعيل أنه قال: (قلت لأبي جعفر ابن الرضا(عليه
السلام): إن لي جارية تشتكي من ريح بها، فقال: ائتني
بها ، فأتيت بها فقال: ما تشتكين ياجارية ؟
قالت: ريحاً في ركبتي، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب فخرجت الجارية من
عنده ولم تشتك وجعاً بعد ذلك)( بحار الأنوار: 50 / 46 ـ 47.). 6 ـ وروي عن القاسم بن
الحسن، أنّه قال: (كنت فيما بين مكة والمدينة فمرّ
بي أعرابي ضعيف الحال فسألني شيئاً فرحمته، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه
فلمّا مضى عنّي هبّت ريح زوبعة، فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت ولا
أين مرّت، فلمّا دخلت المدينة صرت إلى أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) فقال
لي: ياأبا القاسم ذهبت عمامتك في الطريق ؟
قلت: نعم، فقال: ياغلام أخرج إليه عمامته،
فأخرج إليَّ عمامتي بعينها، قلت: يا ابن رسول الله كيف صارت إليك ؟ قال: تصدّقتَ على أعرابي فشكره الله لك، فردّ إليك عمامتك، وإنّ
الله لا يضيع أجر المحسنين(مستدرك عوالم العلوم: 47 ـ 48.). إنّ هذه الأعمال تدلّ على الأهمية
الكبيرة التي كان يمنحها أهل البيت (عليهم السلام) لخدمة الناس. ولا يخفى على
الناظر المتأمل ما تتركه مثل هذه الأعمال من أثر كبير على الناس باعتبار أنّ لغة
العمل هي اللغة الأوضح عند الناس الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة
الصالحة والأشد تأثيراً عليهم كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كلمته
المعروفة عنه: (كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم). |
|
الفصل
الثاني:
الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة
|
|
1 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) يعالج
ظاهرة التشكيك بإمامته
|
|
نهض
الإمام الجواد (عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ
الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم(عليه السلام) حيث أوتي النبوّة في المهد،
وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل
البيت(عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
لكن الإمام(عليه السلام) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات
المعلنة والخفيّة بما أوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة. |
|
2 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والبناء
الثقافي للجماعة الصالحة
|
|
لقد توخى أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) تحقيق عزة الإسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي
تضمن الوصول إلى الهدف المطلوب على أحسن وجه. وكان تحرك الإمام الجواد (عليه
السلام) ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف
المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير إلى
نماذج من تحرك الإمام (عليه السلام) في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد
الأمة وطلائعها إعداداً رسالياً. ومن هذه الميادين: |
|
أ ـ تعميق البناء
الفكري:
|
|
كان
اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الإنسان
المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات أساسية تتقوم
بها العقيدة ومن ذلك: وسئل (ع): أيجوز أن يقال لله: إنه شيء ؟
فقال: نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل وحدّ
التشبيه (حد
التعطيل هو عدم إثبات الوجود، والصفات الكمالية والفعلية والإضافية له تعالى،
وحد التشبيه الحكم والاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات.))( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 353 ـ 354.). مكافحة الغلو: من
الانحرافات الخطيرة التي انتشرت عند البعض الغلو بأهل البيت (عليهم السلام). وقد
وقف الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالمرصاد للمغالين فيهم فردّوهم
وأفحموهم وأمروا أتباعهم بالابتعاد عنهم. فقال الطلحي: إن أردت دخول الحمام
فقم فادخل فإنه لا يتهيأ لك بعد ساعة، قلت: ولم ؟ قال: لأن ابن الرضا(عليه
السلام) يريد دخول الحمام، قال: قلت: ومَن ابن الرضا ؟ قال: رجل من آل
محمد(صلَّى الله عليه وآله) له صلاح وورع، قلت له: ولا يجوز أن يدخل معه الحمام
غيره ؟ قال: نخلي له الحمام إذا جاء، قال: فبينا أنا كذلك إذ أقبل(عليه السلام)
ومعه غلمان له، وبين يديه غلام، ومعه حصير حتى أدخله المسلخ، فبسطه ووافى وسلّم
ودخل الحجرة على حماره، ودخل المسلخ، ونزل على الحصير. |
|
ب
ـ تعميق البناء العلمي
|
|
ومن جملة المجالات التي تحرّك فيها
الإمام الجواد (عليه السلام) هو إكماله لبناء الصرح العلمي الذي أشاده الائمة
(عليهم السلام) من آبائه الكرام، وفي سياق هذا النشاط نلاحظ إجابته على
الاستفسارات العلمية والاستفتاءات الفقهية التي كانت تستجد للطائفة الشيعية
والأمة الإسلامية آنذاك. |
|
إكمال الأدوات والمنهج
العلمي: |
|
أ ـ عدم جواز استنباط
الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسيرها من الأئمّة (ع).
|
|
فقد
روي في الكافي عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قد روى عن أبي عبد الله
الصادق(عليه السلام) أنّ رجلاً سأل أباه محمّد الباقر(عليه السلام) عن مسائل،
فكان ممّا دار بينهما أن قال: (قل لهم: هل كان فيما
أظهر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من علم الله (عزّ ذكره) اختلاف ؟ فإن
قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف، فهل خالف رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) ؟ فيقولون: نعم، فإن قالوا: لا ; فقد نقضوا أوّل كلامهم ; فقل
لهم: (مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). فإن قالوا:
من (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ؟ فقل: من لا يختلف في علمه. فإن قالوا: فمن هو ذاك ؟ فقل:
كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) صاحب ذلك . إلى أن قال: وإن كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لم يستخلف في
علمه أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده. وقال(عليه السلام) أيضاً: (والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد ; فمن حكم بما ليس
فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله عَزَّ وجَلَّ ; ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى
أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطاغوت)( أصول الكافي: 1/248.). |
|
ب ـ وجوب العمل
بأحاديث الأئمّة (عليهم السلام) المنقولة في الكتب المعتمدة.
|
|
فقد جاء في الكافي أيضاً عن محمّد
بن الحسن بن أبي خالد شنبولة، أنّه قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (ع): جعلت فداك،
إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقيّة
شديدة، فكتموا كتبهم، ولم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا. |
|
ج ـ جواز العمل بقول
من أجازه الإمام (عليه السلام) في العمل برأيه.
|
|
فقد جاء في رجال الكشّي: عن خيران
الخادم أنّه قال: (وجّهت إلى سيّدي (المراد بسيّده هنا إمّا الإمام الرضا، أو الإمام الجواد، أو
الإمام الهادي (عليهم السلام) لأنّه خدمهم ثلاثتهم(عليهم السلام)، والمرسل إليه
يحتمل الثلاثة.) ثمانية دراهم ـ في
حديث ـ وقال: قلت: جعلت فداك، إنّه ربّما أتاني الرجل لك قبله الحقّ، أو يعرف
موضع الحقّ لك، فيسألني عمّا يعمل به، فيكون مذهبي أخذ ما يتبرّع في سرّ ؟ قال: اعمل في ذلك برأيك، فإنّ رأيك رأيي، ومن أطاعك فقد أطاعني)
(رجال الكشي: 610 ح
1134، وزاد فيه: قال أبو عمرو: هذا يدل على أنّه كان وكيله، ولخيران هذا مسائل
يرويها عنه، وعن أبي الحسن (عليهما السلام)، عنه في الوسائل: 12 / 216 / ح 6.). |
|
د ـ عدم جواز الإفتاء
من دون علم
|
|
فقد مرّ أنه حينما توفي الإمام
الرضا (عليه السلام) كان عُمر أبي جعفر (عليه السلام) حينذاك سبع سنين، فاختلفت
كلمة الشيعة حوله ببغداد والأمصار فاجتمع وجهاء الشيعة وفقهاؤهم في الموسم
ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) فوجدوا في دار جعفر الصادق(عليه السلام) عبد
الله بن موسى قد جلس في صدر المجلس وكان يُسأل فيجيب بأجوبة دعتهم إلى الحيرة
فاضطربوا وهمّوا بالانصراف، وإذا بموفّق الخادم يدخل عليهم مع أبي جعفر (عليه
السلام) فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ثم جلس وبدأوا بالسؤال فكان
يجيب على أسئلتهم بالحق. ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد
الله أفتى بكيت وكيت فقال (عليه السلام): لا إله إلاّ
الله ! ياعمّ ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي
عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك ؟!) (بحار الأنوار: 50 / 99.) |
|
الإجابة على
الاستفتاءات الفقهيّة والاستفسارات العلمية:
|
|
لقد
أسهمت إجابات الإمام الجواد(عليه السلام) على الاستفتاءات الفقهية وغيرها من
الاستفسارات العلمية في البناء العلمي للجماعة الصالحة ولك أن تلاحظها في النصوص
التالية: فكتب
بخطّه (عليه السلام): (الفجر ـ يرحمك الله ـ الخيط
الأبيض، وليس هو الأبيض صعداً، ولا تصلّ في سفر، ولا في حضر حتى تتبيّنه ـ رحمك
الله ـ، فإن الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)( البقرة (2): 187.) فالخيط الأبيض هو
الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة)( مستدرك عوالم العلوم:
23 / 382 ـ 382.). حكم الوقف: عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي،
قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) اسأله عن أرض أوقفها جدّي على
المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير، متفرقون في البلاد ؟ شهادة
الزوج وغير الزوج: عن محمد بن
سليمان أنه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): (كيف صار الزوج إذا قذف
امرأته كانت شهادته أربع شهادات بالله ؟ وكيف لا يجوز ذلك لغيره وصار إذا قذفها
غير الزوج جلد الحدّ، ولو كان ولداً أو أخاً ؟ قال: (وإنما
صارت شهادة الزوج أربع شهادات بالله لمكان الأربعة شهداء مكان كل شاهد يمين)
(مستدرك عوالم
العلوم: 23 / 484 ـ 485.). |
|
ه ـ تعميق البناء
التربوي
|
|
من المفردات الأساسية التي اهتم بها
الإمام الجواد (عليه السلام) هو مسألة بناء الخلق الإسلامي عند الفرد والمجتمع. |
|
الحكمة في العمل:
|
|
أراد الإمام الجواد (عليه السلام)
ان يعلم شيعته ضرورة اعتماد الحكمة في العمل ومراعاة عامل الزمن في اتضاح
الأشياء فللأمور دورات زمنية ينبغي أن تمرّ بها حتى تكتمل، وعدم الالتفات إلى
هذا الجانب يفسد العمل ويجهضه قبل استوائه. |
|
التعامل مع الظالمين:
|
|
ركّز
الإمام الجواد (عليه السلام) على ضرورة ابتعاد المسلم عن مجاراة الظالمين
والركون إليهم، ودعا إلى رفضهم والابتعاد عنهم. كما أنه (عليه السلام) شدّد على عدم
طاعة المنحرفين والاستماع إليهم واعتبر ذلك كالطاعة والاستماع للشيطان. قال
(عليه السلام): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان
الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس)( تحف العقول: 456.). |
|
النشاط الاجتماعي:
|
|
إن حركة الإنسان في المجتمع تشتدّ
بمقدار تجذّره وتأثيره في ذلك المجتمع، لذلك توجّه الإمام الجواد (ع) إلى توضيح
المفاهيم المتصلة بالنشاط الإسلامي للطليعة المؤمنة، وفيما
يأتي نذكر بعضاً من هذه المفاهيم: |
|
وصايا للعاملين:
|
|
كان الإمام الجواد(عليه السلام)
يزرع روح الأمل والصبر في قلوب المؤمنين ليسلّحهم بالسلاح الفاعل عند مقارعتهم
للظلم والطغيان وتحركهم ضده. |
|
الحث على اكتساب
العلم:
|
|
حثّ الإمام الجواد (عليه السلام)
على طلب العلم وبيّن فضل العلماء من خلال أحاديثه ورواياته عن جده أمير المؤمنين
(عليه السلام) وفيما يأتي نماذج من هذه الأحاديث: |
|
الحث على التوبة:
|
|
دعا
الإمام إلى كيفية التوبة إلى الله تعالى وبيّن طريقها، فقد روى عن أمير
المؤمنين(ع): (التوبة على أربعة دعائم: ندم القلب،
واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على أن لا يعود). (وثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار وخفض
الجانب وكثرة الصدقة)( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.). |
|
3 ـ إحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها
لدور الغيبة
|
|
أ ـ نظام الوكلاء
ودقة التحرّك:
|
|
إنّ
بناء الجماعة الصالحة وتنظيم شؤونها وتحرّك الائمة (عليهم السلام) من خلالها كان
هدفاً أساسيّاً لأهل البيت (عليهم السلام) وقد قاموا بإشادة صرحه منذ عصر الإمام
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واستمروا بإكمال البناء وتعميق الطرح وتوسيع
دائرة العمل حتى عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وابنه الإمام المهدي
عجل الله فرجه. إن
البحث عن دقة الإمام الجواد (ع) في التحرك بعد الاعتراف بأنه الإمام المعصوم
والقائد الشرعي للأمة المسلمة الذي ورث العلم والخط الصحيح من آبائه الميامين
المنتجبين (ع) يكون بحثاً مفروغاً منه. وإنّ
دراسة حياة الإمام الجواد (عليه السلام) تكشف للدارس بشكل واضح وجليّ مدى الدقة
والمتانة في التحرك عند الإمام (ع)، فكل مفردة مرتبطة مع نظيرتها ومتجانسة مع
ظرفها ومعبرة عن رأي الرسالة في ذلك الموضوع. وعند
الحديث عن أساليب العمل عند الإمام (عليه السلام) يَرد هذا الكلام كذلك، وسنذكر
لتوضيح هذه القضية نماذج لتبيان المقصد. ومن أصول التحرّك عند
الإمام (عليه السلام) تجاه قواعده الشعبية يمكن ذكر ما يلي: |
|
ب ـ المراسلات
السرّيّة:
|
|
لا
شك في أن الاتصالات كانت جارية بين الإمام وأتباعه إلاّ أن بعضها كان سريّاً
وذلك خشية تفشّي أسماء مرسليها إلى الإمام خصوصاً وأن الإمام كان مرصوداً من
الداخل عن طريق زوجته. هذا
إلى جانب أن نمطاً معيناً من الرسائل كان يصل الإمام دون ذكر أسماء مرسليها
عليها، ولكن الإمام (عليه السلام) كان يستطيع معرفة المرسلين لهذه الرسائل
بطريقته الخاصة، ولا نستبعد أن ذلك كان يتم عن طريق وجود رمز معين في هذه
الرسائل، هذا إذا لم نحاول تفسير ذلك بعلم الإمام المعصوم بالغيب، باعتبار أنه: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك(راجع أصول الكافي: 1 /
201.). قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري:
(دخلت على أبي جعفر الثاني(عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليّ
فاغتممت لذلك، فتناول إحداهن وقال: هذه رقعة ريّان بن
شبيب ثم تناول الثانية فقال: هذه رقعة محمد بن
حمزة وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان
فبهت فنظر إليَّ وتبسّم(عليه السلام))( إعلام الورى بأعلام الهدى: 2 / 98.). |
|
ج ـ الإحاطة بدقائق
الأمور الاجتماعية:
|
|
لم يكن الإمام (ع) بمنأى وبمعزل عن
مجتمعه، بل كان حاضراً دائماً بين الناس يعيش احتياجاتهم وتطلّعاتهم. |
|
د ـ متابعة تربية
الأفراد:
|
|
ومن
الأمور التي تصدّى لها الإمام الجواد(عليه السلام) اهتمامه بتربية أتباعه وشيعته
ومتابعته لتربيتهم، ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الشاعر المعروف دعبل الخزاعي.
فعن دعبل بن علي: (أنه دخل على الرضا(عليه السلام) فأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد
الله، فقال له: لِمَ لَمْ تحمد الله ؟ قال: ثم
دخلت على أبي جعفر فأمر له بشيء فقلت: الحمد لله. فقال: تأدّبت)( كشف الغمة: 2 / 363.). |
|
4 ـ التمهيد لإمامة علي الهادي(عليه
السلام) المبكرة
|
|
من
المهام التي اشترك فيها الائمة (ع) دعوتهم إلى الإمام الآتي بعدهم. وقد سار
الإمام الجواد (عليه السلام) على منهج آبائه في قضية الدعوة إلى الإمام القادم
بعده وترسيخ ذلك عند الطليعة المؤمنة من الأمة، وفيما
يأتي أمثلة على هذا الأمر عند الإمام (عليه السلام): قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد
بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال
الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: (إني
ماض، والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي).
ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك ؟ قلتُ: خيراً، قد
سمعتُ ما قال، وأعادَ عليّ ما سمع، فقلتُ له: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ، لأن
الله تعالى يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا)( الحجرات (49): 12.)، فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج إليها
يوماً ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها. (شهد
أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه
بنفسه وإخوانه وجعل أمر موسى(يعني ابنه الملقب بالمبرقع المدفون بقم.) إذا بلغ إليه وجعل عبد الله بن المساور قائماً
على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن
محمد، صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه، يقوم بأمر نفسه، وإخوانه ويصيّر
أمر موسى إليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها وذلك
يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد
شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب (ع) وهو الجوّاني على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب
وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده)( أصول الكافي: 1 / 261.). قال الطبرسي بعد نقل هذه
النصوص الثلاثة: والأخبار في هذا الباب كثيرة، وفي
إجماع العصابة على إمامته وعدم من يدّعي فيه إمامة غيره غناء عن إيراد الأخبار
في ذلك، هذا وضرورة أئمتنا (عليهم السلام) في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم
وتقيّتهم منهم أُحوجت شيعتهم في معرفة نصوصهم على من بعدهم إلى ما ذكرناه من
الاستخراج حتى أنّ أوكد الوجوه في ذلك عندهم دلائل العقول الموجبة للإمامة وما
اقترن إلى ذلك من حصولها في ولد الحسين (ع)، وفساد أقوال ذوي النحل الباطلة
وبالله التوفيق(إعلام
الورى: 339.). |
|
5 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) وقضية
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
|
|
قضية
الإمام المهدي عجَّل الله فرجه من القضايا الأساسية في المسيرة الإسلامية
والمتتبع لآثار الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لا يجد أحداً منهم غفل عن
الدعوة إليها أو تجاهلها. وعلى
هذا المنهج سار الإمام الجواد (ع) فطرح قضية المهدي (عج) على الأمة قاصداً من
ذلك تركيز هذا المفهوم في أذهانها من جهة وإعدادها لاستقبال يومه من جهة ثانية، ونذكر فيما يأتي نماذج من هذه الدعوة: 1 ـ عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه) قال:
(قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع): يامولاي ! إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت
محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال (عليه السلام): ما منّا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله. ولكن
القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأها قسطاً وعدلاً هو
الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميّ
رسول الله وكنيته، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من
أصحابه عدّة أهل بدر: (ثلاثمئة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض وذلك قول الله
عزَّ وجلَّ: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ
بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة (2): 148.). فإذا اجتمعت له هذه
العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو (عشرة آلاف) رجل،
خرج بإذن الله تعالى، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ)( الاحتجاج: 2 / 481 ـ
482.). ياأبا القاسم إن القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في
غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلَّى الله عليه
وآله) بالنبوّة وخصّنا بالإمامة، إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل
الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً،
وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (ع) إذ
ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسولٌ نبيٌ، ثم قال (ع): أفضل أعمال شيعتنا
انتظار الفرج)( كمال الدين وتمام النعمة: 377.). |
|
الفصل الثالث: مدرسة الإمام
الجواد (عليه السلام) وتراثه
|
|
البحث الأول: أصحاب
الإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
حفَّ
جمهور كبير من العلماء والرواة بالإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) وهم
يقتبسون من نمير علومه التي ورثها عن جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وكانوا يدوّنون أحاديثه وكلماته وما كان يدلي به من روائع الحكم والآداب. وقد بلغ التضييق على العلماء
والرواة من أصحاب الائمة حدّاً بحيث كانوا لا يستطيعون أن يجهروا باسم الإمام
الذي أخذوا عنه، وإنّما كانوا يلمّحون إليه ببعض أوصافه وسماته من دون التصريح
باسمه خشية القتل أو السجن. |
|
|
|
1 ـ الحسين بن سعيد الأهوازي: ابن حمّاد
الأهوازي، ثقة، روى عن الإمام الرضا(عليه السلام) وأبي جعفر (عليه السلام) وأبي
الحسن الثالث. (حياة
الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 139 ـ 141.)
وهو الإمام علي الهادي(عليه السلام). 3 ـ
محمد بن إسماعيل بن بزيع، عدّه الشيخ
الطوسي من أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد (ع) (رجال الطوسي: 405.)
وكان
من خيار أصحاب الائمة (عليه السلام) في ورعه وتقواه، ونتحدث ـ بإيجاز ـ عن بعض
شؤونه: 1
ـ كتاب الوضوء رسائل الإمام الجواد (عليه السلام) إليه: وبعث
الإمام الجواد (عليه السلام) إلى علي بن مهزيار عدة رسائل تكشف عن شدة صلته
بالإمام (ع) وسموّ منزلته ومكانته عنده، ومن بين هذه
الرسائل: 7 ـ عبد الله بن الصلت: هو عبد الله
بن الصلت أبو طالب القمي مولى بني تيم اللات ابن تغلبة. حمدان بن أحمد النهدي
قال: حدثنا أبو طالب القمي قال: كتبت إلى أبي جعفر ابن الرضا يأذن لي أن أندب
أبا الحسن ـ أعني أباه ـ فقال: فكتب إليّ (أندبني
وأندب أبي) (رجال الكشي: 275.).
من ثقاة الرواة عن الإمام الجواد (عليه
السلام)، كما ذكر الكشي في رجاله، وقد روى عن الإمام موسى الكاظم وعلي بن موسى
الرضا (عليهما السلام). 10 ـ إبراهيم بن محمد الهمداني: من الرجال الأجلاء، وقد روى عن الإمام الجواد
وأبيه الرضا وولده الهادي (عليهم السلام). 29
ـ أبو يوسف الكاتب يعقوب بن يزيد بن حماد الأنباري: ثقة صدوق. روى عن الإمام
الجواد، وكان من أصحاب أبيه (عليه السلام) قبله. |
|
البحث الثاني: تراث
الإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
بالرغم من قصر المدة التي عاشها
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وهي خمسة وعشرون سنة منذ ولادته وحتى
استشهاده، وهو أقصر عمر نراه في أعمار الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) من أهل
بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ التراث الذي وصل إلينا إذا
قارنّاه بالظروف التي أحاطت بالإمام (عليه السلام) وبشيعته وقارنّاه بأعمار من
سبقه من آبائه الكرام والتي يبلغ معدّلها ضعف عمر هذا الإمام العظيم، نجده غنيّاً
من حيث تنوّع مجالاته، ومن حيث سموّ المستوى العلمي المطروح في نصوصه وحجمه، ومن
حيث دلالاته التي تعتبر تحدّياً صارخاً عند ملاحظة صدور هذا التراث من مثل هذا
الإمام الذي بدأ بالإشعاع والعطاء منذ ولادته وحتى سِنيّ إمامته وهو لم يبلغ
عقداً واحداً من العمر. |
|
1 ـ من تراثه التفسيري
|
|
أ ـ عن داود بن قاسم
الجعفري قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه
السلام): جُعلت فداك ما الصمد ؟ قال: السيد المصمود
إليه في القليل والكثير).( أصول الكافي: 1 / 123.) |
|
2 ـ من تراثه الكلامي
|
|
أ ـ ضرورة التحصين
العقائدي: روى في الاحتجاج عن الإمام محمد
الجواد (ع) أنه قال: (من تكفّل بأيتام آل محمد
المنقطعين عن إمامهم المتحيّرين في جهلهم، الأُسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي
النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين بردّ
وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربّهم ودلائل أئمتهم؛ ليحفظوا عهد الله على العباد
بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء،
وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كواكب السماء). (الاحتجاج: 1 / 9.) |
|
3 ـ من تراثه الفقهي
|
|
أ ـ روى أبو خداش المهري: (أن شخصاً دخل
على الرضا (عليه السلام) فسأله عن أمور ثلاثة فأجابه (عليه السلام) عنها. ثم حضر
أبو خداش مجلس أبي جعفر (عليه السلام) في ذلك الوقت فسأله الأسئلة ذاتها فكان
الجواب هو الجواب. |
|
4 ـ من تراثه التاريخي
|
|
أ ـ روى المجلسي عن الصدوق بإسناده
عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أسأله عن ذي
الكفل ما اسمه ؟ وهل كان من المرسلين ؟ فكتب صلوات الله وسلامه عليه: (بعث الله تعالى جلّ ذكره مئة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف
نبيّاً، المرسلون منهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً. وإنّ ذا الكفل منهم صلوات الله
عليهم، وكان بعد سليمان بن داود (عليه السلام). وكان يقضي بين الناس كما كان
يقضي داود، ولم يغضب إلاّ لله عَزَّ وجَلَّ وكان اسمه (عويديا) وهو الذي ذكره
الله تعالى جلّت عظمته في كتابه حيث قال:
(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيَارِ))( بحار الأنوار: 13 / 405.). |
|
5 ـ الطب في تراث الإمام الجواد (عليه
السلام)
|
|
لقد
استوعب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) شتّى العلوم ومنها علوم الطبّ والحكمة
بما آتاهم الله من فضله، وأطلعهم على غيبه، وحباهم من نوره، وألهمهم من معرفته،
وبما ورّثوه من علوم خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله)،
فكانوا (عليهم السلام) يعالجون المرضى تارةً بالقرآن والدعاء والأحراز والرقى
والصدقة، وتارةً يوصونهم بضرورة النظافة والطهارة والوقاية العامّة، وثالثة
يصفون لهم الأعشاب والنباتات وغيرها من العقاقير الطبّية التي كانت تؤثر بشكل
فعّال في شفاء المرضى ممّا يدلّ على قدراتهم (عليهم السلام) الكبيرة وإمكاناتهم
الواسعة بتشخيص المرض من دون اللجوء إلى إجراء التحليلات المختبريّة والصور
الشعاعيّة والتخطيطات وما إلى ذلك من الوسائل المتطورة الحديثة المعروفة في
يومنا هذا. ودنا
الطبيب ليقطع له العرق، فقام عليّ بن جعفر (عليه السلام) فقال: ياسيّدي، يبدأ بي
ليكون حدّة الحديد فيّ قبلك... قال:
خير الأشياء لحمّى الربع أن يؤكل في يومها الفالوذج
(الفالوذج: حلواء
تعمل من الدقيق والماء والعسل.) المعمول بالعسل، ويكثر زعفرانه، ولا يؤكل في يومها غيره)( رجال الكشي: 65، عنه
البحار: 62 / 100 ح 24.). قال:
خذ زعفران (الزعفران: نبات معمّر من الفصيلة السوسنيّة، منه أنواع بريّة
ونوع صبغي طبيّ مشهور وهو حارّ يابس مفرح يقوّي الروح، وجيّده الطريّ الحسن
اللون، الزكيّ الرائحة، على شعره قليل بياض غير كثير ممتلئ صحيح، سريع الصبغ،
غير ملزج ولا متفتّت، وإذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص. راجع الطب من الكتاب
والسنّة: 113، القانون: 1 / 306، القاموس المحيط: 2 / 39.) وعاقرقرحا (العاقر قرحا: نبات من
الفصيلة المركّبة تستعمل جذوره في الطبّ، ويكثر في إفريقية، وقال في إحياء
التذكرة: 430: هو أصل الطرخون الجبلي، ينقّي البلغم من الرأس، ويزيل وجع الأسنان
والسعال وأوجاع الصدر وبرد المعدة والكبد، ويزيل الخناق غرغرة...) وسنبل (قال الفيروزآبادي في
القاموس المحيط: 3 / 398: السنبل، كقنفذ: نبات طيّب الرائحة ويسمّى سنبل
العصافير، أجوده السوري وأضعفه الهندي مفتّح محلّل مقوّ للدماغ والكبد والطحال
والكلى والأمعاء مدرّ، وله خاصيّة في حبس النزف المفرط من الرحم، والسنبل الرومي
الناردين.) وقاقلّة
(القاقلّة: ثمر
نبات هندي من العطر والأفاوية مقوّ للمعدة والكبد، نافع للغثيان والأعلال
الباردة حابس، والقاقلّة الكبيرة أشدّ قبضاً من الصغيرة وأقل حرافة، قاله في
القاموس المحيط: 4 / 39.) وبنج (البنج: قال في المعجم الوسيط: 1 / 71: (من الهندية): جنس
نباتات طبيّة مخدّرة من الفصيلة الباذنجانيّة. وقال في القاموس المحيط: 1 / 179:
مسكّن لأوجاع الأورام والبثور ووجع الأذن، وأخبثه الأسود ثمّ الأحمر، وأسلمه
الأبيض.) وخربق
أبيض (الخربق ـ كجعفر ـ نبات ورقه كلسان الحمل أبيض وأسود وكلاهما
يجلو ويسخّن وينفع الصرع والجنون والمفاصل والبهق والفالج ويسهّل الفضول اللزجه،
وربما أورث تشنّجات، وإفراطه مهلك... قاله في القاموس المحيط: 3 / 225، وقال ابن
البيطار في جامعه: 2 / 55: عن ابن سرابيون أنّه قال: الخربق الأسود يسهّل المرّة
الصفراء الغليظة جداً، ويعطى في العلل الحادة والمزمنة التي تحتاج إلى دواء يسهل
المرّة الصفراء كعلل الصدر، وهو نافع في تنقية الأحشاء جداً والرحم والمثانة
والعلل المتقادمة في قصبة الرئة.) وفلفل أبيض (الفلفل (كهدهد وزبرج): حبّ هندي، والأبيض أصلح وكلاهما نافع
لقلع البلغم اللزج مضغاً بالزفت، ولتسخين العصب والعضلات تسخيناً لا يوازيه غيره
وللمغص والنفخ واستعماله في اللعوق للسعال وأوجاع الصدر وقليله يعقل وكثيره يطلق
ويجفّف ويدرّ ويبرّد المني بعد الجماع. القاموس المحيط: 4 / 32.) أجزاء سواء، وأبرفيون (أبرفيون: هو صمغ تنتجه
شجرة شائكة، ويحصل عليه بواسطة شق أغصان الشجرة فتسيل منها عصارة صمغية لا تلبث
أن تجفّ وتتجمّد بعد ملامستها الهواء، ومن أسمائها، الفربيون، قال في القاموس
المحيط: 4 / 255: هو دواء ملطف نافع لعرق النسا وبرد الكلى والقولنج ولسع الهوام
وعضّة الكلب ويسقط الجنين ويسهّل البلغم اللزج.)
جزءين، يدقّ ذلك كلّه دقّاً ناعماً، وينخل بحريرة،
ويعجن بضعفي وزنه عسلاً (العسل: قال تعالى في سورة النحل: 69: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). هو غذاء ودواء ذكرت
منافعه في الكثير من كتب الطبّ لا مجال لذكرها لكثرتها.) منزوع الرغوة، فيسقى
منه صاحب خفقان الفؤاد، ومن به برد المعدة حبّة بماء كمّون (الكمّون (كتنّور): حبّ
مدرّ مجشّ هاضم طارد للرياح وابتلاع ممضوغه بالملح يقطع اللّعاب، والكمّون الحلو
الآنيسون، والحبشي شبيه بالشونيز، والأرمني الكوربا، والبريّ الأسود. وقال في
الطبّ من الكتاب والسنّة: 147: حار يحلّ القولنج ويطرد الريح، وإذا نقع في الخلّ
وأكل قطع شهوة الطين والتراب وروي ليس شيء يدخل الجوف إلاّ تغيّر إلاّ الكمون.) يطبخ، فإنّه يعافى
بإذن الله تعالى. (راجع مستدرك عوالم العلوم والمعارف: 23 / 361 ـ 368.) |
|
6 ـ الدعاء في تراث الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
هذه
مجموعة من الأدعية الجليلة رواها الإمام الجواد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم
السلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن الله عز وجل وهي بمثابة صحيفة
الجواد (عليه السلام) في الدعاء والمناجاة. 1 ـ المناجاة للاستخارة: 4 ـ المناجاة في طلب الرزق: 5 ـ المناجاة بالاستعاذة: 8 ـ المناجاة بكشف الظلم: |
|
7 ـ في رحاب مواعظ الإمام الجواد (عليه
السلام)
|
|
روى
الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في باب مواعظ أبي جعفر الجواد (عليه السلام)
أحاديث مرسلة نذكرها فيما يلي: 4
ـ وقال (عليه السلام): (من شهد أمراً فكرهه كان كمن
غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)( تحف العقول: 336.) 23
ـ وقال (عليه السلام): (من هجر المداراة قاربه المكروه).
(بحار الأنوار: 71
/ 341.) 34
ـ وقال (عليه السلام): (من لم يرض من أخيه بحسن
النيّة لم يرض بالعطية). (بحار الأنوار: 78/364.) 44
ـ عنه (عليه السلام) أنه قال: (لو كانت السموات
والأرض رتقاً على عبد ثم اتقى الله تعالى لجعل منها مخرجاً). 57
ـ وقال (عليه السلام): (العفاف زينة الفقر، والشكر
زينة الغنى، والصبر زينة البلا، والتواضع زينة الحسب، والفصاحة زينة الكلام،
والحفظ زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، وبسط
الوجه زينة الكرم، و ترك المن زينة المعروف، والخشوع زينة الصلوة، والتنفل زينة
القناعة، و ترك ما يعني زينة الورع). وآخر دعوانا أن
الحمد الله ربِّ العالمين |
|
|
|
|
اعلام الهداية
الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)
|
|
المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم
المقدسة |
|
أهل
البيت في القرآن الكريم (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب: 33 /
33 |
|
أهل
البيت في الُسنّة النبويّة (إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن
تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) (الصحاح
والمسانيد) |
|
الفهرس إجمالي
|
|
الباب الأول: |
|
المقدمة
|
|
الحمد
لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً
لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد
(ص) وعلى آله الميامين النجباء. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(الأنعام
(6): 71). (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة
(2): 213). (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(الأحزاب
(33): 4). (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران (3): 101). (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(يونس (10): 35). (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(سبأ
(34): 6). (ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)(القصص
(28):50). فالله
تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان
إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه
الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد
أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى
الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ)(الذاريات
(51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة
والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال. وبعد
أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال;
لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن
هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له
سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه
كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء
إرادته. ويتولّى
أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها،
والتي تتلخّص في: 1
ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة
تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله
شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً:
(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام (6): 124) و(اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(آل
عمران (3): 179). 2
ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على
الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة
وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة
(2): 213). 3
ـ تكوين أُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل
تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه
المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى:
(يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة(62): 2)
والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة
الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب(33):
21). وقد
سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل
التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في
سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في
مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين. ولتحقيق
أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري: وتبلورت
حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم
والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم،
فكانوا هم الأدلَّاء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين
في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ
المنشود. ويختص
هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) تاسع أئمة أهل
البيت(ع) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو المعصوم الحادي عشر من أعلام
الهداية والذي تمثلت كل جوانب الشريعة في حياته فكراً وخلقاً وسلوكاً فكان
نبراساً ومثلاً أعلى للبشرية بعد سيّد المرسلين وآبائه الطاهرين الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى
كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع
المبارك وإخراجه إلى عالم النور ، لا سيَّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالى . ولا
يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه
الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير. المجمع
العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة |
|
الباب الأول:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: الإمام محمّد
الجواد (عليه السلام) في سطور
|
|
الإمام
أبو جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) هو التاسع من أئمة أهل البيت الذين
أوصى إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر من الله سبحانه ـ لتولّي مهام
الإمامة والقيادة من بعده، بعد أن نصّ القرآن على عصمتهم وتواترت السنة الشريفة
بذلك. |
|
الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
إنّ
مواهب الإمام التقي محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) قد ملكت عقول كل من عاصره
وتطّلع إلى شخصيته العملاقة واطلع على عظمة فكره وكمال علمه. وكل من كان يراه لم
يقدر أن يتمالك نفسه أمامه ويخرج من عنده إلاّ والإعجاب والخضوع يتسابق بين
يديه. ب ـ وقال عنه بعد ولادته: (هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه)( الكافي: 1 / 321.). وقال
في وصف الإمام أبي جعفر (عليه السلام) حينما أراد تزويجه واعترض عليه العباسيون:
(وأما أبو جعفر محمد بن علي قد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم
والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك.. ثم قال لهم: وَيْحَكم إني أعرف بهذا
الفتى منكم، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله، ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه
أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال(الإرشاد: 2 / 282.). يباري
الغيث جوداً وعطيةً، ويجاري الليث نجدةً وحميّة، ويبذّ السير سيرةً رضية، مرضية
سريّة. إذا عُدِّدَ آباؤه الكرام، وأبناؤه (عليهم السلام) نظَم اللئالي الأفراد
في عدِّه، وجاء بجماع المكارم في رسمه وحدِّه، وجَمَع أشتات المعالي فيه، وفي
آبائه من قبله، وفي أبنائه من بعده، فمن له أبٌ كأبيه أو جد كجدّه ؟ !. فهو
شريكهم في مجدهم، وهم شركاؤه في مجده، وكما ملأوا أيدي العفاة بِرِفْدِهم، ملأ
أيديهم بِرِفده... بهم اتَّضحت سُبُل الهُدى، وبهم سُلِمَ من الردى، وبِحُبِّهم
تُرجى النجاة والفوز غداً، وهم أهل المعروف، وأولوا النَّدى. كُلُّ المدائح دون
استحقاقهم، وكُلُّ مكارم الأخلاق مأخوذة من كريم أخلاقهم وكُلّ صفات الخير
مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم، فالجنة في وصالهم، والنار في فراقهم. وهذه
الصفات تصدق على الجمع والواحد، وتثبت للغائب منهم والشاهد، وتتنزَّل على الولد
منهم والوالد. حُبُّهم فريضة لازمة، ودولتهم باقية دائمة، وأسواق سُؤدَدِهم
قائمة، وثغور محبيهم باسمة، وكفاهم شَرَفاً أن جدّهم محمد، وأبوهم علي، وأُمُّهم
فاطمة (عليهم السلام))( راجع كشف الغُمّة في معرفة الأئمة: الإمام محمّد الجواد:
2/370 ـ 371.). الناس
كلّهم عيال عليهم ومنتسبون انتساب العبودية إليهم. عنهم أُخذت المآثر، ومنهم
تعلّمت المفاخر، وبشرفهم شرف الأوّل والآخر. ولو أطلتُ في صفاتهم لم آتِ بطائل،
ولو حاولت حصرها نادتني الثريا: مَن يد المتناول؟ وكيف تطيق حصر ما عجز عنه
الأواخر والأوائل؟) 12 ـ ووصفه محمود بن وهيب البغدادي بقوله:
(هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً وأجلّ إخوته قدراً وكمالاً..)( جوهرة الكلام: 147.). هذه بعض النصوص التي أدلى بها معاصرو الإمام الجواد(عليه السلام) ومن
جاء بعدهم في القرون اللاحقة وهي تمثّل إعجابهم بمواهب الإمام وشخصيّته الفذّة
التي تحكي شخصيّة آبائه الكرام الذين حملوا مشاعل الهداية وأعلامها بعد خاتم
المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله). |
|
الفصل الثالث: مظاهر من شخصيّة
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
لا
ريب في أن فضائل الأئمة الإثني عشر المعصومين (عليهم السلام) ـ والإمام الجواد
منهم ـ كثيرة لا تحصى، كيف وقد اختارهم الله تعالى للإمامة على علم، وهذا
الاختيار يكشف عن اختصاصهم بكمالات ومناقب تفرّدوا بها وامتازوا عن من سواهم
وبذلك جعلهم حججه على خلقه وأمناء على وحيه. |
|
أ ـ تكلّمه في المهد:
|
ذكر
المؤرخون أن الإمام الجواد (عليه السلام) تشهّد الشهادتين لمّا وُلد، وأنه حمد
الله تعالى وصلّى على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الراشدين في
يومه الثالث. فعن
حكيمة ابنة موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) قالت: (لمّا حملت أم أبي جعفر
الجواد (عليه السلام) به كتبتُ إليه [يعني: إلى الإمام الرضا(عليه السلام)]:
(جاريتك سبيكة قد علقت. فكتب إليَّ: (إنها علقت ساعة
كذا، من يوم كذا، من شهر كذا، فإذا هي ولدت فألزميها سبعة أيام). قالت:
فلمّا ولدته، وسقط إلى الأرض، قال: (أشهد أن لا إله
إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله). فلمّا كان اليوم الثالث، عطس، فقال: (الحمد لله، وصلّى الله على محمد وعلى الأئمة الراشدين)( مستدرك عوالم العلوم:
23 / 151 ـ 152.). |
|
ب ـ إتيانه الحكمَ
صبياً:
|
|
أصبح
الإمام الجواد (عليه السلام) خليفة الله تعالى في خلقه وإماماً لهم وهو لم يزل
حديث السن، وذلك ما اقتضته مشيئة الله (جلّ جلاله) مثلما اقتضت ذلك مع عيسى
وسليمان (ع). وقد أثارت حداثة سنة (ع) استغراب بعض
الناس وتشكيكهم، الأمر الذي دعا الإمام الجواد (عليه السلام) إلى توضيح الأمر
لهم، وهو ما نجده في الروايات الآتية: 3 ـ قال الراوي لأبي جعفر (عليه السلام):
يا سيدي إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، فقال: (وما
ينكرون من ذلك قول الله عَزَّ وجَلَّ، لقد قال الله عَزَّ وجَلَّ لنبيه (صلى
الله عليه وآله): (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)( يوسف (12): 108.) فو الله ما تبعه إلاّ
علي(عليه السلام) وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين)( أصول الكافي: 1 / 315.). |
|
|
ج ـ علمه:
|
|
لابدَّ للإمام من أن يكون واسع
العلم والمعرفة، فهو أعلم أهل زمانه، وأدراهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين مع
الإحاطة بالنواحي السياسية والإدارية وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس. وقد دلّ الإمام
الجواد (عليه السلام) بنفسه على ذلك، إذ خاض ـ وهو في سنّه المبكّر ـ في مختلف
العلوم، وسأله العلماء والفقهاء عن أعقد المسائل الشرعية والعلمية فأجاب عنها
بكل إحاطة ودقة مما أدى ذلك إلى انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتزايد
الإقبال عليه في ذلك العصر وذهب كثير من العلماء إلى القول بالإمامة(حياة الإمام الجواد: 66.). |
|
ومن هنا ينبغي أن
نعرض بإيجاز إلى بعض ما أُثر عنه من العلوم:
|
|
1 ـ التوحيد:
|
|
أثيرت
في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) كثير من الشكوك والأوهام حول قضايا التوحيد
وقد أثارها من لا حريجة له في الدين من الحاقدين على الإسلام لزعزعة العقيدة في
نفوس المسلمين، ولتشكيكهم في مبادئ دينهم العظيم، وقد أجاب الإمام (عليه السلام)
عن تلك الشبهات وفنّدها خير تفنيد، وكان من بينها ما
يلي: |
|
2 ـ تفسير القرآن الكريم وتأويله:
|
|
وردت عن الإمام الجواد (عليه السلام) نصوص كثيرة في تفسير وتأويل بعض
آيات القرآن الكريم. |
|
3 ـ الحديث:
|
|
روى الإمام الجواد (عليه السلام) طائفة من الأحاديث
بسنده عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروى أيضاً عن جدّه الإمام أمير
المؤمنين (ع) وعن آبائه (ع) وفيما يلي مختارات من ذلك
التراث الذي يكشف بثّه من قِبَل الإمام(ع) عن
اهتمامه بنشر حديث الرسول(ص) وآبائه الميامين: |
|
4 ـ نماذج من فقهه (عليه السلام):
|
|
تشكّل
الأحاديث التي تُروى عن الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) مصدراً خصباً
لاستنباط الأحكام الشرعية لدى فقهاء الشيعة الإمامية، لأنها تعبّر عن سنة
المعصومين وسنّة المعصوم هي قوله وفعله وتقريره. |
الصلاة: |
|
1 ـ قال الراوي: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) (في
السنجاب والفنك والخزّ، وقلت: جعلت فداك، أحبّ أن لا تجيبني
بالتقيّة في ذلك فكتب بخطّه إلي: صلّ فيها)( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 286. الفنك: حيوان صغير من فصيلة
الكلبيات، شبيه بالثعلب، لكن أذنيه كبيرتان، لا يتجاوز طوله أربعين سنتيمتراً
بما فيه الذنب، فَرْوته من أحسن الفِراء. 2 ـ قال الراوي: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) صلّى
حين زالت الشمس يوم التروية ست ركعات خلف المقام، وعليه نعلاه لم ينزعهما(مستدرك عوالم العلوم: 23
/ 389.). |
|
الزكاة: |
|
وردت
عن الإمام الجواد (عليه السلام) عدة أخبار في فروع الزكاة كان من بينها ما يأتي:
استدل الفقهاء على جواز إخراج القيمة دون العين فيما تجب فيه الزكاة بما جاء عنه
(عليه السلام) في جوابه عن السؤال: (هل يجوز أن أخرج عمّا يجب في الحرث من
الحنطة والشعير، وما يجب على الذهب دراهم بقيمة ما يسوي ؟ أم لا يجوز إلاّ أن
يخرج من كل شيء ما فيه ؟ فأجاب (عليه السلام) : أيّما
تيسّر يخرج)( مستدرك عوالم العلوم:
23/411.). |
|
الحج: |
|
|
واستند
الفقهاء في فتاواهم في بعض فروع الحج ومسائله إلى ما أُثر عن الإمام الجواد
(عليه السلام) فيها، وفيما يأتي بعض ذلك: |
|
5 ـ فلسفة التشريع وعلل
الأحكام:
|
|
وكشف
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) النقاب عن بعض العلل في تشريع بعض الأحكام
الشرعيّة، وكان من بينها: |
|
د ـ عبادته ونسكه:
|
|
كان الإمام الجواد (عليه السلام)
أعبد أهل زمانه، وأشدهم حبّاً لله عَزَّ وجَلَّ وخوفاً منه، وأخلصهم في طاعته
وعبادته، شأنه شأن الأئمة الطاهرين من آبائه (عليهم السلام) الذين عملوا كلّ ما
يقرّبهم إلى الله زلفى. |
|
ومن مظاهر عبادة
الإمام الجواد (عليه السلام) نشير إلى ما يلي:
|
|
1 ـ نوافله: كان
(عليه السلام) كثير النوافل، ويقول المؤرخون إنه: كان يصلّي ركعتين يقرأ في كل
ركعة سورة الفاتحة، وسورة الإخلاص سبعين مرة(حياة الإمام محمّد الجواد: 67.). وإنه (عليه السلام) إذا دخل شهر جديد يصلّي أول يوم منه
ركعتين يقرأ في أول ركعة (الحمد) مرة، و(قل هو الله أحد) لكل يوم إلى آخره ـ
يعني ثلاثين مرة ـ . وفي أول الركعة الأخرى (الحمد) و(إنا أنزلناه) مثل ذلك
ويتصدق بما يتسهل، يشتري به سلامة ذلك الشهر كله(مستدرك عوالم العلوم: 23 / 220.). وجاء
في الرواية أنه صام أبو جعفر الثاني (عليه السلام) لمّا كان ببغداد يوم النصف من
رجب، ويوم سبع وعشرين منه، وصام معه جميع حشمه، وأمرنا أن نصلّي بالصلاة التي هي
اثنتى عشرة ركعة: تقرأ في كل ركعة الحمد وسورة، فإذا
فرغت قرأت (الحمد) أربعاً، و (قل هو الله أحد) أربعاً، والمعوّذتين أربعاً،
وقلت: (لا إله إلاّ الله والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة
إلاّ بالله العلي العظيم) أربعاً، (الله الله ربي لا أُشرك به شيئاً) أربعاً،
(لا أُشرك بربّي أحداً) أربعاً(مستدرك عوالم العلوم: 23 / 222.). 2ـ حجه: وكان
الإمام (عليه السلام) كثير الحج، وقد جاء في الرواية: (رأيت أبا جعفر الثاني
(عليه السلام) في سنة خمس عشرة ومائتين ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس، وطاف
بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط، فلمّا كان الشوط السابع استلمه واستلم
الحجر ومسح بيده ثم مسح وجهه بيده، ثم أتى المقام، فصلّى خلفه ركعتين ثم خرج إلى
دبر الكعبة إلى الملتزم، فالتزم البيت، ... ثم وقف عليه طويلاً يدعو، ثم خرج من
باب الحناطين. وهنا
نورد بعضاً من أذكار الإمام وأدعيته ومناجاته التي كان يناجي بها ربّه الأعلى
كأحد مظاهر التسبيح والتمجيد في محراب عبادته لله جلّ جلاله: من أدعيته إذا انصرف من الصلاة: (رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبمحمد
نبياً، وبعليٍّ ولياً، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن
محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي،
والحجة بن الحسن بن علي، أئمة. |
|
هـ ـ معجزاته
وكراماته (عليه السلام):
|
|
ورغم
أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان معجزة بذاته، حيث تصدى لإمامة المسلمين وهو
صبي لم يبلغ السابعة من عمره، فإنّ الله جّل جلاله أجرى على يديه كرامات أخرى في
مناسبات عديدة لكي يتم بها الحجة على العباد ويقطع بها ألسنة المعاندين وتطمئن
بسببها قلوب الموالين. 2 ـ قال أبو هاشم: ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت
له: جعلت فداك، إني مولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثم قال لي بعد أيام ابتداءً
منه ـ: (يا أبا هاشم، قد أذهب الله عنك أكل الطين). فأتانا
خبر أبي الحسن)الرضا((عليه السلام) بعد ذلك بأيّام، فإذا هو قد مات في ذلك
اليوم). |
|
و ـ من مكارم أخلاقه
الاجتماعية.
|
|
لقد
كان الإمام الجواد(عليه السلام) شاباً في مقتبل العمر، وكان المأمون يغدق عليه
الأموال الوافرة وقد بلغت مليون درهم. وكانت الحقوق الشرعية ترد إليه من الطائفة
الشيعية التي كانت تعتقد بإمامته بالإضافة إلى الأوقاف التي كانت في قم وغيرها
إلاّ أنّه لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصّة وإنّما كان ينفقها على
الفقراء والمعوزين والمحرومين.. وقد رآه الحسين المكاري في بغداد، وكان محاطاً
بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسمية والشعبية فظنّ أن
الإمام(عليه السلام) سوف لا يرجع إلى وطنه يثرب بل يقيم في بغداد راتعاً في
النعم والترف، وعرف الإمام قصده، فانعطف عليه وقال له:
(يا حسين، خبز الشعير، وملح الجريش في حرم جدّي رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) أحب إليَّ ممّا تراني فيه ..)( إثبات الهداة: 6 / 185.). |
|
1 ـ السخاء:
|
|
كان
الإمام أبو جعفر (عليه السلام) من أندى الناس كفّاً وأكثرهم سخاءً، وقد لُقِّب
بالجود لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى النّاس وقد ذكر المؤرّخون قصصاً كثيرة من
كرمه. |
|
2 ـ الإحسان إلى الناس:
|
|
أمّا الإحسان إلى الناس والبرّ بهم
فإنّه من سجايا الإمام الجواد ومن أبرز صفاته، وقد سجل التاريخ قصصاً كثيرة من
إحسانه منها: |
|
3 ـ المواساة للناس:
|
|
وواسى
الإمام الجواد (عليه السلام) الناس في البأساء والضرّاء، فقد ذكروا: أنه قد جرت
على إبراهيم بن محمّد الهمداني مظلمة من قِبل الوالي، فكتب إلى الإمام
الجواد(عليه السلام) يخبره بما جرى عليه، فتألّم الإمام وأجابه بهذه الرسالة: (عجّل الله نصرتك على من ظلمك، وكفاك مؤنته، وابشر بنصر
الله عاجلاً إن شاء الله، وبالآخرة آجلاً، وأكثر من حمد الله..)( بحار الأنوار: 12 /
126.). ومن مواساته للناس: تعازيه للمنكوبين والمفجوعين، فقد
بعث رسالة إلى رجل قد فجع بفقد ولده، وقد جاء فيها بعد البسملة: (ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك،
وكذلك الله عَزَّ وجَلَّ إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله، ليعظم به
أجر المصاب بالمصيبة، فأعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وربط على قلبك، إنّه قدير،
وعجّل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله...)( وسائل الشيعة: 2 / 874.). وأعربت
هذه الرسالة الرقيقة عن مدى تعاطف الإمام مع الناس، ومواساته لهم في البأساء
والضرّاء. |
|
الباب الثاني:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: نشأة الإمام محمّد
الجواد (عليه السلام)
|
|
1 ـ نسبه: الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
من الأسرة النبوية وهي أجلّ وأسمى الأسر التي عرفتها البشرية، فهو ابن الإمام
علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد
الباقر ابن الإمام علي السجاد ابن الإمام الحسين سبط رسول الله (ص) وابن الإمام
علي بن أبي طالب (ع). |
|
الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام
محمد الجواد(عليه السلام)
|
|
ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (195 هـ) أي في السنة التي بويع
فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضا (ع) حوالي
سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد
لأبيه الرضا (عليه السلام) وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن
أبيه (عليه السلام) في اغتيال المأمون للرضا (عليه السلام) . وبقي
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) بعد حادث استشهاد أبيه (عليه السلام) في منعة
من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضا(عليه السلام) وبقي عند الناس متّهماً
بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في
القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيت (عليهم السلام)
وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية
والاجتماعية. إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث
مراحل: القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة
الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً. والقسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى
شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة. وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين: المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي
المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة
، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة. وهكذا تتلخص مراحل حياته (عليه السلام) كما يلي: المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه
الرضا(عليه السلام) حيث ولد سنة (195 هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ
واستشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في صفر من سنة (203 هـ). المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم
المأمون من سنة (203 هـ) إلى سنة (218هـ). المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من
أيّام حكم المعتصم أي من سنة (218 ـ 220 هـ). |
|
الفصل الثالث: الإمام الجواد في
ظل أبيه (عليهما السلام)
|
|
قامت
الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل
البيت(عليهم السلام)، ثم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان سرّ
نجاحها في ربطها بأهل البيت(عليهم السلام)، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على
الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله). وقد كان الخلفاء من بني العباس
يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في
السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض
ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما
خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر
منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)( الحياة السياسية للإمام
الرضا (عليه السلام): 66.). |
|
سياسة العباسيين مع
الرعية:
|
|
لا
نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا
يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة. يا ليت جور
بني مروان دام لنا = وليت عدل
بني العباس في النا ر (الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 108.) إنّ
المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً
من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم
بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ
الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله
المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)،
بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(الحياة السياسية للإمام الرضا(ع): 108 ـ 109.). وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ
يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون
إن المنصور كان بخيلاً. |
|
الحالة السياسية في
هذه المرحلة:
|
|
لا
يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع
الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد. إن الفتنة بين محمد
الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في
هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر
عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين
ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل
منهما. |
|
محمّد الأمين: نزعاته
وسياسته
|
|
لم تكن في
الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع
المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب
الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما
يلي بعض صفاته: ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ
عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على
الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب (عيون التواريخ: 3، ورقة: 212.). وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن
تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين. 3 ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين
عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(سمط النجوم: 3 / 306.) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن
الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين
إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك
وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من
احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم،
ومراجعة لآمالهم. واستجاب
له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب
الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف
دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على
مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر. لقد كان الأمين إنساناً
تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة
الإسلامية. 4 ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي
الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد
الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل
العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة
من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون
بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه. |
|
الحروب الطاحنة:
|
|
وبعد
ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي
بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به
إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى
نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير،
وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى
الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً
انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش
الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل
وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس
علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على
المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى
طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد
سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء
على أخيه الأمين. وخفّت
جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام
الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع
سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال
وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن
سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(اتّجاهات الشعر العربي:
73.). وقد
زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن
قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية بالإضافة
إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح. |
|
قتل الأمين:
|
|
وكان
الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان
فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره
فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت
عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على
رمح وتلا قوله تعالى: (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)( عيون التواريخ: 3،
ورقة: 211 / حياة الإمام محمد الجواد: 193 ـ 197.). |
|
خلافة إبراهيم
الخليع:
|
|
سمّي
إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً
على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على
المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ
الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج
إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا
إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة
أصوات فتكون عطاءً لهم...)( حياة الإمام محمّد الجواد(عليه السلام): 198.). وزحف
المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من
كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد
ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه. |
|
ثورة أبي السرايا:
|
|
من
أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) ثورة أبي
السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار
الدعوة إلى (الرضا من آل محمّد (عليه السلام)) الذين كانوا هم الأمل الكبير
للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب
لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته
الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع بمهارته أن يجلب
الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا
أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ
المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في
مهدها، فقد جلب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية
العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى
جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين
على جميع صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة
واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة (راجع حياة الإمام محمد
الجواد (عليه السلام): 198 ـ 199.) |
|
عبد الله المأمون:
نزعاته وسياسته
|
|
عبد
الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد
الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (170 هـ) وبويع له بمرو فتوجه
إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. من أبرز نزعات المأمون وصفاته: 1 ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى
من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً
من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على
كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه،
فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل
الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية
مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية
حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّد
(صلى الله عليه وآله) فحمل الإمام الرضا(ع) إلى خراسان،
وكان(ع) زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى
جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على
الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا
حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام(ع) على ولاية العهد، وقضى بذلك
على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي
عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ. لعبه بالشطرنج: أرض مربّعة حمراء من أدم = ما بين ألفين موصوفين بالكرم (المستطرف: 2 / 306.) وألمّ
هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه،
وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً
في بعض متاحف فرنسا. ولعبه بالموسيقى: |
|
تظاهره بالتشيّع:
|
|
لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ;
لأنّه قام بما يلي: وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات
التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمام (ع)، والحطّ من
شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه. |
|
وقفة عند سلوك
المأمون ونزعاته:
|
|
كانت
حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه
الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم. |
|
التحدّيات التي واجهت
حكم المأمون وموقفه منها
|
|
لقد
جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في
السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء. وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي: |
|
العلاقة بين الإمام
الرضا (عليه السلام) والمأمون
|
|
وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة
الرضا(عليه السلام) إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة
السابقون على الإمام الرضا(عليه السلام) مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول
فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد والإيحاء
بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيت (عليهم السلام). ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية: |
|
أ ـ حالة الأمة بلحاظ
القيادة الشرعية:
|
|
يبدو أن الأمة كانت تؤيّد
قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وتعتقد بها ولكن ضمن ثلاثة مستويات، هي: |
|
ب ـ تحرك المأمون على
واقع المستويات الثلاثة:
|
|
انتهج المأمون سياسة المراحل في احتواء المستويات الثلاثة وإجهاضها
بحنكة ودهاء وبالشكل التالي: وقد
كان الإمام (عليه السلام) مرغَماً على قبول ولاية العهد ، أي أنه لم يكن له
الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة. فعن
الريان بن الصلت أنه قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا
ابن رسول الله، إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا
؟ فقال (عليه السلام): (قد علم الله كراهتي لذلك
فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا
أن يوسف(عليه السلام) كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن
العزيز قال له: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ودفعتني
الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت
في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)( الحياة السياسية للإمام
الرضا (عليه السلام): 141.). وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (إن المأمون
قال للرضا علي بن موسى (عليه السلام) يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك
وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة منّي، فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو
النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في
الدنيا أرجو الرفعة عند الله عَزَّ وجَلَّ. فقال له المأمون:
فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا (ع): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع
لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل
لي ما ليس لك. فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا
الأمر، فقال: (لست أفعل ذلك طائعاً أبداً).
فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم
تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضا (عليه
السلام): والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير
المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً
بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى
جنب هارون الرشيد. فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي
يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضا (عليه السلام): أما أني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت. فقال
المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر
عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عَزَّ وجَلَّ وما زهدت في
الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أريد ؟ قال: الأمان على الصدق ؟ قال: لك الأمان. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في
الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟ فغضب
المأمون ثم قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله أُقسم
لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. فقال
الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن
أُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك
على أنّي لا أُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة، وأكون في
الأمر من بعيد مشيراً. فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد على كراهة منه (عليه
السلام) لذلك)(
الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 141.). |
|
ج ـ مع المؤمنين
الواعين
|
|
كان المأمون حذراً من الإمام الرضا
(عليه السلام) يتحيّن الفرص لاغتياله، وقد فعل ذلك في أول فرصة مناسبة فأوعز
لعملائه باغتياله، وذلك بعد نحو عامين من ولاية العهد. ففي أول شهر رمضان سنة
إحدى ومئتين كانت البيعة للرضا صلوات الله عليه(الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 141.) وقبض الرضا (عليه السلام) بطوس من أرض خراسان في
صفر سنة ثلاث ومئتين وله يومئذ خمس وخمسون سنة..( الحياة السياسية للإمام الرضا(عليه السلام): 66.). |
|
طبيعة حكم المأمون
|
|
لقد
شخّص السيد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب(ع)، طبيعة حكم المأمون وأساليبه برسالة تسلط مزيداً من الأضواء على العلاقة
بين هذا الحاكم وبين الإمام الجواد (عليه السلام)، فقد كان تشخيص هذا السيد
دقيقاً وعميقاً، فقد كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه
الأمان ويضمن له أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ما ظننت أن
أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه. وصل
كتابك وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد
لسفك دمي، وعجبت من بَذْلِك العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما
فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي قد غرتك
حلاوته ؟! فوالله لأَنْ أُقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي
أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسموم
الذي قتلت به الرضا ؟ أم ظننت أن الاستتار قد أمّلني وضاق به صدري؟ فوالله إني
لذلك. ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى
تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي، وليتك
قدرتَ عليَّ من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عَزَّ وجَلَّ بدمي،
ولقيتُه قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا. واعلم
أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عَزَّ وجَلَّ عنّي وفي عمل
أتقرب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه
الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه
من الشهادة في طلب مرضاته. ثم
تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ وعلا يقول: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام، وأقرب
من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس
في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت
بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت المال من غير حِلِّه فأنفقته في غير محله، وشربت
الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين وأعطيته المغنين، ومنعته من
حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك،
وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني الدهر، ويعينني
الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه منّي، وإن يمهلك ويؤخرك
ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الأيام قبل ذلك،فحسبي من سعيي ما
يعلمه الله عَزَّ وجَلَّ من نيتي، والسلام)( نظرية الإمامة: 381، نقلاً عن الحياة السياسية للإمام
الرضا(عليه السلام): 465.). |
|
استشهاد الرضا(عليه
السلام) والنصّ على إمامة الجواد(عليه السلام)
|
|
لقد
رسّخ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إمامة ابنه الجواد(عليه السلام)
كما قام بذلك الأئمة (عليهم السلام) الذين سبقوه حيث نوهوا باسم من يأتي من
بعدهم من أئمة، وفي هذا المجال سنعرض المواقف التي ثبّت
بها الإمام الرضا (عليه السلام) إمامة الجواد (عليه السلام) ودعا شيعته للاعتصام
بها، ومن ذلك: |
|
الإمام الجواد (عليه
السلام) عند استشهاد أبيه
|
|
عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (بينا أنا
واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي: (ياأبا الصلت، أدخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون وآتني
بتراب من أربعة جوانبها). قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال
لي: (ناولني (من)
هذا التراب)، ـ وهو من عند الباب ـ فناولته
فأخذه وشمّه ثم رمى به، ثمّ قال: (سيحفر لي (قبر) ههنا، فتظهر صخرة لو
جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها)، ثمّ قال في الذي عند
الرّجل والّذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: (ناولني
هذا التراب فهو من تربتي). ثمّ قال (عليه السلام): (ياأبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن خرجت (وأنا) مكشوف الرأس،
فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني). |
|
الباب الثالث:
|
|
وفيه فصول: |
|
الفصل الأول: ملامح عصر الإمام
الجواد (عليه السلام)
|
|
كان
عصر الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) من أزهى العصور الإسلامية وأروعها، من
حيث تميّزه في نهضته العلمية وحضارته الفكرية، وقد ظل المسلمون وغيرهم أجيالاً
وقروناً يقتاتون من موائد الثروات الفكرية والعلمية التي أسست في ذلك العصر. |
|
1 ـ الحياة الثقافية:
|
|
تعتبر
الحياة الثقافية في ذلك العصر من أبرز معالم الحياة في العصور الإسلامية على
الإطلاق، فقد ازدهرت الحركة الثقافية، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً، وتأسّست
المعاهد الدراسية، وشاعت الحلقات العلمية، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم،
يقول نيكلسون: وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها
أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس
جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على
الأقل أنصاراً للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات
سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى
جموع التلاميذ المتلهّفين، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات
التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم
الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل(تاريخ الإسلام: 2 / 322 للدكتور حسن إبراهيم حسن.). ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية. المراكز الثقافية: أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فهي: 2 ـ الكوفة: وتأتي الكوفة بعد المدينة في
الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الإسلامية، فقد انتشرت
فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الإسلامية من الفقه
والتفسير والحديث وغيرها. 4 ـ بغداد: حيث ازدهرت بالحركات العلمية
والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من
العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الإسلامية، وإنّما شملت
جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد أصبحت أعظم حاضرة
علمية في ذلك العصر، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا.
يقول غوستاف لوبون: (كان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل من
يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في
الدنيا)، قال أبو الفرج عن المأمون: (إنّه كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم،
ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من
عباده(حضارة العرب:
218.). |
|
العلوم السائدة:
|
|
وكانت العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها، هي:
|
|
1 ـ علوم القرآن:
|
|
أ ـ علم القراءات: ويُعنى هذا العلم بالبحث عن قراءة
القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ، ومن
أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة (145 هـ) وحمزة بن
حبيب الزيات المتوفّى سنة (156 هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفّى سنة (213
هـ) وخلف بن هشام البزاز المتوفّى سنة (229 هـ)( المعارف: 230 ـ 231، الفهرست: 42 ـ 45.). ب ـ التفسير: ويُراد به إيضاح الكتاب العزيز
وبيان معناه، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره اتجاهين: الأوّل: التفسير بالمأثور، ونعني به
تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهُدى(ع) وهذا ما
سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي والعسكري والبرهان؛ وحجّتهم في ذلك أنّ
أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه،
وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله: (ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه
غير الأوصياء)( التبيان: 1 / 4.)
وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن، يقول الشيخ الطوسي:
(إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله)
وعن الأئمّة الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه وآله))( حياة الإمام محمّد
الباقر: 1 / 181.). |
|
2 ـ علم الحديث:
|
|
ونعني
به ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أحد أوصيائه الأئمّة
الطاهرين، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة. وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث، فقد حثّ
الأئمّة الطاهرون أصحابهم على ذلك، حيث روى أبو بصير فقال: دخلت على أبي عبد
الله (عليه السلام) فقال: (ما يمنعكم من الكتابة،
إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء
فكتبوها) وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جمع
الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة، وهي الجوامع الأولى للإمامية والتي تعدّ
الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة
(مقدّمة المقنع والهداية: 10.). |
|
|
|
3 ـ الفقه:
|
|
ومن
أبرز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم
الفقه الذي يتكفل بيان التكاليف اللازمة على المكلّفين وما هم مسؤولون عنه عند
الله ومطالبون بامتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة
علم الفقه أكثر من سائر العلوم، وقد قام أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بدور
فعّال في إنشاء مدرستهم الفقهيّة التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال :
زرارة ومحمّد بن مسلم وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء، وقد
دوّنوا ما سمعوه من الأئمّة الطاهرين في أصولهم التي بلغت زهاء أربعمئة أصل، ثمّ
هذّبت، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم
للأحكام الشرعية. ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على
الشيعة، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية. |
|
4 ـ علم أصول الفقه:
|
|
وأسّس
هذا العلم الإمام أبو جعفر محمّد الباقر(عليه السلام)، وهذا العلم ممّا يتوقّف
عليه الاجتهاد والاستنباط، وكان موضع دراسة في ذلك العصر. |
|
5 ـ علم النحو:
|
|
وهو
من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي، فقد كانت بحوثه موضع جدل،
وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء
هذا الفنّ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم
الكسائي والفراء وسيبويه، وقد أسّس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام) رائد العلم والحكمة في الأرض. |
|
6 ـ علم الكلام:
|
|
ويقصد
به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلميّة، وقد تأسّس هذا الفنّ على
أيدي الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) وتخصّص فيه جماعة من تلاميذهم، يعدّ في
طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة: واصل
بن عطاء وأبو الهذيل العلاّف وأبو الحسن الأشعري والغزالي. |
|
7 ـ علم الطب:
|
|
وقد
شجّع ملوك بني العبّاس على دراسة الطب، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة
للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني. |
|
8 ـ علم الكيمياء: 9 ـ علم الهندسة
المعمارية والمدنية. 10 ـ علم الفلك.
|
|
وقد
تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي، وقد تلقّى معلوماته في هذا المجال
من الإمام جعفر الصادق العقلية المفكّرة الفريدة في العالم الإنساني والمؤسس
لهذا العلم. |
|
ترجمة الكتب:
|
|
وكان
من مظاهر الحياة الثقافية في ذلك العصر الإقبال على ترجمة الكتب إلى اللغة العربية،
وقد تناولت كتب الطب، والرياضة، والفلك، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة، ذكر
أسماء كثير منها ابن النديم في الفهرست، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن إسحاق،
وقد روى ابن النديم: أنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر
عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ من يختار من العلوم القديمة
المخزونة، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك
جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق ومسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا
ممّا وجدوا، فلمّا حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..( الفهرست: 339.). |
|
المعاهد والمكتبات:
|
|
وأنشأت
الحكومة في هذا العصر الكثير من المدارس والمعاهد في بغداد لتدريس العلوم
الإسلامية وغيرها، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة، وما فيها من مدرسة إلاّ
ويقصر القصر البديع عنها. كما
أسست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة، فقد نقل إليها
الرشيد مكتبته الخاصة، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي،
وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية، فلمّا وصلت
إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب،
وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في
العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على
بغداد سنة (656 هـ) عمدوا إلى إتلافها، وبذلك خسر العالم الإسلامي أعظم تراث
علمي له (تاريخ
الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: 4/160 ـ 162.). |
|
الخرائط والمراصد:
|
|
أمر
المأمون بوضع خريطة للعالم سُمّيت (الصورة المأمونية) وهي أوّل خريطة صُنعت
للعالم في العصر العباسي، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فأنشي بالشماسية وهي إحدى
محلاّت بغداد(عصر
المأمون: 1 / 375.). في
هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) الرائد الأعلى
للحركة الثقافية، فقد التفّ حوله العلماء أثناء إقامته في بغداد وهم ينهلون من نمير
علومه، وقد سألوه عن أدقّ المسائل الفلسفية والكلامية فكان يجيبهم عليها ويتحدّى
الزمن مما منّ الله به عليه من معارف وعلوم (راجع: حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 179 ـ 188.). |
|
2 ـ الحياة السياسية:
|
|
لقد
كانت الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفر(عليه السلام) سيئة وكانت الظروف
حرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت كذلك لعموم المسلمين وذلك لما وقع فيها
من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات، وقبل أن
نتحدّث عنها نرى من اللازم أن نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا
يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك: منهج
الحكم: فقد كان على غرار الحكم الأموي، في الأهداف والأساليب وقد وصفه (نكلسون)
بأنّه نظام استبدادي، وأنّ العباسيين حكموا البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي
كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم (اتّجاهات الشعر العربي: 49.). لقد
كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم، ولم يكن له أي التقاء مع
معايير الدين الإسلامي، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا
قنّنه الإسلام في هذه المجالات. واستبدّ
ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة
والرأفة، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة والقوانين الهادفة
إلى بسط العدل، ونشر المساواة والحق بين الناس. الخلافة
والوراثة: لم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصلية لقانون الوراثة ولا لأي
لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعصبيات، فقد حارب الإسلام
جميع هذه المظاهر واعتبرها من عوامل الانحطاط والتأخر الفكري والاجتماعي، وأناط
الخلافة بالقيم الكريمة، والمُثل العُليا، والقدرة على إدارة شؤون الأمة، فمن
يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمة وسعادتها. وأمّا
الشيعة فقد خصَّصت الخلافة بالأئمّة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام) لا
لقرابتهم من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وكونهم ألصق الناس به وأقربهم
إليه، وإنّما لمواهبهم الربّانية، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها
أحد غيرهم فضلاً عن النصّ عليهم، بما لا يدع مجالاً للاختيار. وأمّا
الذين تمسكوا بعنصر الوراثة فهم العباسيّون، على غرار الأمويين فاعتبروها
القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة بحجة أنّهم أبناء عم الرسول(صلى الله عليه
وآله) وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس. وقد
هبّت إلى تأييد ودعم الوسط العباسي الأوساط المرتزقة من خلال انتقاص العلويين
فتتقرب إليهم بذلك وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس أولى بالنبي(صلى الله عليه وآله)
من السادة الأطهار من آل الرسول(صلى الله عليه وآله)( راجع حياة الإمام محمّد الجواد: 190 بتصرف بسيط.). 1
ـ إسناد الخلافة إلى من لم يبلغ الرشد، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه
الأمين، وكان له من العمر خمس سنين، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشرة سنة،
من دون أن يكونا قد حازا العلم والحكمة والحنكة الإدارية والسياسية، حتى كان
يسيّرهما مَن سواهما من أصحاب البلاط. علماً
بأن الإمامة والخلافة للرسول(صلى الله عليه وآله) منصب ربّاني وعهد إلهي لا
يرتقي إليه إلاّ من اعتدلت فطرته وسلمت سيرته من الخطل والخطأ والانحراف في كل
مجالات حياته، ليكون قادراً على قيادة الأمة إلى طرق الرشاد. وهكذا
انحرف العبّاسيون بذلك عمّا قرّره الإسلام من أن منصب الخلافة إنّما يُسند إلى
من يتمتع بالحكمة والصيانة والمعرفة بالشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما
تحتاج إليه الأمة في جميع شؤونها. 2
ـ إسناد ولاية العهد إلى أكثر من واحد فانّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمة وتصديعاً
لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون،
وقد ألقى الصراع بينهما، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادّة، والفتن الخطيرة،
وسنعرض لها في البحوث الآتية. الوزارة: من الأجهزة الحساسة في الدولة
العباسية هي الوزارة، فكانت ـ على الأكثر ـ وزارة تفويض، فكان الخليفة يعهد إلى
الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون، فقد استوزر
المهدي العباسي يعقوب بن داود، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته. واستوزر
الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته
فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك. وتصرّف
يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته، فقد أنفق الأموال الطائلة على
الشعراء المادحين له، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت تدرّ عليه
بالملايين، الكثير الكثير وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله، وقتل ابنه
جعفر ومصادرة جميع أموالهم. وفي
عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها كيفما شاء،
وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات، وقد عانت الأمة
من ضروب المحن والبلاء في عهدهم مما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب، فقد
استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون. وكان
الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور، وقد نصح
دعبل الخزاعي الفضلَ بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف
والإحسان إلى الناس، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه
إلى كرسي الحكم، وهم الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل، فإنهم
لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط. ومن
غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي
ولّى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحد رشوة (تاريخ التمدّن الإسلامي:
4 / 182.) إلى غير ذلك من هذه
الفضائح والمنكرات الكثيرة عند بعض وزراء العباسيين(راجع حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 188 ـ 192.). اضطهاد العلويّين: اضطهدت أكثر الحكومات العبّاسيّة
رسمياً العلويّين، وقابلتهم بمنتهى القسوة والشدّة، وقد رأوا من العذاب ما لم
يروه في العهد الأموي وأوّل من فتح باب الشر والتنكيل بهم الطاغية فرعون هذه
الأمة المنصور الدوانيقي (تاريخ الخلفاء للسيوطي: 261.)
وهو القائل: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن
محمّد)( الأدب في
ظلّ التشيّع: 68.) ، وهو صاحب خزانة
رؤوس العلويّين التي تركها لابنه المهدي تثبيتاً لملكه وسلطانه وقد ضمّت تلك
الخزانة رؤوس الأطفال والشباب والشيوخ من العلويّين (تاريخ الطبري 10 / 446.)
!! ، وهو الذي وضع أعلام العلويّين وأعيانهم في سجونه الرهيبة حتى قتلتهم
الروائح الكريهة وردم على بعضهم السجون حتى توفّوا دفناً تحت أطنان الأتربة
والأحجار!! أمّا موسى الهادي فقد زاد على سلفه المنصور، وهو
صاحب واقعة فخ التي لا تقل في مشاهدها الحزينة عن واقعة كربلاء، وقد ارتكب فيها
هذا السفاك من الجرائم ما لم يُشاهد مثله، فقد أوعز بقتل الأطفال وإعدام الأسرى،
وظلّ يطارد العلويّين، ويلحّ في طلبهم فمن ظفر به قتله، ولكن لم تطل أيام هذا
الجلاّد حتى قصم الله ظهره. ولما آلت الخلافة إلى المأمون رفع عنهم
المراقبة، وأجرى لهم الأرزاق وشملهم برعايته وعنايته، ولكن لم يدم ذلك طويلاً إذ
انّه بعد ما اغتال الإمام الرضا (عليه السلام) بالسمّ، أخذ في مطاردة العلويّين
والتنكيل بهم كما فعل معهم أسلافه. وعلى أيّة حال فإنّ من أعظم المشاكل السياسية
التي أُمتحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً هي التنكيل بعترة النبيّ (صلى الله
عليه وآله) وذرّيته وقتلهم بيد الزمرة العبّاسية الغاشمة والتي فاقت في قسوتها
وشرورها أعمال بني أمية، حتى انتهى الأمر بأبناء النبيّ العظيم(صلى الله عليه
وآله) أنّهم كانوا يتضورون جوعاً وسغباً، سوى المآسي الأخرى التي حلّت بهم، وكان
من الطبيعي أن تؤلم هذه الحالة قلب الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام)،
وتصيبه بالأسى والحزن (الحدائق الوردية: 2 / 220.). مشكلة خلق القرآن: لعلّ من أعقد المشاكل السياسية
التي اُبتلي بها المسلمون في ذلك العصر هي محنة خلق القرآن التي أوجدت الفتن
والخطوب في البلاد. فقد أظهر المأمون هذه المسألة في سنة (212 هـ).
واُمتحن بها العلماء امتحاناً شديداً، وأرهقوا إلى حدّ بعيد فمن لا يقول بمقالة
المأمون سجَنه أو نفاه أو قتله وقد حمل الناس على ما يذهب إليه بالقوّة والقهر. |
|
3 ـ الحياة الاقتصادية:
|
|
اهتم
الإسلام بالحالة الاقتصادية وازدهارها، واعتبر الفقر كارثة مدمّرة يجب القضاء
عليه بكافة الطرق والوسائل، وألزم ولاة الأمور والمسؤولين أن يعملوا جاهدين على
تنمية الاقتصاد العام، وزيادة دخل الفرد، وبسط الرخاء والرفاهية بين الناس ليسلم
المسلمون من الشذوذ والانحراف الذي هو ـ على الأكثر ـ وليد الفقر والحرمان، وكان
من بين ما عنى به أنّه حرّم على ولاة الأمور إنفاق أموال الدولة في غير صالح
المسلمين، ومنعهم أن يصطفوا منها لأنفسهم وأقربائهم، ومن يمتّ إليهم، ولكن ملوك
بني العبّاس تجاهلوا ما أمر به الإسلام في هذا المجال فاتّخذوا مال الله دولاً
وعباد الله خولاً، وأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملاذهم من دون تحرج!!،
وقد أدّت هذه السياسة المنحرفة إلى أزمات حادّة في الاقتصاد العام، حيث انقسم
المجتمع إلى طبقتين: الأولى وهي الطبقة الراقية في الثراء التي لا عمل لها إلاّ
اللهو واللعب، والأخرى الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض، وتعمل في الصناعة، وتشقى
في سبيل أولئك السادة ولا تحصل بجهدها إلاّ على ما يسدّ رمقها، وترتّب على فقدان
التوازن في الحياة الاقتصادية انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية
على السواء (الإدارة
الإسلامية في عزّ العرب: 82.) وفيما
يلي نتحدث ـ بإيجاز ـ عن الحياة الاقتصادية في ذلك العصر: واردات الدولة: كانت واردات الدولة الإسلامية في
العصر العبّاسي الذي عاش فيه الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) ضخمة للغاية،
فقد أحصى ابن خلدون الخراج في عهد المأمون فكان مجموعه ما يزيد على (400) مليون
درهم (المقدّمة:
179 ـ 180.)، وقد بلغ من كثرة المال
ووفرته أنّه كان لا يُعدّ، وإنّما كان يوزن، فكانوا يقولون: إنّه بلغ ستة أو
سبعة آلاف قنطار من الذهب (المقدّمة: 179 ـ 180.)،
وقد حسب عامل المعتصم على الروم خراجها فكان أقلّ من ثلاثة آلاف ألف، فكتب إليه
المعتصم يعاتبه، وممّا جاء في عتابه: (إنّ أخسّ ناحية عليها أخس عبيدي خراجها
أكثر من خراج أرضك)( أحسن التقاسيم للمقدسي: 64 (طبع ليدن).).
ومن المؤسف أنّ هذه الأموال الوفيرة لم تنفق على تحسين أوضاع المسلمين وتطوير
حياتهم، وإنّما كان الكثير منها يصرف على الشهوات والملذّات، وقد عكست تلك
الإنفاقات الهائلة ترف بغداد في ذلك العصر ذلك الترف الذي تحكيه قصص (ألف ليلة
وليلة) التي مثّلت حياة اللهو في ذلك العصر. التهالك على جمع المال: وتهالك الناس
في ذلك العصر على جمع المال بكلّ وسيلة كانت، مشروعة أم غير مشروعة، فقد أصبح
المال هو المقياس في قيم الرجال، وأخذ يتردّد في الأمثلة الجارية في بغداد
(المال مال، وما سواه محال) وتوسّل
الناس إلى جمعه بكلّ طريق لا يعفون عن محرم، ولا يتورّعون عن خبيث، وأصبح الخداع
والغشّ هو الوسيلة في جمعه (مقدّمة البخلاء: 24.). تضخّم الثروات: وتضخّمت الثروات الهائلة عند بعض
الناس خصوصاً في بغداد عاصمة العالم الإسلامي آنذاك، فقد وجدت فيها طبقة
رأسمالية كانت تملك الملايين، وكذلك البصرة فقد ضمّت طبقة كبيرة من أهل الثراء
العريض وكانت البصرة ثغر العراق والمركز التجاري الخطير الذي يصل بين الشرق
والغرب، وتستقبل متاجر الهند، وجزر البحار الشرقية، ومن أجل ذلك سمّيت البصرة
أرض الهند وأم العراق (مقدّمة البخلاء: 24.). نفقات المأمون في زواجه: وكان من مظاهر
ذلك الإسراف والبذخ والتصرف الظالم في أموال المسلمين ما أنفقه المأمون من
الأموال الطائلة المذهلة في زواجه بالسيّدة بوران فقد أمهرها ألف ألف دينار،
وشرط عليه أبوها الحسن بن سهل أن يبني بها في قريته الواقعة بفم الصلح فأجابه
إلى ذلك، ولمّا أراد الزواج سافر إلى فم الصلح ونثر على العسكر الذي كان معه ألف
ألف دينار وكان معه في سفره ثلاثون ألفاً من الغلمان الصغار والخدم الصغار
والكبار وسبعة آلاف جارية... وعرض العسكر الذي كان معه فكان أربعمئة ألف فارس،
وثلاثمئة ألف راجل.. وكان الحسن بن سهل يذبح لضيوفه ثلاثين ألف رأس من الغنم،
ومثليها من الدجاج، وأربعمئة بقرة، وأربعمئة جمل وسمّى الناس هذه الدعوة (دعوة
الإسلام) وهو ليس من الإسلام في شيء، فإنّ الإسلام احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط
في بيت مال المسلمين فحرم إنفاق أي شيء في غير صالحهم. وحينما بنى المأمون ببوران نثروا من سطح دار الحسن بن سهل بنادق عنبر
فاستخفّ بها الناس، وزهدوا فيها، ونادى شخص من السطح قائلاً:
كلّ من وقعت بيده بندقة فليكسرها فإنّه يجد فيها رقعة، وما فيها له وكسر الناس
البنادق فوجدوا فيها رقاعاً في بعضها تحويل بألف دينار وفي أخرى خمسمئة دينار
إلى أن تصل إلى المئة دينار، وفي بعضها عشرة أثواب من الديباج، وفي بعضها خمسة
أثواب، وفي بعضها غلام، وفي بعضها جارية، وحمل كلّ من وقعت بيده رقعة إلى
الديوان واستلم ما فيها (تاريخ الطبري: 7 / 149، وابن الأثير: 4 / 206.) كما أنفق على قادة الجيش فقط خمسين ألف ألف درهم (تزيين الأسواق للأنطاكي
3 / 117.). هبات وعطايا: ووهب ملوك بني العبّاس أموال
المسلمين بسخاء إلى المغنّين والمغنّيات والخدم والعملاء، فقد غنّى إبراهيم بن
المهدي العبّاسي محمّد الأمين صوتاً فأعطاه ثلاثمئة ألف ألف درهم فاستكثرها
إبراهيم، وقال له: يا سيّدي لو قد أمرت لي بعشرين ألف ألف درهم فقال له الخليفة:
هل هي إلاّ خراج بعض الكور (الإسلام والحضارة العربية 2 / 231.)، وغنّى ابن محرز عند الرشيد بأبيات مطلعها :
(واذكر أيام الحمى ثمّ انثن) فاستخفّ به الطرب فأمر له بمئة ألف درهم، وأعطى مثل
ذلك للمغنّي دحمان الأشقر (المستطرف: 182 ـ 184.)
ولمّا تقلّد المهدي العبّاسي الخلافة وزّع محتويات إحدى خزانات بيت المال بين
مواليه وخدمه (تاريخ
بغداد: 5 / 393.) إلى غير ذلك من
الهبات والهدايا التي كانت من الخزينة المركزية التي كان ملزماً شرعاً بإنفاقها
على المشاريع الحيوية التي تزدهر بها البلاد. اقتناء الجواري: وبدل أن يتّجه ملوك بني العبّاس
إلى إصلاح البلاد وتنميتها الاقتصادية فقد اتّجهوا بنهم وجشع إلى اقتناء
الجواري، والمغالاة في شرائها، فقد جلبت إلى بغداد الجواري الملاح من جميع أطراف
الدنيا، فكان فيهنّ الحبشيات، والروميّات، والجرجيات، والشركسيات، والعربيات من
مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر من ذوات الألسنة العذبة، والجواب الحاضر،
وكان بينهنّ الغانيات اللاتي يعزفن مع ما عليهن من اللباس الفاخر وما يتّخذن من
العصائب التي ينظمنها بالدرّ والجواهر، ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهب (حضارة الإسلام: 98.) وقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية، وعند
المتوكّل أربعة آلاف جارية (الأغاني: 9 / 88.)
وقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن
مثل العساكر صفّين صفّين، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع
مقاصير القصر (حضارة
الإسلام في دار السلام: 96.) وكان
عند والدة جعفر البرمكي مئة وصيفة لباس كلّ واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الأخرى
وحليّها (الجهشياري:
246.) لقد كان اقتناء الجواري بهذه
الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في
كيفيّة صرف ما عندها من الأموال. التفنّن في البناء: وتفنّن ملوك بني العبّاس في بناء
قصورهم، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في البلاد وقد بنوا في بغداد
قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي وعد الله بها المتّقين، وكان من أعظم
الأبنية الإيوان الذي بناه الأمين، وقد وصفه المؤرّخون
بأنّه جعله كالبيضة بياضاً ثمّ ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد، وكان ذا
أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس
وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد نقش بتصاوير من الذهب، وتماثيل العقيان، ونضّد
فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد (طبقات الشعراء لابن المعتزّ: 209.) وقد أنفق جعفر البرمكي على بناء داره نحواً من
عشرين مليون درهم (تاريخ
الطبري: 10 / 92.). أثاث البيوت: وحفلت قصور العبّاسيّين بأنواع
الأثاث وأفخرها في العالم، ويقول المؤرّخون: إنّ السيّدة زبيدة قد اصطفت بساطاً
من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب،
وأعينها اليواقيت والجواهر يقال إنّها أنفقت على صنعه مليون دينار (حضارة الإسلام: 95،
نقلاً عن المستطرف: 96.)، كما اتّخذت
الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر، والآبنوس، والصندل عليها الكلاليب من الذهب
الملبّس بالوشي والديباج، والسمور، وأنواع الحرير، كمثل اتّخاذها شمع العنبر،
واصطناعها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية (حضارة الإسلام: 95.). أمّا مجالس البرامكة فكانت مذهلة،
فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة،
والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر، ويستقبلنه
بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي، خيّل إليه أنّه في الجنّة بين الجمال
والجوهر والطيب (حضارة
الإسلام: 96.). الثياب: وكان من نتائج بذخ العبّاسيّين
وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنّه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور
الطراز، وكان القائم عليها ينظر في أمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم (المقدّمة: 267.). ألوان الطعام: وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم
الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمّد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع
على المائدة ثلاثمئة لون من الطعام (تاريخ بغداد لطيفور: 36.)
ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها
بالذهب للعلاج (التنظيمات
الاجتماعية والاقتصادية لصالح أحمد: 177.). مخلّفات العبّاسيّين من الأموال: وخلّف ملوك
بني العبّاس ووزراؤهم من الأموال ما لا يحصى، وفيما يلي
بعض ما تركوه: 1
ـ ترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من
الأموال التي سرقها من المسلمين ما يقرب من ستمئة مليون درهم و أربعة عشر مليون
دينار(أمراء الشعر
العربي: 45.) وقد كدّس هذه الأموال
الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية. حياة اللهو والطرب: وعاش أكثر خلفاء بني العبّاس عيشة
اللهو والطرب والمجون، عيشة ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر، وقضوا أيامهم في
هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط. وقد روى أحمد بن صدقة قال: دخلت على
المأمون في يوم السعانين (يوم السعانين: عيد للنصارى.)
وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في
أعناقهنّ صلبان الذهب، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون. وكان
من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج، والعناية بتربية الحمام
والمغالاة في أثمانه (حياة الحيوان: 3 / 91.)
كما تهارشوا بالديوك والكلاب (الأغاني: 6 / 74 ـ 75.)
ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء (حياة الحيوان: 5 / 115.). ومن
المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا
بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن
المحدّث محمّد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم ; لأنّه كان من
المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور، وكان أبو نؤاس يزوره في الكوفة في بيت
خمّار يقال له جابر (الأوراق: 61.). التقشّف والزهد: وبجانب حياة اللهو والطرب التي
عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت هناك طائفة من الناس
قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار، فكان من
بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله وكان يردّد هذا البيت: اتّخذ الله صاحباً = ودع الناس جانبا وكان
يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص (حلية الأولياء: 7 / 367 ـ 373.) مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي
فكان يبكي وينشد في السحر: أي شيء تريد منّي الذنوب =
شغفت بي فليس عنّي تغيب (حلية الأولياء: 2 / 181.) وكان
من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل: قطع الليالي مع الأيام في خلق = والقوم تحت رواق الهمّ والقلق (صفة الصفوة: 2 / 189.) ومن
الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت كرد فعل لإفراط ملوك العبّاسيّين
والطبقة الرأسماليّة في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي
. وبهذا
ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد(ع)( راجع حياة الإمام محمد الجواد (ع): 206 ـ 216.). إلى هنا نكون قد وقفنا على ملامح هذا العصر وخصائصه الثقافية
والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوف نردفها
ببيان طبيعة علاقة حكّام عصر الإمام مع الإمام(عليه السلام) من جهة، ثم ندرس
متطلبات هذا العصر على ضوء هذه الملامح وعلى ضوء رسالة الإمام الجواد(عليه
السلام) في تلك الظروف التي أحاطت به آخذين بنظر الاعتبار مجمل أهداف
الإمام(عليه السلام) باعتباره أحد عناصر أهل بيت الرسالة الذين أوكلت إليهم مهمة
الحفاظ على الرسالة والأمة المسلمة لإيصالهما إلى شاطئ الأمن والسلام الذي نادى
به الإسلام ووعد به المؤمنين بل المسلمين فضلاً عن العالَمين. |
|
الفصل الثاني: الإمام الجواد
(عليه السلام) وحكّام عصره
|
|
1 ـ المأمون العبّاسي
|
|
استمرّ المأمون على منهجه السابق في
التظاهر بالإحسان لأهل البيت (عليهم السلام) وقد تظاهر بإكرام الإمام الجواد
(عليه السلام) فزوّجه ابنته وحاول التقرّب إليه كثيراً لكنه في الوقت ذاته كان
يكيد للإمام من خلال تحجيم دوره وتشديد الرقابة عليه، بالرغم من تظاهره بالولاء
لأهل البيت(عليهم السلام) والرعاية له بشكل خاص. وذلك لما عرفناه من موقف المأمون
من أبيه الرضا(عليه السلام) فيما سبق من بحوث، وبه نفسّر كل ما صدر من المأمون
تجاه الإمام الجواد(عليه السلام). |
|
تزويج المأمون ابنته
من الإمام الجواد (عليه السلام):
|
|
قال المؤرخون: (لمّا أراد المأمون أن يزوج ابنته
أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم،
واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرّضا (ع) فخاضوا في ذلك
واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه. فقالوا:
ننشدك الله ياأمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن
الرضا فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملّكناه الله عَزَّ وجَلَّ، وينزع منّا
عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما
كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا (ع) ما عملت فكفانا الله
المهم من ذلك. فالله الله إن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك
عن ابن الرضا واعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره. قالوا: قد رضينا لك ياأمير المؤمنين
ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه
الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة
سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم. فقال
أبو جعفر (عليه السلام): (قتله في حلّ أو في حرم،
عالماً كان المحرم أو جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً،
صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من
غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان
قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟) (الحمد لله إقراراً بالنعمة، ولا اله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيته
وصلَّى الله على محمد سيد بريّته، والأصفياء من عترته. أما
بعد فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). ثم
إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من
الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد(ع) وهو خمسمئة درهم جياداً فهل زوّجته ياأمير
المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟) قال
أبو جعفر (عليه السلام): (قد قبلت ذلك ورضيت به). فأمر
المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة. فقال المأمون: أحسنت ياأبا جعفر أحسن الله إليك
فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال
له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه،
فإن رأيت أن تفيدناه. فقال
أبو جعفر (عليه السلام): (هذه أمة لرجل من الناس، نظر
إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار
ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان
وقت العصر تزوّجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهَر منها فحرمت عليه، فلما
كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها
واحدة، فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له). |
|
حقيقة العلاقة بين
الإمام (عليه السلام) والمأمون
|
|
بعد استعراضنا لقضية زواج الإمام
(عليه السلام) من بنت المأمون وبيان ملابساتها وما دار خلالها من نقاش وسجال
وحوار، نسجل الملاحظات الآتية لبيان الثغرة في علاقة
المأمون العباسي بالإمام الجواد (ع). |
|
السبب في تزويج
المأمون ابنته للإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
انّ هذا الزواج إضافة لما سيحققه من
دعاية للمأمون تُظهر حبّه وولاءه لأهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ ثمة سبباً آخر
نرجّحه على غيره ونراه السبب الأساس وهو وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمام
(عليه السلام) يلازمه في بيته، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها إلى الجهة التي
زرعته وهكذا كانت أم الفضل ابنة المأمون العبّاسي مع الإمام الجواد (عليه
السلام). |
|
موقف العباسيين:
|
|
اتّسم موقف العباسيين بالحقد
والتعصب والسذاجة. فقد استاءوا مما تصوروه من تساهل المأمون مع الإمام (ع) فقد
كانت المظاهر تؤثر عليهم كثيراً، دون إدراكهم البعد العميق والحقيقي الذي كان
يقصده المأمون وقد استفاد المأمون من وضعهم هذا عندما راح يفنّد مزاعمهم فيظهر
وكأنه موال حقيقةً لأهل البيت (ع). |
|
موقف الإمام الجواد
(عليه السلام) من ابن الأكثم:
|
|
لقد تصدى الإمام (عليه السلام) للرد على ابن الأكثم وإظهار عجزه أمام
الناس للأسباب الآتية. ج ـ تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم
من خلال الإجابات على أسئلته. |
|
مدة إمامة
الجواد(عليه السلام) في عهد المأمون:
|
|
استلم الإمام الجواد (عليه السلام)
منصب الإمامة ونهض بأعباء قيادة الأمة سنة (203 هـ) بعد شهادة أبيه الإمام الرضا
(عليه السلام)، وكان المأمون قد تسنّم منبر الخلافة وقتذاك. وتوفي المأمون سنة
(218 هـ) بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طوس فدفن فيها(تاريخ الخلفاء: 333 ـ
334.). |
|
2 ـ المعتصم العباسي
|
|
المعتصم
هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد ولد سنة ثمانين ومئة، كذا قال الذهبي. وقال
الصولي: في شعبان سنة ثمان وسبعين. المعتصم والطليعة الإسلامية الواعية: على
خلفية الخلاف العقائدي الشديد بين أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم
المؤمنين من جهة والخلافة العباسية وأتباعها من جهة أخرى، استمر العداء بين
الخطين وإن اتخذ في كل فترة لوناً أو درجة من الشدة، ولم يكن المعتصم بمنفصل عن
سياسة أسلافه المعادين لأهل البيت(عليهم السلام) وحزبهم. لقد كاد للإسلام وخطه الصحيح فواجه معارضة شديدة من أهل البيت (عليه
السلام) وشيعتهم وسنتناول الانتفاضات التي انطلقت في عصره خلال فصل قادم.
|
|
الإمام الجواد (عليه
السلام) والمعتصم:
|
|
لم تكن المدة التي قضاها الإمام
الجواد (عليه السلام) في خلافة المعتصم طويلة فهي لم تتجاوز السنتين، كان ختامها
شهادة الإمام (عليه السلام) على يد النظام المنحرف، وفيما يلي استعراض للعلاقة
بين الإمام الجواد (عليه السلام) والمعتصم. |
|
أ ـ استقدام الإمام
(عليه السلام) إلى بغداد:
|
|
لقد
خشي المعتصم من بقاء الإمام الجواد (عليه السلام) بعيداً عنه في المدينة، لذلك
قرر استدعاءه إلى بغداد، حتى يكون على مقربة منه يحصي عليه أنفاسه ويراقب
حركاته، ولذلك جلبه من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين
ومائتين، وتوفي بها(عليه السلام) في ذي القعدة من هذه السنة (كشف الغمة: 2 / 361.). |
|
ب ـ اغتيال الإمام
الجواد (عليه السلام):
|
|
كان
وجود الإمام الجواد (عليه السلام) يمثل خطراً على النظام الحاكم لما كان يملكه
هذا الإمام من دور فاعل وقيادي للأمة، لذلك قررت السلطة أن تتخلّص منه مع عدم
استبعادها وجود العلاقة بين الإمام القائد والتحركات النهضوية في الأمة. فقد
روى المؤرخون عن زرقان صاحب ابن أبي دُوَاد قاضي المعتصم قوله: (رجع ابن أبي
دُوَاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم أني
قد مت منذ عشرين سنة، قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي
جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له: وكيف كان
ذلك ؟ قال: إن سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ
عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في أي
موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قلت:
لأن اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع(الكرسوع: كعصفور: طرف الزند الذي يلي الخنصر الناتئ عند
الرسغ.)، لقول الله في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) (المائدة (5): 5.) واتفق معي ذلك قوم. لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام) يتوقع استشهاده بعد هذا
الاستدعاء فقد روي عن إسماعيل بن مهران قوله:
(لمّا أُخرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من
خرجتيه قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من
الأمر بعدك ؟ قال: فكرّ بوجهه إليَّ فقال: (عند هذه
يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي)( الإرشاد: 2 / 298.). لقد درس المعتصم أكثر السبل التي يستطيع بها أن يصفي الإمام فاعليةً
وأقلَّها ضرراً، فلم يجد أفضل من أم الفضل بنت أخيه المأمون للقيام بهذه المهمّة
فهي التي تستطيع أن تقتله بصورة أكيدة دون أن تثير ضجة في الأمة، مستغلاً نقطتين
في شخصيتها، هما: 1 ـ كونها تنتمي للخط الحاكم انتماءً
حقيقياً، فهي بنت المأمون وعمّها المعتصم، وليست بالمستوى الإيماني الذي يجعلها
تنفك عن انتمائها النسبي هذا، لذلك كانت تخضع لتأثيراته وتنفذ ما يريده ضد
الإمام. ولقد كان أمر غيرتها شائعاً بين الناس لذلك قال المؤرخون:
(وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: إنه
يتسرى علي ويغيرني. فكتب إليها المأمون: يا بنيّة إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرّم
عليه حلالاً، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها)( كشف الغمة: 2 / 358.). ولم تخل هذه الفترة من الاعتداءات الظاهرية على الإمام (عليه السلام)
من أذناب السلطة، ومن ذلك ما فعله عمر بن فرج
الرخجي الرجل المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) والعامل عند السلطة العباسية. فمثلاً روى المؤرخون عن محمد بن سنان قوله: دخلت على
أبي الحسن الهادي(عليه السلام) فقال: (يا محمد حدث
بآل فرج حدث ؟) فقلت: مات عمر. فقال: (الحمد
لله على ذلك)، أحصيت أربعاً وعشرين مرة، ثم قال: (أو لا تدري ما قال ـ لعنه الله ـ لمحمد بن علي أبي؟) قال: قلت:
لا، قال: (خاطبه في
شيء، فقال: أظنّك سكران، فقال أبي: اللهمّ إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً فأذقه طعم الحرب وذلّ
الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حُرب ماله، وما كان له، ثم أُخذ أسيراً فهو ذا
مات)( بحار
الأنوار: 50/62 ـ 63.). |
|
استشهاد الإمام
الجواد (عليه السلام)
|
|
تحدثنا
عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) وعن اختياره أم الفضل
لتنفيذ الجريمة. ومما يشير إلى أسباب استغلال المعتصم لأُمّ الفضل وكيفية
تحريضها على الإقدام على قتل الإمام (عليه السلام) ما روي من شدة غيرتها أيام
أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه. (حياة الإمام محمد الجواد
(عليه السلام): 264.) قال
أبو نصر الهمداني: (حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بنجعفر عمّة أبي
محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) قالت: لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضا (عليه
السلام) أتيت زوجته أم عيسى(أم عيسى هي كنية أخرى لأُم الفضل، واسمها زينب، كما في بعض
النصوص.) بنت المأمون فعزّيتها
فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل، فخفت عليها أن
تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما أعطاه الله تعالى من
الشّرف والإخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة، إذ قالت أم عيسى: ألا أخبرك عنه
بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت: وما ذاك ؟ قالت: كنت أغار عليه
كثيراً وأراقبه أبداً وربما يسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول يابنيّة
احتمليه فإنّه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبينما أنا جالسة ذات
يوم إذ دخلت عليّ جارية فسلّمت، فقلت: من أنت ؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمّار
بن ياسر وأنا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) زوجك. فدخلني من
الغيرة ما لا أقدر على احتمال ذلك هممت أن أخرج وأسيح في البلاد وكاد الشيطان أن
يحملني على الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها، فلمّا خرجت من عندي
المرأة نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل. فقال: ياغلام
عليّ بالسّيف، فأتى به، فركب وقال: والله لأقتلنّه ، فلمّا رأيت ذلك قلت: إنا
لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه
والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه. فقال(عليه
السلام): (ياياسر هكذا كان العهد بيننا وبينه حتّى
يهجم علي، أما علم أن لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه). فقلت: ياسيّدي
، ياابن رسول الله ، دع عنك هذا العتاب واصفح، والله وحق جدّك رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ما كان يعقل شيئاً من أمره وما علم أين هو من أرض الله وقد نذر
لله نذراً صادقاً وحلف إن لا يسكر بعد ذلك أبداً، فإن ذلك من حبائل الشّيطان،
فإذا أنت ياابن رسول الله أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه. وروي
أنه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها غزا أهل
الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء الله ولم يفارق هذا
الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عَزَّ وجَلَّ بفضله ويرزقه الفتح
بمشيّته أنَّه وليّ ذلك بحوله وقوته) (بحار الأنوار: 50 / 62 ـ 63.). ويقول المؤرخون إن أم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام الجواد (عليه
السلام) عندما سقته السمّ. فقد روي: (أنّ المعتصم جعل يعمل
الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه
لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه... فأجابته
إلى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت
تبكي فقال: (ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا
ينجبر، وبلاء لا ينستر)، فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، صارت
ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة، حتى احتاجت إلى الاسترفاد)( بحار الأنوار: 50 / 17.). وأثّر
السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله
تعالى، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة المعصومة في
الإسلام. لقد
استشهد الإمام الجواد (عليه السلام) على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت
بموته صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر ورفعت منار العلم
والفضيلة في الأرض. |
|
تجهيزه ودفنه:
|
|
وجُهّز
بدن الإمام (عليه السلام) فغسّل وأدرج في أكفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصليا
عليه (إن الصلاة من
قبل المعتصم والواثق على الإمام (عليه السلام) إنما هو للتعتيم الإعلامي على قتل
الإمام (عليه السلام) والمعروف أن المعصوم (عليه السلام) يقوم بتجهيز المعصوم
والصلاة عليه. فلا مانع من حضور الإمام الهادي(عليه السلام) عند تجهيز أبيه
الجواد (عليه السلام). راجع النص من الإمام الهادي على حضوره تغسيل وصلاة ودفن
أبيه في مسند الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 125 ـ 126.)، وحمل الجثمان العظيم إلى مقابر قريش، وقد احتفت
به الجماهير الحاشدة، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في
مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها
المسلمون في فقدهم للإمام الجواد (عليه السلام) وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق
لقبر جده العظيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فواروه فيه وقد واروا معه
القيم الإنسانية وكل ما يعتز به الإنسان من المثل الكريمة(حياة الإمام محمد الجواد
(عليه السلام): 263.). عن
أبي جعفر المشهدي بإسناده عن محمد بن رضيّة عن مؤدّب لأبي الحسن (الهادي(عليه
السلام))، قال: (إنه كان بين يديَّ يوماً يقرأ في اللوح إذ رمى اللوح من يده
وقام فزعاً وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون مضى
والله أبي (عليه السلام)) فقلت: من أين علمت هذا ؟ فقال(عليه السلام): (من إجلال الله وعظمته شيء لا أعهده). فقلت: وقد
مضى، قال: (دع عنك هذا ، ائذن لي أن أدخل البيت وأخرج
إليك واستعرضني بآي القرآن إن شئت أقل لك بحفظ)، فدخل البيت فقمت ودخلت
في طلبه إشفاقاً مني عليه وسألت عنه فقيل دخل هذا البيت وردّ الباب دونه وقال
لي: (لا تؤذن عليّ أحداً حتى أخرج عليكم). فخرج(عليه
السلام) إليَّ متغيّراً وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه
راجعون مضى والله أبي)، فقلت: جعلت فداك، قد مضى؟ فقال: (نعم ، وتولّيت غسله وتكفينه وما كان ذلك لِيلَي منه غيري)
، ثم قال لي: (دع عنك واستعرضني آي القرآن إن شئت
أفسر لك تحفظه) فقلت: الأعراف. فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * ... *وَإِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ
بِهِمْ ...)( الثاقب: 204.). |
|
عمره وتاريخ استشهاده
|
|
أما
عمر الإمام الجواد(عليه السلام) حين قضى نحبه مسموماً فكان خمساً وعشرين سنة (حياة الإمام محمد
الجواد (عليه السلام): 264.) على ما
هو المعروف، وهو أصغر الائمة الطاهرين الاثني عشر(عليهم السلام) سنّاً، وقد أمضى
حياته في سبيل عزة الإسلام والمسلمين ودعوة الناس إلى رحاب التوحيد والإيمان
والتقوى. واستشهد
الإمام الجواد (عليه السلام) سنة (220 هـ) يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة،
وقيل: لخمس ليال بقين من ذي الحجة وقيل: لست ليال خلون من ذي الحجة، وقيل: في
آخر ذي القعدة (الكافي:
1 / 497 / 12، إعلام الورى عن ابن عياش، التهذيب: 6 / 90.). فسلام
عليه يوم ولد ويوم تقلّد الإمامة وجاهد في سبيل ربّه صابراً محتسباً ويوم استشهد
ويوم يبعث حيّاً. |
|
الفصل الثالث: متطلّبات عصر
الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
بعد
أن وقفنا في الفصلين السابقين على ملامح عصر الإمام الجواد(عليه السلام) وطبيعة
تعامل الحكّام مع الإمام(عليه السلام) وخطّه الرسالي والجماعة الصالحة التي تقف
إلى جانب الإمام الحق الذي تمثّل مسيرته خطّ الهداية الربّانية للبشرية.. لابدّ أن نقف في هذا الفصل على مجمل متطلّبات عصر الإمام
الجواد(عليه السلام) الخاص بظروفه ومستجداته الثقافية والسياسية والاجتماعية من
خلال مجموعة المهام الرسالية التي جُعلت في الشريعة الإسلامية على عاتق أهل
البيت(عليهم السلام) بشكل عام وعلى عاتق (التاسع منهم) الإمام الجواد بشكل خاص. وذلك
لأن أهل البيت(عليهم السلام) هم أهل بيت النبوّة والرسالة الذين ربّاهم
الرسول(صلى الله عليه وآله) بيديه الكريمتين وجعلهم الدرع الحصينة التي تقي
الرسالة من أن يتلاعب بها الحكّام ووعّاظ السلاطين بعد رسول الله(صلى الله عليه
وآله)، كما أنها تقي الأمة الإسلامية من السقوط والتردّي إلى المهوى السحيق، بعد
أن أصبحت الأمة الإسلامية هي الأمة الحية التي لابدّ لها أن تحمل مشعل الحضارة
الإسلامية والربّانية إلى العالم أجمع، وقد مُنيت بصدمة كبيرة تمثّلت في
الانحراف الذي طال القيادة السياسية والذي أخذ يستشري في سائر مجالات الحياة
الإسلامية. والإمام الجواد(عليه السلام) في عصره الخاص أمام مجموعة من الإنجازات
التي حققها آباؤه الطاهرون في هذين الحقلين المهمّين،
كما أنّه أمام مستجدات ومتغيّرات في الوضع السياسي والاجتماعي
والديني بعد أن سمحت الدولة الإسلامية للتيارات المنحرفة لتعمل بحرّية في الساحة
الإسلامية وذلك لأن الحكام المنحرفين قد استهدفوا إضعاف جبهة أهل البيت الرسالية
دون مواجهة علنية سافرة. 3 ـ التمهيد العام لدولة الحق المرتقبة
رغم محاولات السلطة للقضاء على قضية الإمام المهدي(عليه السلام) بأشكال شتى. |
|
الباب الرابع:
|
|
وفيه فصول: الفصل
الأول: الإمام الجواد (عليه السلام) و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة. |
|
الفصل الأول: الإمام الجواد(عليه
السلام) و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة
|
|
1 ـ أهل البيت (عليه السلام) والقيادة
الرسالية
|
|
لم
يستطع المأمون العبّاسي أن يحقّق نواياه الخفية في تسقيط شخصية الإمام
الرضا(عليه السلام) وإخراجها من القلوب العامرة بحب أهل
البيت(ع)، لأنّ الإمام الرضا(ع) استطاع أن يخترق العقول والنفوس على
مستوى اجتماعي عام، فتلألأت شخصيته العملية وتجلّت ذاته السامية للقريب والبعيد. ومع
شعورهم بقرب ولادة المهدي(عليه السلام) مع جهلهم بزمان ولادته وظهوره، لابد
وأنهم يحاولون صد أهل البيت(ع) من إنجاب الإمام المهدي(ع) قبل كل شيء كما حدث
لفرعون مع موسى النبي(عليه السلام). |
|
2 ـ الساحة الإسلامية وظاهرة الإمامة
المبكّرة في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)
|
|
يشكّل
وجود الإمام الجواد (عليه السلام) ـ كما أشرنا ـ برهاناً على صحة عقيدة أهل
البيت (عليهم السلام) في الإمامة ؛ وذلك لأن ظاهرة تولّي شخص في سنّ الطفولة
لمنصب الإمامة وما رافقها من شؤون تستطيع أن تقدم لنا دليلاً قاطعاً على سلامة
هذه العقيدة التي يتميز بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عمّا سواه من المذاهب
في قضية الإمامة باعتبارها منصباً ربّانياً لا
يكون على أساس الانتخاب والترشيح البشري وإنما يكون على
أساس التعيين والنصب الإلهي لشخص تجتمع في وجوده كل عناصر الكفاءة والقدرة
الحقيقية لإدارة هذا المنصب الربّاني من قيادة فكرية علمية ودينية وعملية
للمؤمنين بإمامته ، بل للمسلمين جميعاً. الفرض الأول: أن
الطائفة الشيعية التي آمنت بإمامة هذا الشخص لم ينكشف لديها بوضوح أن هذا المدعي
للإمامة هو صبي. إن
الإمام الجواد مثل غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان مكشوفاً أمام الطائفة وكانت الطائفة بكل طبقاتها تتفاعل
معه مباشرة في مسائلها الدينية وفي قضاياها الروحية والأخلاقية. إن
الإمام الجواد (عليه السلام) نفسه كان قد أصرّ على
المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة وسمح له
بالرجوع إلى المدينة فرجع وقضى بقية عمره أو أكثر عمره فيها. وهكذا
بقي الإمام الجواد (عليه السلام) مكشوفاً أمام مختلف طبقات المسلمين بما فيهم
الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته. الفرض الثاني: أن
المستوى الفكري والعلمي للطائفة الشيعية التي آمنت بالإمام (عليه السلام) وقتئذٍ
لم يكن بالمستوى المطلوب الذي تستطيع من خلاله أن تميّز الخطأ من الصواب في مجال
الإيمان بإمامة طفل يدّعي الإمامة وهو ليس بإمام. الفرض الثالث: إن
مفهوم الإمام والإمامة لم يكن واضحاً عند الطائفة الشيعية ، بل إنها كانت تتصوّر
أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي ووراثي ولم تكن تعرف ما هو الإمام وما هي قيمة الإمام
وما هي شروط الإمام. وهذا
الافتراض يكذّبه واقع التراث المتواتر من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
الإمام الرضا (عليه السلام) عن شروط الإمامة وحقيقتها وعلامات الإمام عند هذه
الطائفة بنحو يميّزها عما سواها من الطوائف والمذاهب التي تجعل الإمامة منصباً
بشرياً لا يصعب لكثير من الناس التسلق إليه وانتحالها وادعائها. بينما قام التشيّع على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة وهو من
المفاهيم الأولى والبديهية للتشيّع، فإنّ الإمام
في المفهوم الشيعي إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وأقواله وأعماله. وهذا
المفهوم قد بشّرت به مجموعة كبيرة من عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى عهد
الإمام الرضا (عليه السلام) (راجع في هذا
الجانب بالخصوص الحديث التفصيلي الذي ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) حول
الإمام والإمامة في (تحف العقول).). وقد أصبحت كل التفاصيل والخصوصيات بالتدريج واضحة ومرتكزة عند
الطائفة الشيعية. يقول الراوي: دخلت المدينة بعد وفاة الإمام
الرضا (عليه السلام) أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا (ع). فقيل: إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة فخرجت إلى
تلك القرية ودخلت القرية وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر انتقل إلى أولاده. فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا (عليه
السلام) كان جالساً يتصدّر المجلس إلاّ أن الناس يقولون : إن هذا ليس هو
الإمام بعد الرضا (عليه السلام) لأننا سمعنا من الأئمة أن الإمامة لا تكون في
أخوين بعد الحسن والحسين. نعم
، كل هذه التفاصيل والخصوصيات النسبية والمعنوية كانت واضحة ومحدّدة عند
الطائفة. إذاً فهذا الافتراض الثالث أيضاً يكذّبه واقع التراث الثابت والمتواتر
عن الأئمة السابقين على الإمام الجواد (ع). الفرض الرابع: أن يكون هناك بين أبناء الطائفة الشيعية نوع من التواطؤ على الزور
والباطل. إنّ
هذه الظروف الموضوعية ألا تكون شاهداً ودليلاً على أن هذا الاعتقاد إنما كان
ناشئاً عن حقيقة ثابتة وملزمة لأبناء الطائفة قد وعوها وآمنوا بها واستسلموا
للوازمها وآثارها بالرغم من أنها كانت تكلّفهم حياتهم المادية على طول الخط. إذن لا يبقى إلاّ القبول بالافتراض الأخير ، وهو :
أن الإمام الجواد (عليه السلام) بدعواه الإمامة المبكرة وتحدّيه لكل من وقف
أمامه، وصموده أمام كل الإثارات والتساؤلات والاختبارات شكّل دليلاً تاريخياً
علمياً قاطعاً على حقّانية دعواه ومذهبه وخطّه ، وهو خط أهل البيت (عليهم
السلام) الذي كان يمثّله الإمام الجواد(عليه السلام) في مجال إمامة المسلمين
وزعامة الأمة الإسلامية التي بدأت بالقيادة النبوية تلك الأمة التي خلّفها
الرسول (صلى الله عليه وآله) لتتكامل وتؤسّس الحضارة الإسلامية على أسس إلهية
وقيم ربّانية. وإن
التراث القيّم الذي تركه لنا هذا الإمام العظيم لدليل قاطع على عظمة الدور الذي
قام به هذا الإمام في تبلور العقيدة الشيعية في مجال القيادة الإسلامية التي
أكّدتها الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة (اعتمدنا في هذا البحث على محاضرة للشهيد السعيد آية الله
السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) حول الإمام الجواد (عليه السلام) وعرضناها
بتصرّف.). |
|
3 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والمفاهيم
المنحرفة عند الأمة
|
|
لم
يتخذ الغلو لوناً واحداً بل كانت ثمة ألوان متعددة، منها الغلو بالصحابة، وفي
حوار مفتوح للإمام الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن الأكثم أمام جماعة كبيرة من
الناس منهم المأمون العبّاسي فنّد الإمام الجواد(عليه السلام) التوجهات المغالية
في شأن الصحابة، وإليك نص الحديث: ثم قال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن
مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء. فقال يحيى: قد روي إن النبي (صلَّى الله عليه
وآله) قال: لو لم أُبعث لبُعث عمر. |
|
4 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والتوجّه
إلى هموم أبناء الأمة الإسلامية
|
|
اهتمّ الإمام الجواد (عليه السلام) بخدمة الناس وبدعوتهم إلى الإسلام
المحمدي الأصيل وكسبهم إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أمثلة ذلك: 2 ـ روي عن الشيخ أبي بكر
بن إسماعيل أنه قال: (قلت لأبي جعفر ابن الرضا(عليه
السلام): إن لي جارية تشتكي من ريح بها، فقال: ائتني
بها ، فأتيت بها فقال: ما تشتكين ياجارية ؟
قالت: ريحاً في ركبتي، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب فخرجت الجارية من
عنده ولم تشتك وجعاً بعد ذلك)( بحار الأنوار: 50 / 46 ـ 47.). 6 ـ وروي عن القاسم بن
الحسن، أنّه قال: (كنت فيما بين مكة والمدينة فمرّ
بي أعرابي ضعيف الحال فسألني شيئاً فرحمته، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه
فلمّا مضى عنّي هبّت ريح زوبعة، فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت ولا
أين مرّت، فلمّا دخلت المدينة صرت إلى أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) فقال
لي: ياأبا القاسم ذهبت عمامتك في الطريق ؟
قلت: نعم، فقال: ياغلام أخرج إليه عمامته،
فأخرج إليَّ عمامتي بعينها، قلت: يا ابن رسول الله كيف صارت إليك ؟ قال: تصدّقتَ على أعرابي فشكره الله لك، فردّ إليك عمامتك، وإنّ
الله لا يضيع أجر المحسنين(مستدرك عوالم العلوم: 47 ـ 48.). إنّ هذه الأعمال تدلّ على الأهمية
الكبيرة التي كان يمنحها أهل البيت (عليهم السلام) لخدمة الناس. ولا يخفى على
الناظر المتأمل ما تتركه مثل هذه الأعمال من أثر كبير على الناس باعتبار أنّ لغة
العمل هي اللغة الأوضح عند الناس الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة
الصالحة والأشد تأثيراً عليهم كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كلمته
المعروفة عنه: (كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم). |
|
الفصل
الثاني:
الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة
|
|
1 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) يعالج
ظاهرة التشكيك بإمامته
|
|
نهض
الإمام الجواد (عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ
الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم(عليه السلام) حيث أوتي النبوّة في المهد،
وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل
البيت(عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
لكن الإمام(عليه السلام) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات
المعلنة والخفيّة بما أوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة. |
|
2 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والبناء
الثقافي للجماعة الصالحة
|
|
لقد توخى أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) تحقيق عزة الإسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي
تضمن الوصول إلى الهدف المطلوب على أحسن وجه. وكان تحرك الإمام الجواد (عليه
السلام) ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف
المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير إلى
نماذج من تحرك الإمام (عليه السلام) في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد
الأمة وطلائعها إعداداً رسالياً. ومن هذه الميادين: |
|
أ ـ تعميق البناء
الفكري:
|
|
كان
اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الإنسان
المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات أساسية تتقوم
بها العقيدة ومن ذلك: وسئل (ع): أيجوز أن يقال لله: إنه شيء ؟
فقال: نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل وحدّ
التشبيه (حد
التعطيل هو عدم إثبات الوجود، والصفات الكمالية والفعلية والإضافية له تعالى،
وحد التشبيه الحكم والاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات.))( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 353 ـ 354.). مكافحة الغلو: من
الانحرافات الخطيرة التي انتشرت عند البعض الغلو بأهل البيت (عليهم السلام). وقد
وقف الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالمرصاد للمغالين فيهم فردّوهم
وأفحموهم وأمروا أتباعهم بالابتعاد عنهم. فقال الطلحي: إن أردت دخول الحمام
فقم فادخل فإنه لا يتهيأ لك بعد ساعة، قلت: ولم ؟ قال: لأن ابن الرضا(عليه
السلام) يريد دخول الحمام، قال: قلت: ومَن ابن الرضا ؟ قال: رجل من آل
محمد(صلَّى الله عليه وآله) له صلاح وورع، قلت له: ولا يجوز أن يدخل معه الحمام
غيره ؟ قال: نخلي له الحمام إذا جاء، قال: فبينا أنا كذلك إذ أقبل(عليه السلام)
ومعه غلمان له، وبين يديه غلام، ومعه حصير حتى أدخله المسلخ، فبسطه ووافى وسلّم
ودخل الحجرة على حماره، ودخل المسلخ، ونزل على الحصير. |
|
ب
ـ تعميق البناء العلمي
|
|
ومن جملة المجالات التي تحرّك فيها
الإمام الجواد (عليه السلام) هو إكماله لبناء الصرح العلمي الذي أشاده الائمة
(عليهم السلام) من آبائه الكرام، وفي سياق هذا النشاط نلاحظ إجابته على
الاستفسارات العلمية والاستفتاءات الفقهية التي كانت تستجد للطائفة الشيعية
والأمة الإسلامية آنذاك. |
|
إكمال الأدوات والمنهج
العلمي: |
|
أ ـ عدم جواز استنباط
الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسيرها من الأئمّة (ع).
|
|
فقد
روي في الكافي عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قد روى عن أبي عبد الله
الصادق(عليه السلام) أنّ رجلاً سأل أباه محمّد الباقر(عليه السلام) عن مسائل،
فكان ممّا دار بينهما أن قال: (قل لهم: هل كان فيما
أظهر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من علم الله (عزّ ذكره) اختلاف ؟ فإن
قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف، فهل خالف رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) ؟ فيقولون: نعم، فإن قالوا: لا ; فقد نقضوا أوّل كلامهم ; فقل
لهم: (مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). فإن قالوا:
من (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ؟ فقل: من لا يختلف في علمه. فإن قالوا: فمن هو ذاك ؟ فقل:
كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) صاحب ذلك . إلى أن قال: وإن كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لم يستخلف في
علمه أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده. وقال(عليه السلام) أيضاً: (والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد ; فمن حكم بما ليس
فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله عَزَّ وجَلَّ ; ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى
أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطاغوت)( أصول الكافي: 1/248.). |
|
ب ـ وجوب العمل
بأحاديث الأئمّة (عليهم السلام) المنقولة في الكتب المعتمدة.
|
|
فقد جاء في الكافي أيضاً عن محمّد
بن الحسن بن أبي خالد شنبولة، أنّه قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (ع): جعلت فداك،
إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقيّة
شديدة، فكتموا كتبهم، ولم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا. |
|
ج ـ جواز العمل بقول
من أجازه الإمام (عليه السلام) في العمل برأيه.
|
|
فقد جاء في رجال الكشّي: عن خيران
الخادم أنّه قال: (وجّهت إلى سيّدي (المراد بسيّده هنا إمّا الإمام الرضا، أو الإمام الجواد، أو
الإمام الهادي (عليهم السلام) لأنّه خدمهم ثلاثتهم(عليهم السلام)، والمرسل إليه
يحتمل الثلاثة.) ثمانية دراهم ـ في
حديث ـ وقال: قلت: جعلت فداك، إنّه ربّما أتاني الرجل لك قبله الحقّ، أو يعرف
موضع الحقّ لك، فيسألني عمّا يعمل به، فيكون مذهبي أخذ ما يتبرّع في سرّ ؟ قال: اعمل في ذلك برأيك، فإنّ رأيك رأيي، ومن أطاعك فقد أطاعني)
(رجال الكشي: 610 ح
1134، وزاد فيه: قال أبو عمرو: هذا يدل على أنّه كان وكيله، ولخيران هذا مسائل
يرويها عنه، وعن أبي الحسن (عليهما السلام)، عنه في الوسائل: 12 / 216 / ح 6.). |
|
د ـ عدم جواز الإفتاء
من دون علم
|
|
فقد مرّ أنه حينما توفي الإمام
الرضا (عليه السلام) كان عُمر أبي جعفر (عليه السلام) حينذاك سبع سنين، فاختلفت
كلمة الشيعة حوله ببغداد والأمصار فاجتمع وجهاء الشيعة وفقهاؤهم في الموسم
ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) فوجدوا في دار جعفر الصادق(عليه السلام) عبد
الله بن موسى قد جلس في صدر المجلس وكان يُسأل فيجيب بأجوبة دعتهم إلى الحيرة
فاضطربوا وهمّوا بالانصراف، وإذا بموفّق الخادم يدخل عليهم مع أبي جعفر (عليه
السلام) فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ثم جلس وبدأوا بالسؤال فكان
يجيب على أسئلتهم بالحق. ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد
الله أفتى بكيت وكيت فقال (عليه السلام): لا إله إلاّ
الله ! ياعمّ ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي
عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك ؟!) (بحار الأنوار: 50 / 99.) |
|
الإجابة على
الاستفتاءات الفقهيّة والاستفسارات العلمية:
|
|
لقد
أسهمت إجابات الإمام الجواد(عليه السلام) على الاستفتاءات الفقهية وغيرها من
الاستفسارات العلمية في البناء العلمي للجماعة الصالحة ولك أن تلاحظها في النصوص
التالية: فكتب
بخطّه (عليه السلام): (الفجر ـ يرحمك الله ـ الخيط
الأبيض، وليس هو الأبيض صعداً، ولا تصلّ في سفر، ولا في حضر حتى تتبيّنه ـ رحمك
الله ـ، فإن الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)( البقرة (2): 187.) فالخيط الأبيض هو
الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة)( مستدرك عوالم العلوم:
23 / 382 ـ 382.). حكم الوقف: عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي،
قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) اسأله عن أرض أوقفها جدّي على
المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير، متفرقون في البلاد ؟ شهادة
الزوج وغير الزوج: عن محمد بن
سليمان أنه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): (كيف صار الزوج إذا قذف
امرأته كانت شهادته أربع شهادات بالله ؟ وكيف لا يجوز ذلك لغيره وصار إذا قذفها
غير الزوج جلد الحدّ، ولو كان ولداً أو أخاً ؟ قال: (وإنما
صارت شهادة الزوج أربع شهادات بالله لمكان الأربعة شهداء مكان كل شاهد يمين)
(مستدرك عوالم
العلوم: 23 / 484 ـ 485.). |
|
ه ـ تعميق البناء
التربوي
|
|
من المفردات الأساسية التي اهتم بها
الإمام الجواد (عليه السلام) هو مسألة بناء الخلق الإسلامي عند الفرد والمجتمع. |
|
الحكمة في العمل:
|
|
أراد الإمام الجواد (عليه السلام)
ان يعلم شيعته ضرورة اعتماد الحكمة في العمل ومراعاة عامل الزمن في اتضاح
الأشياء فللأمور دورات زمنية ينبغي أن تمرّ بها حتى تكتمل، وعدم الالتفات إلى
هذا الجانب يفسد العمل ويجهضه قبل استوائه. |
|
التعامل مع الظالمين:
|
|
ركّز
الإمام الجواد (عليه السلام) على ضرورة ابتعاد المسلم عن مجاراة الظالمين
والركون إليهم، ودعا إلى رفضهم والابتعاد عنهم. كما أنه (عليه السلام) شدّد على عدم
طاعة المنحرفين والاستماع إليهم واعتبر ذلك كالطاعة والاستماع للشيطان. قال
(عليه السلام): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان
الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس)( تحف العقول: 456.). |
|
النشاط الاجتماعي:
|
|
إن حركة الإنسان في المجتمع تشتدّ
بمقدار تجذّره وتأثيره في ذلك المجتمع، لذلك توجّه الإمام الجواد (ع) إلى توضيح
المفاهيم المتصلة بالنشاط الإسلامي للطليعة المؤمنة، وفيما
يأتي نذكر بعضاً من هذه المفاهيم: |
|
وصايا للعاملين:
|
|
كان الإمام الجواد(عليه السلام)
يزرع روح الأمل والصبر في قلوب المؤمنين ليسلّحهم بالسلاح الفاعل عند مقارعتهم
للظلم والطغيان وتحركهم ضده. |
|
الحث على اكتساب
العلم:
|
|
حثّ الإمام الجواد (عليه السلام)
على طلب العلم وبيّن فضل العلماء من خلال أحاديثه ورواياته عن جده أمير المؤمنين
(عليه السلام) وفيما يأتي نماذج من هذه الأحاديث: |
|
الحث على التوبة:
|
|
دعا
الإمام إلى كيفية التوبة إلى الله تعالى وبيّن طريقها، فقد روى عن أمير
المؤمنين(ع): (التوبة على أربعة دعائم: ندم القلب،
واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على أن لا يعود). (وثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار وخفض
الجانب وكثرة الصدقة)( مستدرك عوالم العلوم: 23 / 279.). |
|
3 ـ إحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها
لدور الغيبة
|
|
أ ـ نظام الوكلاء
ودقة التحرّك:
|
|
إنّ
بناء الجماعة الصالحة وتنظيم شؤونها وتحرّك الائمة (عليهم السلام) من خلالها كان
هدفاً أساسيّاً لأهل البيت (عليهم السلام) وقد قاموا بإشادة صرحه منذ عصر الإمام
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واستمروا بإكمال البناء وتعميق الطرح وتوسيع
دائرة العمل حتى عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وابنه الإمام المهدي
عجل الله فرجه. إن
البحث عن دقة الإمام الجواد (ع) في التحرك بعد الاعتراف بأنه الإمام المعصوم
والقائد الشرعي للأمة المسلمة الذي ورث العلم والخط الصحيح من آبائه الميامين
المنتجبين (ع) يكون بحثاً مفروغاً منه. وإنّ
دراسة حياة الإمام الجواد (عليه السلام) تكشف للدارس بشكل واضح وجليّ مدى الدقة
والمتانة في التحرك عند الإمام (ع)، فكل مفردة مرتبطة مع نظيرتها ومتجانسة مع
ظرفها ومعبرة عن رأي الرسالة في ذلك الموضوع. وعند
الحديث عن أساليب العمل عند الإمام (عليه السلام) يَرد هذا الكلام كذلك، وسنذكر
لتوضيح هذه القضية نماذج لتبيان المقصد. ومن أصول التحرّك عند
الإمام (عليه السلام) تجاه قواعده الشعبية يمكن ذكر ما يلي: |
|
ب ـ المراسلات
السرّيّة:
|
|
لا
شك في أن الاتصالات كانت جارية بين الإمام وأتباعه إلاّ أن بعضها كان سريّاً
وذلك خشية تفشّي أسماء مرسليها إلى الإمام خصوصاً وأن الإمام كان مرصوداً من
الداخل عن طريق زوجته. هذا
إلى جانب أن نمطاً معيناً من الرسائل كان يصل الإمام دون ذكر أسماء مرسليها
عليها، ولكن الإمام (عليه السلام) كان يستطيع معرفة المرسلين لهذه الرسائل
بطريقته الخاصة، ولا نستبعد أن ذلك كان يتم عن طريق وجود رمز معين في هذه
الرسائل، هذا إذا لم نحاول تفسير ذلك بعلم الإمام المعصوم بالغيب، باعتبار أنه: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك(راجع أصول الكافي: 1 /
201.). قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري:
(دخلت على أبي جعفر الثاني(عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليّ
فاغتممت لذلك، فتناول إحداهن وقال: هذه رقعة ريّان بن
شبيب ثم تناول الثانية فقال: هذه رقعة محمد بن
حمزة وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان
فبهت فنظر إليَّ وتبسّم(عليه السلام))( إعلام الورى بأعلام الهدى: 2 / 98.). |
|
ج ـ الإحاطة بدقائق
الأمور الاجتماعية:
|
|
لم يكن الإمام (ع) بمنأى وبمعزل عن
مجتمعه، بل كان حاضراً دائماً بين الناس يعيش احتياجاتهم وتطلّعاتهم. |
|
د ـ متابعة تربية
الأفراد:
|
|
ومن
الأمور التي تصدّى لها الإمام الجواد(عليه السلام) اهتمامه بتربية أتباعه وشيعته
ومتابعته لتربيتهم، ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الشاعر المعروف دعبل الخزاعي.
فعن دعبل بن علي: (أنه دخل على الرضا(عليه السلام) فأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد
الله، فقال له: لِمَ لَمْ تحمد الله ؟ قال: ثم
دخلت على أبي جعفر فأمر له بشيء فقلت: الحمد لله. فقال: تأدّبت)( كشف الغمة: 2 / 363.). |
|
4 ـ التمهيد لإمامة علي الهادي(عليه
السلام) المبكرة
|
|
من
المهام التي اشترك فيها الائمة (ع) دعوتهم إلى الإمام الآتي بعدهم. وقد سار
الإمام الجواد (عليه السلام) على منهج آبائه في قضية الدعوة إلى الإمام القادم
بعده وترسيخ ذلك عند الطليعة المؤمنة من الأمة، وفيما
يأتي أمثلة على هذا الأمر عند الإمام (عليه السلام): قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد
بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال
الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: (إني
ماض، والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي).
ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك ؟ قلتُ: خيراً، قد
سمعتُ ما قال، وأعادَ عليّ ما سمع، فقلتُ له: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ، لأن
الله تعالى يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا)( الحجرات (49): 12.)، فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج إليها
يوماً ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها. (شهد
أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه
بنفسه وإخوانه وجعل أمر موسى(يعني ابنه الملقب بالمبرقع المدفون بقم.) إذا بلغ إليه وجعل عبد الله بن المساور قائماً
على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن
محمد، صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه، يقوم بأمر نفسه، وإخوانه ويصيّر
أمر موسى إليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها وذلك
يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد
شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب (ع) وهو الجوّاني على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب
وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده)( أصول الكافي: 1 / 261.). قال الطبرسي بعد نقل هذه
النصوص الثلاثة: والأخبار في هذا الباب كثيرة، وفي
إجماع العصابة على إمامته وعدم من يدّعي فيه إمامة غيره غناء عن إيراد الأخبار
في ذلك، هذا وضرورة أئمتنا (عليهم السلام) في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم
وتقيّتهم منهم أُحوجت شيعتهم في معرفة نصوصهم على من بعدهم إلى ما ذكرناه من
الاستخراج حتى أنّ أوكد الوجوه في ذلك عندهم دلائل العقول الموجبة للإمامة وما
اقترن إلى ذلك من حصولها في ولد الحسين (ع)، وفساد أقوال ذوي النحل الباطلة
وبالله التوفيق(إعلام
الورى: 339.). |
|
5 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) وقضية
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
|
|
قضية
الإمام المهدي عجَّل الله فرجه من القضايا الأساسية في المسيرة الإسلامية
والمتتبع لآثار الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لا يجد أحداً منهم غفل عن
الدعوة إليها أو تجاهلها. وعلى
هذا المنهج سار الإمام الجواد (ع) فطرح قضية المهدي (عج) على الأمة قاصداً من
ذلك تركيز هذا المفهوم في أذهانها من جهة وإعدادها لاستقبال يومه من جهة ثانية، ونذكر فيما يأتي نماذج من هذه الدعوة: 1 ـ عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه) قال:
(قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع): يامولاي ! إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت
محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال (عليه السلام): ما منّا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله. ولكن
القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأها قسطاً وعدلاً هو
الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميّ
رسول الله وكنيته، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من
أصحابه عدّة أهل بدر: (ثلاثمئة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض وذلك قول الله
عزَّ وجلَّ: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ
بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة (2): 148.). فإذا اجتمعت له هذه
العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو (عشرة آلاف) رجل،
خرج بإذن الله تعالى، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ)( الاحتجاج: 2 / 481 ـ
482.). ياأبا القاسم إن القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في
غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلَّى الله عليه
وآله) بالنبوّة وخصّنا بالإمامة، إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل
الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً،
وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (ع) إذ
ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسولٌ نبيٌ، ثم قال (ع): أفضل أعمال شيعتنا
انتظار الفرج)( كمال الدين وتمام النعمة: 377.). |
|
الفصل الثالث: مدرسة الإمام
الجواد (عليه السلام) وتراثه
|
|
البحث الأول: أصحاب
الإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
حفَّ
جمهور كبير من العلماء والرواة بالإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) وهم
يقتبسون من نمير علومه التي ورثها عن جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وكانوا يدوّنون أحاديثه وكلماته وما كان يدلي به من روائع الحكم والآداب. وقد بلغ التضييق على العلماء
والرواة من أصحاب الائمة حدّاً بحيث كانوا لا يستطيعون أن يجهروا باسم الإمام
الذي أخذوا عنه، وإنّما كانوا يلمّحون إليه ببعض أوصافه وسماته من دون التصريح
باسمه خشية القتل أو السجن. |
|
|
|
1 ـ الحسين بن سعيد الأهوازي: ابن حمّاد
الأهوازي، ثقة، روى عن الإمام الرضا(عليه السلام) وأبي جعفر (عليه السلام) وأبي
الحسن الثالث. (حياة
الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 139 ـ 141.)
وهو الإمام علي الهادي(عليه السلام). 3 ـ
محمد بن إسماعيل بن بزيع، عدّه الشيخ
الطوسي من أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد (ع) (رجال الطوسي: 405.)
وكان
من خيار أصحاب الائمة (عليه السلام) في ورعه وتقواه، ونتحدث ـ بإيجاز ـ عن بعض
شؤونه: 1
ـ كتاب الوضوء رسائل الإمام الجواد (عليه السلام) إليه: وبعث
الإمام الجواد (عليه السلام) إلى علي بن مهزيار عدة رسائل تكشف عن شدة صلته
بالإمام (ع) وسموّ منزلته ومكانته عنده، ومن بين هذه
الرسائل: 7 ـ عبد الله بن الصلت: هو عبد الله
بن الصلت أبو طالب القمي مولى بني تيم اللات ابن تغلبة. حمدان بن أحمد النهدي
قال: حدثنا أبو طالب القمي قال: كتبت إلى أبي جعفر ابن الرضا يأذن لي أن أندب
أبا الحسن ـ أعني أباه ـ فقال: فكتب إليّ (أندبني
وأندب أبي) (رجال الكشي: 275.).
من ثقاة الرواة عن الإمام الجواد (عليه
السلام)، كما ذكر الكشي في رجاله، وقد روى عن الإمام موسى الكاظم وعلي بن موسى
الرضا (عليهما السلام). 10 ـ إبراهيم بن محمد الهمداني: من الرجال الأجلاء، وقد روى عن الإمام الجواد
وأبيه الرضا وولده الهادي (عليهم السلام). 29
ـ أبو يوسف الكاتب يعقوب بن يزيد بن حماد الأنباري: ثقة صدوق. روى عن الإمام
الجواد، وكان من أصحاب أبيه (عليه السلام) قبله. |
|
البحث الثاني: تراث
الإمام الجواد(عليه السلام)
|
|
بالرغم من قصر المدة التي عاشها
الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وهي خمسة وعشرون سنة منذ ولادته وحتى
استشهاده، وهو أقصر عمر نراه في أعمار الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) من أهل
بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ التراث الذي وصل إلينا إذا
قارنّاه بالظروف التي أحاطت بالإمام (عليه السلام) وبشيعته وقارنّاه بأعمار من
سبقه من آبائه الكرام والتي يبلغ معدّلها ضعف عمر هذا الإمام العظيم، نجده غنيّاً
من حيث تنوّع مجالاته، ومن حيث سموّ المستوى العلمي المطروح في نصوصه وحجمه، ومن
حيث دلالاته التي تعتبر تحدّياً صارخاً عند ملاحظة صدور هذا التراث من مثل هذا
الإمام الذي بدأ بالإشعاع والعطاء منذ ولادته وحتى سِنيّ إمامته وهو لم يبلغ
عقداً واحداً من العمر. |
|
1 ـ من تراثه التفسيري
|
|
أ ـ عن داود بن قاسم
الجعفري قال: (قلت لأبي جعفر الثاني (عليه
السلام): جُعلت فداك ما الصمد ؟ قال: السيد المصمود
إليه في القليل والكثير).( أصول الكافي: 1 / 123.) |
|
2 ـ من تراثه الكلامي
|
|
أ ـ ضرورة التحصين
العقائدي: روى في الاحتجاج عن الإمام محمد
الجواد (ع) أنه قال: (من تكفّل بأيتام آل محمد
المنقطعين عن إمامهم المتحيّرين في جهلهم، الأُسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي
النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين بردّ
وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربّهم ودلائل أئمتهم؛ ليحفظوا عهد الله على العباد
بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء،
وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كواكب السماء). (الاحتجاج: 1 / 9.) |
|
3 ـ من تراثه الفقهي
|
|
أ ـ روى أبو خداش المهري: (أن شخصاً دخل
على الرضا (عليه السلام) فسأله عن أمور ثلاثة فأجابه (عليه السلام) عنها. ثم حضر
أبو خداش مجلس أبي جعفر (عليه السلام) في ذلك الوقت فسأله الأسئلة ذاتها فكان
الجواب هو الجواب. |
|
4 ـ من تراثه التاريخي
|
|
أ ـ روى المجلسي عن الصدوق بإسناده
عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أسأله عن ذي
الكفل ما اسمه ؟ وهل كان من المرسلين ؟ فكتب صلوات الله وسلامه عليه: (بعث الله تعالى جلّ ذكره مئة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف
نبيّاً، المرسلون منهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً. وإنّ ذا الكفل منهم صلوات الله
عليهم، وكان بعد سليمان بن داود (عليه السلام). وكان يقضي بين الناس كما كان
يقضي داود، ولم يغضب إلاّ لله عَزَّ وجَلَّ وكان اسمه (عويديا) وهو الذي ذكره
الله تعالى جلّت عظمته في كتابه حيث قال:
(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيَارِ))( بحار الأنوار: 13 / 405.). |
|
5 ـ الطب في تراث الإمام الجواد (عليه
السلام)
|
|
لقد
استوعب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) شتّى العلوم ومنها علوم الطبّ والحكمة
بما آتاهم الله من فضله، وأطلعهم على غيبه، وحباهم من نوره، وألهمهم من معرفته،
وبما ورّثوه من علوم خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله)،
فكانوا (عليهم السلام) يعالجون المرضى تارةً بالقرآن والدعاء والأحراز والرقى
والصدقة، وتارةً يوصونهم بضرورة النظافة والطهارة والوقاية العامّة، وثالثة
يصفون لهم الأعشاب والنباتات وغيرها من العقاقير الطبّية التي كانت تؤثر بشكل
فعّال في شفاء المرضى ممّا يدلّ على قدراتهم (عليهم السلام) الكبيرة وإمكاناتهم
الواسعة بتشخيص المرض من دون اللجوء إلى إجراء التحليلات المختبريّة والصور
الشعاعيّة والتخطيطات وما إلى ذلك من الوسائل المتطورة الحديثة المعروفة في
يومنا هذا. ودنا
الطبيب ليقطع له العرق، فقام عليّ بن جعفر (عليه السلام) فقال: ياسيّدي، يبدأ بي
ليكون حدّة الحديد فيّ قبلك... قال:
خير الأشياء لحمّى الربع أن يؤكل في يومها الفالوذج
(الفالوذج: حلواء
تعمل من الدقيق والماء والعسل.) المعمول بالعسل، ويكثر زعفرانه، ولا يؤكل في يومها غيره)( رجال الكشي: 65، عنه
البحار: 62 / 100 ح 24.). قال:
خذ زعفران (الزعفران: نبات معمّر من الفصيلة السوسنيّة، منه أنواع بريّة
ونوع صبغي طبيّ مشهور وهو حارّ يابس مفرح يقوّي الروح، وجيّده الطريّ الحسن
اللون، الزكيّ الرائحة، على شعره قليل بياض غير كثير ممتلئ صحيح، سريع الصبغ،
غير ملزج ولا متفتّت، وإذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص. راجع الطب من الكتاب
والسنّة: 113، القانون: 1 / 306، القاموس المحيط: 2 / 39.) وعاقرقرحا (العاقر قرحا: نبات من
الفصيلة المركّبة تستعمل جذوره في الطبّ، ويكثر في إفريقية، وقال في إحياء
التذكرة: 430: هو أصل الطرخون الجبلي، ينقّي البلغم من الرأس، ويزيل وجع الأسنان
والسعال وأوجاع الصدر وبرد المعدة والكبد، ويزيل الخناق غرغرة...) وسنبل (قال الفيروزآبادي في
القاموس المحيط: 3 / 398: السنبل، كقنفذ: نبات طيّب الرائحة ويسمّى سنبل
العصافير، أجوده السوري وأضعفه الهندي مفتّح محلّل مقوّ للدماغ والكبد والطحال
والكلى والأمعاء مدرّ، وله خاصيّة في حبس النزف المفرط من الرحم، والسنبل الرومي
الناردين.) وقاقلّة
(القاقلّة: ثمر
نبات هندي من العطر والأفاوية مقوّ للمعدة والكبد، نافع للغثيان والأعلال
الباردة حابس، والقاقلّة الكبيرة أشدّ قبضاً من الصغيرة وأقل حرافة، قاله في
القاموس المحيط: 4 / 39.) وبنج (البنج: قال في المعجم الوسيط: 1 / 71: (من الهندية): جنس
نباتات طبيّة مخدّرة من الفصيلة الباذنجانيّة. وقال في القاموس المحيط: 1 / 179:
مسكّن لأوجاع الأورام والبثور ووجع الأذن، وأخبثه الأسود ثمّ الأحمر، وأسلمه
الأبيض.) وخربق
أبيض (الخربق ـ كجعفر ـ نبات ورقه كلسان الحمل أبيض وأسود وكلاهما
يجلو ويسخّن وينفع الصرع والجنون والمفاصل والبهق والفالج ويسهّل الفضول اللزجه،
وربما أورث تشنّجات، وإفراطه مهلك... قاله في القاموس المحيط: 3 / 225، وقال ابن
البيطار في جامعه: 2 / 55: عن ابن سرابيون أنّه قال: الخربق الأسود يسهّل المرّة
الصفراء الغليظة جداً، ويعطى في العلل الحادة والمزمنة التي تحتاج إلى دواء يسهل
المرّة الصفراء كعلل الصدر، وهو نافع في تنقية الأحشاء جداً والرحم والمثانة
والعلل المتقادمة في قصبة الرئة.) وفلفل أبيض (الفلفل (كهدهد وزبرج): حبّ هندي، والأبيض أصلح وكلاهما نافع
لقلع البلغم اللزج مضغاً بالزفت، ولتسخين العصب والعضلات تسخيناً لا يوازيه غيره
وللمغص والنفخ واستعماله في اللعوق للسعال وأوجاع الصدر وقليله يعقل وكثيره يطلق
ويجفّف ويدرّ ويبرّد المني بعد الجماع. القاموس المحيط: 4 / 32.) أجزاء سواء، وأبرفيون (أبرفيون: هو صمغ تنتجه
شجرة شائكة، ويحصل عليه بواسطة شق أغصان الشجرة فتسيل منها عصارة صمغية لا تلبث
أن تجفّ وتتجمّد بعد ملامستها الهواء، ومن أسمائها، الفربيون، قال في القاموس
المحيط: 4 / 255: هو دواء ملطف نافع لعرق النسا وبرد الكلى والقولنج ولسع الهوام
وعضّة الكلب ويسقط الجنين ويسهّل البلغم اللزج.)
جزءين، يدقّ ذلك كلّه دقّاً ناعماً، وينخل بحريرة،
ويعجن بضعفي وزنه عسلاً (العسل: قال تعالى في سورة النحل: 69: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). هو غذاء ودواء ذكرت
منافعه في الكثير من كتب الطبّ لا مجال لذكرها لكثرتها.) منزوع الرغوة، فيسقى
منه صاحب خفقان الفؤاد، ومن به برد المعدة حبّة بماء كمّون (الكمّون (كتنّور): حبّ
مدرّ مجشّ هاضم طارد للرياح وابتلاع ممضوغه بالملح يقطع اللّعاب، والكمّون الحلو
الآنيسون، والحبشي شبيه بالشونيز، والأرمني الكوربا، والبريّ الأسود. وقال في
الطبّ من الكتاب والسنّة: 147: حار يحلّ القولنج ويطرد الريح، وإذا نقع في الخلّ
وأكل قطع شهوة الطين والتراب وروي ليس شيء يدخل الجوف إلاّ تغيّر إلاّ الكمون.) يطبخ، فإنّه يعافى
بإذن الله تعالى. (راجع مستدرك عوالم العلوم والمعارف: 23 / 361 ـ 368.) |
|
6 ـ الدعاء في تراث الإمام الجواد (عليه السلام)
|
|
هذه
مجموعة من الأدعية الجليلة رواها الإمام الجواد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم
السلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن الله عز وجل وهي بمثابة صحيفة
الجواد (عليه السلام) في الدعاء والمناجاة. 1 ـ المناجاة للاستخارة: 4 ـ المناجاة في طلب الرزق: 5 ـ المناجاة بالاستعاذة: 8 ـ المناجاة بكشف الظلم: |
|
7 ـ في رحاب مواعظ الإمام الجواد (عليه
السلام)
|
|
روى
الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في باب مواعظ أبي جعفر الجواد (عليه السلام)
أحاديث مرسلة نذكرها فيما يلي: 4
ـ وقال (عليه السلام): (من شهد أمراً فكرهه كان كمن
غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)( تحف العقول: 336.) 23
ـ وقال (عليه السلام): (من هجر المداراة قاربه المكروه).
(بحار الأنوار: 71
/ 341.) 34
ـ وقال (عليه السلام): (من لم يرض من أخيه بحسن
النيّة لم يرض بالعطية). (بحار الأنوار: 78/364.) 44
ـ عنه (عليه السلام) أنه قال: (لو كانت السموات
والأرض رتقاً على عبد ثم اتقى الله تعالى لجعل منها مخرجاً). 57
ـ وقال (عليه السلام): (العفاف زينة الفقر، والشكر
زينة الغنى، والصبر زينة البلا، والتواضع زينة الحسب، والفصاحة زينة الكلام،
والحفظ زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، وبسط
الوجه زينة الكرم، و ترك المن زينة المعروف، والخشوع زينة الصلوة، والتنفل زينة
القناعة، و ترك ما يعني زينة الورع). وآخر دعوانا أن
الحمد الله ربِّ العالمين |
|
|
|