- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
اسم الكتاب: أعلام الهداية (ج1) محمد المصطفى خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المؤلف:
لجنة التأليف.
الموضوع:
كلام وتاريخ.
الناشر:
مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام.
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
الأحزاب:
33 / 33
أهل
البيت في السنة النبويّة
(إنّي تارك فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبد)
(الصحاح
والمسانيد)
المقدمة
الحمد
لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً
لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى آله الميامين النجباء.
لقد خلق
الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن
الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.
وقد جعل
الله العقل المميِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته
; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به،
وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر
عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى.
قال تعالى:
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (الأنعام (6): 71).
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة (2): 213).
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب (33): 4).
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران (3): 101).
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس
(10): 35).
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ (34): 6).
(ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله) (القصص (28):50).
فالله
تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان
إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم.
وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.
ولقد
أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى
الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ) (الذاريات (51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون
المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة
الكمال.
وبعد أن
زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب
والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما،
والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة -
إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية،
وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ
والشقاء بملء إرادته.
ومن هنا
اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن
خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير
تفاصيل المعرفة وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.
وقد حمل
الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور
والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما
أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون للناس على الله
حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق
وبعد الخلق، ولو لم يبق في
الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد (13): 7).
ويتولّى
أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:
1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون
الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ) (الأنعام
(6): 124) و (اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آل عمران (3): 179).
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب
والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ
والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة (2): 213).
3 ـ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية
من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية
والتعليم، قال تعالى: (يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة (62): 2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق
بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال
تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب (33): 21).
4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة.
5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في
نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على
المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس
الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً،
وثباتاً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية
والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة
العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة
النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطى بإمكانه أن يؤثّر
تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف
الرسالة وأغراضها.
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي،
واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب،
وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان
المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.
وقد
توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن
عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه
تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر
نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما
يلي:
1 ـ
تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.
2 ـ
تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
3 ـ
تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً
للحياة.
4 ـ
تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.
5 ـ
تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:
أ ـ أن
تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر.
ب ـ أن
تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً
حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.
ومن هنا
كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم
مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه
وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد
الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين
معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي،
وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
وكان
أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده.
إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهمالسلام تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودراسة
حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ
طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ
الأئمة المعصومون عليهمالسلام يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي
الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي
تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.
وتبلورت
حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم
كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله،
والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال
الإنسانيّ المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع
الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود
لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى
فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة
ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا
فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم
ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة
والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.
إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي
المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.
ويختص
هذا الكتاب بدراسة
حياة الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جسّد الإسلام بكل أبعاده، في جميع مرافق حياته: الفردية والاجتماعية وفي ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فأرسى قواعد
القيم الإسلامية المُثلى في واقع الفكر والعقيدة وفي أفق الخلق والسلوك وأصبح
نبراساً ـ على
مدى العصور ـ يشعّ بالإيمان
والطهر والبهاء للعالمين.
ولا
بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً
وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النور، لا سيَّما أعضاء
لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالى .
ولا
يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه
الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير.
للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم
المقدسة
الباب
الأول: فيه فصول:
المدخل:المنهج
القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة.
الفصل
الأول النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في سطور.
الفصل
الثاني سنّة البشارة على مدى العصور.
الفصل
الثالث مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المدخل: المنهج
القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة
للقرآن
الكريم عناية فائقة بسيرة الأنبياء الهداة وله نهج خاص في عرض سيرتهم صلوات الله
عليهم أجمعين.
والمنهج
القرآني يقوم على مجموعة من الأسس والأصول العلمية في كيفية عرضه لسيرة الهداة
المصطفين.
إنّ
القرآن الكريم ينطلق من عنصر الهداية وهو عنصر ترشيد حركة الإنسان نحو الكمال
اللائق به فيختار أهدافاً واقعيةً لمجموعة من الحوادث التاريخية التي تشكّل
منعطفاً مهمّاً في حياة الأفراد والأمم وتكون مفتاحاً للدخول إلى أبواب واسعة من
العلوم والمعارف التي تخدم حركة الإنسان التكاملية.
والقرآن
الكريم يوظّف شتى الأدوات للوصول إلى تلك الأهداف المُثلى.
فهو يخاطب العقل والعقلاء ويفتح أمام الفكر الإنساني آفاقاً جيدة حيث
يقول:
1 ـ (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف (7) : 176.) .
2 ـ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف (12) : 111 .) .
فـ
(التفكر) و (الاعتبار) في حوادث التأريخ والسيرة (تاريخ الأمم وسيرة القادة
الهُداة) يشكّلان هدفين أساسيّين في المنهج القرآني في مجال للتاريخ.
ولا
تقتصر الأهداف على هذين بل تتعدّاهما الى أهداف رسالية أخرى تتجلى في قوله تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف (12) : 111.) .
وفي
قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ
بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود (11) : 120.) .
حيث
تضمّنت كلّ آية أربعة أهداف رسالية لاستعراض أنباء المرسلين والتحدّث عن قصصهم.
ويعتمد القرآن الكريم في منهجه التاريخي الذي يتفرّد به على الأصول
التالية:
1 ـ
الحق.
2 ـ
العلم.
3 ـ
المعاصرة للأحداث.
4 ـ
الإحاطة بها.
فلا يدع
مجالاً للريب والافتراء فيما يحدّث عنه ويقصّه ويستعرضه من ظواهر تاريخية وحوادث
اجتماعية سابقة أو معاصرة للتنزيل. ما دام يعتمد الحق والعلم دون الخرافة والخيال.
وقد
أكّد هذين الأصلين بقوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... ) (آل عمران (3) : 62.) وبقوله أيضاً في مطلع سورة الأعراف: ( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (الأعراف (7) : 7.) وفيه تصريح بعنصر المعاصرة للأحداث التي يقوم بعرضها .
وللقرآن
الكريم بعد ذلك كله منهج علمي في التحليل والاستنتاج إلى جانب اعتماده على
الاستقراء تارة وعلى الاستدلال تارة أخرى.
وحين
يستعرض القرآن حياة الرسل بشكل عام يذكر خطوطاً عريضة تجعلهم في صف واحد وخندق
واحد وخط واحد هو خط الإسلام العام، كما قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ) (آل عمران (3):19 .) .
ثم إنه
يغور في أعماق سيرة كل واحد من أولي العزم من الرسل ليحيط المتلقي بأهم مفاصل
سيرتهم وزواياها وليربط بينها وبين ما سبقها وما يلحقها من حوادث تتعلق بالخط
الرسالي المستمر باستمرار الحياة.
إنّ من
طبيعة البحث التاريخي أن تناله يد التحريف وقد يغطيه الإبهام والغموض وقد تستره
سحب داكنة ريثما تتكشف الحقيقة بالتدريج وينمو الانكشاف حتى يبلغ حدّاً لا يستسيغ
المجتمع الإنساني التغافل عنه وتجاوز الحقائق فيه.
وتشير الآية المباركة (111) من سورة يوسف إلى إمكان الافتراء والتلاعب بحقائق التاريخ أو المبالغة والبحث عن
غير علم وسدل الستار على الحق الذي لابدّ أن يظهر في ظرف ما.
ومن
هنا; كان على المدرسة القرآنية أن تسلّح الباحث عن الحقيقة بسلاح موضوعي قادر على
اكتشاف الحقيقة بشكل كامل.
لقد طرح القرآن الكريم نظرية الثوابت التي لا يمكن للفكر الإنساني أن
يتجاوزها في حال من الأحوال وسمّاها بالمحكمات وأم الكتاب. وهي الحقائق الثابتة والبينة للفكر الإنساني، وهي لا تقبل الريب أو
الترديد أو التشكيك بحال من الأحوال.
والثوابت دائماً تشكّل الخطوط العريضة والمعالم الأساسية للفكر
الإنساني الذي يستوعب ما لا
يستوعبه عالم المادة، ولكنه لا يستسيغ أن يقف مكتوف اليدين أمام المبهمات وما
يختلف فيه أبناء آدم عليهالسلام.
ويسوق
القرآن الكريم للقارئ الواعي موقفين وأسلوبين من التعامل مع المبهمات أو ما يختلف
فيه بنو آدم، ويحاكم هذين الأسلوبين ليخرج إلى نتيجة بيّنة تصبح معياراً وتقدم
قاعدة عامة للتعامل مع كل خبر يرد على الفكر الإنساني.
ويعود
كل نوع من أنواع التعامل إلى جذور نفسية واضحة تنسحب على نوع التعامل وتنعكس في
أسلوب المواجهة مع كل حديث ينقل إلى الإنسان ويراد من الفكر الإنساني أن يتخذ منه
الموقف المناسب والجدير به.
قال
تعالى بعد أن أشار إلى أن القرآن هو
الفرقان الذي نزله الله على رسوله الأمين: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران (3) : 7 ـ 8 .) .
إن سلامة النفس من الزيغ تحول بين الإنسان وبين ابتغاء الفتنة. ومن هنا يتوقف الإنسان الذي يتحرّى الحقيقة عن اتّباع
المتشابه من الآيات، بل
يُرجع الأمر إلى ربه.
فالعقل
يقف حائلاً بينه وبين أي تفسير غير علمي أو غير مستند إلى دليل صحيح وحقائق ثابتة،
بل العقل هو الذي يرشده إلى الركون إلى المحكمات والالتزام بأم الكتاب حيث يشكّل
ذلك الإطار العام والخطوط الثابتة التي لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال، وحينئذ
من الطبيعي أن نلاحظ الآيات الأخرى في ظل هذه الثوابت وهذه المعالم التي لا يمكن
تجاوزها.
وهنا
تتفتح آفاق النفس لآفاق الفكر لتتأمل فيما لا يكون صريحاً أو واضحاً في بداية
الأمر، وبهذا سوف يضمن العاقل الذي آمن بربّه عدم الزيغ وعدم التسرّع في تفسير
وتحليل ما يشاهده من الآيات المتشابهة، بل يقف منها موقف اللبيب الحكيم، وإن لم
يفلح في اكتشاف الحقيقة فإنه لا ينكرها ولا يستنكرها، وإنّما يرجع الأمر إلى مصدره
ويوكل الأمر إلى ربه الذي نزّل الآيات هذه ويستفهم منه ما يبتغيه، طالباً منه
استمرار الهداية ونزول الرحمة.
إنه
الموقف السليم الذي يمثل النضج والتعامل المنطقي مع النصوص إذ لا يتسرع العاقل في
التوجيه والتحليل.
ومن هنا: قد نفهم
الوجه في قوله تعالى في مطلع سورة هود: (الر* كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (1)) فإن
التفصيل إنما يكون بعد الإحكام وبعد أن تتعين الآيات التي هي أُم الكتاب، والتي تعدّ هي الأسس والخطوط
الثابتة
كما أفصحت بذلك الآية السابعة من سورة آل عمران (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) (آل عمران (3) : 7 .) .
والآية (39) من سورة الرعد تلقي بظلالها على هذه النقطة أيضاً إذ تقول: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فإن ما لا يتعرض للمحو والتغيير هو أم الكتاب. وما دونه قد يتعرض
للمحو والتغيير تبعاً لاختلاف الظروف والحالات والطوارىء.
وتكفي
هذه الآيات لرسم المنهج العام الذي يسير عليه القرآن الكريم في تعامله مع وقائع
التاريخ، فإن الاختلاف في التفاصيل لا يسمح لنا بإنكار الأصل والتغافل عنه وإدانة
ما ثبت لدينا وتحققنا من وجوده.
وفي ضوء هذا يمكن
تقويم كل ما ورد في كتب السيرة النبوية أو التاريخ الإسلامي أو تأريخ ما قبل
الإسلام مما يرتبط بالأنبياء وأممهم ; فإنّ الثوابت التاريخية هي محطّات الإشعاع وهي المحكمات التي لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال واليها نحتكم في تفسير أو قبول أو ردّ ما أثبتته كتب التأريخ من نصوص
تحتوي على الصحيح والخطأ .
إذن;
حقل التاريخ ـ وهو
حقل اختلاط الحقائق بالأباطيل ـ يتطلب
منا استعمال أدوات تسعفنا لكشف تمام الحقيقة الثابتة.
وثوابت
التاريخ ـ التي أيّدتها محكمات العقل
والنقل ـ هي المنطلق لأي
تفسير أو تأويل أو محاكمة أو إدانة.
وقد طبّق القرآن الكريم هذا المنهج على سيرة الأنبياء وأممهم بالذات حينما رسم لنا صورة واضحة يشترك فيها كل الأنبياء واعتبر النبوّة
والاصطفاء ناشئين من مواصفات أساسية في شخصية كل نبيّ، أهّلته لأن يختاره الله
نبيّاً لِهداية الخلق على يديه، وهذه المواصفات هي : اكتمال العقل والوعي والصلاح
والصبر والعبودية التامّة لله القائمة على الوعي والبصيرة، قال تعالى مخاطباً نبيّه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
... ) (الأنعام (6) : 57.) ، كما
قاله له: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... ) (يوسف (12) : 108.) .
هذا هو
المنطق القرآني الذي يمثّل الإحكام والثبات... فكيف يبعث الله نبيّاً لا يعي ولا
يدرك أنه مبعوث أو مرسَل من ربه ولا يطمئن إلى ما يراه من آيات ربه إلاّ أن يطمئنه
الآخرون؟! فلا يعقل أن يُبعث ويهيّأ للنبوة وهو لا يعلم أنه نبي ومبعوث من الله
إلى الخلق، أو يتردد أو يشك في مهمّته، فضلاً عن تصوّره أنه يستلهم الحقيقة ممّن
يراد منه هدايته. قال تعالى مُشيراً إلى هذه الحقيقة :
( ... أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ
لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس (10): 35.) .
إن
الصورة الواضحة التي يرسمها القرآن الكريم عن شخصية أنبياء الله والتي تؤيّدها محكمات العقل هي التي تصبح موئلاً ومرجعاً محكماً
وثابتاً لمحاكمة كل صورة تسرّبت من التوراة والإنجيل أو جاءت فيما سمّي بالصحاح أو
عامّة كتب التاريخ التي وردت فيها بعض القصص عن أنبياء الله، سواء كان ذلك النبي هو إبراهيم عليهالسلام أو
موسى عليهالسلام أو
عيسى عليهالسلام أو
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسواء كان الناقل لهذه الصورة بعض أمهات المؤمنين أو بعض الصحابة أو من يَمُتُّ إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بصلة من قريب أو بعيد.
الفصل
الأول: النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في
سطور
ولد خاتم النبيين وسيّد المرسلين محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صلىاللهعليهوآلهوسلم في السابع عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل بعد أن فقد أباه، ثم استرضع في بني سعد ، ورُدّ إلى اُمّه وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. وقد توفّيت أُمّه حين بلغ السادسة من عمره فكفله جدّه واختص به وبقي معه سنتين ثمّ ودّع الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته إلى عمّه الحنون أبي طالب حيث بقي مع عمّه إلى حين زواجه.
وسافر
مع عمّه إلى الشام وهو في الثانية عشرة من عمره والتقى ببحيرا الراهب في الطريق فعرفه بحيرى وحذّر أبا طالب من
التفريط به وكشف له عن تربص اليهود به الدوائر.
وحضر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حلف الفضول بعد العشرين من عمره وكان يفتخر بذلك فيما بعد، وسافر إلى الشام مضارباً بأموال خديجة
وتزوجها وهو في
الخامسة والعشرين وفي
ريعان شبابه ، بعد أن كان قد عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحل نزاعها فأبدى حنكةً وإبداعاً رائعاً أرضى به جميع المتنازعين.
وبُعث وهو في الأربعين وأخذ يدعو إلى الله وهو على بصيرة من أمره ويجمع الأتباع والأنصار من
المؤمنين السابقين.
وبعد مضي ثلاث أو خمس سنوات من بداية الدعوة إلى الله، أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين ثم أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو
إلى الإسلام علانية ليدخل من أحبّ الإسلام في سلك المسلمين والمؤمنين.
ومن ذلك
الحين أخذت قريش تزرع الموانع أمام حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتحاول أن تمنع من انتشار الرسالة صادّة بذلك عن سبيل الله . وعمل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى فتح نافذة جديدة للدعوة خارج مكة فأرسل عدّة مجاميع من المسلمين إلى الحبشة بعد أن حظوا
باستقبال ملكها (النجاشي) وترحيبه
بقدومهم فاستقروا فيها بقيادة جعفر بن أبي طالب ولم يتركها جعفر إلاَّ في السنة
السابعة بعد الهجرة.
ولم
تفلح قريش في تأليب النجاشي على المسلمين ، فبدأت بخطّة جديدة تمثّلت في فرض
الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والذي استمرّ لمدة ثلاث سنوات ـ فلمّا أيست من إخضاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي طالب وسائر بني هاشم لأغراضها فكّت الحصار ولكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعشيرته بعد أن خرجوا من الحصار منتصرين امتحنوا بوفاة أبي طالب
وخديجة ـ سلام الله عليهما ـ في السنة العاشرة من البعثة وكان وقع الحادثين ثقيلاً
على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه
فقد بذلك أقوى ناصرين في عام واحد.
وهنا رجّح بعض المؤرّخين تحقق حادثة الإسراء والمعراج والنبيّ في أوج
هذا الحزن والضغط النفسي على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يرى
صدود قريش ووقوفها بكل ثقلها أمام رسالته ففتح الله له آفاق المستقبل بما أراه من
آياته الكبرى فكانت بركات (المعراج) عظيمة
للنبي وللمؤمنين جميعاً.
وهاجر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الطائف ليبحث عن قاعدة جديدة ولكنه لم يكسب فتحاً جديداً من هذه البلدة المجاورة لمكة والمتأثرة بأجوائها،
فرجع إلى مكة بعد
أن اختار جوار مطعم بن عدي فدخلها، وبدأ نشاطاً جديداً لنشر الرسالة وفي مواسم
الحج حيث أخذ يعرض نفسه على القبائل القاصدة للبيت الحرام لأداء مناسك الحج
وللاتجار في سوق عكاظ ففتح الله له أبواب النصر بعد التقائه بأهل يثرب، واستمرّت
دعوته إلى الله وانتشر الإسلام في يثرب حتى قرّر الهجرة اليها بنفسه بعد أن أخبره
الله تعالى بكيد قريش حين أجمعت بطونها على قتله والتخلّص منه نهائيّاً، فأمر
عليّاً عليهالسلام بالمبيت في فراشه وهاجر هو إلى يثرب بكل حيطة وحذر، ودخلها وأهل يثرب على أتمّ الاستعداد لاستقباله، فوصل (قبا)
في غرّة ربيع الأول وأصبحت هجرته المباركة مبدأ للتأريخ الإسلامي بأمر منه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأسّس
النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّل دولة إسلامية فأرسى قواعدها طيلة السنة الأولى بعد الهجرة بدءاً
بكسر الأصنام وبناء المسجد النبوي الذي أعدّه مركزاً لنشاطه ودعوته وحكومته
وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليقيم بذلك قاعدة شعبية صلبة يقوم عليها بناء
الدولة الجديدة، هذا مضافاً إلى كتابة الصحيفة التي نظم فيها علاقة القبائل بعضها
مع بعض والمعاهدة التي أمضاها مع بطون اليهود حيث كانت تشتمل على الخطوط العامة
لأوّل نظام إداري وحكومي إسلامي.
ولقد
واجهت الدولة الإسلامية الفتية وكذا الدعوة الإسلامية مواجهة شرسة من جانب قريش
التي عزمت على اكتساح الدعوة والدولة الإسلاميتين فشنّت الحرب بعد الحرب على
المسلمين وكان لابدّ للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين من الدفاع.
وبدأت
سنوات الدفاع عن هذه الدولة الفتية وقد افتتحها بأوّل سريّة بقيادة عمّه حمزة في الشهر السابع
بعد الهجرة وجهّز ثلاث سرايا
إلى نهاية العام الأوّل من الهجرة. ونزلت في هذا العام آيات كثيرة من سورة البقرة
لترسم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودولته وأمّته أحكاماً خالدة وتفضح خطط المنافقين وتكشف مؤامرات
اليهود ضدّ خاتم المرسلين
ودولته العالمية الجديدة.
لقد استهدفت قريش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودولته من خارج المدينة، واستهدف اليهود هذه الدولة من
داخل المدينة فرصد النبيّ تحركاتهم جميعاً، وتتابعت ثمان غزوات وسريّتان طيلة العام الثاني بما فيها غزوة بدر
الكبرى في رمضان المبارك حيث افترضت فريضة الصيام وتمّ تحويل القبلة الذي أعطى لاستقلال الأمة المسلمة والدولة الإسلامية بُعداً جديداً.
وحفل العام الثاني بمزيد
من الانتصارات العسكرية من جانب ونزول التشريعات السياسية والاجتماعية من جانب آخر
ومنيت قريش واليهود بأوّل هزيمة فاضحة كما تمّ إجلاء بني قينقاع وهم أول طوائف اليهود التي اتّخذت
المدينة وطناً بعد أن نكثوا عهدهم مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عقيب انتصار المسلمين في بدر الكبرى.
واستمرت
محاولات قريش العسكريّة ضد الإسلام والمسلمين من خارج المدينة ونكثت قبائل اليهود
عهودها مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عدّة
مرّات خلال ثلاث سنوات متتابعة، فكانت
خمس غزوات ـ وهي : اُحد وبني النضير والأحزاب وبني قريظة وبني المصطلق ـ ذات ثقل
باهض على عاتق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين جميعاً خلال هذه السنين الثلاث.
وردّ
الله كيد الأحزاب واليهود معاً في العام الخامس بعد أن
أبلى المسلمون بلاءاً حسناً ومهّد الله بذلك للفتح المبين بعد أن أيست قريش من
القضاء على شوكة المسلمين وانطلق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد صلح الحديبية يتحالف
مع القبائل المحيطة به ويستقطبها ليجعل منها قوة واحدة أمام قوى الشرك والإلحاد
جميعاً حتى فتح الله له مكّة في العام الثامن ومكّنه من تصفية قواعد الشرك في شبه
الجزيرة بعد أن أخضع عتاة قريش لدولته وسياسته المباركة.
ثمّ كانت السنة التاسعة عامرة بوفود القبائل التي أخذت تدخل في دين
الله أفواجاً.
وكان العام العاشر عام حجة الوداع وآخر سنة قضاها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أمته وهو
يمهّد لدولته العالمية ولاُمّته الشاهدة على سائر الأُمم.
وتوفّي النبيّ القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم في الثامن والعشرين من صفر المظفر سنة إحدى عشرة هجرية بعد
أن أحكم دعائم دولته الإسلامية حيث عيّن لها القيادة المعصومة التي تخلفه وتترسّم
خطاه متمثّلة في شخص علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
الإنسان الكامل الذي ربّاه الرسول الكريم بيديه الكريمتين منذ أن ولد ورعاه أحسن
رعاية طيلة حياته، وجسّد الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام كل قيم الإسلام في فكره وسلوكه وخلقه وضرب مثلاً أعلى في الانقياد
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولأوامره ونواهيه فكان جديراً بوسام الولاية الكبرى والوصاية النبوية
والخلافة الإلهية حيث رشّحه عمق وجوده في كيان الرسالة الإسلامية والثورة الإلهيّة
والدولة النبوية ليكون النائب الأوّل لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين غيابه عن مسرح الحياة بأمر من الله سبحانه وتعالى.
وقد لبّى الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم نداء ربّه بعد أن أتمَّ تبليغ الرسالة بنصب عليّ عليهالسلام هادياً وإماماً للمسلمين على الرغم من حراجة الظروف
وصعوبتها. وهكذا ضرب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المثل الأعلى لطاعة الله والانقياد لأوامره حيث بلّغ أمر الله أحسن
تبليغ وأتمّ الحجة بأبلغ بيان.
تلك نظرة سريعة إلى شخصية وحياة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهلمّ
معنا بعد هذه
النظرة إلى دراسة تفصيلية في هذا المجال.
الفصل الثاني: سنّة البشارة على مدى العصور
لقد
صرّح القرآن الكريم بأن العهد التاريخي للبشرية قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث
الأنبياء وإرسال الرسل. الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنساني
أكمل; مما يمكن أن نستنتج منه أنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات
البشريّة يعتبر بداية العصر التاريخي للبشرية .
قال
تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة (2) : 213 .) .
لقد قضت
حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلى الإنسانية منهاج هدايتها الذي يخرجها
من عهد الغريزة إلى عهد العقل، ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوّة إلى
منطق النظام ومرجعه القانون. وخرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً
حيوانياً ـ بيولوجيّاً إلى كونه ظاهرة عقلية روحية وحققت النبوّات للإنسان مشروع
وحدة أرقى من وحدته الدموية البيولوجية ... وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد،
وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانية مرتفعة من علاقات المادة إلى علاقات المعاني .
والاختلافات التي نشأت في النوع الإنساني بعد إشراق عهد النبوّات غدت اختلافات في
المعنى، واختلافات في الدين والمعتقد; فإن أسباب الصراع لم تُلغ بالدين الذي جاءت
به النبوّات بل استمرّت وتنوّعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة بل غدا القانون
مرجعاً في هذا المضمار . والقانون الذي يتضمنه الدين يكون قاعدة ثابتة لوحدة
الإنسانية وتعاونها وتكاملها (1) .
وأوضح الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام في
الخطبة الأُولى من نهج البلاغة ـ بعد أن استعرض تاريخ خلق العالم وتاريخ خلق آدم عليهالسلام وإسكانه في الأرض ـ أن إشراق النبوّة وتسلسلها على مدى العصور هو المحور في تاريخ
الإنسان وحركته نحو الكمال كما صرّح به القرآن الكريم موضحاً منهجه في التعامل مع
التاريخ.
قال عليهالسلام : (... واصطفى سُبحانه من ولد (آدم) أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم (2) ، وعلى
تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم (3) ،
فجهلوا حقّه، واتّخذوا الأنداد معه (4)، واجتالتهم الشياطين عن معرفته (5) ،
واقتطعتهم عن عبادته ..
فبعث
فيهم رُسُله ، وواتر إليهم أنبياءه; ليستأدُوهم ميثاق فطرته (6) ، ويذكّروهم مَنسيَّ نعمته، ويحْتجّوا عليهم
بالتّبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول (7) ، ويُروهم آيات
ــــــــــــ
(1) حركة التاريخ عند الإمام علي عليهالسلام : 71 ـ 73 .
(2) أخذ عليهم الميثاق أن يبلّغوا ما أوحي إليهم ، أو أخذ عليهم أن لا
يشرّعوا للناس إلاّ ما يوحى إليهم.
(3) عهد الله إلى الناس : هو ما يعبر عنه بميثاق الفطرة.
(4) الأنداد: المعبودين من دونه سبحانه وتعالى .
(5) اجتالتهم : صرفتهم عن قصدهم الذي وُجّهوا إليه بالهداية المغروزة
في فطرهم .
(6) كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى، وبما أقام
له من الشواهد وأدلة الهدى، قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق
له، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات،
فبعث النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق .
(7) دفائن العقول : أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات ،
وترتفع به إلى الإيقان بصانع الموجودات، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام
وحجب من الخيال، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار
الباطنة.
المقدرة:
من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تُحْييهم، وآجال تُفنيهم، وأوصاب
تُهرمهم (1) ، وأحداث تتابع عليهم.
ولم يُخْل الله
سبحانه خلقه من نبيٍّ مرسل ، أو كتاب مُنْزل ، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة (2).
رُسلٌ لا تقصِّرُ
بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذّبين لهم : من سابق سُمّي له من بعده، أو غابر
عرّفه من قبله (3) .
على ذلك نسلت
القرون (4) ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء .
إلى أن بعث الله
سبحانه مُحمّداً رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لإنجاز عدته (5)
، وإتمام نبوّته.
مأخوذاً على
النبيّين ميثاقه، مشهورة سماته (6)، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مللٌ متفرّقة وأهواءٌ منتشرة،
وطوائف متشتِّتة، بين مشبِّه لله بخلقه، أو مُلحد في اسمه، أو مشير إلى غيره (7) .
فهداهم به من
الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة.
ــــــــــــ
(1) السقف المرفوع : السماء. والمهاد الموضوع : الأرض . والأوصاب :
المتاعب .
(2) المحجة : الطريق القويمة الواضحة .
(3) من سابق بيان للرسل ، وكثير من الأنبياء السابقين سميت لهم
الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم، كما ترى ذلك في التوراة . والغابر : الذي
يأتي بعد أن يشير به السابق جاء معروفاً بتعريف من قبله .
(4) مضت متتابعة .
(5) الضمير في عدته لله تعالى : لأن الله وعد بإرسال محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم على لسان أنبيائه السابقين. وكذلك الضمير في نبوته : لأنّ
الله تعالى أنبأ به، وأنّه سيبعث وحياً لأنبيائه. فهذا الخبر الغيبي قبل حصوله
يسمى نبوة. ولما كان الله هو المخبر به أضيفت النبوة إليه .
(6) سماته : علاماته التي ذكرت في كتب الأنبياء السابقين الذين بشّروا
به .
(7) الملحد في إسم الله : الذي يميل به عن حقيقة مسمّاه فيعتقد في الله
صفات يجب تنزيهه عنها. والمشير إلى غيره، الذي يشرك معه في التصرّف إلهاً آخر
فيعبده ويستعين به.
ثم اختار سبحانه
لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقاءَهُ، ورضي له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه
إليه كريماً صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وخلَّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذْ لم يتْرُكوهم هملاً بغير طريق واضح،
ولا علم قائم) (أي أنّ الأنبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت
أنبيائهم، وقد كان من محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل ما كان منهم، فإنّه خلّف في أمته كتاب الله تعالى
حاوياً لجميع ما يحتاجون إليه في دينهم، كما خلّف أهل بيته المعصومين وجعلهم قرناء
للكتاب المجيد كما صرّح بذلك في حديث الثقلين الذي تواتر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ورواه جمع غفير من المحدثين.) .
إنّ
بشائر الأنبياء السابقين بنبوّة الأنبياء اللاحقين تنفع الأجيال المعاصرة لهم وكذا
الأجيال اللاحقة; إذ تفتح عيونهم وتجعلهم على أهبة الاستقبال للنبيّ المبشَّر
بنبّوته، كما أنّها تزيل عنهم الريب وتعطيهم مزيداً من الثقة والاطمئنان.
على أن
اليأس من الإصلاح إذا ملأ القلب يجعل الإنسان يفكر بطرق أبواب الشّر والخيانة،
فالبشائر بمجي الأنبياء المصلحين تزيل اليأس من النفوس التي تنتظر الإصلاح وتوجّهها
إلى حبّ الحياة وقرع أبواب الخير.
وتزيد
البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم، فيضعف
صمودهم أمام دعوة النبي إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.
وإذا
أدّت البشارة إلى حصول الثقة فقد لا تُطلب المعجزة من النبيّ، كما تكون النبوّة
المحفوفة بالبشارة أنفذ إلى القلوب وأقرب إلى الإذعان بها. على أنّها تبعّد الناس
عن وطأة المفاجأة أمام واقع غير منتظر، وتخرج دعوة النبيّ عن الغرابة في نفوس
الناس (محمد في القرآن : 36 ـ 37.) .
على أن
الأنبياء جميعاً يشكّلون خطاً واحداً، فالسابق يبشّر باللاحق، واللاحق يؤمن
بالسابق. وقد تكفّلت الآية (81) من سورة آل عمران بالتصريح بسنّة البشائر هذه.
فضلاً عن الشواهد والتطبيقات التي سوف نلاحظها في البحث الآتي.
بشارات
الأنبياء برسالة محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ لقد
نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليهالسلام برسالة
خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم بأسلوب الدعاء قائلاً ـ بعد الكلام عن بيت الله الحرام في مكة
المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيل عليهالسلام وطلب تحقيق اُمة مسلمة من ذريتهما ـ : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة (2) : 129.) .
2 ـ
وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمي كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل).
والعهدان كانا في عصر نزول القرآن الكريم وظهور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو لم تكن البشارة موجودة فيهما لجاهر بتكذيبها أصحاب العهدين.
قال
تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) (الأعراف (7) : 157.) .
3 ـ
وصرّحت الآية السادسة من سورة الصف بأن عيسى عليهالسلام صدَّقَ
التوراة بصراحة وبشّر برسالة نبيّ من بعده اسمه أحمد. وقد خاطب عيسى عليهالسلام بني إسرائيل جميعاً لا الحواريين فحسب.
أهل
الكتاب ينتظرون خاتم النبييّن صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكتف
الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامة للنبيّ المبشَّر به، بل ذكروا أيضاً
العلائم التي يستطيع المبَشَّرون من خلالها معرفته بشكل دقيق، مثل : محل ولادته،
ومحل هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلائم جسمية خاصة وخصائص يتفردّ بها في سلوكه
وشريعته.. ولهذا قال القرآن عن بني إسرائيل بأنهم كانوا يعرفون رسول الإسلام
المبشَّر به في العهدين كما يعرفون أبناءَهم (الانعام (6) : 20.) .
بل
رتبوا على ذلك آثاراً عملية فاكتشفوا محل هجرته ودولته فاستقروا فيها (سيرة رسول الله : 1 / 38 ـ 39.) وأخذوا يستفتحون برسالته على الذين كفروا ويستنصرون برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على الأوس والخزرج (البقرة (2): 89 .) وتسرّبت
هذه الأخبار إلى غيرهم عن طريق رهبانهم وعلمائهم فانتشرت في المدينة وتسرّبت إلى
مكة (أشعة البيت النبوي : 1 / 70 ، عن الأغاني: 16 / 75 ، تاريخ
اليعقوبي: 2 / 12 ، حياة نبي الإسلام : 23 ، عن سيرة ابن هشام: 1 / 181 ، وأعلام
الورى : 26.) .
وذهب
وفد من قريش بعد إعلان الرسالة إلى اليهود في المدينة للتَثبّت من صحة دعوى النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم النبوّة وحصلوا على معلومات اختبروا بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع ما جاء في شأن نزول سورة الكهف.) واتضح لهم من خلالها صدق دعواه.
وقد آمن
جمع من أهل الكتاب وغيرهم بالنبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم على أساس هذه العلائم التي عرفوها من دون أن يطلبوا منه معجزة خاصة (المائدة (5): 83 .) ، وهذه البشائر تحتفظ بها لحد الآن بعض نسخ التوراة والإنجيل (سيرة رسول الله وأهل بيته : 1 / 39 ، إنجيل يوحنّا وأشعة
البيت النبوي : 1 / 70 ، عن التوراة وراجع: بشارات عهدين، والبشارات والمقارنات.) .
وهكذا
تسلسلت البشائر بنبوة خاتم النبيين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم من قبل
ولادته، وخلال
فترة حياته قبل بعثته، وقد عرف واشتهر منها إخبار بحيرا الراهب وغيره إبّان البعثة
المباركة (راجع كتب السيرة النبويّة والتفسير حيث تضمّنت جملة من هذه
البشائر.) .
وقد شهد
علي أمير المؤمنين عليهالسلام بهذه
الحقيقة التأريخية حين قال في إحدى خطبه: (... إلى أن بعث
الله سبحانه محمداً رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لإنجاز
عِدَتِه وإتمام نبوّتِه، مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورةً سِماتُه..) (لاحظ الخطبة الأولى من نهج البلاغة.) .
وقد جاء
في طبقات ابن سعد عن سهل مولى عتيبة انه كان نصرانياً من أهل حريس، وانه كان
يتيماً في حجر أمه وعمّه وأنه كان يقرأ الإنجيل، قال: (...فأخذت مصحفاً لعمي
فقرأته حتّى مرّت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت;
فإذا فصول الورقة ملصق بغراء ، قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم: انه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم يكثر
الاحتباء ولا يقبل الصدقة ويركب الحمار والبعير ويحتلب الشاة ويلبس قميصاً
مرقوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرّية إسماعيل، اسمه
أحمد. قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم جاء عمّي فلّما رأى الورقة ضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة
وقراءتها؟! فقلت: فيها نعت النبيّ أحمد، فقال: إنّه لم يأتِ بَعدُ (الطبقات الكبرى: 1 / 363.) .
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ الأمي العالم :
لقد
تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري (النحل (16) : 103.) ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذب أحد هذه
الحقيقة التي نادى بها القرآن (العنكبوت (29): 48.) .
ترعرع
ونما في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ولقد سمّى هو
ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالم خبير بالعلم
والجهل والعقل والحمق.
أضف إلى
ذلك أنه قد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والثقافة والفكر والتعقّل واحتوى على صنوف
المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة (الجمعة (62) : 2.) وفق منهج بديع حتى أنشأ حضارة فريدة اخترقت الغرب والشرق بعلومها
ومعارفها ولا زالت تتلألأ بهاءً ونوراً.
فهو أمي
ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلى البشرية وبشريعة
عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع
كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.
ومن هنا
قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف (7) : 158.) وقال له: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء (4) : 113.) .
أجل ،
لقد أوحى الله إليه ما أوحى وعلّمه الكتاب والحكمة وجعله نوراً وسراجاً منيراً
وبرهاناً وشاهداً ورسولاً مبيناً وناصحاً أميناً ومذكّراً ومبشّراً ونذيراً (المائدة (5) : 15 ، الأحزاب (33) : 46 ، النساء (4): 174 ،
الفتح (48): 8 ، الزخرف (43): 29 ، الأعراف (7) : 68 ، الغاشية (88) : 21 ،
الإسراء (17) : 105 ، المائدة (5) : 19 .) .
ولقد
شرح الله له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه
العصبية والأنانية الجاهلية فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية
والتعليم.
إنها
نقلة كبيرة أن يصبح المجتمع الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً قوياً لكتاب
الهداية ومشعل العلم ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف، إنها معجزة هذا الكتاب
الخالد وذلك الرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس ـ في ذلك المجتمع الجاهلي ـ
عن الخرافات والأساطير. إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.
2 ـ أوّل
المسلمين العابدين :
إن
الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم قدرته ونفاذ
حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي القمة
الاولى التي لابد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيّأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد
شهد القرآن الكريم بذلك لهذا النبيّ العظيم حين قال عنه : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام (6): 161 ـ 163.) .
إنّه
وسام الكمال الذي حازه هذا العبد المسلم وفاق في عبوديته من سواه على الإطلاق
وتجلّت هذه العبودية المثلى في قوله وسلوكه حتى قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (قرّة عيني في الصلاة) (أمالي الطوسي: 2 / 141.) فهو ينتظر وقت الصلاة ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه
بلال: أرحنا يا بلال (بحار الأنوار: 83 / 16.) وقد
كان يحدّث أهله ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه (أخلاق النبي وآدابه: 251.) . وكان إذا صلّى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (المصدر السابق : 201.) . ويبكي حتى يبل مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ (سنن النبي: 32.) ، وكان
يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخّر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً (أخلاق النبي : 199 ، وصحيح البخاري : 1 / 381 / الحديث
1078.) ؟
وكان
يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر (وسائل الشيعة: 4 / 309.) ، وكان اذا دخل شهر رمضان يتغيّر لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء (سنن النبي: 300.) . واذا دخل العشرالأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيى الليل وتفرّغ للعبادة (الكافي: 4 / 155.) . وكان يقول عن الدعاء : (الدعاء مخّ
العبادة) (المحجة البيضاء: 2 / 282.) و (سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض) (المصدر السابق : 2 / 284.) . وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء
في كل عمل كبير أو صغير، حتى كان يستغفر الله كل يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين
مرة من غير ذنب (بحار الأنوار: 16 / 217.) ، ولم يستيقظ من نوم قطّ إلاّ خرّ لله ساجداً (المصدر السابق : 16 / 253.) وكان يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة ويقول: (الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كل حال) (الكافي : 2 / 503 .) ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به.
ونزل
عليه جبرئيل مخففاً لمّا أجهد نفسه بالعبادة بقوله تعالى: (طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (طه (20) : 1 ـ 2 .)
3 ـ الثقة المطلقة بالله تعالى:
قال
الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أليس الله بكاف عبده) (الزمر (39): 36.) .
وقال له
أيضاً : (وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) (الشعراء (26): 217 ـ 219.) .
وقد كان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قال الله تعالى على ثقة مطلقة به سبحانه.
جاء عن جابر أنه قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله، فجاء رجل
من المشركين وسيف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معلق بالشجرة فاخترطه وقال: تخافني؟ قال: لا.
قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: الله.
فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله السيف فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا اله الاّ
الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون
مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس (رياض الصالحين (للنووي) : 5 / الحديث 78 ، وصحيح مسلم: 4 /
465.) .
4 ـ الشجاعة الفائقة :
قال
الله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب (33): 39.) وجاء عن علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ الذي
طأطأ له فرسان العرب ـ أنّه: كنّا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ
اتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فما
يكون أحد أدنى من القوم منه (فضائل الخمسة من الصحاح الستة : 1 / 138.) .
ووصف
المقداد ثبات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم أحد بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحده فقال: والذي بعثه بالحق إن رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ تثوب إليه طائفة من أصحابه
مرّة
وتتفرّق
عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أويرمي بالحجر حتى تحاجروا (مغازي الواقدي: 1 / 239 ـ 240.) .
5 ـ زهد منقطع النظير :
قال
تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه (20): 131.) .
وعن أبي
أمامة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: أنه قال: عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت:
لا يا ربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً.. فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ
شكرتُك وحمدتُك (سنن الترمذي : 4 / 518 / الحديث 2377.) .
ونام
على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقيل له: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءاً فقال: ما لي وما للدنيا؟! ما أنا في الدنيا الاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح
وتركها (3) .
وقال ابن
عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً وكان
اكثر خبزهم خبز الشعير (سنن الترمذي : 4 / 501 / الحديث 2360.) .
وقالت
عائشة: ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلاّ إحداهما تمر (صحيح البخاري: 5 / 2371 / الحديث 6090.) .
وقالت :
تُوفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعاً من شعير (صحيح البخاري : 3 / 1068 / الحديث 2759.) .
وعن أنس
بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنّه أوّل
طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام (الطبقات (لابن سعد) : 1 / 400.) .
وعن
قتادة قال: كنّا عند أنس وعنده خبّاز له فقال: ما أكل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم خبزاً مرقّقاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله (مسند أحمد : 3 / 582 / الحديث 11887.) .
6 ـ جود وحلم عظيمان :
قال ابن
عبّاس: كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان.. إن جبريل كان
يلقاه في كل سنة من رمضان.. فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (صحيح مسلم : 4 / 481 / الحديث 3308 ، ومسند أحمد: 1 0/ 598
/ الحديث 3415.) .
وقال
جابر: ما سُئل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً قطّ فقال لا (سنن الدارمي: 1 / 34.) .
وروي أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتى
صاحب بزٍّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار.
فقال: يا رسول الله أكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة فنزع القميص فكساه
إيّاه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم وبقي معه درهمان
فاذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما
يبكيك؟ قالت: يا رسول
الله، دفع إليّ أهلي درهمان اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشى معها إلى أهلها فسلّم
فعرفوا صوته، ثمّ عاد فسلّم، ثمّ عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم أوّل السلام؟
فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام. فما أشخصك بأبينا وأمِّنا؟ قال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، قال صاحبها: هي حرّة لوجه الله لممشاك معها. فبشّرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخير وبالجنّة; وقال: لقد
بارك الله في العشرة كسا الله نبيّه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها
رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته (المعجم الكبير (الطبراني) : 12 / 337 / الحديث 13607.) .
وكان
إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل (حياة النبي وسيرته : 3 / 311 .) .
وعن
عائشة: أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما انتقم لنفسه شيئاً يؤتى إليه إلاّ أن تنتهك حرمات الله. ولا ضرب
بيده شيئاً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلاّ أن
يُسألَ مأثماً فإنه كان أبعد الناس منه (حياة النبي وسيرته : 3 / 306.) .
وعن
عبيد بن عمير: أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما أتي في غير حدٍّ إلاّ عفا عنه (المصدر : 3 / 307.) .
وقال
أنس: خدمت رسول الله عشر سنين. فما قال لي اُفٍّ قطّ، وما قال لشي صنعتهُ: لِم
صنَعْتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟ (صحيح البخاري : 5 / 2260 / الحديث 5738.) .
وجاءه
أعرابي فجذب رداءه بشدّة حتى أثرت حاشية الرداء على عاتق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك
ثم أمر له بعطاء .
لقد
عُرف صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعفو والسماحة طيلة حياته... فقد عفا عن وحشي قاتل عمه حمزة... كما
عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاة مسمومة وعفا عن أبي سفيان وجعل الدخول
إلى داره أماناً من القتل. وعفا عن قريش التي عتت عن أمر ربّها وحاربته بكل ما
لديها.. وهو في ذروة القدرة والعزّة قائلاً لهم: (اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون .. اذهبوا فأنتم الطلقاء) (محمد في القرآن: 60 ـ 65.) .
لقد
أفصح القرآن عن عظمة حلم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران (3): 159.) ، ووصف مدى رأفته ورحمته بقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة (9): 128.) .
7 ـ حياؤه وتواضعه :
عن أبي
سعيد الخدريّ: كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها وإذا كره شيئاً عُرف في وجهه (صحيح البخاري : 3 / 1306 / ألحديث 3369.) .
وعن علي
عليهالسلام: كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم
وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا (مجمع الزوائد: 9 / 13.) .
وعن
يحيى بن أبي كثير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال: آكُل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.
فإنّما أنا عبد (الطبقات ( لابن سعد ) : 1 / 37 / ومجمع الزوائد: 9 / 19.) . كما اشتهر عنه أنه كان يسلّم على الصبيان (حياة النبي وسيرته : 3 / 313 / عن ابن سعد.) .
وكلّم النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم رجلاً فأرعد. فقال: هَوِّن عليك فإني
لستُ بملِك إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد (سنن ابن ماجة : 2 / 1101 / الحديث 3312.) .
وعن أبي
أمامة: خرج علينا رسول الله متوكّئاً على عصا، فقمنا إليه فقال: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) (سنن أبي داود : 4 / 358 / الحديث 5230.) .
وكان
يداعب أصحابه ولا يقول إلاّ حقّاً (سنن الترمذي : 4 / 304 / الحديث 1990.) . ولقد شارك أصحابه في بناء المسجد (مسند أحمد : 3 / 80 .) وحفر الخندق (الطبقات (لابن سعد): 1 / 240.) وكان يكثر من مشاورة أصحابه بالرغم من أنّه كان أرجح الناس عقلاً (الدر المنثور : 2 / 359 ، والمواهب اللدنيّة: 2 / 331.) .
وكان
يقول : (اللهم أحيني مسكيناً وتوفّني مسكيناً واحشرني في
زمرة المساكين وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة)
(سنن الترمذي : 4 / 499 / الحديث 2352.) .
هذه
صورة موجزة جداً عن بعض ملامح شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعض
جوانب سلوكه الفردي والاجتماعي. وهناك صور رائعة وكثيرة عن سلوكه وسيرته الإدارية
والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأسرية التي تستحق الدراسة المعمّقة للتأسي بها
والاستلهام منها، نتركها إلى الفصول اللاحقة.
الباب
الثاني: فيه فصول:
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة.
الفصل
الثاني دور الفتوّة والشباب.
الفصل
الثالث من الزواج إلى البعثة.
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة
1 ـ ملامح انهيار
المجتمع الوثني:
استحكم
الفساد والظلم في مجتمع الجزيرة في الفترة التي سبقت البعثة النبوية فلم تعد كتلة
المجتمع واحدة ولم تكن الخصائص الاجتماعية والثقافية التي أوجدتها طبيعة الحياة في
الصحراء كافية لإيقاف حالة الانهيار التي بدت ملامحها على المجتمع في الجزيرة
العربية. وما الأحلاف التي نشأت إلا تعبير عن ظاهرة اجتماعية لمقاومة ذلك التحلل
ولكنها في تعددها دليل على انعدام القوة المركزية في المجتمع.
ولا
نلاحظ حركة إصلاحية تغييرية يذكرها لنا التأريخ تكون قد سعت للنهوض بالمجتمع
والارتقاء به نحو الحياة الفضلى سوى حركة بعض الأفراد التي تعبر عن حالة الرفض
لهذا التفسخ والظلم الاجتماعي متمثلة في حالة التحنّث التي أبداها عدد قليل من
أبناء الجزيرة العربية ولم ترتق إلى مستوى النظرية أو الحركة التغييرية الفاعلة
في المجتمع... (راجع السيرة النبوية: 1/225.) وتفكك المجتمع القرشي قد نلاحظه أيضاً في ظاهرة اختلافهم حول بناء الكعبة
في الوقت الذي كانت قريش من أعز القبائل العربية وأشدها تماسكاً. ويمكن لنا أن
نستدل على تمادي المجتمع في الفساد من خلال الإنذارات المتكررة من اليهود القاطنين
في الجزيرة العربية واستفتاحهم على أهالي الجزيرة بظهور المصلح المنقذ للبشرية
برسالته السماوية وكانوا يقولون لهم: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم (بحار الأنوار: 15/231، وراجع السيرة النبوية: 1/211،
البقرة: 2/89.) .
2 ـ إيمان آباء
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ولد
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وترعرع في عائلة تدين بالتوحيد وتتمتع بسمو الأخلاق وعلو المنزلة.
فإيمان جدّه عبد المطلب نلمسه من كلامه ودعائه عند هجوم أبرهة الحبشي لهدم الكعبة
إذ لم يلتجئ إلى الأصنام بل توكل على الله لحماية الكعبة (السيرة النبوية: 1 / 43 ـ 62 ، الكامل في التأريخ: 1 / 260
، بحار الأنوار: 5 / 130.) . بل
يمكن أن نقول إن عبد المطلب كان عارفاً بشأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومستقبله المرتبط بالسماء من خلال الأخبار التي أكدت ذلك . وتجلّت
اهتماماته به في الاستسقاء بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو رضيع، وما ذلك إلاّ لما كان يعلمه من مكانته عند الله المنعم
الرازق (السيرة الحلبية : 1 / 182 ، الملل والنحل للشهرستاني: 2 /
248.) ، والشاهد الآخر هو تحذيره لأُم أيمن من الغفلة عنه عندما كان صغيراً
(سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1 / 64، وراجع تاريخ
اليعقوبي: 2 / 10.) .
وكذلك
حال عمه أبي طالب الذي استمر في رعاية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعمه
لأجل تبليغ الرسالة والصدع بها حتى آخر لحظات عمره المبارك متحملاً في ذلك أذى قريش وقطيعتهم وحصارهم له في الشعب. ونلمس هذا في ما روي عن أبي
طالب عليهالسلام في عدة مواقف ترتبط بحرصه على سلامة حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية : 1 / 979 ، تاريخ ابن عساكر: 1 / 69 ، مجمع
البيان: 7 / 37 ، مستدرك الحاكم: 2 / 623 ، الطبقات الكبرى: 1 / 168، السيرة
الحلبية: 1 / 189 ، اصول الكافي: 1 / 448 ، الغدير: 7 / 345.) .
وأما والدا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فالروايات دالّة على نبذهما للشرك والأوثان ويكفي دليلاً قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لم أزل أُنقل من
أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات) وفيه
إيعاز إلى طهارة آبائه وأمهاته من كل دنس وشرك (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1 / 58 ، وراجع
أوائل المقالات للشيخ المفيد: 12 و13.) .
3 ـ مولد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ما إن
استنفذت الديانة النصرانية أغراضها في المجتمع البشري ولم تعد لها فاعلية تذكر حتى
حلّت في الدنيا كلّ مظاهر التيه والزّيغ، وأمسى الناس كافة ضُلاّل فتن وحيرة،
استخفّتهم الجاهلية الجهلاء، ولم تكن أوضاع الروم بأقل سوءاً من أوضاع منافسيهم في
فارس، وما كانت جزيرة العرب أفضل وضعاً من الاثنين. والكل على شفا حفرة من النّار.
وقد وصف
القرآن بصورة بليغة جانباً مأساوياً من حياة البشر آنذاك، كما وصف سيد أهل بيت
النبوة علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
الوضع المأساوي وصفاً دقيقاً عن حس ومعايشة في عدّة خطب، منها قوله في وصف حال
المجتمع الذي بُعث فيه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم:
(أرسله على حين
فترة من الرسل وطول هجعة من الأُمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأُمور وتلظّ من
الحروب والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من
ثمرها، واغورار من مائها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة
لأهلها ، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف،
ودثارها السيف) (نهج
البلاغة: الخطبة (89).) .
في مثل
هذا الظرف العصيب الذي كانت تمر به البشرية سطع النور الإلهي فأضاء العباد والبلاد
مبشراً بالحياة الكريمة والسعادة الأبدية. وذلك عندما بوركت أرض الحجاز بمولد
النبيّ الأكرم محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عام الفيل سنة (570 ميلادية) وفي شهر ربيع الأول على ما هو عليه
أكثر المحدثين والمؤرخين.
وأما عن يوم ميلاده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد حدّده أهل بيته عليهمالسلام ـ وهم أدرى بما في البيت ـ فقالوا: هو يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع
الفجر، كما هو المشهور بين الإمامية، وعند غيرهم أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من الشهر نفسه (راجع ، إمتاع الأسماع: 3 حيث تجد جميع الأقوال المذكورة حول
يوم ميلاد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.) .
وتتحدث
جملة من المصادر التأريخية والحديثية عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادته مثل: انطفاء
نار فارس، وزلزال أصاب الناس حتّى تهدّمت الكنائس والبيَع وزال كلّ شيء يُعبد من
دون الله عزّ وجل عن موضعه، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها حتّى
عُمّيت على السحرة والكهّان أُمورهم، وطلوع نجوم لم تُر من قبل هذا وقد ولد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول: (الله أكبر، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)
(تاريخ اليعقوبي: 2 / 8 ، السيرة الحلبية: 1 / 92.) .
واشتهر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بـ: اسمين: (محمّد)
و(أحمد) وقد ذكرهما القرآن الكريم، وروى المؤرخون أنّ جدّه عبد المطلب قد سمّاه
(محمداً)، وأجاب من سأله عن سبب التسمية قائلاً: أردت أن يحمد في السماء والأرض (السيرة الحلبية: 1 / 128.) . كما أن أُمه آمنة سمّته قبل جده بـ : (أحمد).
وقد
بشّر به الإنجيل على لسان عيسى عليهالسلام ـ كما
أخبر القرآن الكريم بذلك وصدّقه علماء أهل الكتاب ـ وقد حكاه قوله تعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف (61): 6 ، راجع السيرة الحلبية: 1 / 79 .) . ولا مانع من أن يعرف الشخص باسمين ولقبين وكنيتين في عرف الجزيرة
العربية وغيرها.
4 ـ
رضاعه الميمون :
أصبح
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الشغل الشاغل لجدّه عبد المطلب الذي فقد ابنه عبد الله ـ وهو أعزّ
أبنائه ـ في وقت مبكّر جداً. من هنا أوكل جدّه رضاعه إلى (ثويبة) وهي
جارية لأبي لهب كي يتسنى لهم إرساله إلى بادية بني سعد ليرتضع هناك وينشأ في بيئة
نقيّة بعيداً عن الأوبئة التي كانت تهدد الأطفال في مكة ويترعرع بين أبناء البادية
كما هي عادة أشراف مكة في إعطاء أطفالهم الرضّع إلى المراضع وكانت مراضع قبيلة بني سعد من المشهورات بهذا الأمر، وكانت تسكن حوالي مكة ونواحي الحرم وكانت نساؤهم يأتين إلى مكة في
موسم خاص من كل عام يلتمسن الرضعاء خصوصاً عام ولادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كانت سنة جدب وقحط فكنّ بحاجة إلى مساعدة أشراف مكة.
وزعم
بعض المؤرخين أنه لم تقبل أية واحدة من تلك المراضع أن تأخذ (محمداً) بسبب يتمه،
وأوشكت قافلة المراضع أن ترجع ومع كل واحدة رضيع إلاّ حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
فقد أعرضت عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّل
الأمر كغيرها من المرضعات وحين لم تجد رضيعاً قالت لزوجها: والله لأذهبن إلى ذلك
اليتيم فلآخذنه. ورجح لها زوجها ذلك فرجعت إليه واحتضنته والأمل يملأ نفسها في أن تجد بسببه الخير والبركة (السيرة الحلبية: 1 / 146.) .
ويردّ
هذا الزعم مكانة البيت الهاشمي الرفيعة وشخصية جدّه الذي عرف بالجود والإحسان
ومساعدة المحتاجين والمحرومين.
على أن
بعض المؤرخين قد ذكر أن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر (الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم: 1 / 81 ، السيرة الحلبية: 1 / 81 .) .
كما روي
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقبل إلاّ ثدي (حليمة) (بحار الأنوار: 15 / 342.) .
قالت
حليمة: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد. قال ما
اسمك ؟ قلت: حليمة. فتبسم عبد المطّلب وقال: بخ بخ سعدٌ وحلم خصلتان فيهما خير
الدهر وعزّ الأبد (السيرة الحلبية: 1 / 147.) .
ولم يخب
ظنّ حليمة في نيل البركة وزيادة الخير بأخذ يتيم عبد المطلب فقد روي أن ثدي
حليمة كان خالياً من اللبن فلما ارتضع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منه امتلأ ودرّ لبناً.
وتقول حليمة: عندما
أخذنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عرفنا
الخير والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى أثرينا بعد الجدب والجهد (بحار الأنوار: 15 / 345 ، المناقب لابن شهرآشوب: 1 / 24 ،
وراجع السيرة الحلبية: 1 / 149.) .
وأمضى
وليد (عبد المطلب) في أحضان حليمة وزوجها في مرابع بني سعد ما يقارب خمس سنوات رجعت به
خلالها إلى أهله عند فطامه بعد أن أتم السنتين على كره منها; لما وجدت فيه من
السعادة والخير، كما أن أُمّه أرادت أن يشتد عود ابنها بعيداً عن مكة، خوفاً عليه
من الأمراض فرجعت به مسرورة.
وروي
أنها جاءت به ثانيةً إلى مكة خوفاً عليه من أيادي السوء عندما شاهدت جماعة من
نصارى الحبشة القادمين إلى الحجاز قد أصرّوا على أخذه معهم إلى الحبشة لأنهم وجدوا
فيه علائم النبىّ الموعود، لينالوا بذلك شرف احتضانه وبلوغ المجد باتّباعه (السيرة النبوية: 1 / 167 ، بحار الأنوار: 15 / 401 ، السيرة
الحلبية: 1 / 155.) .
5 ـ الاستسقاء
بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أشار
المؤرخون إلى ظاهرة الاستسقاء برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم التي حدثت أكثر من مرة في حياته، حين كان رضيعاً وحين كان غلاماً في
حياة جدّه وعمه أبي طالب. فالمرة الأولى: لمّا أصاب أهل مكّة من الجدب العظيم،
وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر عبد المطلب ابنه أبا طالب أن يحضر حفيده محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم فأحضره
ـ وهو رضيع في قماط ـ فوضعه على يديه واستقبل الكعبة وقدّمه إلى السماء، وقال: يا
ربِّ بحق هذا الغلام، وجعل يكرّر قوله ويدعو: اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً،
فلم يلبث ساعة حتى أطبقت الغيوم وجه السماء وهطل المطر منهمراً حتى خافوا من شدته
على المسجد أن ينهدم (الملل والنحل: 2 / 248 ، وراجع السيرة الحلبيه: 1 / 182 ـ 183.) .
وتكرر
الاستسقاء ثانياً بعد مدة وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرة غلاماً حين خرج به عبد المطلب إلى جبل أبي قبيس ومعه
وجوه قريش يرجون الاستجابة ببركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد أشار أبو طالب إلى هذه الواقعة بقصيدة أولها:
أبونا شفيع الناس حين سقوا به |
|
من الغيث رجاس العشير بكور |
ونحن ـ سنين المحل ـ قام شفيعنا |
|
بمكّة يدعو والمياه تغور (3) |
السيرة الحلبية: 1 / 331.
ونقل
المؤرّخون أن قريشاً طلبت من أبي طالب أن يستسقي لهم فخرج أبو طالب إلى المسجد
الحرام وبيده النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وهو غلام ـ كأنه شمس دجى تجلّت عنها غمامة ـ فدعا الله بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبلت السحاب في السماء وهطل المطر فسالت به الأودية وسرّ الجميع
وقد ذكر أبو طالب هذه الكرامة أيضاً عندما تمادت قريش في عدائها للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ورسالته المباركة فقال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ربيع اليتامى عصمة للأرامل |
تلوذ به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل (1) |
السيرة الحلبية: 1 / 190، البداية والنهاية: 3 / 52، بحار الأنوار: 8 /
2.
وكلّ
هذا يعرب لنا عن توحيد كفيلي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخالص وإيمانهما بالله تعالى، ولو لم يكن لهما إلاّ هذان الموقفان
لكفاهما فخراً واعتزازاً. وهذا يدل أيضاً على أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نشأ في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي الحنيفية وتوحيد الله
تعالى.
6 ـ مع
اُمّه آمنة :
لم
يتمتع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطول رعاية أُمه الحنون التي عاشت بعد أبيه وهي تنتظر أن يشبَّ يتيم
عبد الله ليكون لها سلوةً عن فقد زوجها الحبيب ولكن الموت لم يمهلها طويلاً. فقد
روي أن حليمة السعدية جاءت بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أهله وقد بلغ خمس سنين. وأرادت أُمه آمنة أن تحمله معها وتزور
قبر زوجها العزيز ويزور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أخواله من بني النجار في يثرب فيتعرف في هذه السفرة عليهم ولكن هذه
الرحلة لم تترك على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ حزناً آخر حيث فقد أُمه في طريق العودة في منطقة تدعى بالأبواء بعد أن زار الدار
التي توفيّ ودفن فيها أبوه، وكأنّ
تلاحق الأحزان على قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في طفولته كانت خطوات إعداد إلهي لتتكامل نفسه الشريفة.
وواصلت
أُم أيمن رحلتها نحو مكة وهي تصطحب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لتسلمه إلى جدّه عبد المطلب الذي ازداد تعلّقاً بحفيده محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة الحلبية: 1 / 105.) .
7 ـ مع
جدّه عبد المطّلب :
بلغ
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في قلب عبد المطلب مكانة لم يبلغها أحد من بنيه وأحفاده وهم سادات
بطحاء مكة، فقد روي
أن عبد المطلب كان يجلس في فناء الكعبة على بساط كان يُمد له وحوله وجوه قريش
وساداتها وأولاده، فإذا
وقعت عيناه على حفيده (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بأن يفرج له حتى يتقدم نحوه ثمّ يجلسه إلى جنبه على ذلك البساط
الخاص به (السيرة النبوية: 1 / 168.) . وهذه العناية من سيد قريش قد عزّزت من مكانة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في نفوس قريش إضافة إلى سمو أخلاقه منذ نعومة أظفاره.
ولقد
أشار القرآن الكريم إلى فترة اليتم هذه التي اجتازها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت رعاية ربه بقوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) إن فترة اليتم عادة تصب في صياغة الإنسان وإعداده للنضج والاعتماد
على النفس في تحمّل الصعاب والمكاره عند مواجهتها والصبر عليها. وهكذا تولّى الله
إعداد نبيّه المختار ليكون قادراً على تحمل مهام المستقبل وحمل الرسالة الكبرى
التي كانت تنتظر نضجه وكماله. وقد أشار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه الحقيقة بقوله: (أدبني ربي فأحسن
تأديبي) (مجمع البيان : 5 / 333 تفسير مطلع سورة القلم .) .
ولم يمض
من عمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر
من ثمان سنوات حتى مُني بمحنة ثالثة وهي فقد جدّه العظيم (عبد المطلب)، وقد
حزن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لموت جدّه حزناً لا يقل عن حزنه لموت أُمه حتى أنّه بكى بكاء شديداً
وهو يتبع نعشه إلى مقرّه
الأخير، ولم ينس ذكره أبداً; إذ كان يرعاه خير رعاية وكان عارفاً بنبوّته فقد روي
أنّه قال ـ لمن أراد أن ينحي عنه محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما كان طفلاً يدرج ـ : دع ابني فإنّ الملك قد أتاه (تاريخ اليعقوبي : 2 / 10.) .
الفصل
الثاني: دور الفتوّة والشباب
1 ـ كفالة أبي طالب
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
لقد
استمرت رعاية عبد المطلب لحفيده (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أوكل أمره إلى ولده أبي طالب لما كان يعلم من أن أبا طالب سيقوم
برعاية ابن أخيه خير قيام وهو وإن كان فقيراً لكنّه كان أنبل إخوته وأكرمهم في
قريش مكانة واحتراماً. على أنّ أبا طالب كان شقيق عبد الله لأُمه وأبيه وهو مما
يزيد أواصر التلاحم مع (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم والحنان والعطف عليه.
وتقبّل
أبو طالب هذه المسؤولية بفخر واعتزاز وكانت تعينه في ذلك زوجته الطيبة فاطمة بنت
أسد فكانا يؤثران محمداً بالنفقة والكسوة على نفسيهما وعلى أولادهما، وقد عبّر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك حين وفاة فاطمة بنت أسد قائلاً: اليوم ماتت أُمي.
وكفّنها بقميصه واضطجع في لحدها.
ومنذ
وفاة عبد المطلب بدأت مهمة أبي طالب الشاقّة في المحافظة على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فكان يقيه بماله ونفسه وجاهه منذ صغره ويدافع عنه وينصره بيده ولسانه
طوال حياته حتى نشأ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وتلقّى النبوّة وصدع بالرسالة (مناقب آل أبي طالب: 1 / 35 ، تاريخ اليعقوبي: 2 / 14.) .
2 ـ
السفرة الأولى إلى الشام :
كان من
عادة قريش الخروج إلى الشام كل عام مرة للتجارة إذ كانت هي المصدر الرئيس للكسب
وعزم أبو طالب على الخروج في هذه الرحلة ولم يكن يفكر في استصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم خوفاً عليه من وعثاء السفر ومخاطر اجتياز الصحراء، ولكن في لحظة
الرحيل غيّر أبو طالب قراره إذ وجد الإصرار لدى ابن أخيه كبيراً حين أغرورقت عيناه
بالدموع لفراق عمه، فكانت الرحلة الاُولى لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام بصحبة عمّه. واطّلع محمّد في هذه الرحلة على طبيعة السفر
عبر الصحراء وعرف طرق سير القوافل.
وفي هذه
الرحلة شاهد بحيرا الراهب محمّداً والتقى به ووجد فيه علامات النبيّ الخاتم الذي بشّر به عيسى عليهالسلام إذ كان ممن خبر
التوراة والإنجيل وغيرهما من المصادر المبشرة بظهور النبي الخاتم، فنصح عمه أبا
طالب أن يعود به إلى مكة وأن يحتاط عليه من اليهود لئلاّ يغتالوه (1) . فقفل أبو طالب راجعاً إلى مكة ومعه ابن أخيه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
3 ـ رعي
الغنم :
لم يرو عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام ما ينص
على أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رعى الأغنام في صباه، نعم روي عن الإمام الصادق عليهالسلام حديث يعمّ الأنبياء فيما يخص الرعي وحكمة ذلك إذ جاء فيه: (ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم، يعلّمه بذلك رعيه للناس).
كما روي
عنه عليهالسلام في حكمة الحرث والرعي قوله: (إنّ الله عزّ وجلّ
أحبّ لأنبيائه من الأعمال: الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء) (علل الشرائع: ص23، سفينة البحار: مادة نبأ.) .
وروي
أيضاً: إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كان أجيراً لأحد قط (تاريخ اليعقوبي: 2 / 21، البداية والنهاية: 2 / 296.) .
ويدل
هذا النّص على أنّه
لم يكن يرعى الغنم لأهل
مكة بأجرة كما زعم
بعض المؤرخين من أ نّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رعى الغنم لأهل مكة مستشهداً بحديث جاء في صحيح البخاري (صحيح البخاري: كتاب الإجارة، الباب 303 ، الحديث رقم 499 .) .
وإذا
ثبت لدينا رعيه صلىاللهعليهوآلهوسلم للغنم
في صباه أو في عنفوان شبابه أمكن تعليل ذلك بما جاء في النصّ الذي أشرنا إليه من
حديث الإمام الصادق عليهالسلام وهو
الإعداد الإلهي له من خلال ممارسة النشاط الذي يؤهله لبلوغ المرتبة السامية من
الكمال الذي وصفه الله تعالى به بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم : 68/4.) كمالاً يجعله
مستعداً لتحمل أعباء الرسالة الإلهية التي تتطلب رعاية الناس وتربيتهم والصبر على
مصاعب هدايتهم وإرشادهم.
4 ـ
حروب الفجار :
كانت
للعرب عدّة حروب استحلّت فيها حرمة الأشهر الحرم فسميت بحروب الفجار (موسوعة التاريخ الإسلامي 1 : 301 ـ 305 عن الأغاني 19 : 74
ـ 80 .) .
وزعم
بعض المؤرخين أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد حضر
بعض أيامها، وشارك فيها بنحو من المشاركة. وقد شكك بعض المحققين في ذلك لأسباب
منها:
أولاً: أن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كلما تقدم في العمر كانت شخصيته تزداد تألّقاً وقد عرف بشجاعته
الفائقة كسائر بني هاشم، ولكن هذا لا يعني أنهم شاركوا في حرب فيها ظلم وفساد. فقد
روي أن أحداً من بني هاشم لم يحضر هذه الحروب فإن أبا طالب كان قد منع أن يكون
فيها أحد منهم حين قال: هذا ظلم وعدوان، وقطيعة رحم، واستحلال للشهر الحرام، ولا
أحضره ولا أحد من أهلي (تاريخ اليعقوبي: 2 / 15.) .
وانسحب عبد الله بن جدعان وحرب بن أُمية ـ وهو قائد قريش وكنانة حينذاك ـ وقالا:
لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم (تاريخ اليعقوبي : 2 / 15 .) .
ثانياً: اختلفت
الروايات حول الدور الذي أدّاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه
الحرب، فبعضهم روى: أنّ عمله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يقتصر على مناولة النبل لأعمامه والردّ على نبل عدوهم وحفظ متاعهم (راجع موسوعة التاريخ الإسلامي : 1 / 304 .) . وروى آخر: أنّه قد رمى فيها برميات (السيرة النبوية لزيني دحلان: 1 / 251، السيرة الحلبية: 1 /
127.) ، وروى ثالث أنه طعن أبا البراء ملاعب الأسنة فصرعه (السيرة النبوية لزيني دحلان: 1 / 251، السيرة الحلبية: 1 /
127.) مع أنه كان غلاماً (تاريخ اليعقوبي: 2 / 16.) ، ولا ندري هل كانت العرب تسمح للغلام بخوض المعارك والحروب (راجع الصحيح في السيرة : 1 / 95 .) .
5 ـ حلف
الفضول :
شعرت
قريش بعد حرب الفجار بضعفها وتفرّق كلمتها، وخشيت من طمع العرب فيها بعد أن كانت
قويةً منيعةً، فدعا الزبير بن عبد المطلب إلى حلف الفضول حيث اجتمعت بنو هاشم
وزهرة وتميم وبنو أسد في دار عبد الله بن جدعان، وغمس المتحالفون أيديهم فى ماء
زمزم وتحالفوا على نصرة المظلوم، والتأسي بالمعاش، والنهي عن المنكر (البداية والنهاية: 3 / 293، وراجع شرح النهج لابن أبي
الحديد: 14 / 129 و283.) وكان أشرف حلف في العهد الجاهلي. وقد شارك محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الحلف وكان يومئذ قد جاوز العشرين من عمره (تاريخ اليعقوبي: 1 / 17.) وقد أثنى عليه بعد نبوّته وأمضاه. بقوله: ما أحب أن لي بحلف حضرته في
دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت) (سيرة ابن هشام: 1 / 142.) .
وقيل في
سبب تسميته بحلف الفضول أنه قد حضره ثلاثة نفر أسماؤهم مشتقة من مادة (الفضل) وكان السبب في عقد هذا الحلف ما روي من أنه: أتى رجل من زبيد أو من بني أسد بن خزيمة مكة في شهر ذي القعدة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وحبس عنه حقه فاستعدى عليه
الزبيدي قريشاً فأبت الأحلاف من قريش معونة الزبيدي على العاص بن وائل وانتهروه
فلما رأى الزبيدي الشرّ صعد على جبل أبي قبيس واستغاث فقام الزبير بن عبد المطلب
ودعا إلى الحلف المذكور; فعقد، ثم مشوا إلى العاص وانتزعوا منه سلعة الزبيدي
فدفعوها إليه (السيرة الحلبية: 1 / 132، البداية والنهاية: 2 / 291.) .
6 ـ التجارة بأموال
خديجة :
بدأت
شخصية محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم تتلألأ في المجتمع المكي بما كانت تتمتع به من خلق رفيع وعلو همة
وأمانة وصدق حديث فكانت القلوب تنجذب إليه وهو سليل أسرة طاهرة ولكن الفقر الذي
كان حليف أبي طالب دفع بالأسرة الكريمة التي كان يعيش فيها محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن يقترح أبو طالب على ابن أخيه الذي كان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يخرج مضارباً بأموال خديجة بنت خويلد وبادر أبو طالب إلى خديجة
وفاتحها بالأمر فرحّبت به على الفور وسرّت سروراً عظيماً لما كانت تعرفه عن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد بذلت له ضعف ما كانت تبذل لغيره ممّن يخرج في تجارتها (راجع بحار الأنوار: 16 / 22، كشف الغمة: 2 / 134 نقلاً عن
معالم العترة للجنابذي، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: 1 / 132.) .
وسافر
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام يعينه في رحلته (ميسرة) غلام خديجة واستطاع بجمال شمائله
ورقيق عواطفه أن يكسب حبّ ميسرة وإجلاله واستطاع بأمانته وحنكته أن يربح أوفر
الربح وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلما عادت القافلة إلى مكة أخبر
ميسرة خديجة بما شاهد وسمع (البداية والنهاية: 2 / 296، السيرة الحلبية: 1 / 136.) مما زاد في اهتمام خديجة بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وشوّقها إلى الاقتران به.
وزعم
بعض المؤرخين: أنّ خديجة قد استأجرته في تجارتها، بينما قال اليعقوبي ـ وتاريخه
الذي يعدّ من أقدم المصادر المعتمدة ـ: (وإنه ما كان مما يقول الناس: إنها
استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قط) (تاريخ اليعقوبي: 2 / 21.) .
وقد ورد
النصّ عن الإمام الحسن العسكري، عن أبيه الإمام الهادي عليهالسلام: (إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد) (بحار الأنوار: 17 / 308.) .
الفصل
الثالث: من الزواج إلى البعثة
1 ـ الزواج المبارك
:
كان
لابد لمثل شخصية محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم التى فاقت كلّ شخصيّة من الاقتران بامرأة تناسبه وتتجاوب مع عظيم
أهدافه وقيمه تواصل معه رحلة الجهاد والعمل المضنية وتصبر على متاعبه ومصاعبه، ولم
يكن يومذاك امرأة تصلح لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولهذه المهمة سوى خديجة، وشاء الله ذلك فاتجه قلب خديجة بكلّ عواطفه
نحو محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعلق بشخصه الكريم. ولقد كانت خديجة (رضي الله عنها) من خيرة نساء
قريش شرفاً وأكثرهن مالاً وأحسنهن جمالاً، وكانت تدعى في الجاهلية بـ(الطاهرة)
و(سيدة قريش). وكان كل رجال قومها حريصين على الاقتران بها.
وقد
خطبها عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، فرفضتهم جميعاً (بحار الأنوار: 16 / 22.) لما كانت تملك من عقل راجح يزن الأمور، ولكنّها اختارت محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم لما عرفت فيه من النبل والأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة والقيم
العالية. فطلبت النزول في ساحة عظمته، وعرضت نفسها عليه.
وتظافرت
النصوص التأريخية على أنّها هي التي أبدت أوّلاً رغبتها في الاقتران به، فذهب أبو
طالب في أهل بيته، ونفر من قريش لخطبتها من وليّها آنذاك وهو عمها عمرو بن أسد (السيرة الحلبية: 1 / 137.) وكان ذلك قبل بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بخمس عشرة سنة على المشهور.
وكان
مما قاله أبو طالب في خطبته: (الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم
وذرية إسماعيل وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا
الذي نحن فيه ... ثمّ إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به ولا
يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاًّ في المال; فإن
المال رفد جار، وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها
إليك، برضاها وأمرها والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله... وله وربّ
هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع ورأي كامل) (الكافي: 5 / 374، بحار الأنوار: 16 / 5 نقلاً عن الكشاف
وربيع الابرار، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: 1 / 139، تاريخ اليعقوبي: 2 / 20،
الأوائل لأبي هلال: 1 / 162.) .
لكن خديجة (رضي الله عنها) عادت، فضمنت المهر في مالها.. فقال البعض: يا عجباً! المهر على
النساء للرجال فغضب أبو طالب، وقال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال
بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلاّ بالمهر الغالي).
وتفيد بعض المصادر أن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه قد أمهرها، ولا مانع من ذلك حينما يكون قد أمهرها بواسطة أبي
طالب، ومن خطبة أبي طالب يمكننا أن نستشف علو مكانة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في قلوب الناس، وما كان يتمتع به بنو هاشم من شرف وسؤدد.
خديجة قبل أن
يتزوّجها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم:
ولدت
خديجة وسط اُسرة عريقة النسب كانت تتمتّع بالذكر الطيب والخلق الكريم وتميل إلى
التدين بالحنيفية ـ دين إبراهيم الخليل عليهالسلام ـ فأبوها خويلد نازع ملك اليمن حين أراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن، ولم ترهبه
كثرة أنصاره دفاعاً عن معتقده ومناسك دينه، وأسد بن عبد العزى ـ جد خديجة ـ كان من المبرّزين في حلف
الفضول الذي قام على أساس نصرة المظلوم، وقد شهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهمية هذا الحلف وأيّد القيم التي قام عليها (السيرة النبوية: 1 / 141.) . وابن عمها ورقة بن نوفل كان قد عاشر النصارى واليهود ودرس كتبهم.
إن
التأريخ لا
يعطينا تفاصيل دقيقة عن حياة خديجة قبل زواجها من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقد
روي أنها تزوجت قبله صلىاللهعليهوآلهوسلم برجلين وكان لها منهما بعض الأولاد وهما عتيق بن عائد المخزومي وأبو هالة التميمي (للإطلاع على اختلاف الروايات راجع الاصابة: 3 / 611، السيرة
الحلبية: 1 / 140، أسد الغابة: 5 / 71 و 121 .) ، في حين تروي مصادر أُخرى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حين تزوج بها كانت بكراً، وحينئذ تكون زينب ورقية ابنتي هالة أخت خديجة قد تبنّتهما خديجة بعد فقدهما لاُمّهما (مناقب آل أبي طالب: 1 / 159. وراجع أيضاً أعلام الهداية
الجزء 3 ، والصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم : 1 / 121 ـ 126 .) .
واختلف المؤرّخون في
تحديد عمر خديجة (رضي الله عنها) حين زواجها مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فهناك من روى أن عمرها كان (25) عاماً وآخر (28) عاماً وثالث (30)
عاماً ورابع (35) عاماً وخامس (40) عاماً (راجع السيرة الحلبية: 1 / 140، البداية والنهاية: 2 / 295،
بحار الأنوار: 16 / 12، سيرة مغلطاي: 12. والصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم : 1 / 126 .) .
2 ـ
إعادة وضع الحجر الأسود :
كان
للكعبة منزلة كبيرة لدى العرب إذ كانت تعتني بها وتحج إليها في الجاهلية. وقبل
البعثة النبوية بخمسة أعوام هدم السيل الكعبة فاجتمعت قريش وقررت بناءها وتوسعتها
وباشر أشراف القريشيين والمكيين العمل، ولما تكامل البناء وبلغوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في مَن يضعه في
مكانه; فكل قبيلة كانت تريد أن تختص بشرف ذلك
واستعدوا للقتال وانضم كل حليف إلى حليفه وتركوا العمل في بنائها ثم اجتمعوا في
المسجد فتشاوروا واتفقوا على ان يكون أول داخل على الاجتماع هو الحكم بينهم
وتعاهدوا على الالتزام بحكمه فكان أول داخل محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأقدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على حلّ النزاع حين جعل الحجر في ثوب وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من
الثوب، ثمّ قال: ارفعوا جميعاً ففعلوا فلما حاذوا موضعه أخذه بيده الشريفة ووضعه
حيث يجب أن يكون، وبعد ذلك أتمّوا بناءها (راجع تاريخ اليعقوبي: 2 / 19، سيرة ابن هشام: 1 / 204،
البداية والنهاية: 2 / 300، تاريخ الطبري: 2 / 37 (ط. الاستقامة).) .
وروى
بعض المؤرخين: أنهم كانوا يتحاكمون إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجاهلية لأنّه كان لا يداري ولا يماري (السيرة الحلبية: / 1 / 145.) .
لقد كان
لهذا الموقف أثر كبير في نفوس تلك القبائل وأعطى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم رصيداً
كبيراً وعمقاً جديداً لتثبيت مكانته الاجتماعية ولفت انتباههم إلى قدراته القيادية
وكفاءته الإدارية مما ركّز ثقتهم بسموّ حكمته وحنكته وعظيم أمانته.
3 ـ ولادة عليّ عليهالسلام وتربية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم له :
إنّ
العلاقة بين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ بن أبي طالب عليهالسلام لا
تقتصر على النسب بل تتميّز بأنّها علاقة فكرية وعاطفية عميقة جداً، فما ان خرجت
فاطمة بنت أسد تحمل وليدها الذي وضعته في بطن الكعبة (قال الحاكم النيسابوري: (فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت
أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة) المستدرك
على الصحيحين : 3 / 483.) حتى تقدّم إليها محمّد المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخذ علياً فضمَّه إلى صدره (الفصول المهمة لإبن الصباغ: 13 .) وكانت هذه بداية العناية به والإعداد الخاص له.
ونشأ الوليد في أحضان والديه وابن عمه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي
كان يتردد كثيراً على دار عمّه حتى بعد زواجه من خديجة (رضي الله عنها)، يشمله
بفيض خاص من العواطف والاهتمام الفائق يناغيه في يقظته ويحمله على صدره، ويحرك
مهده عند نومه. وقد انعكست هذه الرعاية المستمرة لسنوات طويلة وهذا الحنان العظيم
الملفت للنظر بآثارها على سلوك عليّ وشعوره حتّى طفح على لسانه وكلامه فأشار إلى
شدة قربه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله عليهالسلام: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني
إلى صدره ويكنفني في فراشه ويُمِسُّني جسده ويُشمّني عَرْفه وكان يمضغ الشيء ثم
يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل
أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) (نهج البلاغة: الخطبة القاصعة رقم (192).) .
وحين
اشتدت الأزمة الاقتصادية على قريش سارع محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
مقترحاً على
عمّيه حمزة والعباس أن يعينوا أبا طالب في شدّته فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة
جعفراً واستبقى أبو طالب عقيلاً وأخذ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً وقال لهم: قد اخترت من اختار الله لي عليكم: علياً (مقاتل الطالبيين : 36، الكامل في التأريخ: 1 / 37.) .
وهكذا انتقل عليّ عليهالسلام إلى دار ابن عمه ورعايته وأخذت تتبلور شخصيته ولم يفارقه
حتى آخر لحظات عمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم . أن
اهتمام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعلي عليهالسلام لم
يقتصر على فترة الأزمة الاقتصادية وهذا يفيدنا بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يهدف أمراً آخر هو أن يتربى عليّ عليهالسلام في حجره صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعدّه إعداداً خاصاً كي يتسنى له القيام بدور رسالي عظيم في صيانة
شريعة الرسول الخاتم التي كان الله قد اختار لها خير خلقه وصفوة عباده.
وهكذا هيأ الله لعلي عليهالسلام أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يحظى بمودّته وحنانه، ويقتبس من أخلاقه وعظيم سجاياه. هذا وقد عامله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما لو كان ولده الحبيب .. وعاش علي عليهالسلام مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ التحولات الغيبية التي جرت لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ لم يفارقه في كل يومه (نهج البلاغة : الخطبة 192 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 /
315 .) .
إن ما
حفظه لنا التأريخ من سيرة الإمام علي عليهالسلام يجسد
لنا ـ بعمق وقوة ـ المدى الذي كان الإمام عليهالسلام قد حظي به في مضمار الإعداد الرسالي على يد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة وبعدها وما خصّه به من إعداد روحي ونفسي ممّ جعله جديراً
بالمرجعية الفكرية والعلمية فضلاً عن المرجعية السياسية بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
4 ـ ملامح من شخصية
خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
البعثة :
لقد سطع
اسم محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجتمع الجزيرة العربية في وقت كان الوهن والتفكك قد بدا على أواصر
ذلك المجتمع بكل نواحيه وكانت شخصيّة محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تزداد تألّقاً وسموّاً.
وبدأت
تظهر استقامة شخصيته في كل جوانب سلوكه وكمالاته الاخلاقية. إلى جانب الأصالة
العائلية المتمثلة في كرم المحتد وطهارة المولد يرفده الإمداد الغيبي والتسديد
الإلهي الذي يصونه عن كلّ المعاصي والمساوئ.
ولقد
كان علي بن أبي طالب أكثر الناس التصاقاً ومعرفة بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكلامه عن الرسول أصدق قول حيث قال: (ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لَدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم،
ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره) (نهج البلاغة : الخطبة 192.) .
وقد روي
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم مدى بغضه للأصنام منذ الطفولة ففي قصة سفره إلى الشام مع عمه أبي
طالب نجده يرفض أن يقيم وزناً للأوثان (السيرة النبوية: 1 / 182، الطبقات الكبرى: 1 / 154.) .
لقد
اختار محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم لنفسه
ولبناء شخصيته منهجاً خاصّاً حقّق له حياة زاخرة بالمعنوية والقيم السامية فلم يكن
كَلاًّ على أحد ولا عاطلاً عن العمل، فقد رعى الأغنام لأهله حين كان فتىً يافعاً (السيرة الحلبية: 1 / 125، سفينة البحار، مادة نبأ، السيرة
النبوية لابن هشام: 1 / 166.) وسافر للتجارة في
عنفوان شبابه (بحار الأنوار: 16 / 22 ، كشف الغمة: 2 / 13 ، الكامل في التأريخ: 2 /
24.) ; وفي جانب آخر من شخصيته الفذّة نلمس جمال الإنسانية متجليّاً في
كمال الرحمة وغاية
العطف على الضعفاء والفقراء وخير نموذج على ذلك تعامله مع زيد بن حارثة الذي رفض
العودة إلى أبيه وفضّل الحياة الكريمة مع محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (الإصابة: 1 / 545، أسد الغابة: 2 / 225.) .
وهكذا
نعرف أن محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
قبل بعثته رجلاً لبيباً فاضلاً رشيداً طوى سنوات شبابه وهو يملك أسمى مقوّمات
التعامل الإنساني والاجتماعي في مجتمع الجزيرة الجاهلي وقد فاق بشخصيته المُثلى
جميع من سواه في عامة المجتمع الإنساني آنذاك، وبذلك شهد له التنزيل قائلاً له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم (68): 4.).
الباب
الثالث: فيه فصول:
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها.
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي.
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم وأبي طالب من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة.
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها
تمثل
نصوص القرآن الكريم أقدم النصوص التأريخية التي تتمتع بالصحة والدقة والمعاصرة لأحداث
عصر الرسالة الإسلامية، والمنهج العلمي يفرض علينا أن لا نتجاوز نصوص القرآن
الكريم فيما يخص عصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي نزلت فيه الآيات حين بعثته واستمرت بالنزول حتى وفاته.
وإذا
عرفنا أن الروايات التأريخية المتمثلة في كتب الحديث والسيرة قد تأخّر تدوينها عن
عصر وقوع الحوادث أوّلاً، كما أنّها قريبة من الدس وتطرق التزوير إليها ثانياً;
كان من الطبيعي والمنطقي أن نعرضها على محكمات الكتاب والسنة والعقل لنأخذ ما
يوافقها ونرفض ما يخالفها.
وينبغي
أن لا يغيب عنا أن النبوة سفارة ربّانية ومهمة إلهية تتعيّن من قبله سبحانه وتعالى
لغرض رفد البشرية بالهداية اللازمة لها على مدى الحياة. وأن الله إنما يصطفي من
عباده مَن يتمتّع بخصائص فذة تجعله قادراً على أداء المهامّ الكبرى المرادة منه
وتحقيقها بالنحو اللائق.
اذن
لابدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالى مستوعباً للرسالة وأهدافها وقادراً على أداء
الدور المطلوب منه على مستوى التلقيّ والتبليغ والتبيين والتطبيق والدفاع والصيانة
وكل هذه المستويات من المسؤولية تتطلب العلم والبصيرة ( والمعرفة ) وسلامة النفس
وصلاح الضمير والصبر والاستقامة والشجاعة والحلم والانابة والعبوديّة لله والخشية
منه والإخلاص له والعصمة (والتسديد الرباني ) على طول الخط. ولم يكن خاتم المرسلين
بدعاً من الرسل بل هو أكملهم وأعظمهم فهو أجمع لصفات كمالهم والله أعلم حيث يجعل
رسالته.
ومن
أبده القضايا ومن مقتضيات طبائع الأشياء أن يكون المرشَّح لمهمّة ربانيّة كبرى على
استعداد تام لتقبّلها وتنفيذها قبل أن يتولّى تلك المهمة أو يرشّح لأدائها. إذن،
لابد للنبي الخاتم أن يكون قد أحرز كل متطلّبات حمل هذه المسؤولية الإلهية وتوفّر
على كل الخصائص اللازمة لتحقيق هذه المهمة الربانية قبل البعثة المباركة. وهذا هو
الّذي تؤيده نصوص القرآن الكريم.
1 ـ قال
تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى (42): 3.) .
2 ـ
وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف (12) : 109.) .
3 ـ
وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء (21) : 25.) .
4 ـ
وقال أيضاً: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء (21): 73.) .
اذن
مصدر الوحي هو الله العزيز الحكيم. والمرسَلون رجالٌ يُوحي اليهم الله سبحانه
معالم توحيده وعبادته ويجعلهم أئمةً يهدون بأمره كما يوحي إليهم تفاصيل الشريعة من
فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهم القدوة لغيرهم في العبادة والتجسيد
الحي للاسلام الحقيقي لله سبحانه.
وفيما
يخص خاتم النبيين يقول سبحانه وتعالى :
1 ـ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً
عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ... ) (1) .
2 ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * ... فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (2) .
3 ـ (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (3) .
4 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ
الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (4) .
5 ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (5) .
(1 ـ 5) الشورى (42): 7 و13 و15 و17 و24 و51 و52.
إنّ
الذين عاصروا الرسول الكريم قبل بعثته وحتى وفاته لم يقدّموا لنا تصويراً صحيحاً
وواضحاً عن الرسول قبل بعثته بل وحين البعثة. ولعلّ أقدم النصوص وأتقنها هو ما جاء
عن ربيب الرسول وابن عمه ووصيّه الذي لم يفارقه قبل بعثته وعاشره طيلة حياته، إلى
جانب أمانته في النقل ودقته في تصوير هذه الشخصية الفذة. فقد قال عن الفترة التي
سبقت البعثة النبوية وهو يتحدّث عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم:
(ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم
ومحاسن أخلاق العالم. ليله ونهاره. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثَر أمه. يرفع
لي في كل يوم من أخلاقه علماً. وقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري) (نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة: 292.) .
ويتوافق
هذا النص مع قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم (68) : 4 .) . فقد نزل هذا النص في بداية البعثة. والخُلق ملكة نفسية متجذرة في
النفس لا تستحدث خلال أيام، فوصفه بعظمة خُلُقه يكشف عن سبق اتصافه بهذه الصفة قبل
البعثة المباركة.
وتتضح
بجلاء بعض معالم شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة من خلال نص حفيده الإمام الصادق عليهالسلام : إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له
الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوسَ عباده (الكافي : 1 / 66 / الحديث 4.) .
على أنّ
الخلق العظيم جامع لتمام المكارم التي فسّرها النص الوارد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث يقول: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فكيف يراد له تتميم
مكارم الأخلاق وهو لم يتصف بها بعدُ؟! إذن لابدّ من القول بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قبل البعثة قد أحرز جميع المكارم ليكون وصفه بالخلق العظيم وصفاً
صحيحاً ومنطقياً.
فالرسول
قبل بعثته كان مثال الشخصية المتّزنة المتعادلة والواعية المتكاملة والجامعة
لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وحميد الأفعال.
والنصوص
القرآنية التي تشير إلى ظاهرة الوحي الرسالي وكيفية تلقي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم له تصرّح بشكل لايقبل الترديد بما كان عليه الرسول من الطمأنينة
والثبات والاستجابة التامة لأوامر الله تعالى ونواهيه التي كان يتلقّاها قلبه
الكريم.
لاحظ ما
سقناه اليك من نصوص سورة الشورى، واقرأ أيضاً ما جاء في غيرها مثل قوله تعالى:
1 ـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا
رَأَى) (النجم (53) : 1 ـ 11.) .
2 ـ ( (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي) (الأنعام (6): 57.) .
3 ـ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ) (الكهف (18): 110.) .
4 ـ (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (الأنبياء (21): 45.) .
5 ـ (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنبياء (21): 108.) .
6 ـ (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه (20) : 114.) .
7 ـ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي) (سبأ (34): 50.) .
8 ـ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف (12): 108.) .
واذا
عرفت ما جاء في هذه النصوص القرآنية المباركة تستطيع أن تولّي وجهك شطر المصادر
الحديثية والتأريخية لتقف على محكماتها ومتشابهاتها.
قال الامام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنّها قالت: (أول ما بدئ به
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل
فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع إلى
خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
وليس في بداية هذا النص ما يدعو للاستغراب سوى أن عائشة لم تكن حين بدء
الوحي، والنص لا يفصح أنّها عمّن استقت هذه
المعلومات؟ وهي لم تروه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مباشرة. ولكن في ذيل النص ما هو مدعاة للاستغراب طبعاً.
قالت:
(ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن
عم خديجة أخي أبيها، وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي
فكتب بالعربيّة من الإنجيل ـ ما شاء الله أن يكتب ـ وكان شيخاً كبيراً قد عمي،
فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ما ترى؟ فأخبره
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما
رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى عليهالسلام ، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك، فقال رسول
الله: (أَو َمُخرِجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم
ينشب ورقة أن توفي) (مسند أحمد، الحديث رقم : 24681.) .
إن ورقة
الذي لم يُسلِم بعد هو عارفٌ بما سيجري على النبي فضلاً عن علمه بنبوته! بينما
صاحب الدعوة والرسالة نفسه لم يتضح له الامر بعد! وكأنّ ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة! والقرآن قد صرّح بأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على بيّنة من ربّه، كما عرفت ذلك في أكثر من آية تنصّ على أن الرسل
هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البيّنات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث إلى أن ورقة هو الذي عرف رسالة
النبي قبله فبعث فيه الطمأنينة.
وهذا هو
الذي فتح الطريق لأهل الكتاب للغمز في رسالة النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ قالوا بأن نبيّكم ـ بموجب نصوصكم هذه ـ لم يطمئن إلى أنه رسول من الله إلاّ بعد تطمين ورقة المسيحي له، وقد
تجرأ البعض حتى ادعى أن محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة استناداً إلى هذا النص الذي
نقلته كتب الحديث وتداوله المؤرخون! وهذه ثغرة حصلت من الابتعاد عن محكمات العقل
والكتاب والسنة جميعاً.
وهل
يصدّق بهذا عاقل عرف المنطق القرآني وتعرّف على شخصية الأنبياء في القرآن الكريم؟
وكيف يمكن له أن يؤمن بمضمون هذا النص على أنه حقيقة; لمجرد زعم انتسابه إلى عائشة
زوجة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟!
وثمة
نصّ آخر في تاريخ الطبري هو أكثر فظاعة من هذا وأدعى للريب في محتواه حيث يذكر أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان نائماً وجاءه الملك وعلّمه مطلع سورة العلق.. يقول النص بعد ذلك:
(وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً. قال:
ولم يكن
من خلق الله أحدٌ أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر اليهما، قال:
قلت: إن الأبعد ـ يعنى نفسه ـ لشاعر أو مجنون! لا تحدّث بها عني قريش أبداً!
لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها فلأستريحن. قال: فخرجت
أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول
الله وأنا جبريل) (تاريخ الطبري : 2 / 201 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط
دار سويدان. بيروت .) .
إن
اضطراب النبي وخوفه يبلغ به النهاية حتى يريد الانتحار بينما يريد الله اختياره
للنبوة وهداية الناس ودعوتهم إلى الحق، فهل يتناسب ما في الرواية مع هذا الأفق
الذي هو من الوضوح بمكان ؟ !
وهكذا
نستطيع أن نعرض نصوص التاريخ على محكمات العقل والكتاب والسنّة لنخرج بنتائج واضحة
تاركين ما لا يصمد أمام النقد العلمي البنّاء.
وبعد
ملاحظة النصوص الصريحة من الكتاب العزيز إذا لاحظنا ما ورد في بعض مصادر الحديث
والسيرة مما يرتبط باللقاء الأول للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مع الوحي الإلهي وما رافقه من غرائب تأباها النصوص القرآنية، جاز لنا
أن نطمئن إلى تَسرّب الإسرائيليات اليها.
ويحسن
بنا أن نقارن بين هذا النص الروائي وبين نص آخر ورد في بحار الأنوار للعلاّمة
المجلسي (رضوان الله تعالى عليه ) فيما يخصّ إرهاصات الوحي الرسالي وما تبعه من
نتائج لوحظت على نفس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وشخصيته وسلوكه.
فعن
الإمام علي بن محمد الهادي عليهماالسلام: أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا ترك التجارة إلى الشام وتصدّق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك
التجارات كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى
أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار
والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكّر بتلك الآيات، ويعبد الله حقّ عبادته.
فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها
وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا
ومحمّد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد
وغرّته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ
بضبعه (الضبع: وسط العضد وفي المصدر: بضبعيه. وهزه: حركه.) وهزّه وقال:
يا محمد
اقرأ، قال: وما اقرأ ؟ قال يا محمّد (اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم *
الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم) (العلق (96): 1 ـ 5.) .
ثمّ أوحى إليه ما
أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ثمّ صعد إلى العلو.
ونزل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير شأنه ما
ركبه الحمّى والنافض ... وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم
إيّاه إلى الجنون، وإنّه يعتريه شياطين، وكان من أوّل أمره أعقل خلق الله، وأكرم
براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزّ
وجلّ أن يشرح صدره; ويشجّع قلبه، فأنطق الله الجبال والصخور والمدر، وكلّما وصل
إلى شيء منها ناداه: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك
يا رسول الله أبشر، فإنّ الله عزّ وجلّ قد فضّلك وجمّلك وزيّنك وأكرمك فوق الخلائق
أجمعين من الأوّلين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش إنّك مجنون، وعن الدين مفتون،
فإنّ الفاضل من فضّله ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا
يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربّك أقصى منتهى الكرامات،
ويرفعك إلى أرفع الدرجات، وسوف ينعّم ويفرّح أولياءك بوصيّك عليّ بن أبي طالب،
وسوف يبثّ علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك: علي بن أبي طالب،
وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة، وسوف يخرج منها ومن عليّ : الحسن والحسين سيّدي شباب
أهل الجنّة، وسوف ينشر في البلاد دينك وسوف يعظّم اُجور المحبّين لك ولأخيك، وسوف
يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك عليّ، فيكون تحته كلّ نبيّ وصدّيق وشهيد،
يكون قائدهم أجمعين إلى جنّات النعيم (بحار الأنوار : 18 / 207 ـ 208 .) .
وحين
نقارن بين هذا النص الروائي وما سبقه مما رواه الطبري نلاحظ البون الشاسع والفرق
الكبير بين الصورتين عن بداية البعثة وشخصية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. فبينما
كانت تصوّره الرواية الاُولى : شاكّاً
ومضطرباً ـ اضطراباً ناشئاً عن الجهل بحقيقة ما يجري له! ـ تصوّره الرواية الأخيرة
: عالماً مطمئناً متفائلاً بمستقبل رسالته منذ بداية الطريق . وهذه الصورة هي التي تنسجم مع محكمات الكتاب والسنّة
والتاريخ .
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي
1 ـ
بناء الخلية الإيمانية الأولى :
وبعد
اللقاء الأوّل مع وحي النبوّة أخذت تتدرّج الآيات القرآنية بالنزول، ويبدو أنه بعد
أن نزلت عليه الآيات الأولى من سورة المزمل شرع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يهيّء نفسه للخطوات التالية في طريق نشر الرسالة الإسلامية وبناء
المجتمع الإسلامي، وكان عليه أن يعدّ العدّة لمواجهة الصعاب الكثيرة والمشاكل
المتوقّعة، وأن يُحكم خطّته وأسلوبه في العمل.
إنّ
أوّل ما بدأ به هو دعوة أهل بيته. أمّا خديجة (رضي الله عنها) فكان من الطبيعي أن
تصدّق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث عاشرته عمراً طويلاً ووجدت فيه منتهى السموّ الأخلاقي والطهر
الروحي والتعلق بالسماء.
ولم
يتكلّف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جهداً في دعوة ابن عمه وربيبه علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي كان يحمل بين جوانحه قلباً طاهراً لم تلوّثه عبادة الأصنام قطّ،
فبادر إلى التصديق به فكان أوّل القوم إسلاماً (السيرة النبوية لابن هشام : 1/245 باب ان علي بن أبي طالب رضياللهعنه أوّل ذكر أسلم.) .
وكان
اختيار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلي
صائباً وموفّقاً لما كان يملكه عليّ عليهالسلام من مؤهلات الطاعة
والانقياد والقوة والاندفاع في الوقت الذي كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأَمسّ الحاجة
إلى الناصر والمؤازر، فكان علي عليهالسلام يمثّل
ذراع النبوة في تبليغ الرسالة منذ انطلاقتها والعين الباصرة، ولسان الدعوة الناطق
بها.
فأوّل
من آمن علي عليهالسلام حيث
كان يرافق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في
خلواته في حراء ثمّ خديجة وهما أوّل من صلّى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن كانا يوحّدان الله كالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متحدّين قوى الشرك والضلالة. (أسد الغابة: 4 / 18، حلية الأولياء: 1 / 66، شرح ابن أبي
الحديد: 3 / 256، مستدرك الحاكم: 3 / 112.) ثم التحق بهم زيد بن حارثة فكانوا هم المجموعة الخيّرة والنواة الأولى
التي انفلق منها المجتمع الإسلامي .
2 ـ
أدوار العصر المكّي :
لقد مرّ
تبليغ الرّسالة الإسلامية على يدي النبيّ العظيم بثلاثة أدوار على الأقل حتى
تهيّأت الظروف لتأسيس أوّل دولة إسلامية مباركة وهي كما يلي:
1 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى للرسالة الإسلامية. واصطلح البعض على هذا الدور بدور الخفاء
أو دور الدعوة الخاصة.
2 ـ دور
الدعوة المحدودة بالأقربين والصراع المحدود مع الوثنية.
3 ـ دور
الصراع الشامل.
3 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى :
تحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم داعياً إلى الإسلام بعد أن أمره الله تعالى بالقيام والإنذار (كما ورد في مطلع سورة المدّثر.) ساعياً لبناء كتلة إيمانية تكون بؤرة نور وإشعاع لهداية المجتمع
واستمر الحال هكذا حوالي ثلاث سنين مسدداً بالغيب معصوماً من الزلل.
وكان
التحرك الرسالي هذا محفوفاً بالمخاطر والصعوبات ولكنه كان متقناً متكاملاً.
وكان من
أسلوب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرحلة من الدعوة أن ينوّع الاختيار من حيث الانتماء القبلي
والموقع الجغرافي والعمر لأتباعه ليوضح شمولية الرسالة ويضمن لها الانتشار في
المجتمع إلى أقصى ما يمكن; فاستجاب له ـ في بداية البعثة ـ المستضعفون والفقراء إذ
كانت الرسالة الإسلامية منطلقاً نحو التسامي والحياة الكريمة والأمان، كما استجاب
له من الأشراف من كان ذا نفس طيّبة وعقل منفتح ورغبة ففي السلوك النزيه.
ولم
يتحسّس جبابرة قريش خطورة الرسالة وحسبوا أن الأمر لا يعدو تكهّنات وتأملات لها
سوابق اندثرت; فلم يشدّدوا على محاربتهم للرسالة للقضاء عليها في مهدها.
وفي هذا
الوقت القصير استطاع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصوغ من النفوس التي آمنت برسالته عناصر فعالة تحمل قيم الرسالة
لتنطلق بها للناس، وهم أشد حرصاً على إسلامهم وأكثر يقيناً بإيمانهم مستنكرين بذلك
ما كان عليه آباؤهم من شرك وخلق منحرف حتى تزايد الاستعداد لديهم لتحمل آثار الجهر
بالرسالة.
ويروى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه ـ في هذه الفترة ـ كانوا
إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشِعاب فصلّوا فرادى ومثنى، فبينما رجلان من
المسلمين يصليان في بعض شعاب مكة اِذ ظهر عليهما رجلان من المشركين ـ كانا فاحشين
ـ فناكراهما وعابا عليهما ما يصنعان ثم تضاربوا، وانصرفا (أنساب الاشراف: 1 / 117، السيرة الحلبية: 1 / 456.) .
ويبدو
تكرر مثل هذه المواجهة مع المشركين (السيرة النبوية: 1 / 263 و 282.) . من هنا استعان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ببعض الدور للتخفي لممارسة العبادة والاتصال المنتظم به صلىاللهعليهوآلهوسلم بعيداً عن
أنظار قريش فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم (السيرة الحلبية: 1 / 283، اُسد الغابة: 4 / 44.) خير ملجأ للمسلمين حينئذ.
4 ـ دور
المواجهة الأولى وإنذار الأقربين:
وحين
شاع خبر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية وفي الوقت الذي بلغت فيه الفئة المؤمنة
المستوى الروحي الذي يؤهلها لخوض الصراع كان لابد من الانتقال إلى مرحلة الإعلان
العام وأول خطواته إنذار الأقربين في مجتمع تسوده الاعتبارات القبلية فمن الأولى
إنذارهم قبل إنذار الناس كافة، فكان نزول الأمر الإلهي: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء (26) : 214.) ; من هنا دعا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عشيرته الأقربين وأوضح لهم أمر الرسالة وهدفها ومستقبلها وكان فيهم من يرتجى خيره
ويؤمل إيمانه. ولئن نهض أبو لهب معلناً المعاداة والكراهية فقد تبنّى أبو طالب
عليهالسلام دعم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحماية رسالته.
وقد روي
أنّه ما إن نزلت الآية المباركة أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً بإعداد وليمة
ثمّ دعا عشيرته وكانوا أربعين رجلاً، وما إن تأهب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للحديث حتى قاطعه
عمه عبد العُزّى ـ المعروف بأبي لهب ـ وحذّره من الاستمرار في التبليغ والإنذار،
وحال دون تحقيق هدف الرسول فانفضّ المجلس. ولمّا كان من غد جدّد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره لعلي ودعوته
لعشيرته وبعد أن فرغوا من الطعام بادرهم صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله: (يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل
مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عَزَّ وجَلَّ أن
أدعوكم إليه فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي
فيكم؟) فسكتوا جميعاً إلاّ علي بن أبي طالب إذ نهض قائلاً: (أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله). فأمره
رسول الله بالجلوس، وكرر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوته; فلم يجبه غير على عليهالسلام ملبياً
الدعوة معلناً المؤازرة والنصرة. وعندها التفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الحاضرين من عشيرته وقال: (إن هذا أخي ووصيي
وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له وأطيعوا). فنهض القوم من مجلسهم وهم يخاطبون أبا
طالب ساخرين: (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (روي هذا الحديث في مصادر عديدة وبألفاظ متقاربة في: تاريخ
الطبري: 2 / 404، السيرة الحلبية: 1 / 460، شرح نهج البلاغة: 13 / 210 . وراجع
أيضاً : حياة محمد: 104، لمحمد حسين هيكل، الطبعة الأولى.) .
5 ـ دور
المواجهة الشاملة
ورغم
احتياطات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرحلة السابقة وتجنّبه الدخول في مواجهة مباشرة له أو لأحد من
المسلمين مع قوى الشرك والوثنية فإنه كان يتعرّض خلالها للنقد واللوم اللاذع له
ولبقيّة المسلمين.
وكان
لدعوة بني هاشم إلى الدين الجديد الأثر البالغ والذكر الشائع في أوساط القبائل
العربية فقد تبين لهم صدق وجدّية النبوة التي أعلنها محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وآمن بها من آمن.
وبانقضاء
السنوات الثلاث ـ أو الخمس ـ من بداية الدعوة نزل الأمر الإلهي بالصدع بالرسالة
الإلهية والإنذار العام ليخرج الأمر عن الاتصال الفردي الذي كان يتمّ بعيداً عن
الأنظار، فيدعو الجميع إلى رسالة الإسلام والايمان بالله الواحد الأحد، وقد وعد
الله نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بتسديد خُطاه في مواجهة المستهزئين والمعاندين في قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر (15): 94 ـ 95.) .
فتحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صادعاً
بأمر الله بثقة مطلقة وعزيمة راسخة متحدياً كل قوى الشر والشرك، وقام
على الصفا ونادى قريشاً من كل ناحية فأقبلوا نحوه فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما
كنتم تصدقونني؟) قالوا: بلى، قال: (فإني نذير لكم بين
يدي عذاب شديد). فنهض أبو لهب ليرد على رسول الله فقال: تباً لك!
سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟! ـ فأنزل الله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المناقب: 1 / 46، تاريخ الطبري: 2 / 403.) .
لقد كان
هذا إنذاراً صارخاً أفزع قريشاً إذ أصبح تهديداً علنياً لكل معتقداتهم وتحذيراً من
عاقبة مخالفتهم لأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ...
واتضح أمر الدين الجديد لأهل مكة بل كل أطراف الجزيرة إذ أدركوا أنّ انقلاباً
حقيقياً سيحلّ بمسيرة البشرية ويرفع من شأنها في القيم والثقافة والمعايير
والمواقع الاجتماعية وفق تعاليم السماء وينسف الشر من جذوره فكانت المواجهة مع
قادة الشرك والطغيان مواجهة حقيقية لا يمكن أن تنتهي إلى نقاط وفاق.
وخلال هذه الفترة دخل في
الإسلام عدد من العرب وغير العرب حتى بلغوا أربعين رجلاً، ولم تتمكن قريش من تحطيم
هذه النهضة الفتية إذن المؤمنين ينتمون إلى قبائل شتى، من هنا توسّلت قريش
بالمواجهة السلميّة ابتداءً.
ولكن
أبا طالب ردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (سيرة ابن هشام: 1 / 264 ـ 265، تأريخ الطبري: 2 / 406.) .
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ
دفاع أبي طالب عن الرسول والرسالة :
لم ينثن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية بل اتسع نشاطه وكثرت تحركاته
وتحركات أتباعه المؤمنين به وازدادت جاذبية الدين الجديد في نظر الناس، وقد بدت
قريش تظهر غيظها وتسعى لتجد السبل لإيقاف هذا المدّ الجديد (الإسلام)، والقضاء
عليه فعاودت مساعيها عند أبي طالب مرّة أخرى باذلة مغرياتها تارة لإقناع الرسول
بالعدول عن دعوته والتراجع عن دينه وتارة أخرى بالتهديد والوعيد فقالوا له: يا أبا
طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا
وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه
عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
ومن
جهته أدرك زعيم بني هاشم قرار قريش الصارم وعدم تورعها عن سلوك كل السبل للقضاء
على ابن أخيه ورسالته الفتية فحاول تهدئة الموقف مرة ثانية وتسكين غضب قريش حتى
يعالج الموقف مع ابن اخيه ، ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصرّ
على مواصلة تبليغه للرسالة الإسلامية تنفيذاً لأوامر الله مهما كانت الظروف
والنتائج فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك
هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)، ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بالدموع وقام ليذهب فتأثر أبو طالب لذلك وهو يعلم صدق ابن
أخيه ويؤمن به فقال له: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
ولم تفتر قريش عن غيّها فمشت مرة أخرى إلى أبي طالب عليهالسلام تطمعه
بخذلان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتعطيه أجمل فتيان مكة بدل ابن أخيه ليسلّمه أبو طالب إليهم فقالوا له: يا
أبا طالب هذا عمارة بن
الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله
ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي فرّق جماعة قومك،
وسفّه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل، فردّهم أبوطالب مستاء من هذه المساومة
الظالمة فقال: هذا والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني إبنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني
تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل: والله يا أبا
طالب لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فأجابه أبو طالب قائلاً :
والله ما أنصفوني ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك(تاريخ الطبري: 2 / 409، السيرة النبوية: 1 / 286.).
وبذا
أيقنت قريش بأنّه لا سبيل لهم لإرضاء أبي طالب بخذلان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسارع أبو طالب لاتخاذ تدابير احترازية ليضمن سلامة ابن أخيه
واستمراره في نشر رسالته حين وجد الشرّ في نفوس قريش، فدعى بني هاشم وبني عبد
المطلب لمنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحفظه
والقيام دونه، فاستجابوا له سوى أبي لهب، وأَكْبَرَ أبو طالب موقف بني هاشم فشجعهم
وأثار فيهم العزيمة على الاستمرار في حماية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (تاريخ الطبري: 2 / 410 ، السيرة النبوية: 1 / 269.).
2 ـ
موقف قريش من الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم:
نزلت
آيات كثيرة من القرآن الكريم خلال أربع سنوات من حركة الرسالة تضمنت بيان عظمة
التوحيد والدعوة إليه والإعجاز البلاغي والإنذار والوعيد لمخالفيه فتناقلتها
الألسن وحوتها قلوب المؤمنين وانجذب إليها القاصي والداني لاستماعها واستيعابها.
ولما
كان للبلاغة أكبر الأثر في النفوس قررت قريش وهي تحاول احتواء حركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بوسائل متعددة أن تمنع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاتصال بالجماهير وعرض دعوته عليهم أن لا يستمع القادم إلى مكة
لما نزل من آيات القرآن، بعد أن فشلت في محاولة إغراء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالملك والسلطان عليهم والأموال الطائلة والشرف والسؤدد. ثم أردفوا
ذلك بتشكيكهم في صحة دعوته; زاعمين أن الذي يعتري النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما هو حالة مرضية يسعون لعلاجها، فأجابهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جواباً فيه كل الخير والشرف والنجاة لهم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: كلمة واحدة تقولونها تدين لكم بها العرب وتؤدي إليكم
بها العجم الجزية... ففزعوا لكلمته وحسبوا أنها نهاية المطاف
فقالوا: نعم وأبيك عشراً... قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: لا إله إلا الله ... فكان الردّ مفاجئة
قوية خذلتهم فقاموا مستكبرين وهم يردّدون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (السيرة الحلبية: 1 / 303، تاريخ الطبري: 2 / 409.).
وعندها
قرروا أن يلجأوا إلى الإهانة والسخرية من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأتباعه الذين بدأوا يتزايدون كل يوم وتتعمق دعوته المباركة في
النفوس فكان من أفعالهم قيام أبي لهب وزوجته أم جميل بطرح الشوك على باب بيت
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اذ كان بيته يجاورهم(السيرة النبوية: 1 / 380.). وأخذ
أبو جهل يتعرض للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيؤذيه بقوله الفاحش ولكن الله كان للظالمين بالمرصاد إذ ما كان من
حمزة عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين علم بذلك إلاّ أن ردّ على أبي جهل إهانته أمام الملأ من قريش
معلناً إسلامه وتحدّيه لجمعهم أن يردّوا عليه أو أن يتعرضوا ثانية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية: 1 / 313، تاريخ الطبري: 2 / 416.).
3 ـ
الكفر يأبى الانصياع لصوت العقل :
تصورت
قريش أنها بدهائها تستطيع أن تثني النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن رسالته، وقد بان لها استجابة الناس لدعوته المباركة. من هنا اقترح
عتبة بن ربيعة ـ حين اجتمعت وجوه قريش ـ أن يذهب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليحدّثه كي يكفّ عن دعوته، فمشى إليه والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جالس ـ وحده ـ في المسجد، وامتدح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومكانته في قريش وعرض عليه عروضه والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ينصت مستمعاً فقال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر
مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك
علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا
الذي يأتيك رَ ئِيّاً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه
أموالنا حتى نبرئك منه... ولما أتم كلامه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم ، قال
صلىاللهعليهوآلهوسلم: فاسمع مني ثم تلا قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً
وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) (فصلت (41): 1 ـ 5 .) واستمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرأ الآيات الكريمة فانبهر عتبة لما سمع وألقى يديه خلف ظهره
معتمداً عليها. ثم سجد رسول الله عند آية السجدة. ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.
فلم يحر
عتبة جواباً وقام إلى قومه فلما جلس إليهم قال: إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت
مثله قط، والله ما هو بالشّعر وبالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني
واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه).
ولكن
أنى للقلوب الميتة أن تستجيب فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال: هذا
رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(راجع السيرة النبوية: 1 / 293.).
4 ـ
الاتّهام بالسّحر :
أرادت
قريش أن لا تختلف كلمتها ولا تفقد مكانتها في محاربة الرسالة الإسلامية وفي نفس
الوقت أن توقف سريان الرسالة إلى نفوس الناس وموسم الحج على الأبواب فرأت أن تتخذ
وسيلة تبدو فيها محافظتها على مكانتها الوثنية وإضعاف دور الرسول ومكانته فاجتمعوا
إلى الوليد بن المغيرة لكبر سنّه وسعة معرفته لاتخاذ قرار بذلك فاختلفت أقوالهم
بين أن يدّعوا أنّه كاهن أو مجنون أو شاعر أو مريض تعتريه الوسوسة أو ساحر، ثم
أرجعوا القول للوليد فقال: والله إنّ لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة
وما أنتم بقائلين في هذا شيئاً إلاّ عُرف أنّه باطل وإنّ أقرب القول فيه أن
تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يُفرّق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين
المرء وزوجه، فتفرّقوا يندسّون بين الناس يبثّون شائعتهم الخبيثة(السيرة النبوية: 1 / 289.).
5 ـ
التعذيب وسيلة لقمع المؤمنين :
لقد
عجزت قوى الكفر والشرك أن تثني الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحاب الحق عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية، مثلما عجزت
عقولهم عن إدراك التوحيد والإيمان، وراحت كل جهودهم لإيقاف الرسالة أو تشويهها سدى
فلم يجدوا بُدّاً من اتخاذ العنف والقسوة والتعذيب وسيلة لمحاربة أصحاب العقيدة
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب وفرض
الجوع والعطش عليهم، محاولين أن يفتنوهم عن دينهم ورسالة ربّهم.
فهذا أمية بن خلف يخرج بلالاً إلى رمضاء مكة إذا حميت الظهيرة ليمارس تعذيبه بأبشع
صورة، وهذا عمر بن الخطاب يعذب جارية له ـ لإسلامها ـ ضرباً حتى إذا عجز قال: إني أعتذر إليك،
إني لم أتركك إلاّ ملالة، وهذه بنو مخزوم يخرجون عمّاراً وأباه وأمه يعذبونهم في
رمضاء مكة فيمرّ بهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقول:
(صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة)، حتى بلغ من تعذيبهم أن استشهدت سمية أم عمار(السيرة النبوية : 1 / 317 ـ 320 .) على أيديهم فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وإذا حاولنا أن نرسم صورة عامّة لأساليب مواجهة قريش للرسالة والرسول
وأتباعه فنستطيع أن نلخّص مراحل المواجهة في ما يلي:
1 ـ كان
الاستهزاء والسخرية بشخصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإضعاف مكانته في نفوس الناس من أبسط الأساليب. وقد مارس هذا الدور
الوليد بن المغيرة (والد خالد)، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن العاص بن أمية، وأبو
جهل.
ولكن
التسديد الإلهي أحبط كل مساعيهم فقد قال القرآن الكريم:
(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر (15): 95.)، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام (6) : 10.) .
2 ـ
إهانة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شخصياً
لإضعافه. فقد روي أنّهم ألقوا الفرث والسلى عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فغضب عمه أبو طالب حين علم بذلك وردّ الإهانة عليهم، ويعتبر موقف
أبي جهل وردّ حمزة بن عبدالمطلب عليه شاهداً آخر.
3 ـ
محاولات الإغراء بالملك والسيادة وبذل الأموال الطائلة.
4 ـ
الاتهامات الباطلة: بالكذب والسحر والجنون والشعر والكهانة. وقد تحدث القرآن عن
كلّ ذلك.
5 ـ
الطعن في القرآن الكريم، فقد اتهموا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتقوّله وافترائه على الله فتحدّاهم القرآن بأن يأتوا بمثله. على أن
النبيّ كان قد أمضى عمراً بينهم لم يعرف بما اتهموه به.
6 ـ
استخدام التعذيب وقتل المؤمنين برسالته.
7 ـ
الحصار والمقاطعة الشاملة.
8 ـ
التخطيط لقتل صاحب الرسالة(الأنفال (8) :30.).
وقد تصدّى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لكل هذه الأساليب بما يحقق للرسالة أهدافها مسدّداً بالوحي
الذي كان يرعى حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم خير رعاية.
6 ـ
الهجرة إلى الحبشة وإيجاد قاعدة آمنة :
لقد
أدرك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد عامين من الجهر بالرسالة أن لا قدرة له على حماية المسلمين من
العناء الذي يصيبهم من طغاة قريش وزعماء الوثنية.
وحيث
اشتدَّ العنف من المشركين وصناديدهم تجاه المستضعفين من المسلمين حثّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين المضطهدين على الهجرة إلى الحبشة ليعطيهم بذلك فترة استراحة
واستعادة نشاط ليعودوا ثانية لمواصلة مسيرة الرسالة الإسلامية أو يفتحوا جبهة
جديدة للصراع مع قريش بعد أن يحدثوا مركزاً للضغط من خارج الجزيرة على مواقع قريش
وعسى الله أن يحدث ـ خلال ذلك ـ أمراً كان مفعولاً إذ أخبرهم صلىاللهعليهوآلهوسلم (أن في
الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد)
فاستجاب المسلمون لذلك وتسلل عدد منهم صوب الساحل فعبروا البحر غير أن قريشاً
لاحقتهم ولكن لم يدركهم طلبها وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهليهم، حتى اجتمعوا
بأرض الحبشة بضعة وثمانين مهاجراً عدا أبنائهم الصغار وأمَّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم جعفر بن أبي طالب(السيرة النبوية: 1 / 321، تاريخ اليعقوبي: 2 / 29، بحار الأنوار: 18 /
412.1).
لقد كان
اختيار الحبشة داراً للهجرة خطوة موفقة من خطوات الرسول القيادية نظراً للصفة التي
وصف بها ملكها في الحديث المروي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتيسّر السفر إليها بالسفن، فضلاً عن العلاقات المذهبية الطيبة
التي أرادها الإسلام أن تكون بين الإسلام والنصرانية.
وقد أقلق قريشاً أمر الهجرة إلى الحبشة فخشيت العاقبة وساءها أن يأمن
حملة الرسالة الإسلامية هناك، فأرسلت عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي
وحمّلتهما الهدايا في محاولة منها لإقناع النجاشي بالتخلي عن جوارهم وإعادتهم
إليها، واستطاعا أن ينفذا إلى بطارقة الملك
وإقناعهم بضرورة مساعدتهم لاسترداد المسلمين، لكن الملك أبى ذلك إلاّ بعد أن يسمع
رأي المسلمين في التهمة الموجهة إليهم بأنهم قد ابتدعوا ديناً جديداً لهم.
وشملت
العناية الإلهية ذلك اللقاء، فقد انبرى جعفر بن أبي طالب ليجيب بكلام رائع ينفذ
إلى قلب النجاشي عن ماهية الدين الجديد فيزداد اقتناعه بحمايتهم. وكانت كلمات جعفر
بن أبي طالب كالصاعقة على رؤوس الوفد القرشي الذي لم تنفعه هداياه لإنجاح خطته الشيطانية،
وأصبحوا في موقف الذليل أمام النجاشي في الوقت الذي سطع فيه نجم المسلمين وقويت
حجتهم مما دلّ على عظيم أثر التربية التي كان قد بذلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للنهوض بالإنسان في الفكر والمعتقد والسلوك، فلم يهتز المسلمون ثانية
عند ما حاول وفد قريش أن يثير فتنة عن ما جاء به القرآن حول عيسى عليهالسلام ، ولكن النجاشي قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، عندما سمع آيات الله يرددها جعفر بن أبي طالب
ردّاً على سؤاله(السيرة النبوية: 1 / 335، تاريخ اليعقوبي: 2 / 29.).
عندها
أيقنت قريش بفشل مساعيها لاسترداد المسلمين حين عاد إليها وفدها خائباً، وقرّر
زعماؤها أن يضيّقوا على من عندهم من المسلمين بالمأكل والمشرب وأن يحظروا كل أنواع
التعامل الاجتماعي معهم حيث لم يتخلّ أبو طالب وبنو هاشم عن نصرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعمه الشامل.
7 ـ
الحصار الظالم وموقف بني هاشم :
ولمّا
لم يستجب أبو طالب لقريش، وأصرّ على حماية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مهما كان الثمن، كتبت قريش صحيفتها الظالمة(جاء في أعيان الشيعة ، ان الصحيفة الظالمة كتبت في غرّة
محرم من السنة السابعة للبعثة.) بالمقاطعة
الشاملة في البيع والشراء والمخالطة والزواج.
ووُقّعت
الصحيفة من قبل أربعين زعيماً من زعماء قريش.
وعمد
أبو طالب إلى الشِعب مع ابن أخيه وبني هاشم وبني المطلب حيث كان أمرهم واحداً.
وقال: نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني المطلب، ودخل الشعب من كان
من هؤلاء مؤمناً كان أو كافراً(السيرة النبوية: 1 / 350، أعيان الشيعة: 1 / 235.).
وكان لا
يصل إلى المسلمين خلالها شيء إلاّ سرّاً، يحمله إليهم مستخفياً من أراد مساعدتهم
من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف.
وبعد أن مضت على المقاطعة ثلاث سنين وقاسى خلالها المسلمون والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم آلاماً قاسية من الجوع والعزلة والحرب النفسية، أرسل الله دودة
الأرضة على صحيفتهم المعلقة في جوف الكعبة فأكلتها جميعاً غير كلمة (باسمك اللهم).
وأنبأ الله رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبر عمه أبا طالب بالأمر فخرج مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
المسجد الحرام فاستقبله وجهاء قريش ظناً منهم بأن الاستسلام يقودهم إلى التخلّي عن
موقفهم من الرسالة فقال لهم أبو طالب: إن ابن
أخي أخبرني بأن الله قد سلّط على صحيفتكم الأرضة فأكلتها غير اسم الله، فإن كان
صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم
وإن كان كاذباً دفعته إليكم... قالوا: قد أنصفتنا، ففتحوها، فوجدوا الأمر كما قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنكسوا رؤوسهم حياء وخجلاً لما حلّ بهم(تاريخ اليعقوبي: 2 / 21، طبقات ابن سعد: 1 / 173، السيرة
النبوية: 1 / 377.).
وروي
أيضاً أن بعض رجال قريش وشبابها ساءهم أمر القطيعة ومعاناة بني هاشم من المتاعب
والشدائد في الشعب فتعاقدوا فيما بينهم لتمزيق الصحيفة وإنهاء المقاطعة وواجهوا
المتعنتين منهم، ففتحوا الصحيفة فوجدوا حشرة
الأرضة قد أكلتها(السيرة النبوية: 1 / 375، تاريخ الطبري: 2 / 423.).
ومهما
كان فإن قريشاً قد أخزاها الله مرة أخرى ولكنها لم ترتدع عن عداوتها للرسول
والرسالة.
8 ـ عام
الحزن :
وفي السنة العاشرة من البعثة خرج المسلمون من الحصار وهم أصلب عوداً وأغنى تجربة وأكثر قدرة على
التحرك صوب الهدف الذي آلوا على أنفسهم أن لا يتخلوا عنه رغم كل الصعاب. وكان من
أثر الحصار أن اشتهر ذكر الإسلام والمسلمين وانتشر في كل أرجاء الجزيرة العربية
وكانت أمام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مهام صعبة، منها: الانفتاح بصورة أوسع خارج نطاق مكة، ومحاولة إيجاد
أكثر من مكان آمن تتحرك من خلاله الرسالة الإسلامية.
ولكن
الرسالة الإسلامية تعرضت لأخطر محنة في مسيرتها في مكة عندما توفّي أبو طالب،
سندها الاجتماعي الأول والمدافع القوي عن الرسول والرسالة، وبعده بأيام توفيت اُمّ
المؤمنين خديجة ثاني سندي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولشدة تأثير الحادثتين في مسيرة الرسالة الإسلامية سمّى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك
العام بـ (عام الحزن)، وصرّح
قائلاً: (مازالت قريش كاعّة عنّي حتى مات أبو طالب)( كشف الغمة: 1 / 61، مستدرك الحاكم: 2 / 622 ، وكاعّة بمعنى
وكعّ عنه: إذ اهابه وجبن عنه.).
ومن جرأة
قريش على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند
ذاك أن قام أحدهم ونثر التراب على رأسه الشريف وهو مارّ إلى بيته. فقامت إليه
ابنته فاطمة عليهاالسلام لتنفض
التراب عنه وهي تبكي فقال لها صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك)( السيرة النبوية: 1 / 416، تاريخ الطبري: 2 / 426.).
9 ـ
الإسراء والمعراج :
وفي هذه
الفترة كانت حادثة الإسراء والمعراج تثبيتاً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على طريق المقاومة الطويل، وتكريماً له في أعقاب سنين طويلة من العمل
والصمود، وتتويجاً لهذه المصاعب والآلام المريرة مع قوى الشرك والضلالة، رفعه الله
إلى قلب السموات، ليريه جوانب من عظمة ملكه الباهرة في الكون الشاسع وليطلعه على
أسرار الخليقة ومصير الإنسان الصالح والطالح.
وفي الوقت نفسه كانت
بمثابة امتحان لقدرات أصحابه على تصور المدى الذي يكافحون فيه مع رسولهم وقائدهم
من أجل إبلاغ الرسالة وبناء الإنسان الصالح، وإبتلاءاً صعباً لأصحاب النفوس
الضعيفة.
ولم تستطع قريش المشركة أن تدرك المعاني السامية في أمر الإسراء فما بحدّثهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك
حتى راحوا يسألون عن الصورة المادية من أمر الإسراء وإمكانية تحققها والأدلة على
ذلك ـ فقال
بعضهم: والله إن العِير
لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة وشهراً مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع؟! ووصف لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسجد الأقصى وصفاً دقيقاً، وذكر لهم أنّه مرّ بقافلة وهم يطلبون
بعيراً قد ضلّ لهم، وفي رحلهم قعب ماء كان مكشوفاً وقد غطّاه كما كان.
وسألوه عن قافلة اُخرى فقال: مررت بها بالتنعيم، وبيّن لهم أحمالها وهيئاتها وقال: يقدمها بعير
بصفة كذا وسيطلع عليكم عند طلوع الشمس. فجاء كل ما قاله صحيحاً كما أخبر به(السير النبوية: 1 / 396.).
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة
1 ـ
الطائف ترفض الرسالة الإسلامية(كان خروجه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الطائف لليال بقين من شوال سنة عشرة من البعثة.) :
أدرك
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن أذى قريش سيزداد ، وأن خطط المشركين ومساعيهم للقضاء على الرسالة
لن تتوقف، فقد زال غطاؤها الأمني بوفاة أبي طالب ولابد للرسالة الإسلامية أن تنفتح
على جبهة أوسع. وفي الوقت الذي استطاع فيه رسول الله أن يبني الإنسان الرسالي سعى
لتهيئة قاعدة تتضح فيها معالم الاستقرار والنظام في محيط يمارس فيه الفرد حياته
وعلاقاته مع ربه والناس ولينطلق بعد ذلك إلى بناء الحضارة الإسلامية الإنسانية وفق
تعاليم السماء، فوقع اختياره على الطائف حيث تقطن ثقيف كبرى القبائل العربية بعد
قريش. ولما انتهى إليها وحده أو بمرافقة زيد بن حارثة أو بمرافقة زيد وعلي(راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 127 و 14 / 97
.)، عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادتها وأشرافها، فجلس إليهم ودعاهم
إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه في دعوته ويمنعوه من
قومه فلم يعبأوا لدعوته وردوا عليه ساخرين فقال أحدهم: إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال آخر: والله لا أكلمك
أبداً ولئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وردّ الآخر قائلاً: أعجزٌ على الله
أن يرسل غيرك؟!( السيرة النبوية: 1 / 420 ، بحار الأنوار: 19 / 6 و7 و22 ،
إعلام الورى: 1 / 133.).
بعد هذا
الرد الجاف والعنيف قام صلىاللهعليهوآلهوسلم من عندهم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى بينه وبينهم; إذ كره أن
يبلغ قريش ذلك فيجرّئهم عليه، لكن زعماء ثقيف لم يستجيبوا لطلبه وأغروا به سفهاءهم
وعبيدهم فأخذوا يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، فلم يكن يرفع قدماً ويضع
اُخرى إلاّ على الحجارة حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني
ربيعة، وكانا هناك فتفرق عنه سفهاء الطائف، وقدماه تنزفان دماً، فعمد إلى ظل كرمة
ونادى ربّه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على
الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد
يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي
أوسع لي).
ولم يلق
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ التفاتة عطف من رجل نصراني ضعيف وجد في رسول الله ملامح النبوة(الطبري: 2 / 426، أنساب الأشراف: 1 / 227، تأريخ اليعقوبي:
2 / 36 السيرة النبوية: 1 / 420.).
وحين
انصرف رسول الله من الطائف راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من خير ثقيف كان محزوناً حيث
لم يستجب له أحد فنزل نخلة (بين مكة والطائف). وفي جوف الليل وحين كان يصلّي مرّ
به نفر من الجن واستمعوا للقرآن فلمّا فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين بعد أن
آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، وقصّ الله خبرهم عليه قائلاً: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إلى قوله تعالى: (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (تاريخ الطبري : 2 / 346، وسيرة ابن هشام: 2 / 63، والطبقات:
1 / 312. راجع سورة الأحقاف : 29 ـ 31 .).
2 ـ
الانفتاح على الرسالة ومعوّقاتها في مكة :
لقد
كانت حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جهاداً رسالياً متكاملاً، وكان منطقه وسلوكه وخلقه يحاكي الفطرة
السليمة والأخلاق السامية، يناشد الحق في النفوس ليحييها ويدعو إلى الفضيلة لتنعم
البشرية بها ولهذا لم ييأس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم رغم اضطهاد قريش وقسوتها معه وصد الطائف وجفوتها، إذ كان يتحرك بين
الناس ويدعو الجميع إلى دين الله ولا سيّما في مواسم العمرة والحج حيث تتوفّر فيها
فرص تبليغية عظيمة فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقف على منازل القبائل من العرب ويقول: (يا بني فلان إني
رسول الله إليكم يأمركم أن تتعبدوا إليه ولا تشركوا به شيئاً وأن تؤمنوا بي
وتصدقوني وتمنعوني حتى اُبيّن عن الله ما بعثني به)( السيرة النبوية: 1 / 423، تأريخ الطبري: 2 / 429، أنساب
الأشراف: 1 / 237.).
وكرّر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مساعيه بالتحرّك على عدة قبائل غير آبه بما يلاقي من ردّ قاس أو
اعتذار جميل. على أن بعضهم وجد في الانتماء إلى الإسلام مشروعاً سياسياً لبلوغ
السلطان فحاول أن يساوم ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ردّهم بلسان لا يعرف المساومة والتخاذل ولم يرد انتهاز الفرص على
حساب المبادئ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)( السيرة النبوية: 1 / 424، تأريخ الطبري: 2 / 431.).
وفي
أثناء ذلك ربما مشى (أبو لهب) خلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يثبّط
الناس عن متابعته فيقول: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى
من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه(السيرة النبوية: 1 / 423، تاريخ الطبري: 2 / 430.).
وفي جانب آخر تقوم
أم جميل في وسط النساء فتسخر من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعوته المباركة لتمنع النساء من متابعته.
ولم
يتيسر للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن
يقنع القبائل بالرسالة الإسلامية إذ أن قريشاً كانت تتمتع بالمكانة الدينية من بين
القبائل الأخرى لما كانت تقوم به من سدانة البيت الحرام كما أنّها كانت تدير
مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً في الجزيرة العربية وكانت لقريش أيضاً شبكات من
العلاقات والأحلاف مع ما كان يحيط بها من القبائل الأخرى التي كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عرض عليهم دعوته، فكان من الصعب كسر كل تلك القيود وإلغاء هيمنة
قريش فكان تردد الناس في قبول الرسالة الإسلامية واضحاً، وخشيت قريش رغم ذلك من
تحرّك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقوة
دعوته فالتجأت إلى أسلوب مبرمج يمكن أن تقبله العقول الوثنية فاتفقوا على دعاية
ينشرونها بين الناس فقالوا: إنه ساحر في بيانه يفرّق بين المرء وزوجه وبين الإنسان
وأخيه. ولم تفلح قريش في مسعاها حين كانت تنكشف عظمة الرسول والرسالة لكل من يلتقي
بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية: 1 / 270.).
3 ـ
بيعة العقبة الأولى :
كان
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يدّخر وسعاً ولا يتوانى في السعي لنشر الرسالة الإسلامية ودعوة أي
عنصر يرى فيه الأمل والخير أو يجد فيه التأثير والنفوذ ممن كان يقدم إلى مكة لحاجة
ما. وقد كانت مدينة يثرب تعيش صراعاً سياسياً وعسكرياً بين أقوى قطبين فيها وهما
الأوس والخزرج، وكان يؤجج هذا الصراع عناصر من اليهود ـ بخبثهم ودسائسهم ـ في جو
من ضياع القانون الإلهي.
والتقى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع بعض
شخصيات يثرب ممن جاء يبحث عن تحالف يزيد قوته، فما برحوا حتى تغلغل أثر الرسالة وصدق النبوة في
نفوسهم، ففي إحدى اللقاءات تحدث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى جماعة من بني عفراء ـ وهم ينتسبون إلى الخزرج ـ فعرض عليهم
الإسلام وتلا عليهم شيئاً من القرآن، فوجد في عيونهم التجاوب وفي قلوبهم اللهفة
لسماع المزيد من الآيات... وتأكدوا من حديث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه هو
النبي الذي يقصده اليهود حينما كانوا يتوعدون به المشركين في يثرب كلما وقع شر
بينهم فيقولون لهم: إن نبياً قد بعث الآن وقد أطلّ زمانه وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم(السيرة النبوية: 1 / 428، بحار الأنوار: 19 / 25.).
فأعلنوا
في الحال إسلامهم وكانوا ستة أشخاص وقالوا للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم
وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك وإلى الدين الذي أجبناك
عليه.
ثم انصرفوا راجعين إلى يثرب وشرعوا يتحدثون عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والرسالة والأمل القادم لبناء حياة يسودها الأمن والسعادة، حتى فشا
أمر الرسالة الإسلامية بينهم ولم يبق دار من دور يثرب إلاّ وفيها ذكر لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (تاريخ اليعقوبي: 2 / 37 ـ 38، السيرة النبوية: 1 / 429،
بحار الأنوار: 19 / 23.).
وما
أسرع ما انقضت الأيام فلما كان موسم الحج للعام الحادي عشر من البعثة النبوية قدم وفد من أوس يثرب وخزرجها ـ وهم اثنا عشر رجلاً ـ من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل
والتقوا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سراً في العقبة ـ وهي
المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب مكة ـ وأعلنوا هذه المرة بيعتهم للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على أن
لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا
ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوه في معروف(السيرة النبوية: 1 / 433، تأريخ الطبري: 2 / 436.).
ولم يشأ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحملهم أكثر من ذلك، وأرسل معهم الشاب المسلم مصعب بن عمير إلى
يثرب لكي يتولى شؤون التبليغ والتثقيف العقائدي بينهم، وبذا تمّت بيعة العقبة الأولى.
4 ـ
بيعة العقبة الثانية :
تحرك
مصعب بين أزقة يثرب وفي مجتمعاتها يتلو آيات الله ويحرك الأفئدة والعقول بالقرآن
حتى آمن بالرسالة الإسلامية عدد كبير من الناس.
وقد
أحدث الإسلام في النفوس شوقاً كبيراً للقاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والتزود من معينه والطلب الجادّ بالهجرة إليهم.
وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة من البعثة خرجت وفود الحجيج من يثرب ومعها وفد المسلمين البالغ ثلاثاً وسبعين
رجلاً وامرأتين فواعدهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يلتقي بهم عند العقبة ـ جوف الليل في أواسط أيام التشريق ـ وكتم
مسلمو يثرب أمرهم.
وما إن
مضى من الليل ثلثه وفي غفلة عن العيون حتى تسلل المسلمون من أخبيتهم واجتمعوا في
انتظار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء ومعه بعض أهل بيته فبدأ الاجتماع وتكلم القوم، ثم تحدث رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتلا شيئاً من القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام.
وتمّت البيعة هذه المرّة صريحة واضحة مكتملة على كلّ جوانب الإسلام
وأحكامه وفي السلم والحرب معاً. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أبايعكم على أن
تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فقاموا وبايعوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وظهر
شعور بالقلق من جانب مسلمي يثرب فقال أبو الهيثم ابن التيهان: يا رسول الله إنّ
بيننا وبين الرجال ـ يعني اليهود ـ حبالاً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا
ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم أحارب من حاربتم
وأسالم من سالمتم(السيرة النبوية: 1 / 438، تأريخ الطبري: 2 / 441، مناقب آل أبي طالب: 1
/ 181.).
ثم ان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال: (أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على
قومهم بما فيهم) فأخرجوا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال
لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى
بن مريم وأنا كفيل على قومي(تأريخ الطبري: 2 / 442، السيرة النبوية: 1 / 443، المناقب:
1 / 182.).
وبالإرشاد
الحكيم والاستخدام الحصيف لكل الإمكانات وبالوعي السياسي العميق خطا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة نحو الأمام يسدده الوحي الإلهي في كل ذلك، وأذن صلىاللهعليهوآلهوسلم للمبايعين أن يعودوا إلى رحالهم من دون أن يواجهوا المشركين بالقوة
فلم يأذن الله بالقتال.
وأدركت
قريش بوادر الخطر المحدق بها من نصرة مسلمي يثرب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبلوا والشر والغضب يتملّكانهم كي يحولوا بين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين لكن حمزة وعلياً عليهماالسلام كانا بوّابة الأمان لاجتماع العقبة فرجعت قريش خائبة منكسرة(تفسير القمي: 1 / 272.).
5 ـ
الاستعداد للهجرة إلى يثرب :
انتبهت
قريش وخرجت من غفلتها فقد انفتح باب الرجاء في الغلبة، في وجه المسلمين فراحت تزيد
من استخدام القسوة والتنكيل والاضطهاد للمسلمين في محاولة منها للقضاء عليهم قبل
استفحال الأمر، فشكا المسلمون ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم واستأذنوه للخروج من مكة فاستمهلهم أياماً ثم قال: (لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن أراد الخروج فليخرج إليها)
(الطبقات الكبرى: 1 / 226.)، وفي رواية أخرى: (إن الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها
وإخواناً)( مناقب آل أبي طالب: 1 / 182، السيرة النبوية : 1 / 468.).
وشرع
بعض المسلمين يخرجون من مكة إلى يثرب سرّاً كي لا يثيروا هواجس قريش، وبدأت طرقات
مكة وبيوتها ونواديها تشهد يوماً بعد يوماً غياباً مستمراً لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. أمّا هو فكان ينتظر الأمر الإلهي بالهجرة وليضمن سلامة ودقة هجرة
المسلمين. وأدركت قريش هدف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخطته
فسعت إلى منع المسلمين من الخروج من مكة ولحقت بالمهاجرين مستخدمة أساليب الإغراء
والتعذيب لإعادتهم إلى مكة.
وكانت
قريش حريصة في أن يبقى الأمن سائداً في مكة مما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين
خشية وقوع الحرب بينها وبينهم فاكتفت بالتعذيب والحبس للمسلمين.
نعم كانت قريش تحسب
ألف حساب لخروج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
يثرب فقد أصبح للمسلمين اليد العليا هناك فإذا لحق بهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو المعروف بالثبات وحسن الرأي والتدبير والقوة والشجاعة حينئذ سوف
تحل الكارثة
بالمشركين عامة وبقريش بشكل خاص.
وسارع
رؤساء قريش لعقد اجتماع لهم في دار الندوة للبحث عن حلّ يواجهون به الخطر المحدق
بهم فتعددت الأراء وتضاربت وكان من بين الحلول المقترحة حبسه وتكبيله بالأغلال أو
نفيه بعيداً عن مكة في منقطع الصحراء، ولكن رأياً بقتله وتفريق دمه بين القبائل ـ
لتعجز بنو هاشم عن المطالبة بدمه ـ هو الذي حاز الموافقة والإعجاب(السيرة النبوية: 1 / 480، الطبقات الكبرى: 1 / 227، تفسير
العياشي: 2 / 54.)، فإنهم إن قتلوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد قضوا على الرسالة الإسلامية وهي في مهدها.
وجاء
الأمر الإلهي يأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتحرك والهجرة إلى يثرب وكانت تلك الإشارة التي ينتظرها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بشوق بالغ ليحطّ قدمه على أرض يتمكن فيها من بناء دولة على أعمدة
التقوى وتعاليم السماء وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح.
وبعد أن دبّر المشركون خطّتهم وأحكموها نزل أمين الوحي (جبرئيل) على
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبره بما حاك المشركون ضدّه من مؤامرة إذ قرأ عليه قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (المناقب: 1 / 182 ـ 183، الأنفال: 8 / 3.).
ورغم
يقينه الكامل بأن الإمداد الغيبي يرعاه ويسدد خطاه
لم
يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات بل خطط ودبّر ببصيرة وحنكة وسرية تامة.
6 ـ
المؤاخاة قبل الهجرة :
لقد آخى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المهاجرين كنقطة انطلاق نحو المجتمع الإسلامي المتماسك يتعاونون
كجسد واحد لمصلحة الإسلام وإعلاء كلمة الله حيث سيواجه المسلمون مصاعب جمّة يستلزم
تجاوزها التعاون والتعاضد بأعلى مراتبه.
وكخطوة أولى في طريق الهجرة المباركة آخى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المهاجرين بعلاقة إيمانية إلهية على الحق والمؤاساة مؤاخاة ينعكس
أثرها على التعامل فيما بينهم بالانسجام والصمود بعيداً عن النوازع النفسية، فلقد
آخى صلىاللهعليهوآلهوسلم بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين الزبير وابن مسعود
وبين عبيدة بن الحارث وبلال.
كما آخى بين علي عليهالسلام ونفسه الشريفة صلىاللهعليهوآلهوسلم ... وقال
لعلي عليهالسلام: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال عليهالسلام: بلى يا رسول الله
رضيت. وهنا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فأنت أخي في الدنيا
والآخرة(السيرة الحلبية: 2 / 20، مستدرك الحاكم: 3 / 14.).
الباب
الرابع: فيه فصول:
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى.
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية.
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم.
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى
1 ـ
الهجرة إلى يثرب :
لكي
تتكامل حركة الرسالة وتتحقق النبوّة أهدافها الربّانية المنشودة لابد أن تسدد
وتؤيد بقوى الخير وعناصر تملك اليقين المطلق بالعقيدة وتنذر نفسها لتلك العقيدة
وتستعد للتضحية على الدوام مع مؤهلات تصونها من الانحراف.
لقد كان
علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
العنصر الفذّ الذي قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا علي، إنّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه
أوحي إليّ عن ربي أن أهجر دار قومي، فنُم على فراشي والتحف ببردي الحضرمي لتخفي
بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟)
فقال
علي عليهالسلام: أَوَ تَسلَمنَّ بمبيتي هناك يا نبي
الله؟
قال: نعم، فتبسم علي عليهالسلام ضاحكاً
مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله تعالى لما أنبأه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من سلامته وقال عليهالسلام: إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي(راجع إحقاق الحق : 3/23 ـ 45 مع تعليقات المرعشي النجفي
لتقف على مصادر هذا الحدث التاريخي وموقف علي الرساليّ عند علماء أهل السنة. وراجع
أيضاً: مسند الإمام أحمد : 1/331 الطبعة الأولى بمصر، وتفسير الطبري : 9/140
الطبعة الميمنية بمصر ومستدرك الحاكم : 3/4 طبعة حيدرآباد الدكن.).
وخرج
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
منتصف الليل من داره تحيط به العناية الإلهية مخترقاً طوق قوات الشرك المحيطة
بداره تاركاً علياً في فراشه.
وكم
كانت خيبة أعداء الله حين اقتحموا دار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
صباحاً شاهرين سيوفهم تفوح منها رائحة الموت، ويفيض الحقد من وجوههم يتقدمهم خالد
بن الوليد، فوثب علي عليهالسلام من مضجعه في
شجاعة فائقة فارتد القوم على أدبارهم وتملّكتهم دهشة وذهول وهم يرون كيف خيّب الله
سعيهم وأنقذ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وتوسّلت
قريش بطغيانها بكل حيلة لتردّ هيبتها الضائعة لعلّها تدرك محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأرسلت العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول حتّى وضعت مئة ناقة جائزة لمن يأتي
بمحمد حياً أو ميتاً. وقادهم الدليل الحاذق مقتفياً أثر قدم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى باب غار ثور ـ حيث كان قد اختبأ فيه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومعه أبو بكر ـ فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن
يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا في الأرض.
وفي داخل الغار كان أبو بكر قد غلبه خوف كبير وهو يسمع صوت قريش تنادي: أُخرج يا محمد، ويرى أقدامهم تقترب من باب الغار ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
وعادت
قريش بخفيّ حنين فهي لم تدرك أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الغار إذ رأت العنكبوت قد نسج بيته على باب الغار وعندها بَنت الحمامة عشها وباضت
فيه.
وفي
المساء التقى علي وهند بن أبي هالة بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن علما بمكانه
وقد أدلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بوصاياه لعلي عليهالسلام بحفظ ذمته وأداء
أمانته ـ إذ كان محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مستودع أمانات
العرب ـ وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ويلحق به
صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له مطَمْئِناً: (إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأدِّ
أمانتي على أعين الناس ظاهراً ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما
ومستحفظه فيكما)( أعيان الشيعة: 1 / 237.).
وبعد
ثلاثة أيام حين عرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قد سكن الناس عن طلبه، تحرّك نحو يثرب يغذو السير ولا يعبأ
بمشقة مستعيناً بالله واثقاً من نصره.
وحينما
وصل منطقة (قباء)( وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قباء في 8 ربيع الأول.) تريّث فيها أياماً ينتظر قدوم ابن عمّه علي ابن أبي طالب والفواطم عليه ليدخلوا جميعاً يثرب التي كانت تموج بالفرح والبهجة لقدوم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حين دخل صاحب النبي ورفيق سفره إلى يثرب تاركاً الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في قباء! وما إن وصل علي بن أبي طالب عليهالسلام منهكاً من تعب الطريق ومخاطره ـ حيث كانت قريش قد تعقّبتهم حين علمت
بخروجه بالفواطم ـ اعتنقه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبكى رحمةً لما به(راجع الكامل في التأريخ: 2 / 106.).
وأقام
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بـ (قباء) عدة أيام وكان أوّل عمل قام به هو كسر الأصنام(البدء والتأريخ: 4 / 176 ـ 177.) ثم أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته صلاة الظهر في بطن وادي
(رانوناء) فكانت أول صلاة جمعة في الإسلام وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسلاحهم
يستقبلون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحيطون بركبه وكلٌ يريد أن يتطلع إليه ويملأ عينيه من هذا الرجل
الذي آمن به وأحبه(وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مدينة يثرب في 12 ربيع الأول.).
وما كان
يمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمنزل
أحد من المسلمين إلاّ ويأخذ بزمام ناقته ويعرض عليه المقام عنده وهو يقابلهم
بطلاقة الوجه والبشر وتجنباً من إحراج أحد منهم كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: خلّوا الناقة إنّها
مأمورة.
وأخيراً بركت الناقة عند مربد يعود لغلامين يتيمين من بني النجار أمام
دار أبي أيوب الأنصاري فأسرعت
زوجته فأدخلت رحل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في دارها فنزل عندهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن تمّ بناء المسجد النبوي وبيته صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع السيرة النبوية: 1 / 494.).
وقد
غيّر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اسم
يثرب إلى (طيبة)( ابن خلدون: المقدمة / 283، وتاج العروس: 2 / 85 .) واعتبر هجرته إليها مبدءاً للتأريخ الإسلامي(تأريخ الطبري (الأمم والملوك) : 2 / 110 ـ 114.).
2 ـ
بناء المسجد :
لقد
اجتاز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين دائرة بناء الفرد ، وبوصوله إلى يثرب شرع في التخطيط
لتكوين الدولة التي تحكمها قوانين السماء والشريعة الإسلامية السمحاء ومن ثم بناء
الحضارة الإسلامية لتشمل كل الإنسانية في مرحلة ما بعد الدولة.
ومن
اُولى العقبات أمام تأسيس الدولة الإسلامية وجود النظام القبلي الذي كان يحكم
العلاقات في مجتمع الجزيرة، كما أن ضعف المسلمين كان لابد له من معالجة واقعية،
فكان المنطلق بناء المسجد ليكون مكاناً لمهام متعددة، ومركزاً للسلطة المركزية
التي تدير شؤون الدولة. وتمّ تعيين الأرض وشرع المسلمون بهمّة وشوق في العمل
الجادّ لبناء المسجد وما يتطلبه من مستلزمات، وكان الرسول هو القدوة والأسوة ومنبع
الطاقة التي تُحرِّك المسلمين في العمل فشارك بنفسه في حمل الحجارة واللبن، وبينما
هو صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله أُسيد بن حضير فقال: يا رسول
الله أعطني أحمل عنك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: لا،
اذهب فاحمل غيره.
وتمّ
أيضاً بناء دار للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولأهل بيته ولم يكن البناء ذا كلفة كبيرة فقد كان بسيطاً كحياتهم،
ولم ينس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكناً يأوون إليه فألحق لهم مكاناً
بجانب المسجد(بحار الأنوار : 19 / 112 ، السيرة النبوية : 1 / 496 .).
وأصبح
المسجد مرتكزاً في حياة المسلمين العبادية والحياتية فعّالاً في بناء الفرد
والمجتمع.
3 ـ
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
ثم خطا
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطوة اُخرى لإقامة الدولة الجديدة والقضاء على بعض قيم النظام القبلي
من دون أن يمس القبيلة بشيء ، مستثمراً حالة التعاطف وحرارة الإيمان التي بدت من
المسلمين فجعل أساس العلاقة بين الأفراد رابطة العقيدة والدين متجاوزاً علقة الدم
والعصبية، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا
أخي(السيرة النبوية: 1 / 504.)، وأخذ كل رجل من الأنصار أخاً له من المهاجرين يشاركه الحياة. وبذا
طوت المدينة صفحة دامية من تأريخها إذ كانت لا تخلو أيامها من صراع مرير بين الأوس
والخزرج يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم وانفتح على العالم عهد جديد من الحياة
الإنسانية الراقية حيث زرع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك عنصر بقاء الأمة، وفاعليتها الإيمانية.
أبعاد ونتائج
التآخي بين المسلمين
البعد الاقتصادي :
1 ـ
إعالة المهاجرين وإعادة تأهيلهم اقتصادياً للعودة لممارسة حياتهم الطبيعية.
2 ـ
إزالة الفوارق الطبقية في محاولة للقضاء على الفقر.
3 ـ
السعي للاستقلال الاقتصادي بعيداً عن مركز الثروة غير المشروعة وقطع أيادي اليهود
المرابية.
4 ـ
إنجاز مشاريع اقتصادية: زراعية مع تنشيط حركة التجارة ـ من خلال تلاقح فاعلية
المهاجرين والأنصار وأفكارهم وترابط جهودهم واستثمار كل الموارد المتاحة في
المدينة.
البعد الاجتماعي :
1 ـ
القضاء على الأمراض الاجتماعية المتأصلة في المجتمع ومخلفات التناحر القبلي وإشاعة
روح الحب والود والتآلف لسد الثغرات لئلاّ يستغلّها المتآمرون على الإسلام، وتوفير
الجهود والطاقات البشرية لخدمة الإسلام في مراحله اللاحقة.
2 ـ
إلغاء النظام القبلي وإحلال النظام والقيم الإسلامية محله في التعامل اليومي.
3 ـ
تهيئة المسلمين نفسياً وتربيتهم على التضحية والإيثار للانفتاح على العالم لنشر
الرسالة الإسلامية الذي يتطلب مرونة عالية وقيم رفيعة تتوفر في الداعية المسلم.
البعد
السياسي :
1 ـ
تكوين نسيج مترابط من المسلمين يتحرك مستجيباً لأوامر الرسول والرسالة كفرد واحد
في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية ولم تتوقف عن دسائسها.
2 ـ
تناقل الخبرات التنظيمية ووسائل المقاومة والصمود والتجربة الإيمانية وطرق التحرك
وسط المهاجرين والأنصار إذ لم يعش الأنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم.
3 ـ بناء
الفرد كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها الإداري.
4 ـ
إشعار المسلمين بالقوّة في الدفاع عن أنفسهم وفق قيم الإسلام بعيداً عن الروح
القبلية والعنصرية.
4 ـ معاهدة المدينة :
ولكي
ينتقل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة البناء وتطبيق الشريعة
الإسلامية كان لابد من توفير أجواء الأمن والاستقرار ـ ولو نسبياً ـ فالصراع قد
يعيق انتشارها في الوسط الجماهيري.
وفي
يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود، فاليهود كانوا يشكلون عبئاً كبيراً
بقوتهم الاقتصادية وخبثهم السياسي المعروف إضافة إلى عُدّتهم وعددهم الذي لا
يستهان به. والمشركون أيضاً قوة أخرى وإن ضعف دورهم بقدوم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمهاجرين ولكنه لم ينته تماماً ـ فجاملهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقابلهم بالحسنى.
وكان
لابد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً أن يحتوي وجود المنافقين.
وفي
خارج المدينة كانت قريش وسائر القبائل المشركة تمثل تهديداً حقيقياً للكيان
الإسلامي الفتيّ وكان على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم.
وهنا
تجلت عظمة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة مُظهراً النوايا
الحسنة والطيبة تجاه الآخرين، داعياً جميعهم إلى السلام والأمان.
وكتبت
معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يتمتع الجميع فيها بالحقوق الإنسانية على السواء.
ويمكن
القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أوّل مشروع دستوري لبناء دولة إسلامية متحضرة في
مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي
لتقبل النظام الإسلامي الجديد.
وأهم ما تضمنته الصحيفة هو ما يلي:
1 ـ
إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.
2 ـ
الإبقاء على الوجود القبلي ـ مع تحجيم دوره وصلاحياته ـ لتخفيف العب عن كاهل
الدولة، بإشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات.
3 ـ
التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم
واعتبارهم مواطنين في الدولة الإسلامية الجديدة.
4 ـ
ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرماً آمناً لا يجوز القتال فيه.
5 ـ
إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرار الفصل في الخصومات إلى القيادة
الإسلامية المتمثلة في شخص الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
6 ـ
توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أنّ المسلمين واليهود يتعايشون في نظام سياسي
واحد ويدافعون عنه.
7 ـ
الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي
تعترضه.
5 ـ
النفاق وبدايات الاستقرار في المدينة :
اهتم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ببناء المجتمع المسلم ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم إلاّ بعذر وذلك
لاستقطاب كل الطاقات والكفاءات وسحبها إلى المدينة. وقد تمتعت المدينة في هذا
العهد الجديد بحياة الأمن والاستقرار فأصبح الأمر مزعجاً لسائر القوى التي رفضت
دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أولاً ورأت فيه طرفاً يهدد معتقدها واليوم أصبح كياناً يرتقي
بالإنسان نحو الفضائل وقوة تنمو باطّراد لا يصدّه أحد عن نشر رسالته فأسلمت أعداد
كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط للابتعاد عنه أو التحالف معه.
ومن جانب آخر كان
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يرصد حركة النفاق ومساعي اليهود الحاقدة لتقويض الكيان الإسلامي
الفتيّ بتمزيق صفوفه بالتفرقة في ما بين المسلمين. ولم تمض فترة طويلة حتى دخل
الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة(السيرة النبوية: 1 / 500.)، واتسق
النظام الاجتماعي العام تحت حكم الإسلام وقيادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي هذه الفترة شرّعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام إقامة الحدود، كما شرع الأذان
لإقامة الصلاة وقبل ذلك كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أعدّ منادياً ينادي للصلاة إذا جاء وقتها ، ونزل الوحي الإلهي
يعلّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صيغة الأذان(الكافي: 1 / 83 ، تهذيب الأحكام: 1 / 215.) فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه بلالاً وعلّمه كيفية الأذان.
6 ـ
تحويل القبلة:
وكان
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طوال فترة تواجده في مكة يتجه في صلاته نحو بيت المقدس ولم يغيّر من
اتجاه صلاته بعد هجرته المباركة إلى سبعة عشر شهراً ثم أمره الله أن يتجه في صلاته
نحو الكعبة.
وقد
أمعن اليهود في عدائهم للدين الإسلامي واستهزائهم بالرسول والرسالة حتّى أنهم
كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيّتهم لقبلة اليهود فكان هذا يحزن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصبح ينتظر نزول الوحي الإلهي بتغيير القبلة ، وخرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في جوف الليل يطيل النظر إلى آفاق السماء فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة
الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل عليهالسلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة (2): 144 .) .
وقد
كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين في مدى طاعتهم وانقيادهم لأوامر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وتحدّياً لعناد اليهود واستهزائهم وردّاً لكيدهم كما كانت منطلقاً جديداً من
منطلقات بناء الشخصية المسلمة(راجع مجمع البيان: 1 / 413 .).
7 ـ
بدايات الصراع العسكري :
لقد
كانت القوّة هي التي تحكم الناس وتسودهم، وفي هذا الظرف تحرّك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون ـ بعد الاستقرار النسبي في المدينة ـ ليؤكّد لكل القوى
المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم وفارس ـ إصراره على نشر الرسالة الإسلامية
وبناء الحضارة وفق تعاليم السماء، وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه
غيرهم، فهم أصحاب عقيدة وفكر وطلاّب حقٍّ وعدل، ومشرّعي سلام وأمان، وأهل سيف
وقتال.
وقد
توقع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ قريشاً ومن نصب له العداء سيلجأون لمحاولة استئصال المسلمين ولو
بعد حين فكان طلبه من الأنصار في بيعة العقبة الثانية النصرة والقتال كما أن
قريشاً هي التي تمادت في التعدي والظلم بل وخرجت تتتبّع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين للقضاء عليهم، وفي مكة قد صادرت الأملاك ونهبت البيوت.
وكانت الرغبة لدى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين ـ المهاجرين خصوصاً ـ أن تدخل قريش في الإسلام طواعية أو
أن لا تمضي في غيّها على أقل تقدير.
من هنا بدأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعث (السرايا) وهي عبارة عن مجاميع صغيرة تتحرك لتعلن عن
وجودها وعدم استسلامها. وإذا
نظرنا إلى عدّتها البسيطة وعددها القليل الذي لا يتجاوز الستين فرداً وكلهم من
المهاجرين وليس فيهم من الأنصار الذين بايعوا على القتال والنصرة، ندرك أنها لم
تكن مرشّحة للقتال وإنّما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط على قريش اقتصادياً(إذ إن مصدرها المالي هو التجارة من خلال حركة القوافل بين
مكة والشام واليمن.) أيضاً لعلّها تسمع
نداء الحق بأُذُن صاغية وبقلب مفتوح أو تهادن المسلمين فلا تتعرض لهم لينتشر
الإسلام في أطراف أخرى، وفي الوقت نفسه كان ينبغي إشعار اليهود والمنافقين بقوة
الإسلام وهيبة المسلمين.
وهكذا بعد مضيّ سبعة أشهر على الهجرة المباركة انطلقت أول سريّة وكان عدد أفرادها ثلاثين رجلاً بقيادة حمزة عم النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثم تلتها سرية أخرى بقيادة عبيدة بن الحارث. وسرية ثالثة بقيادة سعد
بن أبي وقاص.
وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في صفر من العام الثاني للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه
لاعتراض قوافل قريش ولكن لم
يحصل الصدام بين الطرفين في حركته نحو الأبواء وبواط . وفي خروجه إلى ذي العشيرة
وادَعَ بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .
وتحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لردّ الاعتبار ومعاقبة المعتدي حين أغار كرز بن جابر الفهري على
أطراف المدينة لسلب الإبل والمواشي فخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لملاحقته وخلّف زيد بن حارثة على المدينة(السيرة النبوية: 1 / 598، المغازي: 1 / 11 ـ 12.).
وانطلق
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في
حركته العسكرية من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل الدين بدلاً عن مفهوم العصبية
والثأر ، محترماً أعراف وتقاليد الصلح والمواعدة وحرمة الأشهر الحرم .
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية
1 ـ
غزوة بدر الكبرى :
بنزول
الأمر الإلهي بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من الصراع مع قوى
الشرك والضلالة، وتحركت في نفوس المهاجرين الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة
من قبل والتي استلبتها قريش منهم لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله وحده.
ورصد
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة
وخرج في عدّة خفيفة وعدد قليل يرتجي ملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجارية ضخمة لأغلب
المكيين. ولم تكن حركة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سرّية فقد بلغ خبرها إلى مكة وإلى أبي سفيان قائد القافلة فتحوّل في
مسيره إلى اتجاه آخر حيث لا يدركه المسلمون... وخرجت قريش فزعة تطلب مالها تلهبها
مشاعر الحقد والحسد للمسلمين، على أن عدداً من كبارها نظر إلى الأمر بتدبّر ورويّة
وآثر عدم الخروج لملاقاة المسلمين وخصوصاً بعد أن ورد خبر نجاة أبي سفيان بالقافلة
التجاريّة.
خرجت
قريش بعدد يناهز الألف في عدّة ثقيلة يدفعها تجبّرها، والاغترار بمنزلتها بين
العرب ومع جموع أخرى هبّت لنصرتها مصرّةً على لقاء المسلمين أو لتثبت أنها لا تخذل
كي لا يتعرض لها المسلمون ثانية، فقريش ما ذلّت مذ عزّت، كما أعرب عن ذلك بعض
أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أراد مواجهة قريش لأوّل مرة(راجع المغازي للواقدي: 1 / 48، السيرة الحلبية: 2 / 160،
وبحار الأنوار: 19 / 217.).
نزلت
قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة
وثلاثة عشر رجلاً وهيّأ الله لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وللمسلمين مقدمات النصر وأسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال
وألقى عليهم الأمن والاطمئنان ووعدهم بالنصر على أعدائهم وإظهار دين الحق(الانفال (8): 7 ـ 16.).
وبالرغم
من أن المسلمين لم يتوقعوا خروج قريش لملاقاتهم ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحول
الهدف إلى القتال أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار فوقف وقال: (أشيروا عليّ أيها الناس) .
فقام
بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدل على الخوف والجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد
بن عمرو فقال: يا رسول الله إمضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت
بنو إسرائيل لنبيها: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو
سرت بنا إلى برك الغِماد(برك الغماد : موضع وراء مكة مما يلي البحر.) لسرنا معك.
فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيراً.
ثم كرر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله: أشيروا عليّ أيها الناس، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار إذ كانوا قد بايعوه على الدفاع والذبّ عنه بالنفس والنفيس في العقبة
قبل الهجرة.
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يارسول الله تريدنا؟
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أجل. قال: إنّا قد آمنا بك وصدقّناك وشهدنا أن كل ما جئت به حق.
وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يانبي الله، فوالذي بعثك بالحق
لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وما نكره أن يلقانا عدونا
غداً; إنا لصُبّر عند الحرب، صِدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به
عينك.
عندها
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى
الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)( المغازي: 1 / 48 ـ 49.).
وفي كل
موقف كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب وقاموا
بالإعدادات اللازمة بدءاً باختيار الموقع المناسب وإعداد الماء واتّخاذ التحوّطات
لملاقاة العدو، والنبي القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم كان دائماً هو الطاقة المتدفقة التي تبعث في نفوسهم الصبر والجلد،
والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم ويخبرهم بالمدد الإلهي(الأنفال (8): 65.).
واحتفّ المسلمون حول النبي وهم يظهرون أروع صور الاستعداد للتضحية من
أجل العقيدة ويفكّرون في خطة بديلة لودارت الحرب على غير ما يحبون فأعدّوا عريشاً كمقرّ لقيادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لِيشرف من خلاله على المعركة. وخرجت سرية الاستطلاع لمعرفة أحوال
قريش وعادوا بالأخبار الّلازمة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقدّر
عددهم ما بين (950 ـ 1000) مقاتل(راجع المغازي: 1 / 50.).
وقف
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصفّ
المسلمين صفوفاً وأعطى رايته الكبرى لعلي ابن أبي طالب عليهالسلام وأرسل إلى قريش طالباً منها أن ترجع، فهو يكره قتالها، فدبّ الخلاف بين صفوف المشركين بين راغب في السلم ومصرّ على العدوان(المغازي: 1 / 61، بحار الأنوار: 19 / 252.).
وأمر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم).
وكما هو المعتاد في كل الحروب القديمة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون نظراء لهم من قريش ليبارزوهم. فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعبيدة
بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب: (يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم
إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله)( المغازي: 1 / 68.).
فقُتل
من برز من قريش والتحم الجيشان ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعث الحماس في نفوس المسلمين. ثم أخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كفاً من الحصى ورمى بها على قريش وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم
أحد إلاّ اشتغل بفرك عينيه(إعلام الورى: 1 / 169، السيرة النبوية: 1 / 628.) فكانت هزيمة قريش ووقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على قليب بدر بعد طرح جثث المشركين فيه، وناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: إنهم ليسمعون كما
تسمعون ولكن منعوا من الجواب(إعلام الورى: 1 / 171، السيرة النبوية: 1 / 638.).
نتائج المعركة :
خلّفت
معركة بدر نتائج عظيمة فقد فرّ المشركون نحو مكة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل
جانب تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة... وبدت بين صفوف
المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفية تقسيم
الغنائم فأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجمعها حتى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهي في سورة الأنفال بتقسيم
الغنائم وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكل فرد مقاتل حصته على قدم المساواة
مع غيره(المغازي: 1 / 104، السيرة النبوية: 1 / 642.).
وبشأن
الأسرى أعلن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ من علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة فذلك
فداؤه مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعلم وبناء الإنسان
المتحضّر. وأما الباقي من الأسرى فجعل فداء كل واحد منهم أربعة آلاف درهم، وشمل
هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من دون تمييز له عن غيره من المشركين.
وحين
أرسلت زينب قلادتها لفداء زوجها بكى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لرؤية القلادة متذكراً زوجته خديجة فالتفت صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المسلمين قائلاً: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها
مالها فافعلوا(السيرة النبوية: 1 / 652، البحار: 19 / 348.). وما أيسر هذا الطلب لنبي الرحمة من المسلمين . وأسرع أبو العاص إلى مكة ليرسل زينب إلى المدينة كما وعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وسرت بشائر النصر والفتح المبين نحو المدينة فأوجفت قلوب
اليهود والمنافقين خيفة ورعباً
وسَعَوا لتكذيب الخبر في حين انتشى المسلمون فرحاً وسروراً وخرجوا لاستقبال النبي
القائد المنتصر.
وحلّت
الكارثة بأهل مكة وخيّم الحزن على أجوائها وصعق المشركون من هول الصدمة وعمّت
الأحزان بيوتات مكة وأطرافها.
وتضمّنت
آيات الذكر الحكيم نصوصاً صريحة عن هذه المعركة المصيرية وهي تذكر تفاصيل الأحداث
وتظهر الإمداد الإلهي للأُمة المسلمة المخلصة لربها في سبيل نشر رسالته(الانفال (8): 9، 11، 12 ، 42، 44، وآل عمران (3): 13 و123
و127.).
وقد
استبسل علي بن أبي طالب عليهالسلام للدفاع
في هذه الغزوة الكبرى حين قتل الوليد بن عتبة وأعان عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث
على قتل شيبة وعتبة منازلاً لهما. وقد عدّ الشيخ المفيد ستة
وثلاثين نفراً ممن
قتلهم علي عليهالسلام يوم
بدر سوى من اشترك في قتله(الإرشاد : 39 ـ 40 .)، وقال
ابن اسحاق : اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّ(المناقب : 3 / 120 .).
وألجأت
هذه الهزيمة قريشاً إلى تحويل مسير تجارتها من الشام إلى العراق بعد أن أصبح
للمسلمين كيان قوي، له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة حيث بدت تظهر بالتدريج
وبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل في الوقت الذي أخذت تشتد أواصر المسلمين فيما
بينهم وبين الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
2 ـ
اهتمام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بزواج
الزهراء عليهاالسلام:
حلّت
الزهراء من قلب النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم المنزلة الرفيعة إذ كان يجد فيها السلوة والعزاء ، والصورة الطيبة
التي تركتها خديجة عليهاالسلام ،
والذرية الطاهرة. وشاركت الزهراء عليهاالسلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هموم الرسالة وعملت كثيراً للتخفيف عنه حتى قال عنها: (إنها أم أبيها).
وحين
بلغت الزهراء عليهاالسلام في بيت
النبوة مبلغ النساء وقد نهلت من معين النبوة وسلسبيل الرسالة خطبها أكابر قريش من
أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يردّهم بحكمة ردّاً جميلاً بقوله: إني انتظر فيها
القضاء أو يقول: أنتظر أمر السماء(حياة النبي وسيرته: 1 / 309، نقلاً عن المنتقى للكازروني اليماني.).
وفرح
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتقدم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام لخطبة
فاطمة الزهراء عليهاالسلام وقال له: اُبشرك يا عليَّ فإن الله عزّوجلّ قد زوجكها
في السماء من قبل أن أزوجكها في الأرض، وقد هبط عليَّ من قبل أن تأتيني ملك من
السماء فقال: يا محمد إن الله ـ عزّوجلّ ـ اطّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارك من خلقه
فبعثك برسالته، ثم اطّلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً
وختناً فزوّجه ابنتك فاطمة عليهاالسلام ، وقد احتفلت بذلك ملائكة السماء. يا محمد إن الله ـ عزّ وجلّ ـ أمرني أن
آمرك أن تزوّج علياً في الأرض فاطمة، وتبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين
فاضلين في الدنيا والآخرة(كشف الغمة : 1 / 356 ـ 358.).
وأمام
جمع من المهاجرين والأنصار أجرى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عقد
الزواج لقاء مهر يسير ليجعله سنّة تقتدي به الأمة. وحين وضع أثاث بيت الزهراء عليهاالسلام بين يدي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان
أكثر أوعيته من الخزف دمعت عيناه وهو يقول: اللهم بارك لأهل بيت جلّ آنيتهم من
الخزف(كشف الغمة: 1 / 359.) وأبدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
اهتماماً بالغاً في زواج ابنته الزهراء عليهاالسلام في كل تفاصيله، وقد تجلت ناحية من نواحي اهتمامه صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك في دعائه للزوجين يوم الزفاف إذ قال: (اللهم اجمع شملهما وألّف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنّة
النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيّبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة
يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما رضيت).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً: (يا ربّ إنك لم تبعث نبياً إلاّ وقد جعلت له
عترة اللهم فاجعل عترتي الهادية من علي وفاطمة) ثم قال: (طهّركما الله وطهّر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما وحرب لمن حاربكما)( كشف الغمة: 1 / 362، مناقب آل أبي طالب: 3 / 355.).
3 ـ
الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع :
لمس
اليهود خطر تنامي قوة الإسلام والمسلمين في المدينة. فالكيان الطري أصبح أشد عوداً
وأقوى شكيمةً وتحولت الرسالة الإسلامية إلى قوة تحكم.
وقبل
بدر كانت معاهدة الصلح صمّام الأمان الذي يقبض على طرفي الصراع ويحول دون
الانفجار، لكن النصر المؤزر للمسلمين فجّر روح العداء وألهب نزعة الشرّ اليهودية
تعينها أطراف النفاق الاُخرى، وجعلوا يتغامزون ويتآمرون، ويرسلون الأشعار ويجهدون
في التحريض على المسلمين الذين أصبح لهم سلطان جديد مضافاً إلى دينهم الجديد.
ولم تكن
أخبارهم لتخفى على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. وتحركت في نفوس المسلمين الجرأة في الدفاع والحرص على الإسلام
والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلم يتمالك الفدائي المسلم ـ هو سالم بن عمير ـ نفسه حين سمع رجلاً
مشركاً ـ هو أبو
عفك من بني عوف ـ يسيء للنبي فقتله(المغازي: 1 / 174.) وتكرَّرت
المحاولة مع مشركة حاقدة ـ هي عصماء بنت مروان ـ (المصدر السابق : 1 / 172.) وتمكن المسلمون أيضاً من اغتيال كعب بن الأشرف إذ تمادى في التعريض والاستهزاء والنيل من أعراض المسلمين(السيرة النبوية: 2 / 51.).
ولم
تتوقف مساعي اليهود التحريضية ونشر الأباطيل والدعايات الكاذبة والتشهير بالمسلمين
ناقضين بذلك عهد
الموادعة والتعايش السلمي وأراد
نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلص وإياهم إلى الاستقرار فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى يهود بني قينقاع يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وينذرهم من مغبّة
سياساتهم وتصرّفاتهم اللامحمودة فقال
لهم بعد أن جمعهم في سوقهم: (يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل
بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني رسول الله تجدون ذلك في كتابكم وعهد
الله إليكم).
ولم
يزدهم ذلك إلاّ علوّا واستكباراً فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك
مَن لقيت، إنّك قهرت أقواماً وإنّا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن إنّك لم
تقاتل مثلنا(المغازي: 1 / 176.).
وتجلّت
خسّة اليهود حين أساؤوا إلى امرأة من المسلمين ونالوا من كرامتها وانتهى الأمر إلى
قتل يهودي ومسلم فعندها سار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالمسلمين فحاصر يهود بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم
أحد ولا يدخل عليهم أحد، فلم يبق لهم إلاّ الاستسلام والنزول على حكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجلائهم عن المدينة تاركين عدّتهم وأدواتهم، فخلت المدينة من أهم
عناصر الشر وساد الهدوء السياسي فيها إذ تضاءل تواجد ودور غير المسلمين في
المدينة، بعد أن لمسوا قوة المسلمين وتطوّر التنظيم الإداري وازدياد قوّة القيادة
والدولة الإسلامية التي كانت تعمل وفق مخطط حكيم.
4 ـ
ردود فعل قريش بعد انتصارات المسلمين :
جمع أبو
سفيان عدداً من فرسان قريش وقادهم نحو المدينة تدفعهم نواياهم الغادرة إلى الفتك
بالمسلمين وردّ اعتبار قريش المفقود في بدر. وعلى مقربة من المدينة عاثوا في الأرض
فساداً وكرّوا فارّين خوفاً من أن تنالهم سيوف المسلمين.
وخفّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في أثر المشركين يدفعهم ولاؤهم لدينهم تأكيداً منهم على الدفاع عن سيادة الدولة الفتية وحفظها من أيادي
السوء...
وقد
اتخذ المشركون كل ما يعينهم على الهرب فألقوا ما معهم من (سويق) وهو مؤونتهم،
والتقطه المسلمون من خلفهم وسميت الغزوة بذلك غزوة السويق وكان هذا خزياً آخر لحق
قريشاً. وتأكيداً للقبائل التي تطاير الخبر إليها أنّ وجود الإسلام كقوة منظمة قد
أصبح واقعاً مفروضاً .
وكان همّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرحلة توفير الأمان في أوساط المجتمع المسلم في المدينة وصدّ أيّ عدوان محتمل. على أن بعض القبائل التي كانت تأبى الدخول في
الإسلام وتبطن العداء له لم تكن لتهتدي إلى تصرف مناسب مع الرسول والمسلمين،
فكانوا يعدون العدّة للهجوم على المدينة ويفرّون حين يسمعون بخروج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم.
وخرجت سرية اُخرى بقيادة
زيد بن حارثة بعد أن وجهها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقطع
الطريق الجديد لتجارة قريش عن طريق العراق. وقد نجحت السرية في مهمتها.
5 ـ
غزوة أُحد(وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.) :
مرّت
الأيام التي تلت معركة بدر ثقيلة على قريش والمشركين. وفي المدينة لم يزل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يواصل عمليّة بناء الإنسان والدولة حيث كانت الآيات الإلهية تترى وهي
تشرّع للإنسان سلوكه وحياته والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يفصّل
التعاليم ويطبق الأحكام ويهدي إلى طاعة الله.
وتظافرت
الأسباب والدواعي عند مشركي مكة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن
كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر وتطفىء غليل الحقد الذي مازال يؤجّجه أبو سفيان زعيم
البيت الأُموي والخاسر الأكبر في بدر، كما كان عويل النساء ومطامع التجار الذين
فقدوا كل الطرق الآمنة للتجارة عاملين آخرين لذلك.
فكانت
الحرب محاولة لإضعاف المسلمين وتأمين طرق التجارة إلى الشام، والحدّ من تنامي قوة
المسلمين العسكرية لتجنيب مكة من خطر الاحتلال والقضاء على الشرك فيها. ومما أسهم
في إعداد الحرب أيضاً تحريض يهود ومنافقي المدينة لقريش وغيرها لغزو المدينة
والقضاء على الإسلام.
وسارع
العباس بن عبد المطلب إلى الكتابة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب وتهيئتهم للعدّة والعدد حيث
استنفروا معهم القبائل واتخذوا عدة أساليب لإثارة الحرب والعزيمة على القتال إذ
خرجت النسوة معهم.
ووصل الكتاب سرّاً إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فكتم الخبر عن المسلمين حتى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة
اللازمة.
واقتربت
جحافل الشرك من المدينة فبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الحباب بن المنذر سراً ليستطلع العدو ـ بعد أن بعث أنساً ومؤنساً
ابني فضالة ـ فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس وخبر ابني فضالة، وبات
عدد من المسلمين من الذين أخبرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخبر في حيطة وحذر خشية مداهمة العدو.
ثم
استشار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه
بعد أن أعلن قدوم قريش للحرب فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج
لملاقاة العدو خارجها. ولم يكن عسيراً على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحدد الخطة مسبقاً لكنه أراد أن يشعر المسلمين بمسؤوليتهم. ثم كان
الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو وقتاله خارج المدينة. ثم صلّى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة الجمعة وصعد المنبر وخطب وأخذ يعظ الناس ويذكّرهم بطاعة الله
وأمرهم بالجد والجهاد والصبر. ثم نزل ودخل داره ولبس لامته مما أثار المسلمين وهزهم بشدة وظنوا أنهم أكرهوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على الخروج من المدينة فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك،
فاصنع ما بدا لك. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل(السيرة النبوية: 2 / 23، المغازي: 1 / 214.).
وخرج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ألف مقاتل من المسلمين ورفض أن يستعين باليهود ضد المشركين قائلاً:
لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك(الطبقات لابن سعد: 2 / 39.). ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبد الله بن أبي عن رسول
الله بثلاثمئة وبقي رسول الله بسبعمئة وكان المشركون أكثر من ثلاثة آلاف(الطبري: 3 / 107.).
وعند جبل أحد وضع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطة محكمة ليضمن النصر المؤزر ثم قام صلىاللهعليهوآلهوسلم فخطب الناس قائلاً: (أيها
الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثمّ
إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين
والجد والنشاط فإنّ جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلاّ من عزم الله
رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على
الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم
فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمرِ العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي
عليه النصر ولا الظفر)( المغازي: 1 / 221.).
واصطف
المشركون للقتال الذي سرعان ما نشب ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار،
وكادت نساؤهم أن تقع بأيدى المسلمين سبايا، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة
المعركة حتى وسوس الشيطان في نفوس بعض الرماة الذين وضعهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فوق الجبل وأمرهم بعدم ترك مكانهم مهما كانت نتيجة المعركة حتّى
يتلقّوا أمراً جديداً منه فَعَصَوْا أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم فكرّت قوى الشرك ثانية بقيادة
خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تركها.
فذهل
المسلمون لذلك وتفرّقت جموعهم وعادت فلول قريش المنهزمة إلى الحرب وقتل عدد كبير
من المسلمين وأشاع المشركون نبأ مقتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكادت كتائب الشرك أن تصل إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لولا استبسال علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسهل بن حنيف وقلة
قليلة ثبتت في ساحة المعركة إذ فرّت البقية الباقية من المسلمين بما فيهم كبار
الصحابة(المغازي: 1 / 237، السيرة النبوية: 2 / 83 ، شرح نهج
البلاغة: 15 / 20.)، حتى أن بعضهم بدرت منه فكرة التبرّي من الإسلام فقال: ليت لنا
رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان(بحار الأنوار : 20 / 27. وقد وردت آيات القرآن تبين القتال
ونوازع المسلمين في سورة آل عمران: 3 / 121 ـ 180.).
واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعرض
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
للإصابة فكسرت رباعيته السفلى وشقت شفته وسال الدم على وجهه فجعل يمسحه وهو يقول: كيف
يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله(تاريخ الطبري : 3 / 117 ، بحار الأنوار: 20 / 102.) وقاتل صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى
صارت قوسه شظايا. وطعن أُبي بن خلف حين هجم عليه يريد قتله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومات أُبي على أثرها واستبسل علي ابن أبي طالب بصورة لا نظير لها وهو
يفرق كل من يتقدم نحو رسول الله ويهده بسيفه فنزل جبرئيل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: يا رسول الله هذه
المواساة، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إنه مني وأنا منه).
فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً يقول: (لا سيف إلاّ ذو
الفقار ولا فتى إلاّ علي)( تأريخ الطبري: 3 / 116، مجمع الزوائد: 6 / 114، بحار
الأنوار: 20 / 71.).
وانسحب
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والبقية الباقية معه من المسلمين إلى الجبل وهدأت المعركة وجاء أبو
سفيان يستهزئ ويسخر بالمسلمين قائلاً: اعل هبل. وأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرد على الكفر مظهراً بذلك عدم انكسار العقيدة رغم الانكسار في
ساحة المعركة فقال قولوا: (الله أعلى وأجل).
وأمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالردّ ثانية على شعار أبي سفيان الكافر حين قال: نحن لنا العزّى ولا
عزّى لكم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم)( السيرة النبوية: 2 / 94.).
ورجع
المشركون إلى مكّة وقام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع الذي تركته قريش فقد
مثّلت بجثث الشهداء. ولما أبصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي وقد أُخرج كبده ومُثّل به بوحشية
وحقد; حزن حزناً شديداً وقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا.
ولم تكن
التضحيات الجسام والخسارة الكبيرة في ساحة المعركة لتثني أهل العقيدة والرسول
القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
الاستمرار في الدفاع عن حياض الإسلام وكيان الدولة الفتية، ففي اليوم التالي من
رجوعهم إلى المدينة أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باستنفار
المسلمين لطلب العدو ومطاردته على أن لا يخرج إلاّ من حضر الغزوة فخرج المسلمون
على ما بهم من جُراح إلى منطقة حمراء الأسد وبهذا اتّبع الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم أسلوباً جديداً لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف يسيطر عليهم فأسرعوا في
مسيرهم نحو مكّة(السيرة النبوية: 2 / 102، الطبقات الكبرى: 2 / 49.) ورجع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيراً من معنوياتهم.
6 ـ
محاولات الغدر بالمسلمين :
كان من
الطبيعي في مجتمع تحكمه القوة والغلبة بالسيف أن يطمع المشركون في المسلمين بعد
النكسة في اُحد، لكن النبي القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقظاً ومدركاً لكل المتغيرات حريصاً على سلامة الرسالة وقوّتها
مجتهداً في بناء الدولة والمحافظة عليها، فكان يتحسّس الأخبار ويستطلع النوايا
ويسرع في الرّد قبل أن يدرك المشركون أهدافهم فخرجت سرية أبي سلمة ترد غدر بني أسد
بالمدينة ونجحت السرية في مهمتها(المغازي: 1 / 340.) وتمكن
المسلمون أيضاً من رد كيد مشرك كان يعدّ لغزو المدينة.
وقد تمكنت جماعة من المشركين من الغدر بالمسلمين حين قدم جمع من قبيلتي
(عضل) و(القارة) إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تطلب
من يفقّهها الدين واستجاب نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم سعياً
منه لنشر الرسالة الإسلامية ولكن يد الغدر فتكت بالمسلمين الدعاة عند منطقة (ماء
الرجيع). وقبل أن يبلغ خبر مصرعهم إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اقترح أبو براء العامري على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرسل مبلغين إلى أهل (نجد) يدعون إلى الإسلام بعد أن رفض هو
الدخول في الإسلام، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد .. قال
أبو براء: (لا تخف، أنا لهم جار). وقد كان للجوار اعتبار وأهمية تعدل النسب في عرف
الجزيرة العربية لذا اطمأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأرسل
وفداً من الدعاة للتبليغ ولكن الغدر طالهم فعدا عليهم عامر بن الطفيل وقبائل بني
سليم في منطقة (بئر معونة) وفتكوا بهم ولم يسلم منهم إلا عمرو بن أمية الذي أطلقوه
فعاد إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخبر
ولكنه في طريقه قتل رجلين ظنّاً منه أنهما من العامريين، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حزن لذلك وقال له: بئس ما
صنعت قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار، لأدفعنّ ديتهما)( السيرة النبوية 3 : 193 ـ 195 .).
7 ـ
غزوة بني النضير(وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة .) :
تتابعت
النكبات على المسلمين حتى بدى للمنافقين وليهود المدينة أن هيبة المسلمين قد ضاعت،
وأراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بحكمته السياسية أن يحدّد ملامح التصرف الصحيح مع يهود (بني النضير)
مبرزاً نواياهم، فاستعان بهم على دفع دية القتيلين. فتلقوه قرب مساكنهم مرحّبين به
وبجماعة من المسلمين وهم يضمرون السوء، فطلبوا منه الجلوس ريثما يحققون له طلبه.
فجلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم فأسرعوا ـ مستغلّين الفرصة ـ لإلقاء حجر عليه
وقتله، فهبط الوحي عليه يخبره، فانسلّ من بينهم تاركاً الصحابة معهم، فاضطرب بنو
النضير وأمسوا في حيرة من أمرهم وباتوا قلقين بشدة من سوء فعلتهم، وأسرع الصحابة
إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد يستطلعون سرّ عودته فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت)( الطبقات الكبرى: 2 / 57 ، امتاع الاسماع: 1 / 187.).
وبذلك
استحلّ الله دماءهم إذ نقضوا عهد الموادعة مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهمّوا بالغدر به فلم يكن لهم إلاّ الجلاء عن المدينة. وتدخّل زعيم
النفاق عبد الله بن اُبي وغيره يمنّون بني النضير بعدم الامتثال لأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والثبات له ووعدهم بأ نّه وجماعته سيمدونهم مقابل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولن يخذلوهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم متمرّدين على أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واستخلف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن اُم مكتوم على المدينة حين علم بمساعي المنافقين وخرج لمحاصرة
بني النضير واتّبع معهم اسلوباً اضطرّهم إلى التسليم والخروج بما تحمله إبلهم فقط
أذلّةً خاسئين(وصفت سورة الحشر احداث جلاء بني النضير.).
وغنم
المسلمون أموالاً وسلاحاً كثيراً ولكن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع المسلمين وعرض عليهم رأيه في أن تكون الغنائم للمهاجرين خاصة كي يتحقّق لهم الاستقلال الاقتصادي إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة وهما من فقراء الأنصار فأعطاهما النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من هذه الغنائم(الإرشاد: 47.).
8 ـ
مناوشات عسكرية بعد اُحد :
ساد
الهدوء والاستقرار أجواء المدينة واضطرب المنافقون قلقاً من انكشاف أساليبهم
وأيقنوا أن الدور القادم هو دور تحطيمهم. وفي هذا الظرف وردت أخبار للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّ غطفان تعدّ العدّة لغزو المدينة فأسرع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في الخروج إليهم ولكنهم فوجئوا بالعدو قد أعدّ
واستعدّ لملاقاتهم فتهيّب
كل من الفريقين الآخر ولم يقع أي قتال. وفي هذه الغزوة صلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة الخوف بالمسلمين إذ لم يتسنَّ لهم الغفلة عن العدو برهة من
الزمن، وعاد المسلمون إلى المدينة دون قتال(راجع السيرة النبوية: 2 / 204.)، وسميت هذه الغزوة بـ (ذات الرقاع).
بدر
الموعد ( بدر الصفراء ) مرّت الأيام الحرجة على المسلمين بسرعة وقد ازدادوا خبرة قتالية
وتنزّلت عليهم أحكام الشريعة فتهذّبت العلاقات وانتظمت شؤون حياتهم في عامة
جوانبها وازداد الإيمان رسوخاً وثباتاً وبرزت نماذج رائعة من الصمود والتضحية
والفداء والإخلاص للدين الإسلامي وللاُمة المسلمة وأوشكت أن تنمحي آثار الانكسار
في اُحد. وحلّ موعد التهديد الذي أطلقه زعيم الكفر أبو سفيان في اُحد حين قال:
موعدنا وموعدكم بدر، قاصداً الانتقام لقتلى المشركين يوم بدر. فخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه وعسكر هناك ثمانية أيام ولم تفلح
مساعي المشركين لتخويف المسلمين وثنيهم عن الخروج بل تملّكهم الخوف حين علموا بما
عزم عليه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون فاضطر أبو سفيان إلى أن يخرج إلى الموعد المحدد ولكنه كرّ
راجعاً بحجّة الجفاف والجدب المؤثر على الاستعداد العسكري. وبذلك وصمت قريش بعار
الهزيمة والجبن وارتفعت معنويات المسلمين واستردّوا عافيتهم ونشاطهم.
وبعد فترة قليلة أفادت الأخبار
بأنّ سكان دومة الجندل يقطعون الطريق ويتجهزون لغزو المدينة، فخرج اليهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بألف من المسلمين للقائهم، وما أن سمعوا بخروجه إليهم حتّى لاذوا بالفرار مخلّفين وراءهم ما كان
معهم من غنائم فاستولى عليها المسلمون دون قتال(السيرة النبوية لابن كثير: 3 / 177، الطبقات الكبرى: 2 /
62.).
9 ـ
غزوة بني المصطلق ودور النفاق :
ووردت
أخبار جديدة تفيد بأن الحارث بن أبي ضرار ـ زعيم بني المصطلق ـ يعدّ لغزو المدينة
فاستوثق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كعادته قبل كل تحرك ـ من صدق الخبر وندب المسلمين فخرجوا إليهم
والتقوا عند ماء يدعى (المريسيع) ونشبت
الحرب ففر المشركون بعد قتل عشرة اشخاص منهم، وغنم المسلمون غنائم كثيرة وسُبيت
أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث فأعتقها النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولها(تاريخ الطبري: 3 / 204، إمتاع الأسماع: 1 / 195.).
وفي هذه
الغزوة كادت أن تقع فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب بعض النعرات القبليّة ولما
علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك
قال (دعوها فإنها فتنة)( السيرة النبوية: 1 / 290.). وأسرع عبد الله
بن اُبي رأس النفاق يبتغي الفتنة ويؤجج الخلاف فوجّه اللّوم لمن حوله من أهل
المدينة إذ آووا ونصروا المهاجرين ثم قال: أما
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وكادت أن تفلح مساعى ابن
اُبي لولا أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بعد
أن توثق من تحريض ابن أبيّ ونفاقه ـ أمر بالعودة إلى المدينة على وجه السرعة
رافضاً رأي عمر بن الخطاب بقتل ابن أبي فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (فكيف يا عمر إذا
تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! لا)( إمتاع الأسماع: 1 / 202.). ولم يأذن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالاستراحة في الطريق فسار بالمسلمين يوماً وليلة ثم أذن لهم بالاستراحة فأخلد
الجميع للنوم من شدة التعب ولم تتح فرصة للتحدث وتعميق الخلاف. وعلى أبواب المدينة
طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي الإذن من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في قتل أبيه بيده دون أحد من المسلمين خشية أن تثيره العاطفة فيثأر
لأبيه فقال نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم: (بل نترفق به ونحسن
صحبته ما بقي معنا). ثم وقف عبد الله
(الأبن) ليمنع أباه من دخول المدينة إلاّ بإذن من الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع السيرة النبوية: 2 / 292.)، وفي هذا الظرف نزلت سورة المنافقين لتفضح سلوكهم ونواياهم.
10 ـ
إبطال أعراف جاهلية :
برحمته
الفياضة وبطيب قلبه المفعم حباً للإنسانية وقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات يوم وقال لقريش: (يا من حضر إشهدوا
أن زيداً هذا ابني)( أسد الغابة: 2 / 235، الاستيعاب مادة: زيد.). وانتقل زيد من رقّ العبودية إلى بنوة أكرم خلق الله وآمن زيد بالنبي
المرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم من أول أيام البعثة المباركة إيماناً صادقاً. ومضت الأيام حتى بلغ
زيد مرحلة الرجولة في ظل رعاية النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وبجرأة الثائر العظيم والمصلح الكبير اختار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم زينب بنت جحش (ابنة عمته) زوجاً لزيد، فامتنعت أن تتنازل عن مكانتها
الاجتماعية ونسبها الرفيع لتتزوج رجلاً سبق له أن كان رقّاً. ولكن إيمانها الصادق
دفعها لتستجيب لأمر الله تعالى حيث يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب (33): 36.2).
وبذلك ضرب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهلية البالية
تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن
تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح تجربة رائدة في مجتمع كان لا يزال
يعاني من ترسّبات الجاهلية وتدخل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليصلح ما فسد محاولاً أن لا يصل إلى طريق مسدود فقال لزيد: (أمسك عليك زوجك واتق الله) وتكررت شكوى زيد من زينب فكان
آخرها الطلاق.
ثم نزل
الأمر الإلهي ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادعي بنوّتهم)
أبناءً فقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ
بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب (33) : 4.)، وأبقى لهم حقّ الموالاة والأخوة في الدين.
وأراد
الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل فأمر نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وإكمال عدّتها بعد أن نزلت الآيات
الكريمة تحثّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على إبطال هذا العرف الجاهلي وأن لا يخشى الناس بل يمضي في تطبيق
أحكام الله تعالى بكل شجاعة(راجع سورة الأحزاب (33) : 37 ـ 40 ، وراجع تفسير الميزان: 16 / 290 ،
مفاتيح الغيب: 25 / 212 ، روح المعاني: 22 / 23.).
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم
1 ـ
تحالف قوى الشرك وغزوة الخندق :
أشرفت
السنة الخامسة على الانقضاء وكانت كل الأحداث والتحركات العسكرية التي خاضها
المسلمون تهدف إلى الدفاع عن كيان الدولة الفتيّة، وتوفير الأمن في محيط المدينة
وأفرزت الأحداث تنوعاً وتعدداً في الجهات والأطراف المعادية للدين وللدولة
الإسلامية. فسعى اليهود لاستثمار هذا التنوع بتجميعه وتمويله وإثارة النزعة
العدائية فيه لاستئصال الوجود الإسلامي من الجزيرة، ومن ذلك أنهم أوهموا المشركين
الذين تساءلوا عن مدى أفضلية الدين الإسلامي على الشرك ، بأن الوثنية خير من دين
الإسلام(كما ورد في قوله تعالى في الآية : 51 من سورة النساء.) وتمكنوا من جمع قبائل المشركين وتعبئتهم وسوقهم صوب المدينة عاصمة
الدولة الإسلامية. وسرعان ما وصل الخبر إلى مسامع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو القائد المتحفز اليقظ والمدرك لكل التحركات السياسية، من خلال
العيون الثقات.
واستشار
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه في معالجة الأمر وتوصلوا إلى فكرة حفر خندق يحصّن الجانب
المكشوف من المدينة. وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع
المسلمين ليشاركهم في حفر ذلك الخندق بعد تقسيم العمل بينهم وكان يحضّهم بقوله:
(لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم إغفر للأنصار
والمهاجرة)( راجع البداية والنهاية لابن كثير: 4 / 96 ، والمغازي: 1 /
453.).
ولم يخل
الأمر عن دور للمنافقين والمتقاعسين عن العمل رغم الهمة والحماس الذي أظهره
المخلصون من المسلمين(نزلت آيات من القرآن الكريم تفضح السلوك التخاذلي وتدعم مركزية العمل
بوجود الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم. راجع سورة الأحزاب ، الآيات : 12 ـ 20 .).
وأحاطت
قوى الأحزاب المشركة البالغة نحو عشرة آلاف مقاتل بالمدينة يمنعها الخندق وتسيطر عليها الدهشة لهذا الأسلوب الدفاعي الذي لم تكن
تألفه من قبل. وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ثلاثة
آلاف مقاتل ونزل في سفح جبل
سلع ووزّع المهام والأدوار لمواجهة الطوارئ.
وبقيت
الأحزاب تحاصر المدينة ما يقرب من شهر عاجزين
عن اقتحامها، وكانت هناك مواقف رائعة للمسلمين وكان بطلها الأوحد علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وقد توّج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم موقف علي بن أبي طالب البطولي عندما خرج لمبارزة صنديد من صناديد
العرب ـ هو عمرو بن عبد ود ـ بعد أن أحجم المسلمون عن الخروج إليه بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)( بحار الأنوار: 20 / 215. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
: 13 / 283 و 14 / 291 ـ 292 و 19/63 ـ 64 والسيرة النبوية : 3 / 281 وراجع مستدرك
الحاكم : 3 / 32 .).
وحاول
المشركون الاستعانة بيهود بني قريظة بالرغم من انهم كانوا قد تعاهدوا مع رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يدخلوا في حرب ضد المسلمين، وتيقّن الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم من عزيمة اليهود على المشاركة في القتال وفتح جبهة داخليّة ضدّ
المسلمين فأرسل
إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فرجعوا
مؤكدين الخبر فكبّر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائلاً: (الله أكبر أبشروا
يا معشر المسلمين بالفتح)( المغازي: 1 / 456 ، بحار الأنوار: 20 / 222.).
2 ـ
الضغط على المسلمين :
لقد
تعرض المسلمون لضغوط عديدة أثناء الحصار منها:
1 ـ
تناقص الأقوات (المواد الغذائية) حتى بدى شبح المجاعة يدنو من المسلمين(راجع المغازي: 2 / 465، 475، 489.).
2 ـ
صعوبة الظروف الجوّية حيث البرد القارس في ليالي الشتاء الطويلة.
3 ـ
الحرب النفسيّة المريرة التي شنّتها جيوب المنافقين في صفوف المسلمين وتخذيلهم عن
القتال وتخويفهم من مغبّة الاستمرار في الصمود.
4 ـ
السهر المستمر طوال مدة الحصار حذراً من الهجوم المباغت، فقد أتعب ذلك المسلمين
بالنظر إلى عددهم القليل إذا ما قيس إلى كثرة قوّات الأحزاب.
5 ـ غدر
بني قريظة حيث أصبح خطراً حقيقياً يهدد قوات المسلمين داخلياً ويزيدهم قلقاً على
سلامة أهاليهم داخل المدينة.
3 ـ
هزيمة العدو :
لقد
كانت قوى الأحزاب ذات نوايا وأهداف متخالفة، فاليهود كانوا يحاولون استعادة نفوذهم
على المدينة بينما كانت قريش مندفعة بعدائها للرسول والرسالة وكانت غطفان وفزارة
وغيرها طامعة في محاصيل خيبر التي وعدها اليهود. هذا من جانب. ومن جانب آخر أحدثت
قسوة ظروف الحصار كللاً ومللاً في نفوس الأحزاب إلى جانب ما واجههوه من التحصين
وقوة المسلمين التي أبدوها وما قام به (نُعيم بن مسعود) من إحداث شرخ في تحالف
الأحزاب واليهود إذ أقدم ـ بعد إسلامه ـ إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلاً: مرني ما شئت. فقال له صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أنت فينا رجل واحد، فَخَذِّل عنا ما استطعت فإنّ
الحرب خدعة).
وأرسل
الله سبحانه وتعالى على الأحزاب ريحاً عاتية باردة أحدثت فيهم رعباً وقلقاً
فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، فنادى أبو سفيان بقريش للرحيل فأخذوا معهم من المتاع
ما استطاعوا حمله وفرّوا هاربين وتبعتهم سائر القبائل حتى إذا أصبح الصباح لم يبق
أحد منهم (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (نزلت سورة الأحزاب وفيها تفاصيل ما جرى يوم الخندق.).
4 ـ غزو
بني قريظة وتصفية يهود المدينة :
لقد كشف
يهود قريظة عن الحقد والعداء الذي انطوت عليه نفوسهم يوم الخندق ولولا أن الله
أخزى الأحزاب لتمكن يهود بني قريظة من الفتك بالمسلمين من خلف ظهورهم فكان لابد
للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من معالجة موقفهم الخياني، ولهذا أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتحرك المسلمون لمحاصرة اليهود في حصونهم من دون أن يعطي فرصة
للاستراحة مظهراً بذلك أهمية الحركة العسكرية الجديدة فأذّن المؤذن في الناس: من
كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة(الطبري: 3 / 179.).
وأعطى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رايته لعلي عليهالسلام وتبعه
المسلمون مع ما بهم من ألم الجوع والسهر والجهد من أثر محاصرة الأحزاب... واستولى
الهلع والخوف على اليهود حين رأوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين يحيطون بهم وأيقنوا أن النبي غير منصرف عنهم حتى يناجزهم.
وطلب
اليهود أبا لبابة بن عبد المنذر ـ وكان من حلفائهم الأوس ـ يستشيرونه في أمرهم ولكنه كشف لهم عمّا كان يعلمه من مصيرهم حين
قاموا إليه صغاراً وكباراً يبكون(السيرة النبوية: 2 / 237.). ولم
يقبل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عرض بني قريظة وهو الارتحال عن المدينة من دون عقوبة بسبب موقفهم
الخياني السابق وأبى إلاّ النزول على حكم الله ورسوله، وحاول الأوس التوسط ـ بطلب
من اليهود ـ لدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من شاءوا.
فاختار اليهود سعد بن معاذ(السيرة النبوية: 2 / 239، الإرشاد: 50.) حَكَماً وكان هذا من سوء حظ اليهود; لأن سعداً جاءهم يوم تجمعت
الأحزاب طالباً منهم الحياد في الموقف فأبوا ذلك. وكان سعد جريحاً
فحملوه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاستقبله وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن حوله: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه. ثم حكم سعد بقتل الرجال وسبي النساء
والذراري وتقسيم الأموال على المسلمين، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة(راجع السيرة النبوية: 2 / 240 ، المغازي: 2 / 510.).
ثم إن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد ما أخرج
الخمس، للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، ثم أعطى الخمس إلى زيد بن حارثة وأمره أن
يشتري بها خيلاً وسلاحاً وغيرها من عدّة الحرب استعداداً للمهام اللاحقة(السيرة النبوية: 2 / 241 .).
الباب
الخامس: فيه فصول:
الفصل
الأول: مرحلة الفتح.
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة.
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة.
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة.
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخالدة.
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الفصل
الأول: مرحلة الفتح
1 ـ صلح
الحديبية :
كادت
تنقضي السنة السادسة للهجرة وكانت تلك السّنة سنة جهاد مستمر ودفاع مستميت بالنسبة
للمسلمين. واهتم المسلمون بنشر الرسالة الإسلامية وبناء الإنسان والمجتمع الإسلامي
وتكوين الحضارة الإسلامية. وقد ادرك كل من كان في الجزيرة العربية عظمة هذا الدين
وعرف أن من المستحيل استئصاله والقضاء عليه، فالصراع مع قريش ـ وهي أكبر قوة
سياسية وعسكرية آنذاك ـ ومع اليهود وباقي القوى المشركة لم يمنع من انتشار الإسلام
وسطوع معانيه وبلوغ أهدافه.
ولم يكن
البيت الحرام ملكاً لأحد أو حكراً لمذهب أو أصحاب معتقد معيّن، فقد كانت هنالك
أصنام وأوثان متعددة يحج إليها من يعتقد بها، إلاّ أن طغيان قريش وعتوّها صدّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين عن زيارة البيت الحرام.
وفي هذه
الفترة أدرك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حرج
قريش في موقفها تجاه الإسلام فقرر أن ينطلق بالمسلمين في رحلة عبادية مؤدياً
العمرة، ليعلن من خلالها مواصلته للدعوة الإسلامية ويوضح ما يمكنه من مفاهيم
العقيدة الإسلامية ومعالمها واحترامها وتقديسها للبيت الحرام، وتكون حركته هذه
مرحلة انفتاح رسالي جديد وعهد انتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الانتشار والهجوم.
سلك
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه طريقاً وعراً ثم هبطوا إلى منطقة سهلة تدعى بـ(الحديبية)
فبركت ناقة رسول الله فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل بمكة)( بحار الأنوار : 20 / 229.)، فأمر صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين بالنزول فيها ـ وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة
الرحم إلاّ أعطيتهم إياها)( الطبري: 3 / 216.)، ولكنّ قريشاً بقيت تترصد المسلمين ووقف فرسانها في طريقهم، ثم بعثت
إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بديل بن ورقاء في وفد من خزاعة لتستعلم هدف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتصده عن دخول مكة، وعاد الوفد ليقنع قريشاً أن السلم والعمرة هدف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. واستكبرت قريش وبعثت بوفد آخر يرأسه الحليس ـ سيد الأحابيش ـ فلما
رآه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مقبلاً قال: (إن هذا من قوم يتألهون) (أي يعظمون الله). فلما رأى
الحليس الهدي رجع إلى قريش من دون أن يلتقي بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليقنع قريشاً ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين جاءوا معتمرين . ولكن لم تقتنع قريش فأرسلت مسعود بن عروة
الثقفي الذي انبهر من مشهد المسلمين وهم يتسابقون لالتقاط القطرات المتناثرة من
وضوئه صلىاللهعليهوآلهوسلم فعاد إلى قريش قائلاً: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر
في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل (محمد) في
أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(المغازي: 2 / 598.).
وقد
أعرب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
احترامه للأشهر الحرم من خلال رحلة المسلمين العباديّة حيث لم يحملوا معهم سوى
سلاح المسافر، كما دعا القبائل المجاورة أن يكونوا إلى جانب المسلمين في هذه
الرحلة رغم أنهم لم يكونوا مسلمين مؤكداً أن العلاقة بين الإسلام وباقي القوى غير
قائمة على أساس الحرب.
واستنفر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ألفاً وأربعمائة مسلم ـ على أقل التقادير ـ وساق الهدي أمامه (سبعين
بعيراً). وبلغ قريشاً نبأ خروج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين لأداء العمرة فأصبحت قريش في ضيق من أمرها وكان أمامها
طريقان: إما أن تسمح للمسلمين بأداء العمرة وبذلك يتحقق للمسلمين أملهم في زيارة
البيت الحرام ويحظى المهاجرون بالاتصال بأهلهم وذويهم وربما دعوتهم إلى الإسلام،
أو أن تمنع قريش المسلمين عن دخول مكة وبذلك ستتعرض مكانة قريش للاهتزاز وتكون
محطّاً للوم القبائل الأُُخرى بسبب سوء معاملتها لقوم مسالمين يبتغون أداء مناسك
العمرة وتعظيم الكعبة المشرفة لا غير.
لقد أبت
قريش إلاّ العتو والمعاندة فأخرجت مجموعة من فرسانها تقدّر بمئتي فارس بقيادة خالد
بن الوليد لمواجهة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين. ولما كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد خرج محرماً لا غازياً قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني
وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في
الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال
أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثمّ أمر
بالعدول عن طريق فرسان قريش تجنباً لوقوع قتال تتخذه قريش ذريعة لصحة موقفها
وفخراً لها. وأرسل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خراش
بن أمية الخزاعي ليفاوض قريشاً في الأمر، فعقروا ناقته وكادوا أن يقتلوه. ولم ترع
قريش حرمة ولاذمة للأعراف والتقاليد. ولم تلبث قريش أن كلفت خمسين رجلاً للتحرش
بالمسلمين عسى أن يبدر منهم ما ينفي صفة السلم عنهم. وفشلت خطتهم وتمكن المسلمون
من أسرهم فعفا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عنهم
مؤكداً بذلك هدفه السلمي(تأريخ الطبري: 3 / 223.).
وأراد
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبعث إلى قريش رسولاً آخر ـ ولم يتمكن من إرسال علي بن أبي طالب
ممثلاً عنه; لأنّ علياً كان قد وتر قريش بقتل صناديدها في معارك الدفاع عن
الإسلام، فانتدب عمر بن الخطاب ولكن عمر خاف من قريش على نفسه رغم أنه لم يقتل
فرداً من أفرادها واقترح على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرسل عثمان بن عفان(السيرة النبوية: 2 / 315.) ;
لكونه أموياً وذا قرابة مع أبي سفيان. وتأخر عثمان في العودة من قريش وأشيع خبر
مقتله، فكان هذا إنذاراً بفشل كل المساعي السلمية لدخول مكة. ولم يجد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بدّاً من التهيّؤ للقتال، وهنا كانت بيعة الرضوان إذ جلس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات مهما كلف
الأمر، وهدأ استنفار المسلمين بعودة عثمان. وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لمفاوضة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
شروط الصلح :
وبسبب
تشدد (سهيل) في شروط الصلح كادت المفاوضات أن تفشل، وأخيراً تمّ الاتفاق على عدّة
شروط للصلح، هي:
1 ـ
تعهّد الطرفين بترك الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.
2 ـ من
أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع ( محمّد )
لم يردّوه عليه.
3 ـ من
أحب أن يدخل في عقد (محمّد) وعهده دخل فيه ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم
دخل فيه.
4 ـ
يرجع ( محمّد ) بأصحابه إلى المدينة عامه هذا فلا يدخل مكة، وإنما يدخل مكة في
العام القادم فيقيم فيها ثلاثة أيام ليس معه سوى سلاح الراكب، والسيوف في القِرَب(السيرة الحلبية: 3 / 21.).
5 ـ لا
يُستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية وأن يكون
الإسلام ظاهراً بمكة وأن لا يؤذى أحد ولا يعيّر(بحار الأنوار: 20 / 352.).
6 ـ لا
إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر(مجمع البيان: 9 / 117.).
7 ـ لا
تعين قريش على ( محمّد ) وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(بحار الأنوار: 20 / 352.).
ولم
يرضَ نفر من المسلمين ببنود الصلح، فاعترضوا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متصوّرين أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تراجع أمام قريش ولم يدركوا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مسدد من الله وأنه ينظر بعين متطلّعة إلى مستقبل الرسالة الإسلامية
ومصالحها العليا. وردّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على المعترضين بقوله: (أنا
عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني). وأقرّ النبي ما كرهه بعض المسلمين، وجاءت قضية تسليم أبي جندل لقريش(السيرة الحلبية: 3 / 21، السيرة النبوية: 2 / 218، بحار
الأنوار: 20 / 252.) إثارة جديدة في
ظرف توتّر فيه الوضع النفسي عند بعضهم.
ولكن
هذا الصلح كان في الواقع فتحاً مبيناً وكبيراً للمسلمين على خلاف ما كان يبدو
للبعض من ظاهر بنود الصلح ; إذ انقلبت شروط المعاهدة لصالح المسلمين بعد قليل.
وفي طريق الرجوع
إلى المدينة نزلت آيات القرآن الكريم(راجع سورة الفتح (48): 1 ـ 7 و 18 ـ 28 .) لتؤكد البعد
الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية، وتبشّر المسلمين بدخول مكة قريباً.
نتائج صلح الحديبية
:
1 ـ
اعترفت قريش بكيان المسلمين كقوة عسكرية وسياسية منظمة، وكدولة حقيقية جديدة.
2 ـ
دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتصاغر دورهم، وظهر ضعفهم عند المواجهة.
3 ـ
أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام ودخلت قبائل كثيرة في الإسلام. وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يتوقّع منذ بدء حركته الرسالية الإسلامية أن تترك قريش له فرصة يعبّر
فيها بحرّية عن موقفه، ويشرح الإسلام للناس بأمان.
4 ـ أمن
المسلمون جانب قريش فحوّلوا ثقلهم وجهودهم لمواجهة اليهود وسائر المناوئين.
5 ـ
جعلت مفاوضات الصلح حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليهم.
6 ـ
مكّن الصلح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من أن يراسل الملوك ورؤساء الدول خارج الجزيرة لدعوتهم إلى الإسلام،
وأن يستعدّ لغزوة مؤتة، كخطوة لنقل الإسلام خارج منطقة الجزيرة العربية.
7 ـ
مهّد الصلح لفتح مكة ـ الّتي كانت أهم قلاع الوثنية حين ذاك ـ في مراحل لاحقة.
2 ـ
انطلاقة الرسالة الإسلامية إلى خارج المدينة :
لقد كانت محاولات
قريش للقضاء على الإسلام فيما مضى عاملاً لانشغال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين في معارك الدفاع والتحصين وتثبيت أركان الدولة والمجتمع الإسلامي عدة سنين فلم يستطع خلالها أن يبلّغ بحريّة تامّة
رسالته السماوية العالمية والخاتمة لكل الأديان. ولكن بتوقيع معاهدة صلح الحديبية
أمن الرسول جانب قريش وأتاحت هذه العملية فرصة مناسبة لأن يبعث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم سفراءه إلى زعماء القوى الكبرى المحيطة بالجزيرة العربية والى كل
رؤساء المجاميع في الجزيرة وخارجها يدعوهم إلى الإسلام بعد بيان التعاليم الإلهية
لهم.
فقد روي
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في أصحابه: (أيها
الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على
عيسى بن مريم).
فقال أصحابه:
وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثاً
قريباً فرضي وسلّم وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل)( السيرة النبوية : 2 / 606 ، والطبقات الكبرى : 1 / 264 .).
وانطلقت
رسل الدعوة والهداية تنقل أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
نقاط العالم المختلفة(قد عدّ علماء الإسلام ما يقارب من ( 185 ) كتاباً ورسالة بعثها رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى كل القوى يدعوها إلى الإسلام. راجع : مكاتيب الرسول
لعلي بن حسين علي الأحمدي .).
3 ـ غزوة خيبر (وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الآخرة من السنة السابعة
للهجرة، راجع الطبقات الكبرى : 2 / 77.) :
بجهود
صادقة وبحنكة كبرى وشجاعة فائقة وتسديد إلهي ارتقى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين سُلّم الوعي الرسالي والثبات والخير وزرع فيهم روح الصبر
والتواصل.. وانطلق صلىاللهعليهوآلهوسلم
برسالته السماوية إلى العالم الإنساني خارج الجزيرة العربية من خلال كتبه ورسله
إلى زعماء القوى المجاورة.
وتوقع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تكون ردود الفعل مختلفة فقد يكون بعضها هجوماً عسكرياً يقصد
المدينة مستعيناً بما فيها من بقية جيوب المنافقين واليهود وهم الذين حفل تأريخهم
بالغدر والخيانة .
وكانت
خيبر تمثّل حصناً قوياً ومركزاً كبيراً لليهود ولهذا قرر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقضي على هذه القوة المتبقّية، فلم يلبث بعد عودته من الحديبية
إلاّ أياماً قلائل حتى جهّز جيشاً بلغ تعداده ألفاً وستمائة من المسلمين مؤكداً
لهم أن لا يخرجوا في ابتغاء الغنيمة وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا يخرجنّ معنا إلاّ راغب في الجهاد)( الطبقات الكبرى: 2 / 106.).
واتّبع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اسلوباً يوهم حلفاء اليهود ويمنعهم عن المبادرة لنصرتهم; تجنباً
لمزيد من القتال.
فباغتت
قوات المسلمين حصون اليهود يتقدمها علي بن أبي طالب عليهالسلام حاملاً راية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وامتنعت
اليهود في حصونهم المنيعة بخطة محكمة كانوا قد اتّبعوها، ثم دارت مناوشات متعددة تمكّن
المسلمون خلالها من احتلال عدة مواقع مهمة. على أن القتال اشتدّ وطالت مدّة الحصار
وعانى المسلمون من قسوة الجوع حتى أنهم أكلوا طعاماً غير مستساغ.
وأعطى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رايته إلى عدد من الصحابة ليتم الفتح على أيديهم فلم يأتوا إلاّ
بالفرار والفشل. ولمّا بلغ الجهد بالمسلمين قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)( السيرة النبوية : 2/337 . صحيح مسلم 15/176 ـ 177 وفضائل
الصحابة : 2/603 ومسند الإمام أحمد : 3/384 والمواهب اللدنيّة : 1/284 ،
والاستيعاب : 3/203، كنز العمال: 13/123.).
ودعا في
اليوم التالي علياً وأعطاه الراية فتمّ الفتح على يديه وسرّ المسلمون والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جميعاً، وصالح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم البقية الباقية من اليهود بعد استسلامهم على نصف ثمار مزارعهم التي
أصبحت ملكاً للمسلمين، ولم يعاملهم كما عامل بني النضير وبني القينقاع وبني قريظة;
إذ لم تعد قوة اليهود الباقية ذات أثر مهم في المدينة.
4 ـ محاولة اغتيال
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
لقد
قررت جماعة في الخفاء قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غيلةً شفاءً لحقدهم الدفين وإرضاءً لنزعاتهم العدوانية ولهذا أهدت
زينب بنت الحارث ـ زوجة سلام بن مشكم اليهودي ـ إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم شاة مشوية ودسّت السمّ فيها وأكثرت منه في ذراعها إذ كانت تعلم أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحب الذراع من الشاة.
فلمّا
وضعتها بين يديه أخذ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ولفظها، بينما مات بشر بن البراء بن
معرور بعد أن ابتلع مضغة أُخرى منها .
وعفا
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها بعدما اعترفت له بذلك زاعمة أنها كانت تريد اختبار نبوّته، ولم
يلاحق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذين تواطئوا معها(السيرة النبوية: 2 / 337، المغازي: 2 / 677.).
5 ـ
استسلام أهالي فدك :
وتهاوت
أوكار الخيانة أمام صولات الحق والعدل، فما أن تم نصر الله في خيبر حتى قذف الله
الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصالحونه على نصف محاصيل فدك وأن يعيشوا تحت راية الحكم الإسلامي،
مطيعين مسالمين فوافق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ذلك.
وبهذا
أصبحت فدك ملكاً لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة بحكم القرآن لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا سلاح إذ أعلنت
استسلامها للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من دون تهديد أو قتال. وقد وهب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدكاً لابنته فاطمة الزهراء عليهاالسلام (مجمع البيان: 3 / 411، شرح ابن أبي الحديد: 16 / 268، الدر المنثور:
4 / 177.).
وبهذا
تمّ تطهير أرض الجزيرة العربية من جيوب الخيانة وتخلّصت من فتن اليهود الذين
جُرّدوا من أسلحتهم ووضعوا تحت حماية القانون والدولة الإسلامية.
وفي يوم
فتح خيبر أقبل جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فاستقبله رسول الله وقبّل ما بين عينيه
وقال: بأيهما أُسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر(الطبقات الكبرى: 2 / 108، والسنن الكبرى للبيهقي: 7 / 101،
والسيرة النبوية لابن كثير: 3 / 398.).
6 ـ
عمرة القضاء :
انقضت
أيام الهدنة والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في عمل دؤوب متواصل لتركيز دعائم الحكم الإسلامي، ولم تحدث
تحركات عسكرية مهمة بعد فتح خيبر سوى خروج سرايا تبليغية أو تأديبية لبعض العناصر
التي كانت تظهر الشغب.
ومضى
عام على صلح الحديبية إلتزم خلاله الطرفان ببنود الاتفاق وحلّ الوقت الذي أصبح
النبي والمسلمون في حلٍّ من عهدهم لزيارة بيت الله الحرام، فنادى منادي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتجهز المسلمون لأداء عمرة القضاء. وخرج مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ألفان من المسلمين لا يحملون سلاحاً إلاّ السيوف في القِرب، وكان من
حيطة النبي وحذره من احتمال الغدر أن جهّز مجموعة مسلحة عند (مرّ الظهران) ليكونوا
القوّة المستعدة للدفاع عند الطوارئ.
ولما
وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذا
الحليفة أحرم هو وأصحابه وساق معه ستين بدنة، وقدّم الخيل أمامه، وكانت نحواً من مائة بقيادة محمد بن مسلمة. وخرج
زعماء مكة ومن تبعهم إلى رؤوس الجبال والتلال المجاورة المطلة على مكة زاعمين أنهم
لا يريدون النظر إلى وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا إلى أصحابه، ولكن جلالة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وهيبة منظر المسلمين الذين كانوا قد احتفّوا بالرسول وهم يردّدون
التلبية بهرت عيونهم وتركتهم مذهولين ينظرون إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين وهم يؤدون مناسكهم.
وطاف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حول البيت على راحلته التي كان يقودها عبد الله بن رواحة وأمر أن
ينادي المسلمون بصوت عال: (لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده،
وأعَزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده).
فدوّى
النداء في مكة وشعابها فانصدعت قلوب المشركين رعباً وتملّكهم الغيظ والحقد من
مظاهر النصر الإلهي للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي خرج منهم طريداً قبل سبع سنين.
وأتم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون مناسك العمرة، وأيقنت قريش بقوة الإسلام والمسلمين وأيقنت
بكذب من أخبرها أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن
معه في جهد وتعب وضيق وحرج بسبب الهجرة إلى المدينة.
وصعد
بلال على ظهر الكعبة وأعلن نداء التوحيد مؤذّناً لصلاة الظهر بمظهر روحاني بهيج
أغاظ رؤوس الكفر من قريش... وقد كانت مكة كلّها تحت تصرف المسلمين.
وتفرق
المهاجرون فيها وهم يصحبون إخوتهم الأنصار يزورون دورهم التي غادروها في سبيل الله
ويلتقون بأهليهم وذويهم بعد فراق طويل.
وأمضى
المسلمون ثلاثة أيام في مكة ثم غادروها بموجب الاتفاق الذي كان بينهم وبين قريش
بعد أن رفضت طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يتم مراسم زواجه من (ميمونة) خائفين من ازدياد قوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واختراق الإسلام لمجتمع مكة من خلال طول مكث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها.
وخلّف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا رافع ليحمل إليه زوجته (ميمونة) حين يمسي، إذ خرج المسلمون قبل
صلاة الظهر من مكّة(السيرة النبوية: 2 / 372.).
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة
1 ـ
معركة مؤتة(وقعت معركة مؤتة في جمادى الاُولى من السنة الثامنة للهجرة.) :
عزم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على بسط الأمن في شمال الجزيرة العربية، ودعوة أهلها إلى الإسلام
والانطلاق نحو الشام. من هنا بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى الحارث ابن أبي شمر
الغساني فاعترضه شرحبيل بن عمرو الغسّاني فقتله.
وفي
الفترة نفسها بعث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مجموعة من المسلمين يدعون إلى الإسلام فعدا عليهم أهل منطقة (ذات
أطلاح) من الشام وقتلوهم وبلغ خبر مقتلهم الرسول فتألم لذلك كثيراً وانتدب صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين للخروج، فأعد جيشاً من ثلاثة ألاف مقاتل وأمّر عليه زيد بن
حارثة ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبد الله بن رواحة. وخطب فيهم قائلاً: (اُغزوا بسم الله ... أدعوهم إلى الدخول في الإسلام ... فإن فعلوا
فاقبل منهم واكفف عنهم ... وإلاّ فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام وستجدون فيها
رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في
رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً مرضعاً ولا كبيراً
فانياً، لا تغرقنّ نخلاً ولا تقطعنّ شجراً ولاتهدموا بيتاً)( المغازي: 2 / 758، راجع السيرة النبوية: 2 / 374.).
وخرج
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معهم مودّعاً حتى بلغ ثنية الوداع.
ولما
بلغ جيش المسلمين منطقة (مشارق) فوجئ بالعدة والعدد الضخم لجيش الروم إذ بلغ عددهم
مائتي ألف مقاتل فانحاز المسلمون إلى مؤتة وعزموا على مقاومة العدو. ولأسباب عديدة
بان الانكسار في جيش المسلمين فقتل القادة الثلاثة جميعاً. وكان من عوامل الانكسار
أنهم كانوا يقاتلون في منطقة غريبة عليهم وبعيدة عن مركز الإمدادات كما أنهم كانوا
يقاتلون مهاجمين والروم بالعدد الضخم يقاتلون مدافعين، هذا مضافاً إلى التفاوت في
الخبرة القتالية فجيش الروم قوة منظمة مارست حروباً سجالاً أما جيش المسلمين فكان
قليل العدد والخبرة، فتيّاً في تكوينه (السيرة النبوية: 2 / 381.).
ولقد تأ
لّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمقتل جعفر بن أبي طالب وبكاه بشدة، وذهب صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى بيت جعفر يعزّي أهله ويواسي أبناءه، كما حزن كثيراً على زيد ابن
حارثة(بحار الأنوار: 21 / 54، المغازي: 2 / 766، السيرة الحلبية:
3 / 68.).
2 ـ فتح
مكة(تم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.) :
لقد
اختلفت ردود فعل القوى في المنطقة بعد معركة مؤتة، فالروم فرحوامن انسحاب المسلمين
وعدم تمكّنهم من دخول الشام.
أما قريش فقد سادهم
الفرح وانبعثت فيهم الجرأة على المسلمين وأخذوا يسعون لنقض صلح الحديبية عبر
الإخلال بالأمن فحرّضوا قبيلة بني بكر على بني خزاعة (بعد أن دخلت قبيلة بني بكر
في حلف قريش وخزاعة في حلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اثر صلح الحديبية) وأمدّوها بالسلاح فعدت بكر على خزاعة غيلة وقتلوا عدداً من أفرادها وهم في ديارهم آمنين، وكان بعضهم
في حال العبادة ففزعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طالبين النصرة، ووقف عمرو بن سالم بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وهو جالس في المسجد ـ ينشد أبياتاً يعرض فيها نقض العهد. فتأثر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم. أما قريش فقد انتبهت وأدركت سوء فعلتها
وقد تملّكها الخوف والهلع من المسلمين فاجتمع رأيهم على إيفاد أبي سفيان إلى
المدينة ليجدد الصلح ويطلب تمديد المدة من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولكن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يصغ لطلب أبي سفيان وسأله قائلاً: هل كان من حدث؟ قال
أبو سفيان: معاذ الله ، فأجابه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: نحن على مدّتنا وصلحنا.
لكن أبا
سفيان لم يهدأ له بال ولم يقنع بل أراد أن يستوثق ويأخذ عهداً وأماناً من رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسعى لتوسيط مَن يؤثّر على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقابله الجميع بالرفض واللامبالاة.
فلم يجد
إلاّ أن يقفل راجعاً بالخيبة إلى مكة وقد ضاقت الأمور على قوى الشرك حيث تبدلت
الظروف ، فالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يطلب مكة فاتحاً، بعدّة تتزايد وإيمان يترسخ ، وقريش تطلب الأمان
والسلامة في دمائها وأموالها، وقد سنحت الفرصة بنقض الصلح. وتكاد تكون مكة آخر
خطوة لتتم سيطرة الإسلام على الجزيرة العربية برمّتها. وأعلن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم النفير العام، وتوافدت عليه جموع المسلمين ملبية نداءه، فجهّز جيشاً
قارب عدده عشرة آلاف رجل. واجتهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكتم قصده وهدفه إلاّ على الخاصة وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الله قائلاً : (اللهم
خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها)( السيرة النبوية: 3 / 397، المغازي : 2 / 796.). ويبدو أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يود أن يتحقق النصر المؤزّر سريعاً دون إراقة قطرة دم ، متخذاً أسلوب المباغته.
ولكن الخبر تسرب إلى رجل كان قد ضعف أمام عواطفه فكتب إلى قريش كتاباً بذلك وبعثه
مع امرأة توصله. ونزل الوحي يخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك فأمر علياً والزبير بأن يلحقا المرأة ويسترجعا الكتاب، وانتزع
علي بن أبي طالب بقوة إيمانه برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الكتاب من المرأة(السيرة النبوية: 2 / 398.). ولمّا استلم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الكتاب
جمع المسلمين في المسجد ليثير هممهم ويحذر من مسألة الخيانة من جانب ويبيّن من
جانب آخر أهمية كبت العواطف مرضاةً لله. وقام المسلمون يدفعون حاطب بن أبي بلتعة
صاحب الكتاب الذي حلف بالله أنه لم يقصد الخيانة وانفعل عمر بن الخطاب وطلب من
النبيّ أن يقتله فقال له : (وما
يُدريك يا عمر لعلَّ الله اطلع على أهل بدر وقال لهم إعملوا ما شئتم فلقد غفرت
لكم)( امتاع الاسماع: 1 / 363، المغازي: 2 / 798. ويرى بعض
المحققين أن هذا الحديث من الموضوعات. راجع سيرة المصطفى: 592.).
تحرك الجيش
الإسلامي نحو مكة :
وتحرك
جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان باتجاه مكة المكرمة، ولما بلغ مكاناً يدعى
(الكديد) طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ماءاً فأفطر به أمام المسلمين وأمرهم أن يفطروا لكن بعضاً منهم عصوا
الرسول القائد ولم يفطروا فغضب من عصيانهم وقال: (أولئك العصاة)
وأمرهم أن يفطروا(وسائل الشيعة: 7 / 124، السيرة الحلبية: 3 / 290، المغازي:
2 / 802، وصحيح مسلم 3/141 ـ 142، كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان
للمسافر في غير معصية، ط دار الفكر ، بيروت.).
ولما
وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى مرّ الظهران أمر المسلمين أن ينتشروا في الصحراء ويوقد كل منهم
ناراً. وهكذا أضاء الليل البهيم وظهر المسلمون كجيش عظيم تضيع أمامه كل قوى قريش
مما أقلق العباس بن عبد المطلب ـ وهو آخر المهاجرين إذ التحق بركب رسول الله في
منطقة الجحفة ـ فتحرك يبحث عن وسيلة يبلغ بها قريشاً أن تأتي مسلمة قبل دخول الجيش
عليها.
وفجأة
سمع صوت أبي سفيان يحادث بديل بن ورقاء مستغرباً وجود هذه القوة الكبيرة على مشارف
مكة. وارتعد أبو سفيان خوفاً حين أخبره العباس بزحف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجيشه لفتح مكة، ولم يجد أبو سفيان بدّاً من اصطحاب العباس لأخذ
الأمان من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولم يكن
بوسع ينبوع العفو والاخلاق السامية أن يبخل بإجازة جوار عمّه لأبي سفيان فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إذهب فقد أمناه
حتى تغدو به عليّ).
استسلام أبي سفيان
:
ولما
مثل أبو سفيان بين يدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال له : (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا
إله إلاّ الله؟) فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك
وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)
قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما والله فإنّ في النفس منها حتى الآن
شيئاً(السيرة النبوية: 3 / 40، مجمع البيان: 10 / 554 .).
وتدارك
العباس الموقف ليضغط على أبي سفيان ليسلم وقال له: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلاّ
الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تقتل. فشهد أبو سفيان الشهادتين خوفاً من القتل،
ودخل في عداد المسلمين.
واستسلم
من بقي من زعماء المشركين بعد استسلام أبي سفيان، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم استتماماً للضغط النفسي على قريش كي تستسلم دون إراقة دماء قال
للعباس: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ
به جنود الله فيراها).
ولإشاعة
الاطمئنان والثقة برحمة الإسلام ورحمة الرسول القائد وإرضاء لغرور أبي سفيان كي لا
يكابر قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو
آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن).
ومرّت
جنود الله تعبر المضيق والعباس يعرّف الكتائب التي تمر وأبو سفيان قد أخذته الدهشة
حتى قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً فأجابه العباس: يا أبا
سفيان إنها النبوة. وتردد أبو سفيان في الجواب فقال: فنعم إذن. ثم انطلق أبو سفيان
إلى مكة ليحذّر أهلها ويعلن أمان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (المغازي ، للواقدي : 2 / 816 ، السيرة النبوية : 3 / 47 .).
دخول مكة :
أصدر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أوامره الحكيمة بتوزيع مداخل القوات إلى مكة مؤكداً عدم اللجوء إلى
القتال إلاّ رداً عليه. وأهدر صلىاللهعليهوآلهوسلم دماء عدد من المشركين ـ في كلّ الحالات ـ حتّى لو وجدوهم متعلقين
بأستار الكعبة، لعظيم جنايتهم ومعاداتهم للإسلام وللنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما إن
لاحت بيوت مكة حتّى إغرورقت عينا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالدموع، ودخلت قوّات الإسلام الظافرة مكة من جهاتها الأربع ومظاهر العز والنصر
تجلّلها ودخل الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة مطأطئاً رأسه تعظيماً لله وشكراً له على ما منحه من الفضل
والنعمة حيث دانت لرسالته ودولته أم القرى، بعد طول جهد وعناء تحمله صلىاللهعليهوآلهوسلم في سبيل إعلاء كلمة الله.
ورفض
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يدخل دار أحد من أهالي مكة رغم كثرة عروضهم له، واغتسل بعد
استراحة قصيرة وركب راحلته وكبّر فكبّر المسلمون فدوّى الصوت في الجبال والوهاد ـ
التي فرّ إليها بعض رؤوس الشرك خوفاً من الإسلام ونصره ـ وجعل يشير وهو يطوف في
البيت إلى كل صنم موجود حوله ويقول: قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقاً، فيسقط الصنم لوجهه.
ثم أمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً أن يجلس ليصعد صلىاللهعليهوآلهوسلم على كتفه ولكن لم يستطع علي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحمل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على كتفه لكسر الاصنام فوق الكعبة، من هنا صعد عليّ على كتف ابن عمّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وكسر الأصنام. ثم طلب النبيّ مفاتيح الكعبة وفتح بابها ودخلها ومسح
ما فيها من صور. ثم وقف على بابها يخطب الجموع المتكاثرة خطبة الفتح العظيم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر
عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين،
إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج... ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية
وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب...)( مسند أحمد : 1 / 151 ، فرائد السمطين : 1 / 249 ، كنز
العمّال : 13 / 171 ، السيرة الحلبية : 3 / 86 .) ثم تلا قوله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات (49) : 13.) يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم)؟.
قالوا:
أخ كريم وابن أخ كريم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إذهبوا فأنتم الطلقاء)( بحار الأنوار: 21 / 106، والسيرة النبوية: 2 / 412.).
ثم
ارتقى بلال سطح الكعبة ليؤذّن لصلاة الظهر فصلى المسلمون بإمامة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد الحرام أوّل صلاة بعد هذا الفتح.
ووقف
المشركون والحيرة تملكهم وتعلوهم الدهشة مشوبة بالخوف والحَذر. وخشيت الأنصار أن
لا يرجع معها الرسول الكريم حين رأوا تفاعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أهل مكة ووقفوا والأسئلة تدور فى مخيّلتهم والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واقف يدعو الله وقد علم ما يدور بينهم فالتفت إليهم قائلاً: معاذ
الله المحيا محياكم والممات مماتكم، معلناً بذلك أن المدينة ستبقى عاصمة الإسلام.
ثم أقبل
الناس يبايعونه فبايعه الرجال ـ وتشفع عدد من المسلمين لدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعفو عمن أهدر دمه فعفا وصفح.
وجاءت
النساء لتبايع ـ فكانت المرأة تدخل يدها في قدح فيه ماء قد وضع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يده فيه ـ ( على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف) (بحار الأنوار: 21 / 113، وسورة الممتحنة: الآية 12.).
وغضب
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حين عدت خزاعة ـ حليفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ على رجل من المشركين فقتلته وقام صلىاللهعليهوآلهوسلم خطيباً فقال: (يا أيها الناس إن الله حرّم مكة يوم خلق
السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرىً يؤمن بالله واليوم الآخر
أن يسفك دماً أو يعضد فيها شجراً ..)( سنن ابن ماجة ، الحديث 3109 ، كنز العمال ، الحديث 34682،
الدر المنثور : 1 / 122، ط دار الفكر.).
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن
الله قد أحلّها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة). وأكبرت قريش
جميع مواقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكة وأهلها من عطف ورحمة وسماحة وعفو واحترام وتقديس فمالت قلوبهم
إليه وأقبلوا على الإسلام آمنين مطمئنين.
وأرسل
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سراياه
إلى اطراف مكة وما حولها لهدم ما تبقّى من الأصنام وأماكن عبادة المشركين فأخطأ
خالد بن الوليد إذ قتل عدداً من قبيلة بنى جذيمة بعد استسلامهم ثأراً لعمّه(السيرة النبوية: 2 / 420، الخصال: 562، أمالي الطوسي: 318.) وغضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين علم بذلك وأمر علياً أن يأخذ أموالاً ويدفع دية المقتولين ثم قام
صلىاللهعليهوآلهوسلم واستقبل القبلة رافعاً يديه وهو يقول: (اللهم إني أبرأ
إليك مما صنع خالد بن الوليد)، وبذلك هدأت نفوس بني جذيمة )( الطبقات الكبرى: 2/148 .).
3 ـ غزوة
حنين وحصار الطائف(وقعت معركة حنين فى شوال من السنة الثامنة للهجرة.) :
أمضى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خمسة عشر يوماً في مكة فاتحاً فيها عهداً جديداً من التوحيد بعد طول
فترة من الشرك، والغبطة والسرور يعمّان المسلمين، والأمان يلفّ أم القرى، وترامت
إلى أسماع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن قبيلتي هوازن وثقيف قد أعدّتا العدّة لمحاربة الإسلام ظنّاً منهما
أنّهما يُحققان ما عجزت عنه سائر قوى الشرك والنفاق من تدمير الإسلام، وعزم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على الخروج لملاقاتهم ولكنه وطّد دعائم الإدارة في مكة قبل خروجه كما
هي سيرته عند كل فتح، فعيّن معاذ بن جبل ليعلّم الناس القرآن وأحكام الإسلام كما
عيّن عتاب بن أسيد للصلاة بالناس وإدارة الأمور.
وخرج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باثني عشر ألفاً من المقاتلين، وهي قوة لم يشهد المسلمون مثلها ممّا
أدّى بهم إلى الغرور والغفلة حتى أن أبا بكر قال: لو لقينا بني شيبان لن نغلب
اليوم من قلّة(الطبقات الكبرى: 2 / 150، المغازي: 2 / 889 .).
أما (
هوازن ) و ( ثقيف ) فقد تحالفتا وخرجتا بكامل عدّتهم مع نسائهم وأطفالهم وكمنوا
لإرباك جيش المسلمين، وحين وصلت طلائع جيش المسلمين أطراف الكمين أرغموها على
الفرار حتّى فرّت باقي قوّات المسلمين فزعاً من أسلحة العدو، ولم يثبت مع رسول
الله إلا تسعة أشخاص من بني هاشم عاشرهم أيمن (ابن أم أيمن). وفرح المنافقون
وسرّوا سروراً عظيماً فخرج أبو سفيان يقول شامتاً: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر،
وقال آخر: ألا بطل السحر اليوم. وعزم آخر على قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك الوضع المضطرب(السيرة النبوية: 2 / 443، المغازي: 3 / 99.).
وأمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عمه العباس أن يصعد على صخرة وينادي فلول المهاجرين والأنصار المدبرة
قائلاً: يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إليّ. أين تفرّون؟ هذا رسول
الله! وكأن وعياً قد عاد بعد غفلة وحماساً دبّ بعد فتور فعادوا يوفون بوعود النصرة
والدفاع عن الإسلام والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم... ولما رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حماسهم قال: الآن حمي الوطيس، أنا النبيّ لا كَذِب أنا ابن
عبد المطلب. فأنزل الله السكينة على المسلمين وأيدهم بالنصر فولّت
جموع الكفر منهزمة تاركة وراءها ستة الآف أسير وغنائم كبيرة جداً(نزلت آيات من سورة التوبة وهي توضح تأييد الله ونصره، وتلوم
من اعتمد العدة والعدد واعتبارهما سبباً للنصر.)، وأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تحفظ الغنائم وتراعى أحوال الأسرى حتى تتم ملاحقة العدو الغارّ
إلى منطقة أوطاس ونخلة والطائف.
وكان من
سمو أخلاق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعظيم عفوه وسعة رحمته أن قال لأم سليم: (يا أم سليم قد كفى
الله، عافية الله أوسع) حين طلبت منه قتل الذين فرّوا عنه وخذلوه.
وفى
موقف آخر، غضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين
علم أن بعض المسلمين يقتل ذرّية المشركين غيظاً منهم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ما بال أقوام ذهب
بهم القتل حتى بلغ الذرية، أَلا لا نقتل الذرية)، فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله أليس هم أولاد المشركين. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أوليس خياركم أولاد المشركين، كل نسمة تولد على
الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها(إمتاع الأسماع: 1 / 409.).
وواصلت
قوات المسلمين ملاحقتها للعدو حتى الطائف فحاصروهم بضعاً وعشرين يوماً يترامون
بالنبل من خلف الجدران والبساتين، ثم عدل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الطائف لاعتبارات كثيرة.
وعند
وصوله إلى الجعرانة (محل تجميع الأسرى والغنائم) قام إليه وفد هوازن يلتمسون العفو
عنده فقالوا: يا رسول الله إنما في هذه الأسرى عمّاتك وخالاتك اللاتي كن يكفلنك ـ
حيث كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رضع في بني سعد وهم من هوازن ـ ولو أنا مالحنا الحارث بن أبي شمر
أو النعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت
خير المكفولين. فخيّرهم الرسول بين الأسرى والمال فاختاروا الأسرى، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم).
وأسرع المسلمون جميعاً يقتدون بالرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم ويهبون له مالهم من نصيب(سيد المرسلين : 2 / 53 ، المغازي : 3 / 949 ـ 953 .).
وبحكمة
بالغة ودراية عميقة بنفوس الناس وسعياً لهداية الجميع وإطفاءاً لنار الحرب منّ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعفوه
حتى على (مالك بن عوف) مثير هذه الحرب إن جاءه مسلماً فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أخبروا مالكاً
إنّه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل). وسرعان ما أسلم مالك(المغازي : 3 / 954 ـ 955 .).
توزيع الغنائم :
تدافع
المسلمون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يلحّون عليه أن يقسّم الغنائم حتى ألجأوه إلى شجرة وأخذوا رداءه;
فقال: (ردّوا عليّ ردائي فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة
نعماً لقسّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذّاباً).
ثم قام
وأخذ وبرة من سنام بعيره فجعلها بين أصبعيه ثم رفعها وقال: (ايها الناس والله مالي
في فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) ثم أمر أن يُردّ كل ما
غنم حتى تكون القسمة عدلاً.
وبدأ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بإعطاء المؤلفة قلوبهم كأبي سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام.
والحارث بن الحارث، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن امية وغيرهم
ممّن كان يعاديه ويحاربه بالأمس القريب من رؤوس الكفر والشرك ثم قسّم عليهم حقّه
من الخمس. على أن هذا الموقف قد أثار الحفيظة في نفوس بعض المسلمين جهلاً منهم
بمصالح الإسلام وأهداف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى قال أحدهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: لم أرك عدلت. فقال: ويحك إذالم يكن
العدل عندي فعند من يكون؟ فأراد عمر بن الخطاب أن يقتله، فلم يأذن
له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: (دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى
يخرجوا منه كما يخرج السهم من رميته)( السيرة النبوية: 2 / 496، وراجع المغازي : 3 / 948.).
اعتراض الأنصار :
ورأى
سعد بن عبادة أن يخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يدور بين الأنصار من قولهم: لقي رسول الله قومه ونسي أصحابه.
فجمع سعد الأنصار وأقبل الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم يحدّثهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(يا معشر الأنصار
ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله
وعالة فاغناكم الله وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى الله ورسوله آمَنُ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول
الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أما والله لو شئتم قلتم فصدقتم: أتيتنا مكذَّباً
فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك. وجدتم في أنفسكم يا
معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألّفتُ به قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم،
أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى
رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس
شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شِعب الأنصار).
فأثارت
هذه الكلمات في قلوب الأنصار العاطفة والشعور بالخطأ في تصورهم عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فضجوا بالبكاء وقالوا: رضينا يا رسول الله حظّاً وقسماً.
وخرج النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم بمن معه من الجعرانة متّجهاً إلى مكة في شهر ذي القعدة فأتمّ عمرته
وحلّ من إحرامه واستخلف على مكة عتّاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل وخرج متّجهاً إلى
المدينة بمن معه من المهاجرين والأنصار(السيرة النبوية: 2 / 498، المغازي: 3 / 957.).
4 ـ
غزوة تبوك(كانت غزوة تبوك في رجب سنة ( 9 ) من الهجرة .) :
أصبحت
الدولة الإسلامية كياناً يهاب جانبه، وكان على المسلمين الحفاظ على حدوده وأراضيه
حتى تبلغ الرسالة الإسلامية أرجاء الأرض.
واستنفر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين من جميع نقاط الدولة الإسلامية استعداداً لحرب الروم إذ
وردت أخبار تؤكد استعدادهم لغزو الجزيرة واسقاط الدولة ومحق الدين الإسلامي وصادف
أن كان ذلك العام عام جدب وقلّة ثمار وكان الوقت صيفاً حاراً مما زاد من صعوبة
الخروج لملاقاة عدو قوي متمرّس كبير العدد والعدة. فتقاعس ذوو النفوس الضعيفة
والمعنويات المتدنّية وبرز النفاق ثانية علانية ليثبّط العزائم ويخذل الإسلام.
وتخلّف
بعض عن الالتحاق بالجيش لشدّة تعلّقهم بالدنيا، وبعض آخر احتجّ بشدّة الحر وآخرون
لم يستطيعوا لشدّة ضعفهم وقلة إمكانات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لحملهم معه رغم بذل المؤمنين الصادقين أموالهم للجهاد في سبيل الله.
وبلغ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن المنافقين يجتمعون في بيت أحد اليهود يثبّطون الناس ويخوّفونهم من
اللقاء، فتعامل معهم بحزم وشدة فأرسل إليهم من يحرق عليهم دارهم ليكونوا عبرة
لغيرهم.
وقد
أنزل الله آيات تفضح خطط المنافقين وتؤنّب المتقاعسين وتعذر الضعفاء; وبلغ عدد جيش
المسلمين ثلاثين ألف مقاتل ـ على أقل تقدير ـ واستخلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علي بن أبي طالب في المدينة لما يعلم منه من حنكة وحسن تدبير وقوة
يقين; إذ خشي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
قيام المنافقين بعمل تخريبي في المدينة، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا علي إن المدينة
لا تصلح إلاّ بي أو بك)( الإرشاد للمفيد 1 / 115، أنساب الأشراف: 1 / 94 ـ 95، كنز العمّال ج11
/ باب فضائل علي عليهالسلام.).
الإعلان عن مكانة
علي عليهالسلام لدى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وأشاع
المنافقون والذين في قلوبهم مرض حول بقاء علي بن أبي طالب في المدينة اُموراً إذ
قالوا: إنما تركه رسول الله استثقالاً له وتخففاً منه، سعْياً منهم للإثارة رجاء
أن يخلو جو المدينة لهم فأسرع عليّ عليهالسلام
للالتحاق برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلحق به على مقربة من المدينة وقال: يا نبي الله زعم
المنافقون أنك إنما خلّفتني أنك استثقلتني وتخفّفت مني.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (كذبوا ولكنني
خلّفتك لما تركت ورائي فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي
بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)( امتاع الأسماع: 1 / 449، صحيح البخاري: 3 / 1359 الحديث
3503، صحيح مسلم: 5 / 23 الحديث 2404، سنن ابن ماجة: 1 / 42 الحديث 115 ، مسند
أحمد: 1 / 284 الحديث 1508 .).
جيش العسرة :
وانطلق
جيش المسلمين في طريق وعر طويل وقد أوضح لهم الرسول هدف المسيرة خلافاً لما كان في
الغزوات الماضية. وكان يتخلف عنه في الطريق جماعة ممن خرجوا معه من المدينة فكان
يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه: دعوه فإن يكن به خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد
أراحكم الله منه.
وأسرع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم السير حين مرّ على أطلال قوم صالح وقال لأصحابه وهو يعظهم: (لا
تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، ونهاهم
عن استعمال الماء من هذه المنطقة وحذّرهم من خطورة الظروف الجوية فيها(السيرة النبوية: 2 / 521، السيرة الحلبية: 3 / 134.)، وللصعوبات التي أحاطت هذه الغزوة من حيث الماء والغذاء والنفقة
والظهر (الخيل والإبل) فقد سمّي هذا الجيش بـ (جيش العسرة).
ولم يجد
المسلمون جيش الروم; إذ قد تفرّق جمعهم، وهنا استشار الرسول القائد أصحابه في
ملاحقة العدو أو العودة إلى المدينة فقالوا: إن كنت اُمِرت بالسير فسِرْ. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لو اُمرت به ما
استشرتكم فيه)( المغازي: 3 / 1019.). وهنا قرّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العودة إلى المدينة.
واتصل
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بزعماء المنطقة الشمالية للجزيرة وعقد معهم معاهدة عدم تعرّض واعتداء
بين الجانبين وبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن الوليد إلى دومة الجندل خوفاً من تعاون زعيمها مع الروم في
هجوم آخر وتمكّن المسلمون من أسر زعيمهم وحمل الغنائم الكثيرة(الطبقات الكبرى: 2 / 166، بحار الأنوار: 21 / 246.).
محاولة اغتيال النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أقفل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون راجعين إلى المدينة بعد أن أمضوا بضع عشرة يوماً في تبوك،
وتحرك الشيطان في نفوس جمع ممّن لم يؤمن بالله ورسوله فعزموا على اغتيال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك بتنفير ناقته عند مرورها عليهم ليطرحوه في واد كان هناك.
وحين
وصل الجيش إلى العقبة (بين المدينة والشام) قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم) فأخذ
الناس بطن الواديوسلك هو طريق العقبة وكان يقود ناقته عمار بن ياسر ويسوقها حذيفة
بن اليمان، فرأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في ضوء القمر فرساناً قد تلثّموا ولحقوا به من ورائه في حركة مريبة
فغضب صلىاللهعليهوآلهوسلم وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم; فتمالكهم الرعب وعرفوا
بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد علم بما أضمرته نفوسهم ومؤامرتهم فاسرعوا تاركين العقبة ليخالطوا الناس ولا تنكشف هويّتهم .
وطلب
حذيفة من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبعث اليهم من يقتلهم بعد ما عرفهم من رواحلهم ولكن رسول الرحمة
عفا عنهم وأوكل أمرهم إلى الله تعالى(المغازي: 3 / 1042، مجمع البيان: 3 / 46، بحار الأنوار: 21
/ 247.).
من نتائج غزوة تبوك
:
1 ـ لقد
برز المسلمون كقوة كبيرة منظمة، تملك العقيدة القوية فتهابهم الدول المجاورة
والديانات الأخرى وكان هذا إنذاراً حقيقياً لكل القوى في خارج البلاد الإسلامية
وداخلها بعدم التعرض للإسلام والمسلمين.
2 ـ ضمن
المسلمون عن طريق المعاهدات مع زعماء المناطق الحدودية (من جهة الشمال) أمن هذه
المنطقة.
3 ـ
استفاد المسلمون من قدرتهم على تعبئة جيش كبير في العدة والعدد وازدادت خبرتهم في
التنظيم والإعداد، وكانت الرحلة إلى تبوك بمثابة استطلاع ميداني استفاد منه
المسلمون في المراحل اللاحقة.
4 ـ
كانت غزوة تبوك اختباراً لمعنويات المسلمين وتمييزاً للمنافقين وفرزهم عن سائر
المسلمين.
5 ـ
مسجد ضرار : لقد جاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشريعة السمحاء ودين التوحيد وعمل جاهداً أن يبني الإنسان الصالح
والمجتمع السليم وفق التعاليم الربانية، ولقد خاض كل المحن والابتلاءات والمعارك
من أجل تطهير الإنسان من دنس الشرك ووساوس الشيطان والأمراض النفسية.
وتحركت نوازع الحسد والبغض لدى مجموعة من المنافقين فعمدوا إلى بناء مسجد في مقابل مسجد ( قباء ) زاعمين أنّه لذوي العلة
والحاجة والليلة المطيرة، وأسرعوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يطلبون منه أن يصلّي فيه ليضفي الشرعية على عملهم فأخّر الاستجابة
لأنه كان على استعداد للخروج إلى تبوك، فلمّا رجع من تبوك نزل الأمر الإلهي بالنهي
عن الصلاة في هذا المسجد لأنّه كان عاملاً لتفريق كلمة المسلمين والإضرار بالاُمة،
وشتان بين بنيان أسس على التقوى وآخر للإضرار بالمسلمين ومن هنا أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بهدمه وإحراقه(السيرة النبوية: 20 / 530، بحار الأنوار: 20 / 253.).
6 ـ عام
الوفود :
بدت
سيطرة الإسلام على الجزيرة واضحة . ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلجأ إلى القوة والقتال إلاّ بعد إعذار وإنذار، بل وفي أكثر الوقائع
كان قتال المسلمين دفاعاً، على أن بعض قوى الشرك لا تعي الحق ولا تهتدي سبيلاً
إلاّ بعد عنف وقوة وتهديد ووعيد.
وحين
عاد المسلمون إلى عاصمة دولتهم ـ المدينة المنورة ـ سيّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عدة سرايا لتطهير البلاد من أماكن الوثنية وأصنام الشرك.
ولقوة
المسلمين والانتصارات المتلاحقة بدأت كل قبائل الجزيرة وزعمائها يسمعون بآذان
صاغية نداء الإسلام ووضوح أهدافه وهدايته، فأخذت الوفود تقدم إلى المدينة لتعلن
إسلامها بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لذلك سمي هذا العام بعام الوفود(السيرة النبوية لابن هشام : ذكر سنة تسع وتسميتها سنة
الوفود .) ـ وكان النبي يستقبلهم ويحسن إليهم ويرسل لهم من يعلمهم فرائض القرآن
وشرائع الإسلام.
إسلام قبيلة ثقيف :
أملت
ظروف النصر الإلهي على كل عاقل أن يتدبر أمره ويحكّم عقله تجاه الإسلام. وكانت
حكمة الرسول بالغة إذ أجّل فتح الطائف يوم امتنعت ثقيف فيها وها هي اليوم ترسل
وفدها لتعلن إسلامها بعد أن عاندت وكابرت وقتلت سيداً من سادتها (عروة بن مسعود
الثقفي) يوم جاءها مسلماً يدعوها إلى الدين الجديد.
ورحب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمقدم الوفد الثقفي وضربت لهم قبة في ناحية المسجد النبوي وكلّف صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن سعيد ليقوم بمهام التشريفات ثم بدأ الوفد يفاوض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على الإسلام بشروط هي: أنه يترك صنم القبيلة مدة من الزمن وأبى النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا التوحيد الناصع الخالص لله وتنازل القوم شيئاً فشيئاً حتى قبلوا
الإسلام بشرط أن يعفيهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كسر أصنامهم بأنفسهم كما شرطوا عليه أن يعفيهم من الصلاة فقال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، فقبلوا
الإسلام وبقي الوفد مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مدة من الزمن يتعلمون أحكام الدين. ثم كلف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة أن يذهبا إلى الطائف لهدم الأصنام
فيها(السيرة النبوية: 2 / 537، السيرة الحلبية: 3 / 216.).
7 ـ
وفاة إبراهيم ابن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم:
في غمرة
أفراح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بنجاح الإسلام وانتشار الرسالة حيث كان الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً، وعك إبراهيم بعد أن دخل في عامه الثاني وجعلت أُمّه (ماريا) تمرّضه ولم
ينفع معه شيء فأبلغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باحتضار ولده فأقبل وإبراهيم يجود بنفسه في حضن اُمه فأخذه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: (يا إبراهيم إنا لن
نغني عنك من الله شيئاً إنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط
الرّب ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع فإن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا
إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه)( السيرة الحلبية: 3 / 311، بحار الأنوار: 22 / 157.).
وبدت
علامات الحزن واضحة على قسمات وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقيل
له: يا رسول الله أولست
قد نهيتنا عن هذا؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ماعن الحزن نهيت ولكني نهيت عن خمش الوجوه وشق الجيوب
ورنّة الشيطان(السيرة الحلبية: 3 / 311.).
وروي
أنه قال: (إنما هذا رحمة ومن لا يَرحم لا يُرحم)( بحار الأنوار: 22 / 151.).
ولعظيم
منزلة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند الله سبحانه وما أظهر من معجزات للعالمين حتى آمنوا به ظن بعض المسلمين أنّ كسوف الشمس في يوم وفاة إبراهيم إنما كان من
آيات الله لموته.
وسرعان
ما ردّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على
هذا الزعم خشية أن تتحول الخرافة إلى سُنّة ومعتقد يتخذها الجاهلون. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أيها الناس إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته)( تاريخ اليعقوبي : 2 / 87 .).
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة
1 ـ
إعلان البراءة من المشركين :
لم يبق
في الجزيرة العربية من بقي على الشرك والوثنية سوى أفراد قلائل بعد أن انتشرت
العقيدة الإسلامية والشريعة السمحاء في أرجائها واعتنقها كثير من الناس. وهنا كان
لابد من إعلان صريح حازم يلغي كل مظاهر الشرك والوثنية في مناسك أكبر تجمع عبادي
سياسي.
وحان
الوقت المناسب لتعلن الدولة الإسلامية شعاراتها في كل مكان وتنهي مرحلة المداراة
وتأليف القلوب التي تطلبتها المرحلة السابقة.
واختار
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم النحر زماناً ومنطقة منى(العاشر من ذي الحجة عام ( 9 هـ ) .) مكاناً لهذا الإعلان واختار أبا بكر ليقرأ مطلع سورة التوبة(التوبة (9) : 1 ـ 13 .) التي نزلت لذلك وتضمّنت إعلان البراءة من المشركين جميعاً بصراحة
وتمثّلت بنود البراءة في ما يلي:
1 ـ لا
يدخل الجنة كافر.
2 ـ لا
يطوف في البيت الحرام عُريان; إذ كانت تقاليد الجاهلية تسمح بذلك.
3 ـ لا
يحج بعد هذا العام مشرك.
4 ـ من كان بينه
وبين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عهد
فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فإلى أربعة أشهر ثم يقتل من وُجِدَ في دار الإسلام مشركاً.
ونزل
الوحي الإلهي ليبلّغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مبدأً مهمّاً نصّه: (أنّه لا يؤدي عنك
إلا أنت أو رجل منك). فاستدعى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء ويلحق بأبي بكر ويأخذ منه البلاغ
ويؤديه للناس(الكافي: 1 / 326، الإرشاد: 37، الواقدي: 3 / 1077، خصائص
النسائي: 20، صحيح الترمذي: 2 / 183، مسند أحمد: 3 / 283، فضائل الخمسة من الصحاح
الستة: 2 / 343.).
ووقف
علي بن أبي طالب بين جموع الحجيج وهو يتلو البيان الإلهي بقوة وجرأة تتوائم مع حزم
القرار ووضوحه. ووقف الناس ينصتون إليه بحذر ودقة. وكان أثر الإعلان على المشركين
أن قدموا مسلمين على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
2 ـ
مباهلة نصارى نجران :
اجتمع
زعماء نصارى نجران وحكماؤهم يتدارسون أمر كتاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي يدعوهم فيه إلى الإسلام. ولم يتوصلوا إلى رأي قاطع إذ كانت في
أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسى عليهالسلام ، وما
ظهر من محمد فهو يشير إلى نبوّته. من هنا قرّروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحاوره.
واستقبل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الوفد الكبير وقد بدى عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع
الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في
أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدّلوا مظهرهم فرحّب بهم واحترمهم وفسح لهم
المجال ليمارسوا طقوسهم(السيرة الحلبية: 3 / 211، السيرة النبوية: 1 / 574.).
ثم عرض
عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلى
أن يباهلهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان ذلك بأمر من الله عزّ وجلّ واتفقوا على اليوم اللاحق موعداً.
وخرج
إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي
طالب امتثالاً لأمر الله تعالى الذي نصّ عليه الذكر الحكيم قائلاً: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران (3) : 61.) ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته
وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل
جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني.
وحين
أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قال لهم الرسول: أمّا إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على
المسلمين، فأبوا، فقال : إني أناجزكم القتال. فقالوا: ما لنا بحرب
العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك
في كل عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد،
فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل
نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل
نجران وأهله حتى الطّير على رؤوس الشّجر، ولما حال الحول على
النصارى كلهم حتى يهلكوا. فرجعوا إلى بلادهم دون أن يسلموا(التفسير الكبير (للرازي): 8 / 85 .).
وروي أن
السيد والعاقب من زعمائهم لم يلبثا إلاّ يسيراً حتى عادا إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعلنا إسلامهما(الطبقات الكبرى: 1 / 357.).
3 ـ حجة
الوداع :
كان
الرسول الأكرم القدوة الحسنة للإنسانية جمعاء، يبلّغ آيات الله ويفسّرها ويفصّل
أحكامها ببيان جلي، وجماهير المسلمين حريصة على الاقتداء به في القول والعمل.
وبحلول شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة عزم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على أداء فريضة الحج ـ ولم يكن قد حج من قبل وذلك ليطلع الأمة على
أحكام الله في فريضة الحج فتقاطرت ألوف المسلمين على المدينة وتجهّزوا للخروج مع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى بلغ عددهم ما يقارب مائة ألف مسلم من مختلف الحواضر والبوادي
والقبائل، تجمعهم المودة الصادقة والاُخوة الإسلامية والاستجابة لنداء الرسول
القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن كانوا بالأمس القريب أعداءاً متنافرين، جُهّالاً كافرين.
واصطحب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم معه كل نسائه وابنته الصديقة فاطمة الزهراء، وتخلّف زوجها علي بن أبي
طالب في مهمة بعثه بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري.
وفي
منطقة ذي الحليفة أحرم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلبس قطعتين من قماش أبيض ولبّى عند الإحرام قائلاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك،
لبيك لا شريك لك لبيك).
وفي
الرابع من شهر ذي الحجة الحرام شارف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة وقطع التلبية، ثم دخل المسجد الحرام وهو يكثر الثناء على الله
ويحمده ويشكره فأستلم الحجر وطاف سبعاً وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم ثم سعى بين
الصفا والمروة والتفت إلى الحجيج قائلاً: (من لم يَسُق منكم
هدياً فليحلّ وليجعلها عُمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه).
ولم
يستجب بعض المسلمين لأمر الرسول هذا ظناً منهم أنّ عليهم أن يفعلوا كما يفعل
الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم من عدم التحلّل من الإحرام، فغضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لموقفهم وقال: (لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما
أمرتكم)( بحار الأنوار: 21 / 319.).
وأقفل
علي بن أبي طالب عليهالسلام راجعاً
من اليمن إلى مكة ليلتحق برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد ساق معه (34) هدياً. وعلى مقربة من مكة تعجل لدخولها واستخلف أحد
افراد سريته عليها. وسرّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بلقاء عليّ وما حقّقه من نجاح باهر في اليمن وقال له: انطلق فطف بالبيت وحِلّ كما حلّ أصحابك. فقال عليهالسلام: يا رسول الله اني أهللت كما أهللت، ثم
قال عليهالسلام: إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهلّ بما
اهل به عبدك ونبيك ورسولك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثمّ أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعود إلى سريته ويصحبها إلى مكة، ولما قدموا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اشتكوا علياً عليهالسلام لأنه
كان قد رفض تصرّفاً خاطئاً فعلوه في غيابه، فأجابهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلاً: (أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن
في ذات الله من أن يشتكى)( السيرة النبوية: 2 / 603، بحار الأنوار: 21 / 385.).
وفي
اليوم التاسع من ذي الحجة توجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع جموع المسلمين نحو عرفات.
ومكث
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، ومع الظلام ركب ناقته وأفاض إلى
المزدلفة وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في
المشعر الحرام. ثمّ توجّه في اليوم العاشر إلى (منى) وأدّى مناسكها من رمي الجمرات
والنحر والحلق ثمّ توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.
وقد
سمّيت هذه الحجة بـ (حجة الوداع) لأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودّع المسلمين في هذه الحجة التي اشار فيها إلى دنوّ وفاته كما
سُمّيت بـ (حجة البلاغ) لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بلّغ فيها ما اُنزل إليه من ربّه في شأن الخلافة من بعده، ومنهم
من سمّاها بـ (حجة الإسلام) لأنها الحجّة الاُولى للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والتي بيّن فيها أحكام الإسلام الثابتة في مناسك الحج.
خطبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع :
وروي أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطب خطاباً جامعاً فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس اسمعوا مني اُبين لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي
هذا في موقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده
أمانة فليؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها وإنّ ربا الجاهلية موضوع، وإن أوّل رباً
أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم
أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير
السدانة والسقاية، والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمن
زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إنّ
الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحتقرون
من أعمالكم.
أيها الناس إنما
النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً
ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات
والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب
الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن
لنساءكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا
يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد
أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين
وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن
لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في
النساء واستوصوا بهنّ خيراً .
أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة فلا يحلّ لامرىً مال أخيه إلاّ عن طيب نفس. ألا هل بلغت؟ اللهم
اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض; فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم
به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن ربكم
واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس
لعربي على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فليبلّغ الشاهد منكم الغائب(بحار الأنوار: 21 / 405.).
أيها الناس إن الله
قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد
للفراش وللعاهر الحجر، من ادّعي إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً... والسلام عليكم
ورحمة الله)( العقد الفريد: 4 / 57، الطبقات الكبرى: 2 / 184، الخصال:
ص487، بحار الأنوار: 21 / 405، وقد ورد النص في مصادر السيرة والتأريخ مع اختلاف
بالزيادة والنقصان.).
4 ـ
تعيين الوصي(للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء الأوّل.) :
أتمّ
المسلمون حجّهم الأكبر وهم يحتفّون بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد
أخذوا مناسكهم عنه، وقرّر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعود إلى المدينة، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة (رابغ)
قرب (غدير خم) وقبل أن يتفرّق الحجيج ويرجعوا إلى بلدانهم من هذه المنطقة نزل
الوحي الإلهي بآية التبليغ الآمرة والمحذّرة: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة (5) : 67 .).
لقد حمل
هذا الخطاب الإلهي أمراً مهماً جدّاً فأي تبليغ مهم هذا قد طُلب من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم انجازه ولم يكن قد أنجزه إلى ذلك الحين؟ وقد أمضى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً يبلّغ آيات الله وأحكامه ويدعو الناس
إلى دين الله! وقد نال ما نال من عظيم المحن والبلاء والجهد، كي يقال له: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
وهنا
أصدر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوامره بأن تقف القوافل حتى يلحق آخرها بأولها في يوم قائظ يضطر
المرء فيه أن يلفّ رأسه وقدميه من شدة حرّ الرمضاء ليتلو عليهم أمر السماء ويتمم
تبليغ الرسالة الخاتمة. إنها الحكمة الإلهية أن يتم التبليغ في هذا المكان وفي هذا
الظرف كي يبقى عالقاً في وجدان الأمة، حيّاً في ذاكرتها على مرّ الزمن حفاظاً على
الرسالة والأمة الإسلامية.
وجمعت
الرحال وصنع منها منبر صعد عليه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن صلّى في جموع المسلمين فحمد الله واثنى عليه وقال بصوت رفيع
يسمعه كل من حضر: (أيها الناس يوشك أن اُدعى فأجيب وإني مسؤول وأنتم
مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك
الله خيراً. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده
ورسوله وأن جنته حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: اللهم أشهد.
ثم قال: صلىاللهعليهوآلهوسلم فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض وإنّ
عرضه مابين صنعاء وبُصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في
الثقلين.
فنادى
مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: الثقل الأكبر كتاب
الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا. والآخر الأصغر
عترتي. وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك
لهما ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ
بيد علي بن أبي طالب حتى رؤي بياض أبطيهما وعرفه الناس أجمعون. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟)
قالوا: الله ورسوله أعلم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من
أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه) ـ يقولها ثلاث مرات ـ .
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض
من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد
الغائب).
ثم لم
يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً) (المائدة (5): 3 .) فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب
برسالتي والولاية لعلي بعدي).
ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تنصب خيمة لعلي عليهالسلام وأن
يدخل عليه المسلمون فوجاً فوجاً ليسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس كلهم ذلك
وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك.
وكان في
مقدمة المهنّئين أبو بكر وعمر بن الخطاب، كلٌ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب
أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(راجع تأريخ اليعقوبي: 3 / 112، ومسند أحمد: 4 / 281،
البداية والنهاية: 5 / 213، وموسوعة الغدير: 1 / 43، 165، 196، 215، 230، 238،
276، 283، 285، 297، 379، 392، 402، والجزء: 11 / 131.).
5 ـ
ظهور المتنبئين :
تفرّقت
جموع الحجيج من منطقة غدير خم متّجهة نحو العراق والشام واليمن، واتّجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحو المدينة. وحمل الجميع وصية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخلافة والقيادة من بعده لربيبه علي بن أبي طالب عليهالسلام لتستمر حركة الرسالة الإسلامية بنهج نبويّ وتجتاز العقبات بعد رحيل
القائد الأوّل وذلك بعد أن عرّف بعليّ عليهالسلام في ذلك
اليوم التاريخي الخالد بل منذ يوم الدار حيث أ نّه وصفه بالوزير الناصح والأخ
المؤازر والعضد المدافع والخليفة الذي يجب على الناس من بعده أن يطيعوه ويتّبعوه
ويتّخذوه لأنفسهم قائداً وزعيماً.
وبعد أن
انبسط سلطان الدين وقويت مركزية القرار في المدينة لم يعد بأمر خطير نفور جماعة عن
الدين أو ارتداد أفراد عن التسليم لما جاء به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو وجود أفراد في الأطراف البعيدة عن المدينة يرون في عنصر الدين
وسيلة لتحقيق بعض آمالهم ورغباتهم المريضة.
من هنا
أخذ مسيلمة يدّعي النبوّة كذباً وكتب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كتاباً ذكر فيه أ نّه بُعث أيضاً ويطلب فيه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يشاركه في سلطان الأرض. ولما وقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على مضمون الرسالة التفت إلى من حملها إليه وقال: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما
برسالتي فلِمَ اتّبعتما هذا الأحمق وتركتما دينكما؟).
ثم ردّ
على مسيلمة الكذّاب برسالة كتب فيها: (بسم الله الرحمن
الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. السلام على من اتّبع الهدى، أما
بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)( السيرة النبوية: 2 / 600.).
وقد
أفلح المسلمون في القضاء على حركات الارتداد التي قام بها بعض الدجّالين مثل
الأسود العنسي ومسيلمة وطلحة.
6 ـ
التعبئة العامّة لغزو الروم(عقد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اللواء لاُسامة في صفر عام ( 11 هـ ) .) :
أبدى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اهتماماً كبيراً للحدود الشمالية للدولة الإسلامية حيث تتواجد دولة
الروم المنظمة وصاحبة الجيش القوي. ولم تكن دولة فارس ذات أثر مُقلق على الدولة
الإسلامية لأنّ علامات الانهيار كانت قد بدت عليها، كما أنها لم تكن تملك عقيدة
روحية تدافع عنها كالمسيحية لدى الروم، فهي التي كانت تشكّل خطراً على الكيان
الإسلامي الفتيّ، خاصة وأن بعض عناصر الشغب والنفاق قد أجليت عن الدولة الإسلامية
فذهبت إلى الشام ولحق بها آخرون، وكان وجود نصارى نجران عاملاً سياسياً يدفع الروم
لنصرتهم.
ومع ذلك
فإنّ كل هذه الاُمور لم تكن عوامل آنيّة تستدعي الاهتمام الكبير الذي ظهر واضحاً
من إعداد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لجيش كبير
ضمّ وجوه كبار الصحابة ما خلا علياً وبعض المخلصين معه فقد أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلو الجو السياسي من أمور قد تعيق عمليّة انتقال السلطة إلى علي
بن أبي طالب عليهالسلام للقيام
بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبيّ تحسّساً وانزعاجاً من بعض الأطراف بعد
تأكيده المستمر على مرجعيّة عليّ عليهالسلام
وصلاحيّته لإتمام مسيرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخصوصاً بعد بيعة الغدير، فأراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام علي عليهالسلام لزمام الدولة من بعده دون صِدام وشجار; ولهذا عقد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لواءً وسلّمه إلى أُسامة بن زيد ـ القائد الشاب الذي نصبه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في إشارة بليغة إلى أهمية الكفاءة في القيادة ـ وجعل تحت إمرته شيوخ
الأنصار والمهاجرين، وقال له: (سر إلى
موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فاُغز صباحاً على أهل اُبنى).
ولكنّ
روح التمرد والطمع في السلطان وقلّة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسليم
التام لأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعلّها كانت عارفة بالأهداف التي قصدها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن هنا حاولت أن تؤخّر حركة الجيش المجتمع في معسكر (الجرف). وبلغ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك فغضب وخرج ـ وهو ملتحف قطيفة، وقد عصَّبَ جبهته بعصابة من ألم
الحمّى التي أصابته ـ إلى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: ( أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن
طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان
للإمارة لَخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ
وإنّهما لمخيلان لكل خير(بمعنى أنهما ممن يتفرّس فيهما كل خير. والخوليّ: هو الراعي الحسن
القيام على المال.)، واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم)( الطبقات الكبرى: 2 / 190، ط دار الفكر.).
واشتدت
الحمى برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يُغفله ثقل المرض عن الاهتمام الكبير لخروج الجيش فكان يقول: (أنفذوا جيش أُسامة)( المصدر السابق.) لكل من
كان يعوده من أصحابه ويزيد إصراراً بقوله: (جهّزوا جيش أُسامة
لعن الله من تخلف عنه)( الملل والنحل : 1 / 23.). وأوصل
بعض المسلمين أنباء تدهور صحة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى معسكر المسلمين في الجرف فرجع أُسامة لِيعود النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فحثّه النبيّ على المضيّ نحو هدفه الذي رسمه له وقال له: (اُغد على بركة الله).
فعاد
أُسامة مسرعاً إلى جيشه يحثه على الرحيل والتوجه للقيام بالمهمة المخوّلة إليه
ولكن المتقاعسين وذوي الأطماع في الخلافة تمكّنوا من عرقلة مسيرة الجيش زاعمين أنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحتضر، بالرغم من تأكيد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتعجيل في المسير وعدم التردّد في المهمّة التي جعلها على عاتق جيش
أُسامة.
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة
1 ـ
الحيلولة دون كتابة الوصية :
ورغم
ثقل الحمى وألم المرض خرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مستنداً على علي عليهالسلام والفضل
بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق على الوصوليين الذين خطّطوا لمصادرة
الخلافة والزعامة التي طمحوا لها من قبل حيث تمرّدوا على أوامر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخروج مع جيش أُسامة بكل بساطة والتفت النبيّ ـ بعد الصلاة ـ إلى
الناس فقال: (أيها الناس سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل
المظلم، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولم
اُحرّم إلا ما حرّم الله)( السيرة النبوية: 2 / 954، الطبقات الكبرى: 2 / 215.) فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا
السيئة التي ستجلب الويلات للأُمة حين يتزعّمها جهّالها.
واشتد
مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واجتمع
الصحابة في داره ولحق بهم من تخلّف عن جيش أُسامة فلامهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على تخلّفهم واعتذروا بأعذار واهية. وحاول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطريقة أخرى أن يصون الأمة من التردّي والسقوط فقال لهم: ايتوني
بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر ابن الخطاب: إنّ رسول الله
قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله(صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد باب
جوائز الوفد.).
وهكذا
وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكن
وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: هن خير منكم(الطبقات الكبرى : 2 / 244 ، كنز العمال: 3 / 138.).
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
وكم
كانت الأمة بحاجة ماسة إلى كتاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا، حتى أن إبن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل
الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله(صحيح البخاري كتاب العلم: 1 / 22 و 2 / 14، الملل والنحل: 1
/ 22، الطبقات الكبرى: 2 / 244.).
ولم
يصرّ نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة
وإنكارهم لما هو أكبر، فقد علم صلىاللهعليهوآلهوسلم بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أبعد الذي قلتم؟!)( بحار الأنوار: 22 / 469.) وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنتين منها وهما:
إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد كما كان يجيزهم.
وعلّق
السيد محسن الأمين العاملي على ذلك قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشكّ في أن الثالثة
سكت عنها المحدّثون عمداً لا نسياناً وأنّ السياسة قد اضطرتهم إلى السكوت عنها
وتناسيها وأنّها هي طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم(أعيان الشيعة: 1 / 294 . راجع صحيح البخاري: باب مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
2 ـ الزهراء عليهاالسلام تزور أباها صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أقبلت
الزهراء عليهاالسلام وهي
تجر أذيال الحزن وتتطلع إلى أبيها وهو على وشك الالتحاق بربّه فجلست عنده منكسرة
القلب دامعة العين وهي تردد:
وأبيض
يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمالَ
اليتامى عصمة للأرامل |
وفي هذه
اللحظات فتح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عينيه وقال بصوت خافت: يا بنية هذا قول عمك
أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ) (آل عمران (3): 144 .).
وكأنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يريد بذلك أن يهيّىء ابنته فاطمة عليهاالسلام لما سيجري من أحداث مؤسفة فإن ذلك كان هو الأنسب لتلك من قول أبي
طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم إنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أومأ إلى حبيبته الزهراء عليهاالسلام أن
تدنو منه ليحدثها فانحنت عليه فسارّها بشيء فبكت ثم سارّها ثانية فضحكت. وقد أثارت
هذه الظاهرة فضول بعض الحاضرين فسألوها عن سرّ ذلك فقالت عليهاالسلام: ما كنت لاُفشي سرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولكنّها
سئلت بعد وفاة أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك
فقالت: أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا، فبكيت ثم أخبرني أني أول
أهله لحوقاً به فضحكت(الطبقات الكبرى: 2 / 247، الكامل في التأريخ: 2 / 219.).
3 ـ اللحظات
الأخيرة من عمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وكان
علي عليهالسلام ملازماً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ملازمة ذي الظل لظلّه حتى آخر لحظات حياته الشريفة وهو يوصيه ويعلّمه
ويضع سرّه عنده. وفي الساعة الأخيرة قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ادعوا لي أخي ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بعثه في حاجة فجاءه بعض المسلمين فلم يعبأ بهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى جاء علي عليهالسلام فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم له: اُدن مني. فدنا علي عليهالسلام فاستند
إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه حتى بدت عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم علامات الاحتضار(الطبقات الكبرى: 2 / 263.)،
وتوفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في حجر علي عليهالسلام . كما
قد صرّح بذلك علي عليهالسلام نفسه
في إحدى خطبه(نهج البلاغة: خطبة 197.) الشهيرة.
4 ـ وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومراسم دفنه :
ولم يكن
حول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في اللحظات الأخيرة إلاّ علي بن أبي طالب وبنو هاشم ونساؤه. وقد علم
الناس بوفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم من الضجيج والصراخ الذي علا من بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حزناً على فراق الحبيب، وخفقت القلوب هلعة لرحيل أشرف خلق الله.
وانتشر خبر الوفاة في المدينة انتشار النار في الهشيم ودخل الناس في حزن وذهول رغم
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد مهّد لذلك ونعى نفسه الشريفة عدّة مرات وأوصى الأمة بما
يلزمها من طاعة وليّها وخليفته من بعده علي ابن أبي طالب. لقد كانت وفاته صدمة
عنيفة هزّت وجدان المسلمين، فهاجت المدينة بسكانها وازدادت حيرة المجتمعين حول دار
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمام كلمة عمر بن الخطاب التي قالها وهو يهدد بالسيف: إنّ رجالاً من
المنافقين يزعمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد مات، إنه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن
عمران(الكامل في التأريخ: 2 / 323، الطبقات الكبرى : 2 / 266،
السيرة النبوية لزيني دحلان: 2 / 306.).
ورغم أ
نّه لا تشابه بين غياب موسى عليهالسلام ووفاة
النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكن
مواقف عمر التالية لعلّها تكشف النقاب عن إصراره على هذه المقارنة.
نعم ،
لم يهدأ عمر حتى قدم أبو بكر من السنح ودخل إلى بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فكشف عن وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخرج مسرعاً وقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات
ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت وتلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وهنا
هدأت فورة عمر وزعم أنه لم يلتفت إلى وجود مثل هذه الآية في القرآن الكريم(الطبقات الكبرى: 2 / القسم الثاني: 53 ـ 56.).
وأسرع
أبو بكر وعمر بن الخطاب مع بعض أصحابهما إلى سقيفة بني ساعدة بعد أن عرفا أنّ اجتماعاً
طارئاً قد حصل في السقيفة فيما يخصّ الخلافة بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. متناسين نصبُ عليّ بن أبي طالب وكذا بيعتهم إيّاه بالخلافة وغير
مدركين أنّ تصرفهم هذا يعدّ استخفافاً بحرمة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجسده المسجّى.
وأمّا
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وأهل
بيته فقد انشغلوا بتجهيز الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفنه فقد غسّله عليّ من دون أن ينزع قميصه وأعانه على ذلك العباس بن
عبد المطلب ابنه والفضل وكان يقول: بأبي أنت وأمي ما
أطيبك حيّاً وميّتاً(السيرة النبوية لابن كثير: 4 / 518.).
ثم
وضعوا جسد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على
سرير وقال علي عليهالسلام: إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إمامنا
حياً وميتاً فليدخل عليه فوج بعد فوج فيصلّون عليه بغير إمام وينصرفون. وأوّل من صلى على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علي عليهالسلام وبنو
هاشم ثم صلّت الأنصار من بعدهم(الإرشاد : 1 / 187 واعيان الشيعة : 1 / 295 .).
ووقف
علي عليهالسلام بحيال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم
إنّا نشهد أن قد بلّغ ما اُنزل إليه ونصح لأُمته وجاهد في سبيل الله حتى أعزّ الله
دينه وتمّت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتّبع ما أنزل الله إليه وثبّتنا بعده واجمع
بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، حتى صلّى عليه الرجال ثم النساء ثم
الصبيان(الطبقات الكبرى : 2 / 291 .).
وحفر
قبر للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحجرة التي توفي فيها. وحين أراد علي عليهالسلام أن ينزله في القبر نادت الأنصار من خلف الجدار: يا علي نذكرك الله
وحقّنا اليوم من رسول الله أن يذهب، أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة
رسول الله. فقال عليهالسلام: ليدخل أوس بن خولي، وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف.
ونزل
عليّ عليهالسلام إلى القبر فكشف عن وجه رسول الله ووضع خدّه على التراب، ثم أهال عليه
التراب.
ولم
يحضر دفن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
والصلاة عليه أحد من الصحابة الذين ذهبوا إلى السقيفة.
فسلامٌ
عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً.
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخاتمة
1 ـ
بماذا بعث النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (تجد هذا البحث في سيرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للسيد محسن الأمين العاملي في كتابه أعيان الشيعة.) ؟
بعث
الله تعالى نبيّه محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم على حين فترة من الرسل خاتماً للنبيين وناسخاً لشرائع من كان قبله من
المرسلين إلى الناس كافة أسودهم وأبيضهم عربيهم وعجميهم وقد ملئت الأرض من مشرقها
إلى مغربها بالخرافات والسخافات والبدع والقبائح وعبادة الأوثان.
فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم في وجه العالم كافة ودعا إلى الإيمان بإله واحد خالق رازق مالك لكل
أمر، بيده النفع والضر، لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ولم يتخذ
صاحبة، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
بعثه
آمراً بعبادته وحده لا شريك له مبطلاً عبادة الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا
تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تدفع عن أنفسها ولا عن غيرها ضراً ولا ضيماً، متمماً
لمكارم الأخلاق حاثاً على محاسن الصفات آمراً بكل حسن ناهياً عن كل قبيح.
2 ـ
سهولة الشريعة الإسلامية وسماحتها
واكتفى
من الناس بأن يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا بأحكام الإسلام. وكان قول هاتين
الكلمتين ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ) يكفي لأن يكون لقائله ما للمسلمين
وعليه ما عليهم .
3 ـ سمو
التعاليم الإسلامية
وبعث
بالمساواة في الحقوق بين جميع الخلق، وأنّ أحداً ليس خيراً من أحد إلا بالتقوى.
وبالإخوة بين جميع المؤمنين وبالكفاءة بينهم: تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم،
وبالعفو العام عمن دخل في الإسلام.
وسنّ
شريعة باهرة وقانوناً عادلاً تلقّاه عن الله تعالى فكان هذا القانون جامعاً لأحكام
عباداتهم ومعاملاتهم وما يحتاجونه في معاشهم ومعادهم وكان عبادياً اجتماعياً
سياسياً أخلاقياً لا يشذّ عنه شيء مما يمكن وقوعه في حياة البشر مستقبلاً ويحتاج
إليه بنو آدم، فما من واقعة تقع ولا حادثة تحدث إلاّ ولها فى الشريعة الإسلامية
أصل مسلّم عند المسلمين ترجع إليه .
على أن
العبادات في الدين الإسلامي لا تتمحض لمجرد العبادة ففيها منافع بدنية واجتماعية
وسياسية فالطهارة تفيد النظافة، وفي الصلاة رياضة روحية وبدنية، وفي صلاة الجماعة
والحج فوائد اجتماعية وسياسية ظاهرة، وفي الصوم فوائد صحية لا تنكر، والإحاطة
بفوائد الأحكام الإسلامية الظاهرة فضلاً عن الخفية أمر متعذّر أو عسير.
ولما في
هذا الدين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ورفع الحرج فيه
والاكتفاء بإظهار الشهادتين ولما في تعاليمه من السمو والحزم والجد دخل الناس فيه
أفواجاً وساد أهله على أعظم ممالك الأرض واخترق نوره شرق الأرض وغربها ودخل جميع
أقاليمها وأقطارها تحت لوائه ودانت به الأمم على اختلاف عناصرها ولغاتها.
ولم يمض
زمن قليل حتى أصبح ذلك الرجل الذي خرج من مكة مستخفياً وأصحابه يعذّبون ويستذلون
ويفتنون عن دينهم ، يعتصمون تارة بالخروج إلى الحبشة مستخفين واُخرى بالخروج إلى
المدينة متسللين، يدخل مكة بأصحابه هؤلاء في عمرة القضاء ظاهراً لا يستطيعون دفعه
ولا منعه ولم تمض إلاّ مدة قليلة حتى دخل مكة فاتحاً لها وسيطر على أهلها من دون
أن تراق محجمة دم بل ولا قطرة دم فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً وتوافدت عليه
رؤساء العرب ملقيةً إليه عنان طاعتها وكان من قبل هذا الفتح بلغ من القوة أن بعث
برسله وسفرائه إلى ملوك الأرض مثل كسرى وقيصر ومن دونهما ودعاهم إلى الإسلام وغزا
بلاد قيصر مع بُعد الشقة وظهر دينه على الدين كله كما وعده ربه حسبما صرّح تعالى
بذلك في سورة النصر، والفتح وغيرهما وكما تخبرنا بذلك كتب التاريخ.
ولم يقم
هذا الدين بالسيف والقهر كما يصوّره من يريد الوقيعة فيه بل كما أمر الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل (16): 125 .). ولم يحارب أهل مكة وسائر العرب حتى حاربوه وأرادوا قتله وأخرجوه،
وأقر أهل الأديان التي نزلت بها الكتب السماوية على أديانهم ولم يجبرهم على الدخول
في الإسلام .
4 ـ
القرآن الكريم
وانزل
الله تعالى على نبيّه حين بعثه بالنبوّة قرآناً عربيّاً مبيّناً لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه، وقد أعجز النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم به البلغاء وأخرس الفصحاء وتحدّاهم فيه فلم يستطيعوا معارضته وهم
أفصح العرب بل واليهم تنتهي الفصاحة والبلاغة، وقد حوى هذا الكتاب العزيز المنزل
من لدن حكيم عليم من أحكام الدين وأخبار الماضين وتهذيب الأخلاق والأمر بالعدل
والنهي عن الظلم وتبيان كل شيء ما جعله يختلف عن كل الكتب حتّى المنزّلة منها وهو
ما يزال يتلى على كر الدهور ومر الأيام وهو غض طري يحيّر ببيانه العقول ولا تملّه
الطباع مهما تكررت تلاوته وتقادم عهده.
وقد كان
القرآن الكريم معجزة فيما أبدع من ثورة علمية وثقافية في ظلمات الجاهلية الجهلاء
وقد أرسى قواعد نهضته على منهج علمي قويم ، فحثّ على العلم وجعله العامل الأوّل
لتسامي الإنسان نحو الكمال اللائق به وحثّ على التفكير والتعقّل والتجربة والبحث
عن ظواهر الطبيعة والتعمق فيها لاكتشاف قوانينها وسننها وأوجب تعلّم كل علم تتوقف
عليه الحياة الاجتماعية للإنسان واهتم بالعلوم النظرية من كلام وفلسفة وتاريخ وفقه
وأخلاق، ونهى عن التقليد واتباع الظن وأرسى قواعد التمسك بالبرهان .
وحثّ
القرآن على السعي والجد والتسابق في الخيرات ونهى عن البطالة والكسل ودعا إلى
الوحدة ونبذ الفرقة . وشجب العنصرية والتعصبات القبلية الجاهلية .
وأقرّ
الإسلام العدل كأساس في الخلق والتكوين والتشريع والمسؤولية وفي الجزاء والمكافأة
، وهو أوّل من نادى بحق المساواة بين أبناء الإنسان أمام قانون الله وشريعته وأدان
الطبقية والتمييز العنصري وجعل ملاك التفاضل عند الله أمراً معنويّاً هو التقوى
والاستباق إلى الخيرات، من دون أن يجعل هذا التفاضل سبباً للتمايز الطبقي بين
أبناء المجتمع البشري .
وبالغ
الإسلام في حفظ الأمن والمحافظة على الأموال والدماء والأعراض وفرض العقوبات
الشديدة على سلب الأمن بعد أن شيّد الأرضية اللازمة لاستقرار الأمن والعدل وجعل
العقوبة آخر دواء لعلاج هذه الأمراض الاجتماعية بنحو ينسجم مع الحرية التي شرّعها
للإنسان . ومن هنا كان القضاء في الشريعة الإسلامية مرتكزاً على إقرار العدل
والأمن وإحقاق الحقوق المشروعة مع كل الضمانات اللازمة لذلك .
واعتنى
الإسلام بحفظ الصحة والسلامة البدنية والنفسية غاية الاعتناء وجعل تشريعاته كلها
منسجمة مع هذا الأصل المهم في الحياة .
5 ـ
الواجبات والمحرمات في الشريعة الإسلامية :
وترتكز
الواجبات والمحرّمات في الشريعة الإسلامية على أسس فطرية واقعية وأمور تستلزمها
طبيعة الأهداف السامية للشريعة التي جاءت لإخراج هذا الإنسان من ظلمات الجاهلية
وهدايته إلى نور الحق والكمال ، ولا تحتاج الإنسانية إلى شيء يرتكز عليه الكمال
البشري إلاّ وأوجبته الشريعة الإسلامية على الإنسان وهيّأت له سبل الوصول إليه ،
وحرّمت كل شيء يعيق الإنسان عن السعادة الحقيقية المنشودة له وسدّت كل منافذ
السقوط إلى هوّة الشقاء .
وأباحت
الطيبات ولذائذ الحياة الدنيا وزينتها ممّا لا يخلّ بأصول الشريعة ومدارج الكمال
البشري وحدّدت قنواتها حين حدّدت الأهداف السامية وحرّمت ما يضرّ وأوجبت ما ينبغي
للإنسان امتثاله .
ومع ذلك
كله فقد اعتبرت الشريعة مكارم الأخلاق أهدافاً أساسيّة ينبغي للإنسان الذكي اللبيب
أن يحصل عليها في هذه الحياة الدنيا ليسعد بها في الدنيا ويحيا بها في الآخرة ذات
الحياة الأبدية الدائمة.
واعتنى
الإسلام بالمرأة اعتناءً بالغاً وجعلها ركن العائلة وأساس السعادة في الحياة الزوجية
وشرّع لها من الحقوق والواجبات ما يضمن لها عزّتها وكرامتها وتحقيق سعادتها وسعادة
أبنائها ومجتمعها الإنساني .
وصفوة
القول أنّ الإسلام لم يغفل عن تشريع كل ما يحتاجه المجتمع البشري في تكامله
وارتقائه.
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال
تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة (62): 2 .).
لقد
تجلت لنا ـ من خلال دراسة التاريخ الإسلامي ـ الثمار العظيمة لهذه البعثة الإلهية
لخاتم النبيين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث
أسفرت نبوته عن:
1 ـ
رسالة إلهية شاملة قام بتبليغها إلى البشرية عامّة.
2 ـ
اُمّة مسلمة تحمل مشعل الرسالة وعبير النبوة إلى سائر الأُمم.
3 ـ
ودولة إسلامية ذات كيان سياسي مستقل ونظام إلهي فريد.
4 ـ
وقيادة معصومة تخلف الرسول القائد وتمثّله خير تمثيل.
وإذا
قصرنا النظر على التراث المسموع أو المكتوب والمدوّن وكان تعريفنا لتراث الرسول
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه: كل ما قدّمه إلى البشرية والأمة الإسلامية من عطاء مقروء أو
مسموع، فينبغي لنا أن نصنّف ما قدّمه
إليهم إلى :
1 ـ
القرآن الكريم .
2 ـ
السنّة الشريفة.
ويشترك
العطاءان بأنهما من فيض السماء على الإنسان بتوسط هذا الرسول الكريم. فهما وحي
الله على قلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي لم ينطق عن الهوى.
ويتميّز
القرآن الحكيم أولاً بأن شكله ومحتواه (نصّه ومضمونه) معاً من الله تعالى،
فالصياغة إلهية معجزة كما أنّ مضمونه كذلك. على أن جمعه وتدوينه ـ كما هو الصحيح
والثابت تأريخياً ـ قد تمّ في عصر الرسول نفسه وقد تواتر إلينا نصّه بشكل كامل غير
محرّف.
والوثائق
التاريخية الدالّة على تدوين النص القرآني في عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم غير قليلة، نكتفي بنص قرآني وآخر غير قرآني على ذلك.
فالأول: قوله
تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان (25): 5.).
والثاني: ما روي
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام حيث
قال: (... ما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني
تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها، ودعا الله
أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ
دعا لي بما دعا)( الكافي : 1 / 62 ـ 63 كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.).
والمسلمون
جميعاً متفقون على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بلّغ
القرآن كاملاً، وأن القرآن المتداول اليوم بين المسلمين هو الذي كان متداولاً في
عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم
يُزَد فيه شيء ولم ينقص منه شيء.
وأمّا
السنة الشريفة والحديث النبوي، فهو بشريّ الصياغة إلهيّ المضمون، ويتميّز بالفصاحة
الكاملة وتتجلى فيه عظمة الرسول وكماله وعصمته والتسديد الإلهي له.
ومن هنا
كان القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للتشريع والينبوع الأساسي للمعرفة التي
تحتاجها البشرية على مدى الحياة. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة (2): 120 .).
واعتبر
القرآن الكريم السُنّة الشريفة ثاني مصدر للتشريع الربّاني حيث اعتبرت سنّة النبي
الكريم مصدراً تشريعياً تالياً للقرآن باعتبار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مفسّراً للذكر الحكيم وأسوة حسنة يُقتدى بها، وعلى الناس أن يأخذوا
بأوامره وينتهوا عن نواهيه(النحل (16): 44 ، والأحزاب (33): 21 والحشر (59): 7 .).
ولكن
السنّة النبوية ـ وللأسف ـ لقيت بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وبالذات عصر الخلفاء الأوائل وضعاً سيئاً حيث أقدم أبو بكر وعمر على
منع تدوين حديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقاما بحرق ما دوّنه بعض الصحابة بحجة أن ذلك النهي جاء منهما ـ
ومن عمر بالذات ـ حرصاً منهما على القرآن الكريم لأن تدوين السنّة والاهتمام بها
يؤدي بالتدريج إلى الغفلة عن القرآن أو إلى ضياع القرآن من حيث التباسه بالحديث .
ولكن
أهل البيت وأتباعهم وكثير من المسلمين قد تعاملوا مع سنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم التعامل اللائق بها من الاحترام والتقديس مستلهمين ذلك من القرآن
الكريم، ومن هنا أخذوا يتداولونها حفظاً وتحديثاً وتدويناً وتطبيقاً بالرغم من
الحظر الرسمي للتدوين. الذي كان لسبب آخر ـ كما يبدوـ غير ما ذكر من الأسباب. حيث خالف العلماء والخلفاء فيما بعد ذلك الحظر
وراحوا يحثّون على التدوين.
وأول من
بادر إلى تدوين السنة الشريفة واعتنى بها أشدّ الاعتناء هو ربيب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ووصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام. قال: (وقد كنت أدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها، أدور معه حيثما دار. وقد
علم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه لم
يصنع ذلك بأحد من الناس غيري... وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ وفنيت مسائلي
ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية من
القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها... وما
ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون منزلاً على
أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علّمنيه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً...)( بصائر الدرجات : 198 والكافي: 1 / 62 ـ 63 .).
وتمثّلت
مدوّنات الامام عليّ عليهالسلام مما
أملاه عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ما يسمّى بكتاب علي وما يسمّى بالجامعة أو الصحيفة.
قال أبو
العباس النجاشي المتوفى سنة ( 450 هـ ) : أخبرنا محمد بن جعفر (النحوي التميمي وهو
شيخه في الإجازة) مسنداً إلى عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي
جعفر عليهالسلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليهالسلام له مكرّماً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر عليهالسلام: يا بني قم فاخرج
كتاب علي عليهالسلام ،
فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة فقال أبو جعفر عليهالسلام: هذا خط علي عليهالسلام وإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقبل على الحكم وقال: يا أبا
محمد، اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم
أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل عليهالسلام (تاريخ التشريع الإسلامي: 31 .).
وعن
إبراهيم بن هاشم مسنداً إلى أبي جعفر عليهالسلام: في كتاب علي كل شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش(المصدر السابق : 33 .).
وأما
صحيفة عليّ عليهالسلام أو
الجامعة فهي مدوّنة أخرى لعلي عليهالسلام على
جلد طوله سبعون ذراعاً فعن أبي بصير: أنه قال له الإمام الصادق عليهالسلام فيما قال له: وأن عندنا الجامعة، صحيفة طولها سبعون ذراعاً
بذراع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي عليهالسلام
بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش(تاريخ التشريع الإسلامي : 32 .).
هذا هو
موقف أهل البيت عليهمالسلام من
السنّة الشريفة .
وأما
الموقف الحكومي الرسمي في خلافة الشيخين فقد ترك آثاراً سلبية كبيرة حيث استمرّ
هذا الحظر إلى ما لا يقلّ عن قرن واحد وأدّى إلى ضياع كثير منها، وفتح الباب أمام
تسرّب الإسرائيليات إلى مصادر الثقافة عند المسلمين، كما وأنتج انفتاح باب الرأي
والاستحسان على مصراعيه حتى غدا الرأي مصدراً من مصادر التشريع بل قد قدّمه البعض
حتى على نصوص السنّة النبوية الشريفة; إذ لم يصمد كثير من النصوص أمام النقد
العلمي. وهذا قد أدّى بدوره إلى شحّة النصوص النبوية الصحيحة عند أهل السنّة وعدم
وفائها بما تحتاجه الأمة في عصورها المقبلة.
ولكن
أهل البيت عليهمالسلام قد وقفوا أمام هذا التيّار الجارف بكل حزم واستطاعوا أن يحفظوا
السنّة الشريفة من الضياع عند المؤمنين من خلال توجيهاتهم وحسب ما تقتضيه إمامتهم
وخلافتهم الشرعية فإنّ أولى مهامّ الإمام والخليفة المنصوص هو حفظ الشريعة ونصوصها
من الضياع.
ومن هنا
لزم على الباحث عن السنّة النبوية الرجوع إلى مصادر السنّة عند أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم فإنهم أدرى بما في البيت.
والسنة
الشريفة عند أهل البيت عليهمالسلام تغطّي
جميع أبواب العقيدة والفقه والأخلاق والتربية وكل ما تحتاجه البشرية في كل مجالات
الحياة.
وقد
صرّح الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام حفيد
الرسول الأعظم بهذه الحقيقة فقال: (ما من
شيء إلاّ وفيه كتاب أو سُنّةٌ ) (الكافي : 1 / 48 .).
نماذج من تراث سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ
العقل والعلم :
1 ـ لقد
اهتم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعقل أشدّ الاهتمام، فعرّفه وبيّن وظيفته ودوره في الحياة: على
مستوى التكليف والمسؤولية، وعلى مستوى العمل والجزاء، كما بيّن عوامل رشده
وتكامله، فقال:
(إن العقل عقالٌ من
الجهل، والنفس مثل أخبث الدوّاب، فإن لم يعقل حارت، فالعقل عقالٌ من الجهل، وإن
الله خلق العقل، فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال له الله تبارك
وتعالى: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعظم منك ولا أطوع منك، بك أُبدي وأعيد، لك
الثواب وعليك العقاب.
فتشعّب من العقل
الحلم، ومن الحلم العلم، ومن العلم الرشد، ومن الرشد العفاف، ومن العفاف الصيّانة،
ومن الصيّانة الحياء، ومن الحياء الرزانة، ومن الرزانة المداومة على الخير،
وكراهية الشر، ومن كراهية الشرّ طاعة الناصح.
فهذه عشرة أصناف من
أنواع الخير، ولكل واحد من هذه العشرة الأصناف عشرة أنواع...)( راجع تمام الحديث في تحف العقول، باب مواعظ النبي وحكمه.
وروي أنّ شمعون بن لاوي المسيحي دخل على رسول الله وناقشه طويلا ثم اعتنق الإسلام
فقال: أخبرني عن العقل ما هو؟ وكيف هو؟ وما يتشعب منه وما لا يتشعب، وصفه وصف لي
طوائفه كلها، فقال الرسول: ... إن العقل عقال من الجهل ... . راجع أيضاً كلمة الرسول الأعظم: 91.).
2 ـ واهتم الرسول
الرائد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعلم والمعرفة، مبيّناً دور العلم في الحياة وقيمته اذا ما قيس إلى
سائر أنواع الكمال، فقال:
(طلب العلم فريضة
على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانِّه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعليمه لله حسنة،
وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة،
وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى; لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنّة،
والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على
السّرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاّء. يرفع الله به
أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم، ويُهتدى بفعالهم، وينتهى إلى
رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم. بأجنحتها تمسحهم ، وفي صلاتها تبارك عليهم.
يستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامّه، وسباع البر وأنعامه. إن العلم
حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظُّلمة، وقوة الأبدان من الضعف. يبلغ
بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العُلى في الدنيا والآخرة. الذكر
فيه يُعدَل بالصيام، ومدارسته بالقيام. به يطاع الرب، وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف
الحلال والحرام. العلم إمام العمل والعمل تابعه. يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء،
فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظّه.
وصفة
العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه، ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق من
فوقه في طلب البر. وإذا أراد أن يتكلم تدبّر، فإن كان خيراً تكلم فغنم، وإن كان
شرّاً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى
فضيلة انتهز بها. لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يُعرف بها
العاقل.
وصفة
الجاهل أن يظلم من خالطه، ويتعدّى على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه. كلامه
بغير تدبّر، إن تكلّم أثم، وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنة سارع إليها فأردته، وإن رأى
فضيلة أعرض عنها وأبطأ عنها. لا يخاف ذنوبه القديمة، ولا يرتدع فيما بقي من عمره
من الذنوب. يتوانى عن البرّ ويبطئ عنه، غير مكترث لما فاته من ذلك أو ضيّعه، فتلك عشر
خصال من صفة الجاهل الذي حُرِم العقل(بحار الأنوار: 1 / 171 طبعة مؤسسة الوفاء، وراجع تحف العقول
: 28 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.).
2 ـ
مصادر التشريع :
3 ـ لقد
رسم خاتم الرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم للناس جميعاً طريق السعادة الحقيقية وضمن لهم الوصول اليها فيما اذا
التزموا بالتعليمات التي بيّنها لهم. ويتلخّص طريق السعادة عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسك بأصلين أساسيين لا غنى بأحدهما عن الآخر وهما الثقلان، حيث
قال:
(أيّها النّاس!
إنّي فرطكم، وانتم واردون عليّ الحوض، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين، فانظروا: كيف
تخلّفوني فيهما؟ فإن اللّطيف الخبير نبّأني: أنّهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت
ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لا
تسبقوهم فتفرَّقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم، فإنهم أعلم منكم.
أّيها الناس! لا
ألفينّكم بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، فتلقوني في كتيبة كمجرّ السيل
الجرّار. ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما
قاتلت على تنزيله)( أعيان الشيعة : 2 / 226 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 101 ـ 102 .).
القرآن
ودوره المتميّز :
4 ـ
وأفصح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تبليغ بيانه عن عظمة القرآن الكريم مبيّناً دوره في الحياة وقيمة
التمسك التامّ به حيث خاطب عامّة البشرية قائلاً:
(أيّها الناس! إنكم
في دار هدنة، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار،
والشمس والقمر، يبليان كل جديد، ويقرِّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكل وعد ووعيد، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز. إنّها دار بلاء
وابتلاء، وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الاُمور كقطع
الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق. من جعله أمامه قاده
إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار، ومن جعله الدليل يدلّه على السبيل. وهو
كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل. هو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم
الله، وباطنه علم الله تعالى، فظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه
تخوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على
المعرفة لمن عرف الصفة، فليُجِلْ جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب،
ويتخلّص من نشب; فإن التفكّر حياة قلب البصر، كما يمشي المستنير في الظلمات
بالنّور، فعليكم بحسن التخلّص، وقلة التربص)( تفسير
العياشي : 1/ 2 ـ 3 ، كنز العمّال : 2/288 ، الحديث 4027.).
أهل البيت عليهمالسلام أركان الدين
5 ـ
وعرّف الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم الثقل الكبير ـ أي أهل بيت الرسالة: عليٌ وبنوه الأحد عشر ـ بأنواع
التعريف، وكان مما قاله في آخر خطبة خطبها:
(يا معشر المهاجرين
والأنصار! ومن حضرني في يومي هذا، وفي ساعتي هذه، من الجنّ والإنس فليبلغ شاهدكم
الغائب: ألا قد خلّفت فيكم كتاب الله. فيه النّور، والهدى، والبيان، ما فرّط الله
فيه من شيء، حجة الله لي عليكم. وخلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين، ونور الهدى،
وصيّي: علي بن أبي طالب، ألا وهو حبل الله، فاعتصموا به جميعاً، ولا تفرقوا عنه، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) )( آل عمران (3): 103 .).
أيّها الناس! هذا
عليّ بن أبي طالب، كنز الله، اليوم وما بعد اليوم، من أحبّه وتولاّه اليوم وما بعد
اليوم، فقد أوفى بما عاهد عليه، وأدَّى ما وجب عليه، ومن عاداه اليوم وما بعد
اليوم، جاء يوم القيامة أعمى وأصمّ، لا حجّة له عند الله.
أيّها الناس! لا
تأتوني غداً بالدنيا، تزفّونها زفّاً، ويأتي أهل بيتي شعثاء غبراء، مقهورين
مظلومين، تسيل دماؤهم أمامكم، وبيعات الضلالة والشورى للجهالة في رقابكم.ألا وإن
هذا الأمر له أصحاب وآيات، قد سمّاهم الله في كتابه، وعرّفتكم، وبلّغتكم ما أرسلت
به إليكم، ولكنّي أراكم قوماً تجهلون. لا ترجعنّ بعدي كفّاراً مرتدّين، متأوّلين
للكتاب على غير معرفة، وتبتدعون السّنّة بالهوى; لأنّ كل سنّة وحديث وكلام خالف
القرآن فهو ردّ وباطل.
القرآن إمام هدى،
وله قائد يهدي إليه، ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. وهو وليّ الأمر بعدي،
ووارث علمي وحكمتي، وسرّي وعلانيتي، وما ورّثه النبيّون من قبلي، وأنا وارث ومورث،
فلا يكذبنّكم أنفسكم.
أيّها الناس! الله
الله في أهل بيتي; فإنّهم أركان الدين، ومصابيح الظلم، ومعدن العلم; عليّ أخي،
ووارثي، ووزيري، وأميني، والقائم بأمري، والموفي بعهدي على سنّتي. أوّل النّاس بي
إيماناً، وآخرهم عهداً عند الموت، وأوسطهم لي لقاءاً يوم القيامة، فليبلّغ شاهدكم
غائبكم ألا ومن أمّ قوماً إمامة عمياء، وفي الأمة من هو أعلم، فقد كفر.
أيّها النّاس! ومن
كانت له قبلي تبعةٌ فيما أنا، ومن كانت له عدة، فليأت فيها عليّ بن أبي طالب،
فإنّه ضامن لذلك كلّه، حتى لا يبقى لأحد عليّ تباعة)( آخر خطبة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. راجع بحار الأنوار : 22/484 ـ 487.).
3 ـ
أصول العقيدة الإسلامية
الخالق لا يوصف:
(إنّ الخالق لا
يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام
أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به ؟ جلّ عمّا يصفه الواصفون،
ناء في قربه، وقريب في نأيه، كيّف الكيفيَّة فلا يقال له كيف؟ وأيَّن الأين فلا يقال
له أين؟ هو منقطع الكيفوفيَّة والأينونيَّة، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه،
والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)( بحار الأنوار : 2 / 94 ، الكفاية، أبو المفضل الشيباني عن
أحمد بن مطوق بن سوار عن المغيرة بن محمد ابن المهلب عن عبد الغفار بن كثير عن
إبراهيم بن حميد عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال: قدم يهودي على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يقال له: نعثل. فقال: يا محمد إني أسألك عن أشياء تلجلج
في صدري منذ حين، فإن أنت أجبتني عنها، أسلمت على يدك. قال: سل يا أبا عمارة!
فقال: يا محمد صف لي ربك. فقال:..).
شروط التوحيد :
(إذا قال العبد:
(لا إله إلاّ الله) فينبغي أن يكون معه تصديق وتعظيم، وحلاوة وحرمة، فإذا قال: (لا
إله إلاّ الله) ولم يكن معه تعظيم، فهو مبتدع. وإذا لم يكن معه حلاوة فهو مراء.
وإذا لم يكن معه حرمة فهو فاسق)( كلمة الرسول الأعظم : 30 .).
رحمة الله :
(إن رجلين كانا في
بني إسرائيل، أحدهما مجتهد في العبادة والآخر مذنب، فجعل يقول المجتهد: أقصر عمّا
أنت فيه، فيقول: خلّني وربي، حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه، فقال: أقصر، قال:
خلّني وربي، أبُعثت عليّ رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة.
فبعث الله إليهما ملكاً، فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: اُدخلالجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على
عبدي رحمتي ؟ فقال: لا يا ربّ. قال: اذهبوا به إلى النّار)( كلمة
الرسول الأعظم : 31 .).
لا جبر ولا اختيار
:
(إنّ الله لا يطاع
جبراً، ولا يعصى مغلوباً، ولم يهمل العباد من المملكة، ولكنه القادر على ما أقدرهم
عليه، والمالك لما ملّكهم إياه; فإن العباد إن ائتمروا بطاعة الله لم يكن منها
مانع، ولا عنها صاد، وإن عملوا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبينها فعل، وليس من
شاء أن يحول بينك وبين شيء ولم يفعله، فأتاه الذي فعله كان هو الذي أدخله فيه)( بحار الأنوار : 77/140.).
الخاتمية:
(فُضِّلت على
الأنبياء بستّ : اُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب من مسيرة شهر، واُحلّت لي
الغنائم. وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. واُرسلت إلى الخلق كافّة. وخُتم بي
النبيّون)( المصدر السابق : 16/324 .).
إنّ الله اصطفاني :
(إن الله اصطفى من
وُلد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة
قريشاً. واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، قال الله تبارك وتعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))( كلمة الرسول الأعظم : 35 . راجع بحار الأنوار : 16/323.).
مثلي مثل الغيث :
(إنّ مثل ما بعثني
به ربّي من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، منها طائفة طيّبة، فقبلت الماء
فأنبتت العشب والكلأ الكبير، وكانت منها أجادب امسكت الماء، فنفع الله بها الناس
فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنّما هي قيعات، لا تمسك ولا
تُنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، وتفقّه فيما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل
من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي اُرسلت به)( بحار الأنوار : 1/184.).
الإمام بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
(يا عمّار! إنّه
سيكون بعدي هنات، حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يبرأ
بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني: عليّ بن أبي طالب، فإن
سلك الناس كلّهم وادياً، وسلك عليُّ وادياً فاسلك وادي عليّ، وخلّ عن الناس.
يا عمّار! إن
عليّاً لا يردّك عن هدى، ولا يدلّك على ردى.
يا عمّار! طاعة
عليّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله)( مجمع البيان : 3 / 534 ، روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعمار بن ياسر: ...).
(من ظلم عليّاً
مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي، ونبوّة الأنبياء قبلي)( المصدر السابق : 3 / 534 ، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم
أبي القاسم الحسكاني عن أبي الحمد مهدي ابن نزار الحسني حدثني محمد بن القاسم بن
أحمد عن أبي سعيد محمد بن الفضيل بن محمد عن محمد بن صالح العرزمي عن عبد الرحمن
بن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (وَاتَّقُوا فِتْنَةً): قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: ...).
فضل عليّ عليهالسلام :
(لولا أنّني أشفق
أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا
تمرُّ بملأ منهم إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك).( الإرشاد : 1 / 165 ، قاله لأمير المؤمنين، بعد ما فتح الله
على يديه في غزوة ذات السلاسل.)
الأئمة بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
(الأئمة بعدي من
عترتي بعدد نقباء بني إسرائيل، وحواريي عيسى، من أحبهم فهو مؤمن ومن أبغضهم فهو
منافق، هم حجج الله في خلقه وأعلامه في بريّته)( كفاية الأثر: 166، أبو المفضل الشيباني عن أحمد بن عامر بن
سليمان الطائي عن محمد بن عمران الكوفي عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن صفوان بن
يحيى عن إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين
عن أبيه الحسين بن علي عن أخيه الحسن ابن علي عليهمالسلام ، قال: قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ...).
أئمة الحق :
(يا علي! أنت
الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذامضيت فابنك الحسن أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى
الحسين فابنه عليّ بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
فإذا مضى جعفر فابنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى موسى فابنه عليّ
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
فإذا مضى محمد فابنه عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، يفتح الله به مشارق الأرض ومغاربها، فهم أئمة الحق، وألسنة الصدق، منصورٌ
مننصرهم، مخذول من
خذلهم)( كفاية الأثر : 195 ـ 196، عن الحسين بن علي، عن هارون بن
موسى عن محمد بن إسماعيل الفزاري، عن عبد الله بن الصالح كاتب الليث، عن رشد بن
سعد، عن الحسين بن يوسف الأنصاري، عن سهل بن سعد الأنصاري قال: سئلت فاطمة بنت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الأئمة فقالت: كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لعلي: ... وروى نصّين آخرين عن جابر الأنصاري فراجع.).
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يبشّر بالمهديّ عليهالسلام :
روى
أحمد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً
وعدواناً ثمّ يخرج من عترتي من يملأها قسطاً وعدلاً...)( راجع مسند أحمد : 3 / 425 ، الحديث 10920 ..
وجاء عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: دفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الراية يوم خيبر إلى علي ففتح الله على يده ثم في غدير خم أعلم الناس
أنه مولى كل مؤمن ومؤمنة. وساق الحديث وذكر شيئاً من فضائل علي وفاطمة والحسن
والحسين إلى أن قال: (أخبرني جبرئيل أنهم يُظلمون بعدي وأنّ ذلك
الظلم يبقى حتى إذا قام قائمهم وعلت كلمتهم واجتمعت الأمة على محبتهم وكان الشانئ
لهم قليلاً والكاره لهم ذليلاً وكثر المادح لهم وذلك حين تغيّر البلاد وضعف العباد
واليأس من الفرج فعند ذلك يظهر القائم المهدي من ولدي بقوم يظهر الله الحق بهم
ويخمد الباطل بأسيافهم ـ إلى أن قال ـ: (معاشر الناس أبشروا بالفرج فإن وعد الله
حق لا يخلف ، وقضاءه لا يرد وهو الحكيم الخبير وان فتح الله قريب)( ينابيع المودّة : 440.).
وعن أم
سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)( المصدر السابق : 430 عن أبي داود في صحيحه : 4 / 87 .).
وجاء عن
حذيفة بن اليمان أنه قال: خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فذكر لنا ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى
يبعث الله رجلاً من ولدي اسمه اسمي، فقام سلمان وقال: يا رسول الله
إنه من أي ولدك؟ قال: هو من ولدي هذا وضرب بيده على الحسين(البيان في أخبار صاحب الزمان للحافظ أبي عبد الله محمد بن
يوسف بن محمد النوفلي : 129.).
4 ـ أصول التشريع
الإسلامي في تراث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم (تراجع هذه النصوص وغيرها في أعيان الشيعة : 1/303ـ306.)
ألف ـ خصائص
الإسلام :
1 ـ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه .
2 ـ الإسلام يجُبّ ما قبله .
3 ـ الناس في سعة ما لم يعلموا .
4 ـ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
5 ـ رفع القلم عن ثلاثة : الصبي والمجنون والنائم .
ب ـ العلم ومسؤولية
العلماء :
1 ـ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
2 ـ من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.
3 ـ من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار .
4 ـ من أفتى بما لا يعلم لعنته ملائكة السماء والأرض .
5 ـ كل مفت ضامن
.
6 ـ كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سببها إلى النار .
7 ـ من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين .
8 ـ تعلّموا الفرائض وعلّموها الناس فإنها نصف العلم .
9 ـ إذا أتاكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه
فاضربوا به عرض الحائط .
10 ـ إذا ظهرت البدعة فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله .
ج ـ قواعد عامة
للسلوك الإسلامي :
1 ـ لا رهبانية في الإسلام .
2 ـ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
3 ـ لا دين لمن لا تقيّة له .
4 ـ لا خير في النوافل إذا أضرّت بالفرائض .
5 ـ في كل أمر مشكل القرعة .
6 ـ إنّما الأعمال بالنّيات .
7 ـ نيّة المرء أبلغ من عمله .
8 ـ أفضل الأعمال أحمزها .
9 ـ من دان بدين قوم لزمه حكمهم .
10 ـ من سنّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر العامل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ
سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر العامل بها إلى يوم القيامة .
د ـ خطوط عامة في
القضاء والمحاكمات :
1 ـ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران .
2 ـ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز .
3 ـ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر .
4 ـ لا يمين إلاّ بالله .
5 ـ ادرؤا الحدود بالشبهات .
6 ـ من قتل دون ماله فهو شهيد .
7 ـ على اليد ما أخذت حتى تؤدّي .
8 ـ جناية العجماوات جبار .
9 ـ لا يؤاخذ الرجل بجريرة ابنه، ولا ابن بجريرة أبيه .
10 ـ الناس مسلّطون على أموالهم .
هـ ـ العبادات في
خطوطها العريضة :
1 ـ إنّ عمود الدين الصلاة .
2 ـ خذوا عني مناسككم .
3 ـ صلّوا كما رأيتموني أصلي .
4 ـ زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم .
5 ـ زكاة الفطرة على كل ذكر وأنثى .
6 ـ جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً
.
7 ـ جنّبوا مساجدكم بيعكم وشراءكم وخصوماتكم .
8 ـ سياحة أمتي الصوم .
9 ـ كل معروف صدقة .
10 ـ أفضل الجهاد كلمة حق بين يدي سلطان جائر .
و ـ من أصول النظام
العائلي :
1 ـ النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي .
2 ـ تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأُمم يوم القيامة .
3 ـ تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه عرش الرحمن .
4 ـ تخيّروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم .
5 ـ الولد للفراش وللعاهر الحجر .
6 ـ جهاد المرأة حسن التّبعّل لزوجها .
7 ـ ليس على النساء جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا عيادة مريض ولا
هرولة بين الصفا والمروة ولا جهاد ولا استلام الحجر ولا تولّي القضاء ولا الحلق
.
8 ـ المتلاعنان لا يجتمعان أبداً .
9 ـ قذف المحصنة يحبط عمل مئة سخينة .
10 ـ الرضاع ما أنبت اللحم وشدّ العظم .
11 ـ علّموا أولادكم السباحة والرمي .
12 ـ من كان عنده صبيّ فليتصابّ له .
ز ـ نقاط مضيئة من
النظام الاقتصادي الإسلامي :
1 ـ العبادة سبعة أجزاء أفضلها طلب الحلال .
2 ـ الفقه ثم المتجر .
3 ـ ملعون من ألقى كلّه على الناس .
4 ـ ابدأ بمن تعول .
5 ـ اعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه .
6 ـ على كل ذي كبد حرّى أجر .
7 ـ المسلمون عند شروطهم .
8 ـ المسلم أحق بماله أينما وجده .
9 ـ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها .
10 ـ لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه منه .
11 ـ الكفن ثم الدَّيْن ثم الوصية ثم الميراث .
12 ـ الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً
.
13 ـ مطل الموسر المسلم ظلم للمسلم .
14 ـ البيّعان بالخيار ما داما في المجلس .
15 ـ شرّ المكاسب الرّبا .
16 ـ لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب .
ح ـ من أصول
التعايش الاجتماعي :
1 ـ قتال المؤمن كفر وأكل لحمه معصية .
2 ـ حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً .
3 ـ كرامة الميت تعجيله في التجهيز
.
4 ـ المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يد على مَن سواهم.
5 ـ الولاء للعتق .
6 ـ الولاء لحمة كلحمة النسب .
7 ـ سباب المؤمن فسوق .
8 ـ كل مسكر حرام .
9 ـ ما اسكر كثيره فالجرعة منه حرام .
10 ـ عذاب القبر من النميمة والغيبة والكذب .
11 ـ لا غيبة لفاسق .
12 ـ حرّم لباس الذهب على ذكور أمتي وحلّ لإناثهم .
5 ـ من جوامع الكلم
في تراث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم :
1 ـ إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
.
2 ـ أنا مدينة العلم وعليٌّ بابُها .
3 ـ أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ .
4 ـ إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن .
5 ـ الإيمان نصفان: نصف في الصبر ونصف في الشكر .
6 ـ استعينوا على أموركم بالكتمان .
7 ـ الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر .
8 ـ الأيدي ثلاثة : سائلة ومنفقة وممسكة، فخير الأيادي المنفقة .
9 ـ إذا ساد القوم فاسقهم وكان زعيم القوم أذلّهم وأكرم الرجل الفاسق فلينتظر
البلاء .
10 ـ أعجل الشر عقوبة البغي .
11 ـ ألا إنّ شرار أمتي الذين يكرمون مخافة شرّهم. ألا ومن أكرمه الناس اتّقاء
شرّه فليس منيّ .
12 ـ بالبرّ يستعبد الحرّ .
13 ـ بشّروا ولا تنفّروا .
14 ـ بادر بأربع قبل أربع : شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سُقمك وغناك قبل فقرك
وحياتك قبل موتك .
15 ـ ثلاث من مكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة : أن تعفو عمّن ظلمك وتصل من
قطعك وتحلم على من جهل عليك .
16 ـ ثلاث تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي الله : صرير أقلام العلماء ووطئ
المجاهدين وصوت مغازل المحصنات .
17 ـ ثلاث تقسي القلب : استماع اللهو ، وطلب الصيد واتيان باب السلطان
.
18 ـ جبلت القلوب على: حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها .
19 ـ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
.
20 ـ حب الدنيا رأس كل خطيئة .
21 ـ الحكمة ضالة المؤمن. رأس الحكمة مخافة الله .
22 ـ حُفت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات .
23 ـ حسّنوا أخلاقكم والطفوا بجيرانكم واكرموا نساءكم تدخلوا الجنة بغير حساب،
داووا أمراضكم بالصدقة .
24 ـ رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق .
25 ـ سادة الناس في الدنيا الأسخياء، سادة الناس في الآخرة الأتقياء. السعيد
من وُعظ بغيره .
26 ـ شر الناس من باع آخرته بدنياه ، وشرٌ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره .
27 ـ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس .
28 ـ عليك بالجماعة فإن الذئب يأخذ القاصية .
29 ـ عليكم بالاقتصاد فما افتقر قوم اقتصدوا .
30 ـ عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء ، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة
النار.
31 ـ عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس .
32 ـ عُد من لا يعودك، واهد لمن لم يهد إليك .
33 ـ الغني غني النفس
.
34 ـ كن عالماً أو متعلّماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامس فتهلك
.
35 ـ لا مال أعود من العقل .
36 ـ لا فقر أشدّ من الجهل .
37 ـ لا عقل كالتدبير .
38 ـ ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره .
39 ـ من المروءة إصلاح المال .
40 ـ من أحبّ عمل قوم أشرك معهم في عملهم .
41 ـ من أحب قوماً حشر معهم .
42 ـ من عمل بما علم ورّثه الله ما لم يعلم .
43 ـ من أعان ظالماً على ظلمه سلّطه الله عليه .
44 ـ من يصلح ما بينه وبين الله يصلح الله ما بينه وبين
الناس .
45 ـ من لا يرحم لا يُرحَم .
46 ـ مَن غَشّ غُشّ
.
47 ـ من تساوى يوماه فهو مغبون .
48 ـ ما عال من اقتصد.
49 ـ المؤمن من أمن الناس من يده ولسانه .
50 ـ المسلم من سلم الناس من أذاه .
51 ـ المجالس بالأمانة .
52 ـ المسلم مرآة لأخيه المسلم .
53 ـ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه .
54 ـ المستشار مؤتمن .
55 ـ ما هلك امرؤٌ عرف قدر نفسه .
56 ـ من تفاقر افتقر .
57 ـ من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح .
58 ـ من أذاع فاحشةً كان كمبدئها .
59 ـ ومن عيّر مؤمناً بشيء لم يمت حتى يركبه .
60 ـ من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت .
61 ـ من أرضى سُلطاناً بما يسخط الله خرج من دين الله .
62 ـ مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش .
63 ـ يسّروا ولا تعسّروا .
64 ـ يطبع المؤمن على كل خصلة ولا يطبع على الكذب ولا على الخيانة .
6 ـ نماذج من
ادعيته الشريفة صلىاللهعليهوآلهوسلم
ألف ـ
من دعائه في شهر رمضان بعد المكتوبة : (اللهم أدخل على أهل
القبور السرور، اللهم أغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم
اقض دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم فك كل أسير،
اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم اشف كل مريض، اللهم سدّ فقرنا بغناك،
اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر إنّك على
كل شيء قدير).
ب ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر : (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل
شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقلّ فيه
الحيلة، ويخذل فيه القريب، ويشمت به العدو، وتعييني فيه الأُمور، أنزلته بك وشكوته
إليك راغباً فيه إليك عمن سواك ففرّجته وكشفته عني وكفيتنيه، فأنت ولي كل نعمة،
وصاحب كل حاجة، ومنتهى كل رغبة، فلك الحمد كثيراً ولك المنّ فاضلاً).
ج ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الأحزاب : (يا
صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين اكشف عني همي وغمي وكربي فإنّك تعلم حالي
وحال أصحابي فاكفني حول عدوي فإنه لا يكشف ذلك غيرك).
د ـ
دعاء علّمه صلىاللهعليهوآلهوسلم لبعض أصحابه يتّقي به شرّ العدو :
ذكر ابن
طاوس في مهج الدعوات هذا الدعاء كما يلي: (يا سامع كل صوت، يا
محيي النفوس بعد الموت، يا من لا يعجل لأنه لا يخاف الفوت، يا دائم الثبات، يا
مخرج النبات يا محيي العظام الرميم الدارسات. بسم الله، اعتصمت بالله وتوكلت على
الحي الذي لا يموت، ورميت كل من يؤذيني بلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
هـ ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم لقضاء الدين علّمه علي بن أبي طالب عليهالسلام: (اللهم اغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك).
و ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا وضعت المائدة بين يديه : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا وضعت المائدة بين يديه قال: (سبحانك اللهم ما أحسن ما تبتلينا، سبحانك اللهم ما أكثر ما تعطينا،
سبحانك اللهم ما أكثر ما تعافينا، اللهم أوسع علينا وعلى فقراء المؤمنين
والمسلمين) (أعيان الشيعة : 1 / 306 .).
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
ــــــــــــ
المدخل:
المنهج القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة 14
الفصل
الأول: النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في سطور 18
الفصل
الثاني: سنّة البشارة على مدى العصور 21
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 27
3 ـ الثقة
المطلقة بالله تعالى: 29
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة 34
الفصل
الثاني: دور الفتوّة والشباب.. 40
2 ـ السفرة
الأولى إلى الشام : 41
الفصل
الثالث: من الزواج إلى البعثة 44
2 ـ إعادة
وضع الحجر الأسود : 46
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها 50
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي. 57
1 ـ بناء
الخلية الإيمانية الأولى : 57
3 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى : 58
4 ـ دور
المواجهة الأولى وإنذار الأقربين: 59
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. 61
1 ـ دفاع
أبي طالب عن الرسول والرسالة : 61
2 ـ موقف
قريش من الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم: 62
3 ـ الكفر
يأبى الانصياع لصوت العقل : 63
5 ـ التعذيب
وسيلة لقمع المؤمنين : 64
6 ـ الهجرة
إلى الحبشة وإيجاد قاعدة آمنة : 65
7 ـ الحصار
الظالم وموقف بني هاشم : 67
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة 69
2 ـ الانفتاح
على الرسالة ومعوّقاتها في مكة : 70
5 ـ الاستعداد
للهجرة إلى يثرب : 74
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى. 76
3 ـ المؤاخاة
بين المهاجرين والأنصار: 79
5 ـ النفاق
وبدايات الاستقرار في المدينة : 81
7 ـ بدايات
الصراع العسكري : 82
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية 84
2 ـ اهتمام
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بزواج الزهراء عليهاالسلام: 87
3 ـ الصدام
المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع : 88
4 ـ ردود
فعل قريش بعد انتصارات المسلمين : 89
5 ـ غزوة
أُحد(وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.)
: 90
6 ـ محاولات
الغدر بالمسلمين : 93
7 ـ غزوة
بني النضير(وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة
.) : 94
8 ـ مناوشات
عسكرية بعد اُحد : 95
9 ـ غزوة
بني المصطلق ودور النفاق : 95
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم. 97
1 ـ تحالف
قوى الشرك وغزوة الخندق : 97
4 ـ غزو
بني قريظة وتصفية يهود المدينة : 100
2 ـ انطلاقة
الرسالة الإسلامية إلى خارج المدينة : 105
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة 109
1 ـ معركة
مؤتة(وقعت معركة مؤتة في جمادى الاُولى من السنة الثامنة للهجرة.)
: 109
2 ـ فتح
مكة(تم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.)
: 110
3 ـ غزوة
حنين وحصار الطائف(وقعت معركة حنين فى شوال من السنة الثامنة للهجرة.)
: 115
4 ـ غزوة
تبوك(كانت غزوة تبوك في رجب سنة ( 9 ) من الهجرة .) : 118
7 ـ وفاة
إبراهيم ابن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: 122
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة 122
1 ـ إعلان
البراءة من المشركين : 123
4 ـ تعيين
الوصي(للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء
الأوّل.) : 128
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة 132
1 ـ الحيلولة
دون كتابة الوصية : 132
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخاتمة 135
2 ـ سهولة
الشريعة الإسلامية وسماحتها 136
3 ـ سمو
التعاليم الإسلامية 136
5 ـ الواجبات
والمحرمات في الشريعة الإسلامية : 138
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 139
نماذج
من تراث سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 142
3 ـ أصول
العقيدة الإسلامية 146
اسم الكتاب: أعلام الهداية (ج1) محمد المصطفى خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المؤلف:
لجنة التأليف.
الموضوع:
كلام وتاريخ.
الناشر:
مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت عليهمالسلام.
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
الأحزاب:
33 / 33
أهل
البيت في السنة النبويّة
(إنّي تارك فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبد)
(الصحاح
والمسانيد)
المقدمة
الحمد
لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً
لعباده، لا سيَّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى آله الميامين النجباء.
لقد خلق
الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن
الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.
وقد جعل
الله العقل المميِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته
; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به،
وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر
عن ثمارها ونتائجها من جهة أخرى.
قال تعالى:
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (الأنعام (6): 71).
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة (2): 213).
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب (33): 4).
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران (3): 101).
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس
(10): 35).
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ (34): 6).
(ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله) (القصص (28):50).
فالله
تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان
إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم.
وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.
ولقد
أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى
الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ) (الذاريات (51): 56). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون
المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة
الكمال.
وبعد أن
زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب
والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما،
والملازم لهما فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة -
إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية،
وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ
والشقاء بملء إرادته.
ومن هنا
اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن
خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير
تفاصيل المعرفة وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.
وقد حمل
الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور
والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما
أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه، لئلاّ يكون للناس على الله
حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق
وبعد الخلق، ولو لم يبق في
الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد (13): 7).
ويتولّى
أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:
1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون
الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ) (الأنعام
(6): 124) و (اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آل عمران (3): 179).
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمن أرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في (الاستيعاب
والإحاطة اللازمة) بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و (العصمة) عن الخطأ
والانحراف معاً، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة (2): 213).
3 ـ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية
من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية
والتعليم، قال تعالى: (يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة (62): 2) والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق
بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال
تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب (33): 21).
4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة.
5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في
نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على
المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الأمة على أساس
الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً،
وثباتاً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية
والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة
العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة
النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطى بإمكانه أن يؤثّر
تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافى مع أهداف
الرسالة وأغراضها.
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي،
واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب،
وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان
المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.
وقد
توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن
عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه
تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر
نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما
يلي:
1 ـ
تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.
2 ـ
تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
3 ـ
تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً
للحياة.
4 ـ
تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.
5 ـ
تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:
أ ـ أن
تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين
يتربّصون بها الدوائر.
ب ـ أن
تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً
حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.
ومن هنا
كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم
مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه
وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد
الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين
معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي،
وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
وكان
أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده.
إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهمالسلام تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودراسة
حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ
طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ
الأئمة المعصومون عليهمالسلام يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي
الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي
تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.
وتبلورت
حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم
كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله،
والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال
الإنسانيّ المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع
الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود
لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى
فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة
ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا
فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم
ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة
والتحقيق، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.
إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهمالسلام الرسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبد
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي
المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.
ويختص
هذا الكتاب بدراسة
حياة الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جسّد الإسلام بكل أبعاده، في جميع مرافق حياته: الفردية والاجتماعية وفي ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فأرسى قواعد
القيم الإسلامية المُثلى في واقع الفكر والعقيدة وفي أفق الخلق والسلوك وأصبح
نبراساً ـ على
مدى العصور ـ يشعّ بالإيمان
والطهر والبهاء للعالمين.
ولا
بدَّ لنا من تقديم الشكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً
وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النور، لا سيَّما أعضاء
لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالى .
ولا
يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه
الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير.
للمجمع
العالمي لأهل البيت عليهمالسلام
قم
المقدسة
الباب
الأول: فيه فصول:
المدخل:المنهج
القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة.
الفصل
الأول النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في سطور.
الفصل
الثاني سنّة البشارة على مدى العصور.
الفصل
الثالث مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المدخل: المنهج
القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة
للقرآن
الكريم عناية فائقة بسيرة الأنبياء الهداة وله نهج خاص في عرض سيرتهم صلوات الله
عليهم أجمعين.
والمنهج
القرآني يقوم على مجموعة من الأسس والأصول العلمية في كيفية عرضه لسيرة الهداة
المصطفين.
إنّ
القرآن الكريم ينطلق من عنصر الهداية وهو عنصر ترشيد حركة الإنسان نحو الكمال
اللائق به فيختار أهدافاً واقعيةً لمجموعة من الحوادث التاريخية التي تشكّل
منعطفاً مهمّاً في حياة الأفراد والأمم وتكون مفتاحاً للدخول إلى أبواب واسعة من
العلوم والمعارف التي تخدم حركة الإنسان التكاملية.
والقرآن
الكريم يوظّف شتى الأدوات للوصول إلى تلك الأهداف المُثلى.
فهو يخاطب العقل والعقلاء ويفتح أمام الفكر الإنساني آفاقاً جيدة حيث
يقول:
1 ـ (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف (7) : 176.) .
2 ـ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف (12) : 111 .) .
فـ
(التفكر) و (الاعتبار) في حوادث التأريخ والسيرة (تاريخ الأمم وسيرة القادة
الهُداة) يشكّلان هدفين أساسيّين في المنهج القرآني في مجال للتاريخ.
ولا
تقتصر الأهداف على هذين بل تتعدّاهما الى أهداف رسالية أخرى تتجلى في قوله تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف (12) : 111.) .
وفي
قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ
بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود (11) : 120.) .
حيث
تضمّنت كلّ آية أربعة أهداف رسالية لاستعراض أنباء المرسلين والتحدّث عن قصصهم.
ويعتمد القرآن الكريم في منهجه التاريخي الذي يتفرّد به على الأصول
التالية:
1 ـ
الحق.
2 ـ
العلم.
3 ـ
المعاصرة للأحداث.
4 ـ
الإحاطة بها.
فلا يدع
مجالاً للريب والافتراء فيما يحدّث عنه ويقصّه ويستعرضه من ظواهر تاريخية وحوادث
اجتماعية سابقة أو معاصرة للتنزيل. ما دام يعتمد الحق والعلم دون الخرافة والخيال.
وقد
أكّد هذين الأصلين بقوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... ) (آل عمران (3) : 62.) وبقوله أيضاً في مطلع سورة الأعراف: ( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (الأعراف (7) : 7.) وفيه تصريح بعنصر المعاصرة للأحداث التي يقوم بعرضها .
وللقرآن
الكريم بعد ذلك كله منهج علمي في التحليل والاستنتاج إلى جانب اعتماده على
الاستقراء تارة وعلى الاستدلال تارة أخرى.
وحين
يستعرض القرآن حياة الرسل بشكل عام يذكر خطوطاً عريضة تجعلهم في صف واحد وخندق
واحد وخط واحد هو خط الإسلام العام، كما قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ) (آل عمران (3):19 .) .
ثم إنه
يغور في أعماق سيرة كل واحد من أولي العزم من الرسل ليحيط المتلقي بأهم مفاصل
سيرتهم وزواياها وليربط بينها وبين ما سبقها وما يلحقها من حوادث تتعلق بالخط
الرسالي المستمر باستمرار الحياة.
إنّ من
طبيعة البحث التاريخي أن تناله يد التحريف وقد يغطيه الإبهام والغموض وقد تستره
سحب داكنة ريثما تتكشف الحقيقة بالتدريج وينمو الانكشاف حتى يبلغ حدّاً لا يستسيغ
المجتمع الإنساني التغافل عنه وتجاوز الحقائق فيه.
وتشير الآية المباركة (111) من سورة يوسف إلى إمكان الافتراء والتلاعب بحقائق التاريخ أو المبالغة والبحث عن
غير علم وسدل الستار على الحق الذي لابدّ أن يظهر في ظرف ما.
ومن
هنا; كان على المدرسة القرآنية أن تسلّح الباحث عن الحقيقة بسلاح موضوعي قادر على
اكتشاف الحقيقة بشكل كامل.
لقد طرح القرآن الكريم نظرية الثوابت التي لا يمكن للفكر الإنساني أن
يتجاوزها في حال من الأحوال وسمّاها بالمحكمات وأم الكتاب. وهي الحقائق الثابتة والبينة للفكر الإنساني، وهي لا تقبل الريب أو
الترديد أو التشكيك بحال من الأحوال.
والثوابت دائماً تشكّل الخطوط العريضة والمعالم الأساسية للفكر
الإنساني الذي يستوعب ما لا
يستوعبه عالم المادة، ولكنه لا يستسيغ أن يقف مكتوف اليدين أمام المبهمات وما
يختلف فيه أبناء آدم عليهالسلام.
ويسوق
القرآن الكريم للقارئ الواعي موقفين وأسلوبين من التعامل مع المبهمات أو ما يختلف
فيه بنو آدم، ويحاكم هذين الأسلوبين ليخرج إلى نتيجة بيّنة تصبح معياراً وتقدم
قاعدة عامة للتعامل مع كل خبر يرد على الفكر الإنساني.
ويعود
كل نوع من أنواع التعامل إلى جذور نفسية واضحة تنسحب على نوع التعامل وتنعكس في
أسلوب المواجهة مع كل حديث ينقل إلى الإنسان ويراد من الفكر الإنساني أن يتخذ منه
الموقف المناسب والجدير به.
قال
تعالى بعد أن أشار إلى أن القرآن هو
الفرقان الذي نزله الله على رسوله الأمين: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران (3) : 7 ـ 8 .) .
إن سلامة النفس من الزيغ تحول بين الإنسان وبين ابتغاء الفتنة. ومن هنا يتوقف الإنسان الذي يتحرّى الحقيقة عن اتّباع
المتشابه من الآيات، بل
يُرجع الأمر إلى ربه.
فالعقل
يقف حائلاً بينه وبين أي تفسير غير علمي أو غير مستند إلى دليل صحيح وحقائق ثابتة،
بل العقل هو الذي يرشده إلى الركون إلى المحكمات والالتزام بأم الكتاب حيث يشكّل
ذلك الإطار العام والخطوط الثابتة التي لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال، وحينئذ
من الطبيعي أن نلاحظ الآيات الأخرى في ظل هذه الثوابت وهذه المعالم التي لا يمكن
تجاوزها.
وهنا
تتفتح آفاق النفس لآفاق الفكر لتتأمل فيما لا يكون صريحاً أو واضحاً في بداية
الأمر، وبهذا سوف يضمن العاقل الذي آمن بربّه عدم الزيغ وعدم التسرّع في تفسير
وتحليل ما يشاهده من الآيات المتشابهة، بل يقف منها موقف اللبيب الحكيم، وإن لم
يفلح في اكتشاف الحقيقة فإنه لا ينكرها ولا يستنكرها، وإنّما يرجع الأمر إلى مصدره
ويوكل الأمر إلى ربه الذي نزّل الآيات هذه ويستفهم منه ما يبتغيه، طالباً منه
استمرار الهداية ونزول الرحمة.
إنه
الموقف السليم الذي يمثل النضج والتعامل المنطقي مع النصوص إذ لا يتسرع العاقل في
التوجيه والتحليل.
ومن هنا: قد نفهم
الوجه في قوله تعالى في مطلع سورة هود: (الر* كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (1)) فإن
التفصيل إنما يكون بعد الإحكام وبعد أن تتعين الآيات التي هي أُم الكتاب، والتي تعدّ هي الأسس والخطوط
الثابتة
كما أفصحت بذلك الآية السابعة من سورة آل عمران (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) (آل عمران (3) : 7 .) .
والآية (39) من سورة الرعد تلقي بظلالها على هذه النقطة أيضاً إذ تقول: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فإن ما لا يتعرض للمحو والتغيير هو أم الكتاب. وما دونه قد يتعرض
للمحو والتغيير تبعاً لاختلاف الظروف والحالات والطوارىء.
وتكفي
هذه الآيات لرسم المنهج العام الذي يسير عليه القرآن الكريم في تعامله مع وقائع
التاريخ، فإن الاختلاف في التفاصيل لا يسمح لنا بإنكار الأصل والتغافل عنه وإدانة
ما ثبت لدينا وتحققنا من وجوده.
وفي ضوء هذا يمكن
تقويم كل ما ورد في كتب السيرة النبوية أو التاريخ الإسلامي أو تأريخ ما قبل
الإسلام مما يرتبط بالأنبياء وأممهم ; فإنّ الثوابت التاريخية هي محطّات الإشعاع وهي المحكمات التي لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال واليها نحتكم في تفسير أو قبول أو ردّ ما أثبتته كتب التأريخ من نصوص
تحتوي على الصحيح والخطأ .
إذن;
حقل التاريخ ـ وهو
حقل اختلاط الحقائق بالأباطيل ـ يتطلب
منا استعمال أدوات تسعفنا لكشف تمام الحقيقة الثابتة.
وثوابت
التاريخ ـ التي أيّدتها محكمات العقل
والنقل ـ هي المنطلق لأي
تفسير أو تأويل أو محاكمة أو إدانة.
وقد طبّق القرآن الكريم هذا المنهج على سيرة الأنبياء وأممهم بالذات حينما رسم لنا صورة واضحة يشترك فيها كل الأنبياء واعتبر النبوّة
والاصطفاء ناشئين من مواصفات أساسية في شخصية كل نبيّ، أهّلته لأن يختاره الله
نبيّاً لِهداية الخلق على يديه، وهذه المواصفات هي : اكتمال العقل والوعي والصلاح
والصبر والعبودية التامّة لله القائمة على الوعي والبصيرة، قال تعالى مخاطباً نبيّه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
... ) (الأنعام (6) : 57.) ، كما
قاله له: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... ) (يوسف (12) : 108.) .
هذا هو
المنطق القرآني الذي يمثّل الإحكام والثبات... فكيف يبعث الله نبيّاً لا يعي ولا
يدرك أنه مبعوث أو مرسَل من ربه ولا يطمئن إلى ما يراه من آيات ربه إلاّ أن يطمئنه
الآخرون؟! فلا يعقل أن يُبعث ويهيّأ للنبوة وهو لا يعلم أنه نبي ومبعوث من الله
إلى الخلق، أو يتردد أو يشك في مهمّته، فضلاً عن تصوّره أنه يستلهم الحقيقة ممّن
يراد منه هدايته. قال تعالى مُشيراً إلى هذه الحقيقة :
( ... أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ
لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس (10): 35.) .
إن
الصورة الواضحة التي يرسمها القرآن الكريم عن شخصية أنبياء الله والتي تؤيّدها محكمات العقل هي التي تصبح موئلاً ومرجعاً محكماً
وثابتاً لمحاكمة كل صورة تسرّبت من التوراة والإنجيل أو جاءت فيما سمّي بالصحاح أو
عامّة كتب التاريخ التي وردت فيها بعض القصص عن أنبياء الله، سواء كان ذلك النبي هو إبراهيم عليهالسلام أو
موسى عليهالسلام أو
عيسى عليهالسلام أو
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسواء كان الناقل لهذه الصورة بعض أمهات المؤمنين أو بعض الصحابة أو من يَمُتُّ إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بصلة من قريب أو بعيد.
الفصل
الأول: النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في
سطور
ولد خاتم النبيين وسيّد المرسلين محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صلىاللهعليهوآلهوسلم في السابع عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل بعد أن فقد أباه، ثم استرضع في بني سعد ، ورُدّ إلى اُمّه وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. وقد توفّيت أُمّه حين بلغ السادسة من عمره فكفله جدّه واختص به وبقي معه سنتين ثمّ ودّع الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته إلى عمّه الحنون أبي طالب حيث بقي مع عمّه إلى حين زواجه.
وسافر
مع عمّه إلى الشام وهو في الثانية عشرة من عمره والتقى ببحيرا الراهب في الطريق فعرفه بحيرى وحذّر أبا طالب من
التفريط به وكشف له عن تربص اليهود به الدوائر.
وحضر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حلف الفضول بعد العشرين من عمره وكان يفتخر بذلك فيما بعد، وسافر إلى الشام مضارباً بأموال خديجة
وتزوجها وهو في
الخامسة والعشرين وفي
ريعان شبابه ، بعد أن كان قد عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحل نزاعها فأبدى حنكةً وإبداعاً رائعاً أرضى به جميع المتنازعين.
وبُعث وهو في الأربعين وأخذ يدعو إلى الله وهو على بصيرة من أمره ويجمع الأتباع والأنصار من
المؤمنين السابقين.
وبعد مضي ثلاث أو خمس سنوات من بداية الدعوة إلى الله، أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين ثم أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو
إلى الإسلام علانية ليدخل من أحبّ الإسلام في سلك المسلمين والمؤمنين.
ومن ذلك
الحين أخذت قريش تزرع الموانع أمام حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتحاول أن تمنع من انتشار الرسالة صادّة بذلك عن سبيل الله . وعمل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى فتح نافذة جديدة للدعوة خارج مكة فأرسل عدّة مجاميع من المسلمين إلى الحبشة بعد أن حظوا
باستقبال ملكها (النجاشي) وترحيبه
بقدومهم فاستقروا فيها بقيادة جعفر بن أبي طالب ولم يتركها جعفر إلاَّ في السنة
السابعة بعد الهجرة.
ولم
تفلح قريش في تأليب النجاشي على المسلمين ، فبدأت بخطّة جديدة تمثّلت في فرض
الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والذي استمرّ لمدة ثلاث سنوات ـ فلمّا أيست من إخضاع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي طالب وسائر بني هاشم لأغراضها فكّت الحصار ولكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعشيرته بعد أن خرجوا من الحصار منتصرين امتحنوا بوفاة أبي طالب
وخديجة ـ سلام الله عليهما ـ في السنة العاشرة من البعثة وكان وقع الحادثين ثقيلاً
على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه
فقد بذلك أقوى ناصرين في عام واحد.
وهنا رجّح بعض المؤرّخين تحقق حادثة الإسراء والمعراج والنبيّ في أوج
هذا الحزن والضغط النفسي على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يرى
صدود قريش ووقوفها بكل ثقلها أمام رسالته ففتح الله له آفاق المستقبل بما أراه من
آياته الكبرى فكانت بركات (المعراج) عظيمة
للنبي وللمؤمنين جميعاً.
وهاجر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الطائف ليبحث عن قاعدة جديدة ولكنه لم يكسب فتحاً جديداً من هذه البلدة المجاورة لمكة والمتأثرة بأجوائها،
فرجع إلى مكة بعد
أن اختار جوار مطعم بن عدي فدخلها، وبدأ نشاطاً جديداً لنشر الرسالة وفي مواسم
الحج حيث أخذ يعرض نفسه على القبائل القاصدة للبيت الحرام لأداء مناسك الحج
وللاتجار في سوق عكاظ ففتح الله له أبواب النصر بعد التقائه بأهل يثرب، واستمرّت
دعوته إلى الله وانتشر الإسلام في يثرب حتى قرّر الهجرة اليها بنفسه بعد أن أخبره
الله تعالى بكيد قريش حين أجمعت بطونها على قتله والتخلّص منه نهائيّاً، فأمر
عليّاً عليهالسلام بالمبيت في فراشه وهاجر هو إلى يثرب بكل حيطة وحذر، ودخلها وأهل يثرب على أتمّ الاستعداد لاستقباله، فوصل (قبا)
في غرّة ربيع الأول وأصبحت هجرته المباركة مبدأ للتأريخ الإسلامي بأمر منه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأسّس
النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّل دولة إسلامية فأرسى قواعدها طيلة السنة الأولى بعد الهجرة بدءاً
بكسر الأصنام وبناء المسجد النبوي الذي أعدّه مركزاً لنشاطه ودعوته وحكومته
وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليقيم بذلك قاعدة شعبية صلبة يقوم عليها بناء
الدولة الجديدة، هذا مضافاً إلى كتابة الصحيفة التي نظم فيها علاقة القبائل بعضها
مع بعض والمعاهدة التي أمضاها مع بطون اليهود حيث كانت تشتمل على الخطوط العامة
لأوّل نظام إداري وحكومي إسلامي.
ولقد
واجهت الدولة الإسلامية الفتية وكذا الدعوة الإسلامية مواجهة شرسة من جانب قريش
التي عزمت على اكتساح الدعوة والدولة الإسلاميتين فشنّت الحرب بعد الحرب على
المسلمين وكان لابدّ للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين من الدفاع.
وبدأت
سنوات الدفاع عن هذه الدولة الفتية وقد افتتحها بأوّل سريّة بقيادة عمّه حمزة في الشهر السابع
بعد الهجرة وجهّز ثلاث سرايا
إلى نهاية العام الأوّل من الهجرة. ونزلت في هذا العام آيات كثيرة من سورة البقرة
لترسم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودولته وأمّته أحكاماً خالدة وتفضح خطط المنافقين وتكشف مؤامرات
اليهود ضدّ خاتم المرسلين
ودولته العالمية الجديدة.
لقد استهدفت قريش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودولته من خارج المدينة، واستهدف اليهود هذه الدولة من
داخل المدينة فرصد النبيّ تحركاتهم جميعاً، وتتابعت ثمان غزوات وسريّتان طيلة العام الثاني بما فيها غزوة بدر
الكبرى في رمضان المبارك حيث افترضت فريضة الصيام وتمّ تحويل القبلة الذي أعطى لاستقلال الأمة المسلمة والدولة الإسلامية بُعداً جديداً.
وحفل العام الثاني بمزيد
من الانتصارات العسكرية من جانب ونزول التشريعات السياسية والاجتماعية من جانب آخر
ومنيت قريش واليهود بأوّل هزيمة فاضحة كما تمّ إجلاء بني قينقاع وهم أول طوائف اليهود التي اتّخذت
المدينة وطناً بعد أن نكثوا عهدهم مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عقيب انتصار المسلمين في بدر الكبرى.
واستمرت
محاولات قريش العسكريّة ضد الإسلام والمسلمين من خارج المدينة ونكثت قبائل اليهود
عهودها مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عدّة
مرّات خلال ثلاث سنوات متتابعة، فكانت
خمس غزوات ـ وهي : اُحد وبني النضير والأحزاب وبني قريظة وبني المصطلق ـ ذات ثقل
باهض على عاتق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين جميعاً خلال هذه السنين الثلاث.
وردّ
الله كيد الأحزاب واليهود معاً في العام الخامس بعد أن
أبلى المسلمون بلاءاً حسناً ومهّد الله بذلك للفتح المبين بعد أن أيست قريش من
القضاء على شوكة المسلمين وانطلق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد صلح الحديبية يتحالف
مع القبائل المحيطة به ويستقطبها ليجعل منها قوة واحدة أمام قوى الشرك والإلحاد
جميعاً حتى فتح الله له مكّة في العام الثامن ومكّنه من تصفية قواعد الشرك في شبه
الجزيرة بعد أن أخضع عتاة قريش لدولته وسياسته المباركة.
ثمّ كانت السنة التاسعة عامرة بوفود القبائل التي أخذت تدخل في دين
الله أفواجاً.
وكان العام العاشر عام حجة الوداع وآخر سنة قضاها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أمته وهو
يمهّد لدولته العالمية ولاُمّته الشاهدة على سائر الأُمم.
وتوفّي النبيّ القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم في الثامن والعشرين من صفر المظفر سنة إحدى عشرة هجرية بعد
أن أحكم دعائم دولته الإسلامية حيث عيّن لها القيادة المعصومة التي تخلفه وتترسّم
خطاه متمثّلة في شخص علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
الإنسان الكامل الذي ربّاه الرسول الكريم بيديه الكريمتين منذ أن ولد ورعاه أحسن
رعاية طيلة حياته، وجسّد الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام كل قيم الإسلام في فكره وسلوكه وخلقه وضرب مثلاً أعلى في الانقياد
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولأوامره ونواهيه فكان جديراً بوسام الولاية الكبرى والوصاية النبوية
والخلافة الإلهية حيث رشّحه عمق وجوده في كيان الرسالة الإسلامية والثورة الإلهيّة
والدولة النبوية ليكون النائب الأوّل لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين غيابه عن مسرح الحياة بأمر من الله سبحانه وتعالى.
وقد لبّى الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم نداء ربّه بعد أن أتمَّ تبليغ الرسالة بنصب عليّ عليهالسلام هادياً وإماماً للمسلمين على الرغم من حراجة الظروف
وصعوبتها. وهكذا ضرب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المثل الأعلى لطاعة الله والانقياد لأوامره حيث بلّغ أمر الله أحسن
تبليغ وأتمّ الحجة بأبلغ بيان.
تلك نظرة سريعة إلى شخصية وحياة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهلمّ
معنا بعد هذه
النظرة إلى دراسة تفصيلية في هذا المجال.
الفصل الثاني: سنّة البشارة على مدى العصور
لقد
صرّح القرآن الكريم بأن العهد التاريخي للبشرية قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث
الأنبياء وإرسال الرسل. الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنساني
أكمل; مما يمكن أن نستنتج منه أنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات
البشريّة يعتبر بداية العصر التاريخي للبشرية .
قال
تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة (2) : 213 .) .
لقد قضت
حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلى الإنسانية منهاج هدايتها الذي يخرجها
من عهد الغريزة إلى عهد العقل، ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوّة إلى
منطق النظام ومرجعه القانون. وخرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً
حيوانياً ـ بيولوجيّاً إلى كونه ظاهرة عقلية روحية وحققت النبوّات للإنسان مشروع
وحدة أرقى من وحدته الدموية البيولوجية ... وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد،
وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانية مرتفعة من علاقات المادة إلى علاقات المعاني .
والاختلافات التي نشأت في النوع الإنساني بعد إشراق عهد النبوّات غدت اختلافات في
المعنى، واختلافات في الدين والمعتقد; فإن أسباب الصراع لم تُلغ بالدين الذي جاءت
به النبوّات بل استمرّت وتنوّعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة بل غدا القانون
مرجعاً في هذا المضمار . والقانون الذي يتضمنه الدين يكون قاعدة ثابتة لوحدة
الإنسانية وتعاونها وتكاملها (1) .
وأوضح الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام في
الخطبة الأُولى من نهج البلاغة ـ بعد أن استعرض تاريخ خلق العالم وتاريخ خلق آدم عليهالسلام وإسكانه في الأرض ـ أن إشراق النبوّة وتسلسلها على مدى العصور هو المحور في تاريخ
الإنسان وحركته نحو الكمال كما صرّح به القرآن الكريم موضحاً منهجه في التعامل مع
التاريخ.
قال عليهالسلام : (... واصطفى سُبحانه من ولد (آدم) أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم (2) ، وعلى
تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم (3) ،
فجهلوا حقّه، واتّخذوا الأنداد معه (4)، واجتالتهم الشياطين عن معرفته (5) ،
واقتطعتهم عن عبادته ..
فبعث
فيهم رُسُله ، وواتر إليهم أنبياءه; ليستأدُوهم ميثاق فطرته (6) ، ويذكّروهم مَنسيَّ نعمته، ويحْتجّوا عليهم
بالتّبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول (7) ، ويُروهم آيات
ــــــــــــ
(1) حركة التاريخ عند الإمام علي عليهالسلام : 71 ـ 73 .
(2) أخذ عليهم الميثاق أن يبلّغوا ما أوحي إليهم ، أو أخذ عليهم أن لا
يشرّعوا للناس إلاّ ما يوحى إليهم.
(3) عهد الله إلى الناس : هو ما يعبر عنه بميثاق الفطرة.
(4) الأنداد: المعبودين من دونه سبحانه وتعالى .
(5) اجتالتهم : صرفتهم عن قصدهم الذي وُجّهوا إليه بالهداية المغروزة
في فطرهم .
(6) كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى، وبما أقام
له من الشواهد وأدلة الهدى، قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق
له، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات،
فبعث النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق .
(7) دفائن العقول : أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات ،
وترتفع به إلى الإيقان بصانع الموجودات، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام
وحجب من الخيال، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار
الباطنة.
المقدرة:
من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تُحْييهم، وآجال تُفنيهم، وأوصاب
تُهرمهم (1) ، وأحداث تتابع عليهم.
ولم يُخْل الله
سبحانه خلقه من نبيٍّ مرسل ، أو كتاب مُنْزل ، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة (2).
رُسلٌ لا تقصِّرُ
بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذّبين لهم : من سابق سُمّي له من بعده، أو غابر
عرّفه من قبله (3) .
على ذلك نسلت
القرون (4) ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء .
إلى أن بعث الله
سبحانه مُحمّداً رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لإنجاز عدته (5)
، وإتمام نبوّته.
مأخوذاً على
النبيّين ميثاقه، مشهورة سماته (6)، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مللٌ متفرّقة وأهواءٌ منتشرة،
وطوائف متشتِّتة، بين مشبِّه لله بخلقه، أو مُلحد في اسمه، أو مشير إلى غيره (7) .
فهداهم به من
الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة.
ــــــــــــ
(1) السقف المرفوع : السماء. والمهاد الموضوع : الأرض . والأوصاب :
المتاعب .
(2) المحجة : الطريق القويمة الواضحة .
(3) من سابق بيان للرسل ، وكثير من الأنبياء السابقين سميت لهم
الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم، كما ترى ذلك في التوراة . والغابر : الذي
يأتي بعد أن يشير به السابق جاء معروفاً بتعريف من قبله .
(4) مضت متتابعة .
(5) الضمير في عدته لله تعالى : لأن الله وعد بإرسال محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم على لسان أنبيائه السابقين. وكذلك الضمير في نبوته : لأنّ
الله تعالى أنبأ به، وأنّه سيبعث وحياً لأنبيائه. فهذا الخبر الغيبي قبل حصوله
يسمى نبوة. ولما كان الله هو المخبر به أضيفت النبوة إليه .
(6) سماته : علاماته التي ذكرت في كتب الأنبياء السابقين الذين بشّروا
به .
(7) الملحد في إسم الله : الذي يميل به عن حقيقة مسمّاه فيعتقد في الله
صفات يجب تنزيهه عنها. والمشير إلى غيره، الذي يشرك معه في التصرّف إلهاً آخر
فيعبده ويستعين به.
ثم اختار سبحانه
لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقاءَهُ، ورضي له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه
إليه كريماً صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وخلَّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذْ لم يتْرُكوهم هملاً بغير طريق واضح،
ولا علم قائم) (أي أنّ الأنبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت
أنبيائهم، وقد كان من محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل ما كان منهم، فإنّه خلّف في أمته كتاب الله تعالى
حاوياً لجميع ما يحتاجون إليه في دينهم، كما خلّف أهل بيته المعصومين وجعلهم قرناء
للكتاب المجيد كما صرّح بذلك في حديث الثقلين الذي تواتر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ورواه جمع غفير من المحدثين.) .
إنّ
بشائر الأنبياء السابقين بنبوّة الأنبياء اللاحقين تنفع الأجيال المعاصرة لهم وكذا
الأجيال اللاحقة; إذ تفتح عيونهم وتجعلهم على أهبة الاستقبال للنبيّ المبشَّر
بنبّوته، كما أنّها تزيل عنهم الريب وتعطيهم مزيداً من الثقة والاطمئنان.
على أن
اليأس من الإصلاح إذا ملأ القلب يجعل الإنسان يفكر بطرق أبواب الشّر والخيانة،
فالبشائر بمجي الأنبياء المصلحين تزيل اليأس من النفوس التي تنتظر الإصلاح وتوجّهها
إلى حبّ الحياة وقرع أبواب الخير.
وتزيد
البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم، فيضعف
صمودهم أمام دعوة النبي إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.
وإذا
أدّت البشارة إلى حصول الثقة فقد لا تُطلب المعجزة من النبيّ، كما تكون النبوّة
المحفوفة بالبشارة أنفذ إلى القلوب وأقرب إلى الإذعان بها. على أنّها تبعّد الناس
عن وطأة المفاجأة أمام واقع غير منتظر، وتخرج دعوة النبيّ عن الغرابة في نفوس
الناس (محمد في القرآن : 36 ـ 37.) .
على أن
الأنبياء جميعاً يشكّلون خطاً واحداً، فالسابق يبشّر باللاحق، واللاحق يؤمن
بالسابق. وقد تكفّلت الآية (81) من سورة آل عمران بالتصريح بسنّة البشائر هذه.
فضلاً عن الشواهد والتطبيقات التي سوف نلاحظها في البحث الآتي.
بشارات
الأنبياء برسالة محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ لقد
نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليهالسلام برسالة
خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم بأسلوب الدعاء قائلاً ـ بعد الكلام عن بيت الله الحرام في مكة
المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيل عليهالسلام وطلب تحقيق اُمة مسلمة من ذريتهما ـ : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة (2) : 129.) .
2 ـ
وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمي كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل).
والعهدان كانا في عصر نزول القرآن الكريم وظهور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو لم تكن البشارة موجودة فيهما لجاهر بتكذيبها أصحاب العهدين.
قال
تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) (الأعراف (7) : 157.) .
3 ـ
وصرّحت الآية السادسة من سورة الصف بأن عيسى عليهالسلام صدَّقَ
التوراة بصراحة وبشّر برسالة نبيّ من بعده اسمه أحمد. وقد خاطب عيسى عليهالسلام بني إسرائيل جميعاً لا الحواريين فحسب.
أهل
الكتاب ينتظرون خاتم النبييّن صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يكتف
الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامة للنبيّ المبشَّر به، بل ذكروا أيضاً
العلائم التي يستطيع المبَشَّرون من خلالها معرفته بشكل دقيق، مثل : محل ولادته،
ومحل هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلائم جسمية خاصة وخصائص يتفردّ بها في سلوكه
وشريعته.. ولهذا قال القرآن عن بني إسرائيل بأنهم كانوا يعرفون رسول الإسلام
المبشَّر به في العهدين كما يعرفون أبناءَهم (الانعام (6) : 20.) .
بل
رتبوا على ذلك آثاراً عملية فاكتشفوا محل هجرته ودولته فاستقروا فيها (سيرة رسول الله : 1 / 38 ـ 39.) وأخذوا يستفتحون برسالته على الذين كفروا ويستنصرون برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على الأوس والخزرج (البقرة (2): 89 .) وتسرّبت
هذه الأخبار إلى غيرهم عن طريق رهبانهم وعلمائهم فانتشرت في المدينة وتسرّبت إلى
مكة (أشعة البيت النبوي : 1 / 70 ، عن الأغاني: 16 / 75 ، تاريخ
اليعقوبي: 2 / 12 ، حياة نبي الإسلام : 23 ، عن سيرة ابن هشام: 1 / 181 ، وأعلام
الورى : 26.) .
وذهب
وفد من قريش بعد إعلان الرسالة إلى اليهود في المدينة للتَثبّت من صحة دعوى النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم النبوّة وحصلوا على معلومات اختبروا بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع ما جاء في شأن نزول سورة الكهف.) واتضح لهم من خلالها صدق دعواه.
وقد آمن
جمع من أهل الكتاب وغيرهم بالنبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم على أساس هذه العلائم التي عرفوها من دون أن يطلبوا منه معجزة خاصة (المائدة (5): 83 .) ، وهذه البشائر تحتفظ بها لحد الآن بعض نسخ التوراة والإنجيل (سيرة رسول الله وأهل بيته : 1 / 39 ، إنجيل يوحنّا وأشعة
البيت النبوي : 1 / 70 ، عن التوراة وراجع: بشارات عهدين، والبشارات والمقارنات.) .
وهكذا
تسلسلت البشائر بنبوة خاتم النبيين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم من قبل
ولادته، وخلال
فترة حياته قبل بعثته، وقد عرف واشتهر منها إخبار بحيرا الراهب وغيره إبّان البعثة
المباركة (راجع كتب السيرة النبويّة والتفسير حيث تضمّنت جملة من هذه
البشائر.) .
وقد شهد
علي أمير المؤمنين عليهالسلام بهذه
الحقيقة التأريخية حين قال في إحدى خطبه: (... إلى أن بعث
الله سبحانه محمداً رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لإنجاز
عِدَتِه وإتمام نبوّتِه، مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورةً سِماتُه..) (لاحظ الخطبة الأولى من نهج البلاغة.) .
وقد جاء
في طبقات ابن سعد عن سهل مولى عتيبة انه كان نصرانياً من أهل حريس، وانه كان
يتيماً في حجر أمه وعمّه وأنه كان يقرأ الإنجيل، قال: (...فأخذت مصحفاً لعمي
فقرأته حتّى مرّت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت;
فإذا فصول الورقة ملصق بغراء ، قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم: انه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم يكثر
الاحتباء ولا يقبل الصدقة ويركب الحمار والبعير ويحتلب الشاة ويلبس قميصاً
مرقوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرّية إسماعيل، اسمه
أحمد. قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم جاء عمّي فلّما رأى الورقة ضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة
وقراءتها؟! فقلت: فيها نعت النبيّ أحمد، فقال: إنّه لم يأتِ بَعدُ (الطبقات الكبرى: 1 / 363.) .
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ الأمي العالم :
لقد
تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري (النحل (16) : 103.) ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذب أحد هذه
الحقيقة التي نادى بها القرآن (العنكبوت (29): 48.) .
ترعرع
ونما في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ولقد سمّى هو
ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالم خبير بالعلم
والجهل والعقل والحمق.
أضف إلى
ذلك أنه قد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والثقافة والفكر والتعقّل واحتوى على صنوف
المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة (الجمعة (62) : 2.) وفق منهج بديع حتى أنشأ حضارة فريدة اخترقت الغرب والشرق بعلومها
ومعارفها ولا زالت تتلألأ بهاءً ونوراً.
فهو أمي
ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلى البشرية وبشريعة
عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع
كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.
ومن هنا
قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف (7) : 158.) وقال له: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء (4) : 113.) .
أجل ،
لقد أوحى الله إليه ما أوحى وعلّمه الكتاب والحكمة وجعله نوراً وسراجاً منيراً
وبرهاناً وشاهداً ورسولاً مبيناً وناصحاً أميناً ومذكّراً ومبشّراً ونذيراً (المائدة (5) : 15 ، الأحزاب (33) : 46 ، النساء (4): 174 ،
الفتح (48): 8 ، الزخرف (43): 29 ، الأعراف (7) : 68 ، الغاشية (88) : 21 ،
الإسراء (17) : 105 ، المائدة (5) : 19 .) .
ولقد
شرح الله له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه
العصبية والأنانية الجاهلية فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية
والتعليم.
إنها
نقلة كبيرة أن يصبح المجتمع الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً قوياً لكتاب
الهداية ومشعل العلم ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف، إنها معجزة هذا الكتاب
الخالد وذلك الرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس ـ في ذلك المجتمع الجاهلي ـ
عن الخرافات والأساطير. إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.
2 ـ أوّل
المسلمين العابدين :
إن
الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم قدرته ونفاذ
حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي القمة
الاولى التي لابد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيّأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد
شهد القرآن الكريم بذلك لهذا النبيّ العظيم حين قال عنه : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام (6): 161 ـ 163.) .
إنّه
وسام الكمال الذي حازه هذا العبد المسلم وفاق في عبوديته من سواه على الإطلاق
وتجلّت هذه العبودية المثلى في قوله وسلوكه حتى قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (قرّة عيني في الصلاة) (أمالي الطوسي: 2 / 141.) فهو ينتظر وقت الصلاة ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه
بلال: أرحنا يا بلال (بحار الأنوار: 83 / 16.) وقد
كان يحدّث أهله ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه (أخلاق النبي وآدابه: 251.) . وكان إذا صلّى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (المصدر السابق : 201.) . ويبكي حتى يبل مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ (سنن النبي: 32.) ، وكان
يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخّر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً (أخلاق النبي : 199 ، وصحيح البخاري : 1 / 381 / الحديث
1078.) ؟
وكان
يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر (وسائل الشيعة: 4 / 309.) ، وكان اذا دخل شهر رمضان يتغيّر لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء (سنن النبي: 300.) . واذا دخل العشرالأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيى الليل وتفرّغ للعبادة (الكافي: 4 / 155.) . وكان يقول عن الدعاء : (الدعاء مخّ
العبادة) (المحجة البيضاء: 2 / 282.) و (سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض) (المصدر السابق : 2 / 284.) . وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء
في كل عمل كبير أو صغير، حتى كان يستغفر الله كل يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين
مرة من غير ذنب (بحار الأنوار: 16 / 217.) ، ولم يستيقظ من نوم قطّ إلاّ خرّ لله ساجداً (المصدر السابق : 16 / 253.) وكان يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة ويقول: (الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كل حال) (الكافي : 2 / 503 .) ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به.
ونزل
عليه جبرئيل مخففاً لمّا أجهد نفسه بالعبادة بقوله تعالى: (طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (طه (20) : 1 ـ 2 .)
3 ـ الثقة المطلقة بالله تعالى:
قال
الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أليس الله بكاف عبده) (الزمر (39): 36.) .
وقال له
أيضاً : (وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) (الشعراء (26): 217 ـ 219.) .
وقد كان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قال الله تعالى على ثقة مطلقة به سبحانه.
جاء عن جابر أنه قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله، فجاء رجل
من المشركين وسيف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معلق بالشجرة فاخترطه وقال: تخافني؟ قال: لا.
قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: الله.
فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله السيف فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا اله الاّ
الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون
مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس (رياض الصالحين (للنووي) : 5 / الحديث 78 ، وصحيح مسلم: 4 /
465.) .
4 ـ الشجاعة الفائقة :
قال
الله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب (33): 39.) وجاء عن علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ الذي
طأطأ له فرسان العرب ـ أنّه: كنّا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ
اتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فما
يكون أحد أدنى من القوم منه (فضائل الخمسة من الصحاح الستة : 1 / 138.) .
ووصف
المقداد ثبات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم أحد بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحده فقال: والذي بعثه بالحق إن رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ تثوب إليه طائفة من أصحابه
مرّة
وتتفرّق
عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أويرمي بالحجر حتى تحاجروا (مغازي الواقدي: 1 / 239 ـ 240.) .
5 ـ زهد منقطع النظير :
قال
تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه (20): 131.) .
وعن أبي
أمامة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: أنه قال: عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت:
لا يا ربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً.. فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ
شكرتُك وحمدتُك (سنن الترمذي : 4 / 518 / الحديث 2377.) .
ونام
على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقيل له: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءاً فقال: ما لي وما للدنيا؟! ما أنا في الدنيا الاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح
وتركها (3) .
وقال ابن
عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً وكان
اكثر خبزهم خبز الشعير (سنن الترمذي : 4 / 501 / الحديث 2360.) .
وقالت
عائشة: ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلاّ إحداهما تمر (صحيح البخاري: 5 / 2371 / الحديث 6090.) .
وقالت :
تُوفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعاً من شعير (صحيح البخاري : 3 / 1068 / الحديث 2759.) .
وعن أنس
بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنّه أوّل
طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام (الطبقات (لابن سعد) : 1 / 400.) .
وعن
قتادة قال: كنّا عند أنس وعنده خبّاز له فقال: ما أكل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم خبزاً مرقّقاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله (مسند أحمد : 3 / 582 / الحديث 11887.) .
6 ـ جود وحلم عظيمان :
قال ابن
عبّاس: كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان.. إن جبريل كان
يلقاه في كل سنة من رمضان.. فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (صحيح مسلم : 4 / 481 / الحديث 3308 ، ومسند أحمد: 1 0/ 598
/ الحديث 3415.) .
وقال
جابر: ما سُئل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً قطّ فقال لا (سنن الدارمي: 1 / 34.) .
وروي أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتى
صاحب بزٍّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار.
فقال: يا رسول الله أكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة فنزع القميص فكساه
إيّاه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم وبقي معه درهمان
فاذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما
يبكيك؟ قالت: يا رسول
الله، دفع إليّ أهلي درهمان اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشى معها إلى أهلها فسلّم
فعرفوا صوته، ثمّ عاد فسلّم، ثمّ عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم أوّل السلام؟
فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام. فما أشخصك بأبينا وأمِّنا؟ قال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، قال صاحبها: هي حرّة لوجه الله لممشاك معها. فبشّرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخير وبالجنّة; وقال: لقد
بارك الله في العشرة كسا الله نبيّه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها
رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته (المعجم الكبير (الطبراني) : 12 / 337 / الحديث 13607.) .
وكان
إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل (حياة النبي وسيرته : 3 / 311 .) .
وعن
عائشة: أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما انتقم لنفسه شيئاً يؤتى إليه إلاّ أن تنتهك حرمات الله. ولا ضرب
بيده شيئاً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلاّ أن
يُسألَ مأثماً فإنه كان أبعد الناس منه (حياة النبي وسيرته : 3 / 306.) .
وعن
عبيد بن عمير: أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما أتي في غير حدٍّ إلاّ عفا عنه (المصدر : 3 / 307.) .
وقال
أنس: خدمت رسول الله عشر سنين. فما قال لي اُفٍّ قطّ، وما قال لشي صنعتهُ: لِم
صنَعْتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟ (صحيح البخاري : 5 / 2260 / الحديث 5738.) .
وجاءه
أعرابي فجذب رداءه بشدّة حتى أثرت حاشية الرداء على عاتق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم قال له: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك
ثم أمر له بعطاء .
لقد
عُرف صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعفو والسماحة طيلة حياته... فقد عفا عن وحشي قاتل عمه حمزة... كما
عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاة مسمومة وعفا عن أبي سفيان وجعل الدخول
إلى داره أماناً من القتل. وعفا عن قريش التي عتت عن أمر ربّها وحاربته بكل ما
لديها.. وهو في ذروة القدرة والعزّة قائلاً لهم: (اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون .. اذهبوا فأنتم الطلقاء) (محمد في القرآن: 60 ـ 65.) .
لقد
أفصح القرآن عن عظمة حلم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران (3): 159.) ، ووصف مدى رأفته ورحمته بقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة (9): 128.) .
7 ـ حياؤه وتواضعه :
عن أبي
سعيد الخدريّ: كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها وإذا كره شيئاً عُرف في وجهه (صحيح البخاري : 3 / 1306 / ألحديث 3369.) .
وعن علي
عليهالسلام: كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم
وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا (مجمع الزوائد: 9 / 13.) .
وعن
يحيى بن أبي كثير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال: آكُل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.
فإنّما أنا عبد (الطبقات ( لابن سعد ) : 1 / 37 / ومجمع الزوائد: 9 / 19.) . كما اشتهر عنه أنه كان يسلّم على الصبيان (حياة النبي وسيرته : 3 / 313 / عن ابن سعد.) .
وكلّم النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم رجلاً فأرعد. فقال: هَوِّن عليك فإني
لستُ بملِك إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد (سنن ابن ماجة : 2 / 1101 / الحديث 3312.) .
وعن أبي
أمامة: خرج علينا رسول الله متوكّئاً على عصا، فقمنا إليه فقال: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) (سنن أبي داود : 4 / 358 / الحديث 5230.) .
وكان
يداعب أصحابه ولا يقول إلاّ حقّاً (سنن الترمذي : 4 / 304 / الحديث 1990.) . ولقد شارك أصحابه في بناء المسجد (مسند أحمد : 3 / 80 .) وحفر الخندق (الطبقات (لابن سعد): 1 / 240.) وكان يكثر من مشاورة أصحابه بالرغم من أنّه كان أرجح الناس عقلاً (الدر المنثور : 2 / 359 ، والمواهب اللدنيّة: 2 / 331.) .
وكان
يقول : (اللهم أحيني مسكيناً وتوفّني مسكيناً واحشرني في
زمرة المساكين وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة)
(سنن الترمذي : 4 / 499 / الحديث 2352.) .
هذه
صورة موجزة جداً عن بعض ملامح شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعض
جوانب سلوكه الفردي والاجتماعي. وهناك صور رائعة وكثيرة عن سلوكه وسيرته الإدارية
والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأسرية التي تستحق الدراسة المعمّقة للتأسي بها
والاستلهام منها، نتركها إلى الفصول اللاحقة.
الباب
الثاني: فيه فصول:
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة.
الفصل
الثاني دور الفتوّة والشباب.
الفصل
الثالث من الزواج إلى البعثة.
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة
1 ـ ملامح انهيار
المجتمع الوثني:
استحكم
الفساد والظلم في مجتمع الجزيرة في الفترة التي سبقت البعثة النبوية فلم تعد كتلة
المجتمع واحدة ولم تكن الخصائص الاجتماعية والثقافية التي أوجدتها طبيعة الحياة في
الصحراء كافية لإيقاف حالة الانهيار التي بدت ملامحها على المجتمع في الجزيرة
العربية. وما الأحلاف التي نشأت إلا تعبير عن ظاهرة اجتماعية لمقاومة ذلك التحلل
ولكنها في تعددها دليل على انعدام القوة المركزية في المجتمع.
ولا
نلاحظ حركة إصلاحية تغييرية يذكرها لنا التأريخ تكون قد سعت للنهوض بالمجتمع
والارتقاء به نحو الحياة الفضلى سوى حركة بعض الأفراد التي تعبر عن حالة الرفض
لهذا التفسخ والظلم الاجتماعي متمثلة في حالة التحنّث التي أبداها عدد قليل من
أبناء الجزيرة العربية ولم ترتق إلى مستوى النظرية أو الحركة التغييرية الفاعلة
في المجتمع... (راجع السيرة النبوية: 1/225.) وتفكك المجتمع القرشي قد نلاحظه أيضاً في ظاهرة اختلافهم حول بناء الكعبة
في الوقت الذي كانت قريش من أعز القبائل العربية وأشدها تماسكاً. ويمكن لنا أن
نستدل على تمادي المجتمع في الفساد من خلال الإنذارات المتكررة من اليهود القاطنين
في الجزيرة العربية واستفتاحهم على أهالي الجزيرة بظهور المصلح المنقذ للبشرية
برسالته السماوية وكانوا يقولون لهم: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم (بحار الأنوار: 15/231، وراجع السيرة النبوية: 1/211،
البقرة: 2/89.) .
2 ـ إيمان آباء
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ولد
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وترعرع في عائلة تدين بالتوحيد وتتمتع بسمو الأخلاق وعلو المنزلة.
فإيمان جدّه عبد المطلب نلمسه من كلامه ودعائه عند هجوم أبرهة الحبشي لهدم الكعبة
إذ لم يلتجئ إلى الأصنام بل توكل على الله لحماية الكعبة (السيرة النبوية: 1 / 43 ـ 62 ، الكامل في التأريخ: 1 / 260
، بحار الأنوار: 5 / 130.) . بل
يمكن أن نقول إن عبد المطلب كان عارفاً بشأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومستقبله المرتبط بالسماء من خلال الأخبار التي أكدت ذلك . وتجلّت
اهتماماته به في الاستسقاء بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو رضيع، وما ذلك إلاّ لما كان يعلمه من مكانته عند الله المنعم
الرازق (السيرة الحلبية : 1 / 182 ، الملل والنحل للشهرستاني: 2 /
248.) ، والشاهد الآخر هو تحذيره لأُم أيمن من الغفلة عنه عندما كان صغيراً
(سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1 / 64، وراجع تاريخ
اليعقوبي: 2 / 10.) .
وكذلك
حال عمه أبي طالب الذي استمر في رعاية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعمه
لأجل تبليغ الرسالة والصدع بها حتى آخر لحظات عمره المبارك متحملاً في ذلك أذى قريش وقطيعتهم وحصارهم له في الشعب. ونلمس هذا في ما روي عن أبي
طالب عليهالسلام في عدة مواقف ترتبط بحرصه على سلامة حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية : 1 / 979 ، تاريخ ابن عساكر: 1 / 69 ، مجمع
البيان: 7 / 37 ، مستدرك الحاكم: 2 / 623 ، الطبقات الكبرى: 1 / 168، السيرة
الحلبية: 1 / 189 ، اصول الكافي: 1 / 448 ، الغدير: 7 / 345.) .
وأما والدا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فالروايات دالّة على نبذهما للشرك والأوثان ويكفي دليلاً قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لم أزل أُنقل من
أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات) وفيه
إيعاز إلى طهارة آبائه وأمهاته من كل دنس وشرك (سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1 / 58 ، وراجع
أوائل المقالات للشيخ المفيد: 12 و13.) .
3 ـ مولد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ما إن
استنفذت الديانة النصرانية أغراضها في المجتمع البشري ولم تعد لها فاعلية تذكر حتى
حلّت في الدنيا كلّ مظاهر التيه والزّيغ، وأمسى الناس كافة ضُلاّل فتن وحيرة،
استخفّتهم الجاهلية الجهلاء، ولم تكن أوضاع الروم بأقل سوءاً من أوضاع منافسيهم في
فارس، وما كانت جزيرة العرب أفضل وضعاً من الاثنين. والكل على شفا حفرة من النّار.
وقد وصف
القرآن بصورة بليغة جانباً مأساوياً من حياة البشر آنذاك، كما وصف سيد أهل بيت
النبوة علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
الوضع المأساوي وصفاً دقيقاً عن حس ومعايشة في عدّة خطب، منها قوله في وصف حال
المجتمع الذي بُعث فيه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم:
(أرسله على حين
فترة من الرسل وطول هجعة من الأُمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأُمور وتلظّ من
الحروب والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من
ثمرها، واغورار من مائها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة
لأهلها ، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف،
ودثارها السيف) (نهج
البلاغة: الخطبة (89).) .
في مثل
هذا الظرف العصيب الذي كانت تمر به البشرية سطع النور الإلهي فأضاء العباد والبلاد
مبشراً بالحياة الكريمة والسعادة الأبدية. وذلك عندما بوركت أرض الحجاز بمولد
النبيّ الأكرم محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عام الفيل سنة (570 ميلادية) وفي شهر ربيع الأول على ما هو عليه
أكثر المحدثين والمؤرخين.
وأما عن يوم ميلاده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد حدّده أهل بيته عليهمالسلام ـ وهم أدرى بما في البيت ـ فقالوا: هو يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع
الفجر، كما هو المشهور بين الإمامية، وعند غيرهم أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولد في يوم الاثنين الثاني عشر من الشهر نفسه (راجع ، إمتاع الأسماع: 3 حيث تجد جميع الأقوال المذكورة حول
يوم ميلاد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.) .
وتتحدث
جملة من المصادر التأريخية والحديثية عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادته مثل: انطفاء
نار فارس، وزلزال أصاب الناس حتّى تهدّمت الكنائس والبيَع وزال كلّ شيء يُعبد من
دون الله عزّ وجل عن موضعه، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها حتّى
عُمّيت على السحرة والكهّان أُمورهم، وطلوع نجوم لم تُر من قبل هذا وقد ولد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول: (الله أكبر، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)
(تاريخ اليعقوبي: 2 / 8 ، السيرة الحلبية: 1 / 92.) .
واشتهر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بـ: اسمين: (محمّد)
و(أحمد) وقد ذكرهما القرآن الكريم، وروى المؤرخون أنّ جدّه عبد المطلب قد سمّاه
(محمداً)، وأجاب من سأله عن سبب التسمية قائلاً: أردت أن يحمد في السماء والأرض (السيرة الحلبية: 1 / 128.) . كما أن أُمه آمنة سمّته قبل جده بـ : (أحمد).
وقد
بشّر به الإنجيل على لسان عيسى عليهالسلام ـ كما
أخبر القرآن الكريم بذلك وصدّقه علماء أهل الكتاب ـ وقد حكاه قوله تعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف (61): 6 ، راجع السيرة الحلبية: 1 / 79 .) . ولا مانع من أن يعرف الشخص باسمين ولقبين وكنيتين في عرف الجزيرة
العربية وغيرها.
4 ـ
رضاعه الميمون :
أصبح
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الشغل الشاغل لجدّه عبد المطلب الذي فقد ابنه عبد الله ـ وهو أعزّ
أبنائه ـ في وقت مبكّر جداً. من هنا أوكل جدّه رضاعه إلى (ثويبة) وهي
جارية لأبي لهب كي يتسنى لهم إرساله إلى بادية بني سعد ليرتضع هناك وينشأ في بيئة
نقيّة بعيداً عن الأوبئة التي كانت تهدد الأطفال في مكة ويترعرع بين أبناء البادية
كما هي عادة أشراف مكة في إعطاء أطفالهم الرضّع إلى المراضع وكانت مراضع قبيلة بني سعد من المشهورات بهذا الأمر، وكانت تسكن حوالي مكة ونواحي الحرم وكانت نساؤهم يأتين إلى مكة في
موسم خاص من كل عام يلتمسن الرضعاء خصوصاً عام ولادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كانت سنة جدب وقحط فكنّ بحاجة إلى مساعدة أشراف مكة.
وزعم
بعض المؤرخين أنه لم تقبل أية واحدة من تلك المراضع أن تأخذ (محمداً) بسبب يتمه،
وأوشكت قافلة المراضع أن ترجع ومع كل واحدة رضيع إلاّ حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
فقد أعرضت عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّل
الأمر كغيرها من المرضعات وحين لم تجد رضيعاً قالت لزوجها: والله لأذهبن إلى ذلك
اليتيم فلآخذنه. ورجح لها زوجها ذلك فرجعت إليه واحتضنته والأمل يملأ نفسها في أن تجد بسببه الخير والبركة (السيرة الحلبية: 1 / 146.) .
ويردّ
هذا الزعم مكانة البيت الهاشمي الرفيعة وشخصية جدّه الذي عرف بالجود والإحسان
ومساعدة المحتاجين والمحرومين.
على أن
بعض المؤرخين قد ذكر أن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر (الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم: 1 / 81 ، السيرة الحلبية: 1 / 81 .) .
كما روي
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقبل إلاّ ثدي (حليمة) (بحار الأنوار: 15 / 342.) .
قالت
حليمة: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد. قال ما
اسمك ؟ قلت: حليمة. فتبسم عبد المطّلب وقال: بخ بخ سعدٌ وحلم خصلتان فيهما خير
الدهر وعزّ الأبد (السيرة الحلبية: 1 / 147.) .
ولم يخب
ظنّ حليمة في نيل البركة وزيادة الخير بأخذ يتيم عبد المطلب فقد روي أن ثدي
حليمة كان خالياً من اللبن فلما ارتضع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منه امتلأ ودرّ لبناً.
وتقول حليمة: عندما
أخذنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عرفنا
الخير والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى أثرينا بعد الجدب والجهد (بحار الأنوار: 15 / 345 ، المناقب لابن شهرآشوب: 1 / 24 ،
وراجع السيرة الحلبية: 1 / 149.) .
وأمضى
وليد (عبد المطلب) في أحضان حليمة وزوجها في مرابع بني سعد ما يقارب خمس سنوات رجعت به
خلالها إلى أهله عند فطامه بعد أن أتم السنتين على كره منها; لما وجدت فيه من
السعادة والخير، كما أن أُمّه أرادت أن يشتد عود ابنها بعيداً عن مكة، خوفاً عليه
من الأمراض فرجعت به مسرورة.
وروي
أنها جاءت به ثانيةً إلى مكة خوفاً عليه من أيادي السوء عندما شاهدت جماعة من
نصارى الحبشة القادمين إلى الحجاز قد أصرّوا على أخذه معهم إلى الحبشة لأنهم وجدوا
فيه علائم النبىّ الموعود، لينالوا بذلك شرف احتضانه وبلوغ المجد باتّباعه (السيرة النبوية: 1 / 167 ، بحار الأنوار: 15 / 401 ، السيرة
الحلبية: 1 / 155.) .
5 ـ الاستسقاء
بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أشار
المؤرخون إلى ظاهرة الاستسقاء برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم التي حدثت أكثر من مرة في حياته، حين كان رضيعاً وحين كان غلاماً في
حياة جدّه وعمه أبي طالب. فالمرة الأولى: لمّا أصاب أهل مكّة من الجدب العظيم،
وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر عبد المطلب ابنه أبا طالب أن يحضر حفيده محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم فأحضره
ـ وهو رضيع في قماط ـ فوضعه على يديه واستقبل الكعبة وقدّمه إلى السماء، وقال: يا
ربِّ بحق هذا الغلام، وجعل يكرّر قوله ويدعو: اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً،
فلم يلبث ساعة حتى أطبقت الغيوم وجه السماء وهطل المطر منهمراً حتى خافوا من شدته
على المسجد أن ينهدم (الملل والنحل: 2 / 248 ، وراجع السيرة الحلبيه: 1 / 182 ـ 183.) .
وتكرر
الاستسقاء ثانياً بعد مدة وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرة غلاماً حين خرج به عبد المطلب إلى جبل أبي قبيس ومعه
وجوه قريش يرجون الاستجابة ببركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد أشار أبو طالب إلى هذه الواقعة بقصيدة أولها:
أبونا شفيع الناس حين سقوا به |
|
من الغيث رجاس العشير بكور |
ونحن ـ سنين المحل ـ قام شفيعنا |
|
بمكّة يدعو والمياه تغور (3) |
السيرة الحلبية: 1 / 331.
ونقل
المؤرّخون أن قريشاً طلبت من أبي طالب أن يستسقي لهم فخرج أبو طالب إلى المسجد
الحرام وبيده النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وهو غلام ـ كأنه شمس دجى تجلّت عنها غمامة ـ فدعا الله بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبلت السحاب في السماء وهطل المطر فسالت به الأودية وسرّ الجميع
وقد ذكر أبو طالب هذه الكرامة أيضاً عندما تمادت قريش في عدائها للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ورسالته المباركة فقال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ربيع اليتامى عصمة للأرامل |
تلوذ به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل (1) |
السيرة الحلبية: 1 / 190، البداية والنهاية: 3 / 52، بحار الأنوار: 8 /
2.
وكلّ
هذا يعرب لنا عن توحيد كفيلي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخالص وإيمانهما بالله تعالى، ولو لم يكن لهما إلاّ هذان الموقفان
لكفاهما فخراً واعتزازاً. وهذا يدل أيضاً على أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نشأ في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي الحنيفية وتوحيد الله
تعالى.
6 ـ مع
اُمّه آمنة :
لم
يتمتع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطول رعاية أُمه الحنون التي عاشت بعد أبيه وهي تنتظر أن يشبَّ يتيم
عبد الله ليكون لها سلوةً عن فقد زوجها الحبيب ولكن الموت لم يمهلها طويلاً. فقد
روي أن حليمة السعدية جاءت بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أهله وقد بلغ خمس سنين. وأرادت أُمه آمنة أن تحمله معها وتزور
قبر زوجها العزيز ويزور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أخواله من بني النجار في يثرب فيتعرف في هذه السفرة عليهم ولكن هذه
الرحلة لم تترك على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ حزناً آخر حيث فقد أُمه في طريق العودة في منطقة تدعى بالأبواء بعد أن زار الدار
التي توفيّ ودفن فيها أبوه، وكأنّ
تلاحق الأحزان على قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في طفولته كانت خطوات إعداد إلهي لتتكامل نفسه الشريفة.
وواصلت
أُم أيمن رحلتها نحو مكة وهي تصطحب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لتسلمه إلى جدّه عبد المطلب الذي ازداد تعلّقاً بحفيده محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة الحلبية: 1 / 105.) .
7 ـ مع
جدّه عبد المطّلب :
بلغ
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في قلب عبد المطلب مكانة لم يبلغها أحد من بنيه وأحفاده وهم سادات
بطحاء مكة، فقد روي
أن عبد المطلب كان يجلس في فناء الكعبة على بساط كان يُمد له وحوله وجوه قريش
وساداتها وأولاده، فإذا
وقعت عيناه على حفيده (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بأن يفرج له حتى يتقدم نحوه ثمّ يجلسه إلى جنبه على ذلك البساط
الخاص به (السيرة النبوية: 1 / 168.) . وهذه العناية من سيد قريش قد عزّزت من مكانة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في نفوس قريش إضافة إلى سمو أخلاقه منذ نعومة أظفاره.
ولقد
أشار القرآن الكريم إلى فترة اليتم هذه التي اجتازها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت رعاية ربه بقوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) إن فترة اليتم عادة تصب في صياغة الإنسان وإعداده للنضج والاعتماد
على النفس في تحمّل الصعاب والمكاره عند مواجهتها والصبر عليها. وهكذا تولّى الله
إعداد نبيّه المختار ليكون قادراً على تحمل مهام المستقبل وحمل الرسالة الكبرى
التي كانت تنتظر نضجه وكماله. وقد أشار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه الحقيقة بقوله: (أدبني ربي فأحسن
تأديبي) (مجمع البيان : 5 / 333 تفسير مطلع سورة القلم .) .
ولم يمض
من عمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر
من ثمان سنوات حتى مُني بمحنة ثالثة وهي فقد جدّه العظيم (عبد المطلب)، وقد
حزن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لموت جدّه حزناً لا يقل عن حزنه لموت أُمه حتى أنّه بكى بكاء شديداً
وهو يتبع نعشه إلى مقرّه
الأخير، ولم ينس ذكره أبداً; إذ كان يرعاه خير رعاية وكان عارفاً بنبوّته فقد روي
أنّه قال ـ لمن أراد أن ينحي عنه محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
عندما كان طفلاً يدرج ـ : دع ابني فإنّ الملك قد أتاه (تاريخ اليعقوبي : 2 / 10.) .
الفصل
الثاني: دور الفتوّة والشباب
1 ـ كفالة أبي طالب
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
لقد
استمرت رعاية عبد المطلب لحفيده (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أوكل أمره إلى ولده أبي طالب لما كان يعلم من أن أبا طالب سيقوم
برعاية ابن أخيه خير قيام وهو وإن كان فقيراً لكنّه كان أنبل إخوته وأكرمهم في
قريش مكانة واحتراماً. على أنّ أبا طالب كان شقيق عبد الله لأُمه وأبيه وهو مما
يزيد أواصر التلاحم مع (محمد) صلىاللهعليهوآلهوسلم والحنان والعطف عليه.
وتقبّل
أبو طالب هذه المسؤولية بفخر واعتزاز وكانت تعينه في ذلك زوجته الطيبة فاطمة بنت
أسد فكانا يؤثران محمداً بالنفقة والكسوة على نفسيهما وعلى أولادهما، وقد عبّر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك حين وفاة فاطمة بنت أسد قائلاً: اليوم ماتت أُمي.
وكفّنها بقميصه واضطجع في لحدها.
ومنذ
وفاة عبد المطلب بدأت مهمة أبي طالب الشاقّة في المحافظة على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فكان يقيه بماله ونفسه وجاهه منذ صغره ويدافع عنه وينصره بيده ولسانه
طوال حياته حتى نشأ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وتلقّى النبوّة وصدع بالرسالة (مناقب آل أبي طالب: 1 / 35 ، تاريخ اليعقوبي: 2 / 14.) .
2 ـ
السفرة الأولى إلى الشام :
كان من
عادة قريش الخروج إلى الشام كل عام مرة للتجارة إذ كانت هي المصدر الرئيس للكسب
وعزم أبو طالب على الخروج في هذه الرحلة ولم يكن يفكر في استصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم خوفاً عليه من وعثاء السفر ومخاطر اجتياز الصحراء، ولكن في لحظة
الرحيل غيّر أبو طالب قراره إذ وجد الإصرار لدى ابن أخيه كبيراً حين أغرورقت عيناه
بالدموع لفراق عمه، فكانت الرحلة الاُولى لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام بصحبة عمّه. واطّلع محمّد في هذه الرحلة على طبيعة السفر
عبر الصحراء وعرف طرق سير القوافل.
وفي هذه
الرحلة شاهد بحيرا الراهب محمّداً والتقى به ووجد فيه علامات النبيّ الخاتم الذي بشّر به عيسى عليهالسلام إذ كان ممن خبر
التوراة والإنجيل وغيرهما من المصادر المبشرة بظهور النبي الخاتم، فنصح عمه أبا
طالب أن يعود به إلى مكة وأن يحتاط عليه من اليهود لئلاّ يغتالوه (1) . فقفل أبو طالب راجعاً إلى مكة ومعه ابن أخيه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
3 ـ رعي
الغنم :
لم يرو عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام ما ينص
على أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رعى الأغنام في صباه، نعم روي عن الإمام الصادق عليهالسلام حديث يعمّ الأنبياء فيما يخص الرعي وحكمة ذلك إذ جاء فيه: (ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم، يعلّمه بذلك رعيه للناس).
كما روي
عنه عليهالسلام في حكمة الحرث والرعي قوله: (إنّ الله عزّ وجلّ
أحبّ لأنبيائه من الأعمال: الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئاً من قطر السماء) (علل الشرائع: ص23، سفينة البحار: مادة نبأ.) .
وروي
أيضاً: إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كان أجيراً لأحد قط (تاريخ اليعقوبي: 2 / 21، البداية والنهاية: 2 / 296.) .
ويدل
هذا النّص على أنّه
لم يكن يرعى الغنم لأهل
مكة بأجرة كما زعم
بعض المؤرخين من أ نّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رعى الغنم لأهل مكة مستشهداً بحديث جاء في صحيح البخاري (صحيح البخاري: كتاب الإجارة، الباب 303 ، الحديث رقم 499 .) .
وإذا
ثبت لدينا رعيه صلىاللهعليهوآلهوسلم للغنم
في صباه أو في عنفوان شبابه أمكن تعليل ذلك بما جاء في النصّ الذي أشرنا إليه من
حديث الإمام الصادق عليهالسلام وهو
الإعداد الإلهي له من خلال ممارسة النشاط الذي يؤهله لبلوغ المرتبة السامية من
الكمال الذي وصفه الله تعالى به بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم : 68/4.) كمالاً يجعله
مستعداً لتحمل أعباء الرسالة الإلهية التي تتطلب رعاية الناس وتربيتهم والصبر على
مصاعب هدايتهم وإرشادهم.
4 ـ
حروب الفجار :
كانت
للعرب عدّة حروب استحلّت فيها حرمة الأشهر الحرم فسميت بحروب الفجار (موسوعة التاريخ الإسلامي 1 : 301 ـ 305 عن الأغاني 19 : 74
ـ 80 .) .
وزعم
بعض المؤرخين أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد حضر
بعض أيامها، وشارك فيها بنحو من المشاركة. وقد شكك بعض المحققين في ذلك لأسباب
منها:
أولاً: أن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كلما تقدم في العمر كانت شخصيته تزداد تألّقاً وقد عرف بشجاعته
الفائقة كسائر بني هاشم، ولكن هذا لا يعني أنهم شاركوا في حرب فيها ظلم وفساد. فقد
روي أن أحداً من بني هاشم لم يحضر هذه الحروب فإن أبا طالب كان قد منع أن يكون
فيها أحد منهم حين قال: هذا ظلم وعدوان، وقطيعة رحم، واستحلال للشهر الحرام، ولا
أحضره ولا أحد من أهلي (تاريخ اليعقوبي: 2 / 15.) .
وانسحب عبد الله بن جدعان وحرب بن أُمية ـ وهو قائد قريش وكنانة حينذاك ـ وقالا:
لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم (تاريخ اليعقوبي : 2 / 15 .) .
ثانياً: اختلفت
الروايات حول الدور الذي أدّاه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه
الحرب، فبعضهم روى: أنّ عمله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يقتصر على مناولة النبل لأعمامه والردّ على نبل عدوهم وحفظ متاعهم (راجع موسوعة التاريخ الإسلامي : 1 / 304 .) . وروى آخر: أنّه قد رمى فيها برميات (السيرة النبوية لزيني دحلان: 1 / 251، السيرة الحلبية: 1 /
127.) ، وروى ثالث أنه طعن أبا البراء ملاعب الأسنة فصرعه (السيرة النبوية لزيني دحلان: 1 / 251، السيرة الحلبية: 1 /
127.) مع أنه كان غلاماً (تاريخ اليعقوبي: 2 / 16.) ، ولا ندري هل كانت العرب تسمح للغلام بخوض المعارك والحروب (راجع الصحيح في السيرة : 1 / 95 .) .
5 ـ حلف
الفضول :
شعرت
قريش بعد حرب الفجار بضعفها وتفرّق كلمتها، وخشيت من طمع العرب فيها بعد أن كانت
قويةً منيعةً، فدعا الزبير بن عبد المطلب إلى حلف الفضول حيث اجتمعت بنو هاشم
وزهرة وتميم وبنو أسد في دار عبد الله بن جدعان، وغمس المتحالفون أيديهم فى ماء
زمزم وتحالفوا على نصرة المظلوم، والتأسي بالمعاش، والنهي عن المنكر (البداية والنهاية: 3 / 293، وراجع شرح النهج لابن أبي
الحديد: 14 / 129 و283.) وكان أشرف حلف في العهد الجاهلي. وقد شارك محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا الحلف وكان يومئذ قد جاوز العشرين من عمره (تاريخ اليعقوبي: 1 / 17.) وقد أثنى عليه بعد نبوّته وأمضاه. بقوله: ما أحب أن لي بحلف حضرته في
دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت) (سيرة ابن هشام: 1 / 142.) .
وقيل في
سبب تسميته بحلف الفضول أنه قد حضره ثلاثة نفر أسماؤهم مشتقة من مادة (الفضل) وكان السبب في عقد هذا الحلف ما روي من أنه: أتى رجل من زبيد أو من بني أسد بن خزيمة مكة في شهر ذي القعدة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وحبس عنه حقه فاستعدى عليه
الزبيدي قريشاً فأبت الأحلاف من قريش معونة الزبيدي على العاص بن وائل وانتهروه
فلما رأى الزبيدي الشرّ صعد على جبل أبي قبيس واستغاث فقام الزبير بن عبد المطلب
ودعا إلى الحلف المذكور; فعقد، ثم مشوا إلى العاص وانتزعوا منه سلعة الزبيدي
فدفعوها إليه (السيرة الحلبية: 1 / 132، البداية والنهاية: 2 / 291.) .
6 ـ التجارة بأموال
خديجة :
بدأت
شخصية محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم تتلألأ في المجتمع المكي بما كانت تتمتع به من خلق رفيع وعلو همة
وأمانة وصدق حديث فكانت القلوب تنجذب إليه وهو سليل أسرة طاهرة ولكن الفقر الذي
كان حليف أبي طالب دفع بالأسرة الكريمة التي كان يعيش فيها محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن يقترح أبو طالب على ابن أخيه الذي كان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يخرج مضارباً بأموال خديجة بنت خويلد وبادر أبو طالب إلى خديجة
وفاتحها بالأمر فرحّبت به على الفور وسرّت سروراً عظيماً لما كانت تعرفه عن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد بذلت له ضعف ما كانت تبذل لغيره ممّن يخرج في تجارتها (راجع بحار الأنوار: 16 / 22، كشف الغمة: 2 / 134 نقلاً عن
معالم العترة للجنابذي، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: 1 / 132.) .
وسافر
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام يعينه في رحلته (ميسرة) غلام خديجة واستطاع بجمال شمائله
ورقيق عواطفه أن يكسب حبّ ميسرة وإجلاله واستطاع بأمانته وحنكته أن يربح أوفر
الربح وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلما عادت القافلة إلى مكة أخبر
ميسرة خديجة بما شاهد وسمع (البداية والنهاية: 2 / 296، السيرة الحلبية: 1 / 136.) مما زاد في اهتمام خديجة بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وشوّقها إلى الاقتران به.
وزعم
بعض المؤرخين: أنّ خديجة قد استأجرته في تجارتها، بينما قال اليعقوبي ـ وتاريخه
الذي يعدّ من أقدم المصادر المعتمدة ـ: (وإنه ما كان مما يقول الناس: إنها
استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قط) (تاريخ اليعقوبي: 2 / 21.) .
وقد ورد
النصّ عن الإمام الحسن العسكري، عن أبيه الإمام الهادي عليهالسلام: (إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد) (بحار الأنوار: 17 / 308.) .
الفصل
الثالث: من الزواج إلى البعثة
1 ـ الزواج المبارك
:
كان
لابد لمثل شخصية محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم التى فاقت كلّ شخصيّة من الاقتران بامرأة تناسبه وتتجاوب مع عظيم
أهدافه وقيمه تواصل معه رحلة الجهاد والعمل المضنية وتصبر على متاعبه ومصاعبه، ولم
يكن يومذاك امرأة تصلح لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولهذه المهمة سوى خديجة، وشاء الله ذلك فاتجه قلب خديجة بكلّ عواطفه
نحو محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعلق بشخصه الكريم. ولقد كانت خديجة (رضي الله عنها) من خيرة نساء
قريش شرفاً وأكثرهن مالاً وأحسنهن جمالاً، وكانت تدعى في الجاهلية بـ(الطاهرة)
و(سيدة قريش). وكان كل رجال قومها حريصين على الاقتران بها.
وقد
خطبها عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، فرفضتهم جميعاً (بحار الأنوار: 16 / 22.) لما كانت تملك من عقل راجح يزن الأمور، ولكنّها اختارت محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم لما عرفت فيه من النبل والأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة والقيم
العالية. فطلبت النزول في ساحة عظمته، وعرضت نفسها عليه.
وتظافرت
النصوص التأريخية على أنّها هي التي أبدت أوّلاً رغبتها في الاقتران به، فذهب أبو
طالب في أهل بيته، ونفر من قريش لخطبتها من وليّها آنذاك وهو عمها عمرو بن أسد (السيرة الحلبية: 1 / 137.) وكان ذلك قبل بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بخمس عشرة سنة على المشهور.
وكان
مما قاله أبو طالب في خطبته: (الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم
وذرية إسماعيل وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا
الذي نحن فيه ... ثمّ إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به ولا
يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاًّ في المال; فإن
المال رفد جار، وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها
إليك، برضاها وأمرها والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله... وله وربّ
هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع ورأي كامل) (الكافي: 5 / 374، بحار الأنوار: 16 / 5 نقلاً عن الكشاف
وربيع الابرار، وراجع أيضاً السيرة الحلبية: 1 / 139، تاريخ اليعقوبي: 2 / 20،
الأوائل لأبي هلال: 1 / 162.) .
لكن خديجة (رضي الله عنها) عادت، فضمنت المهر في مالها.. فقال البعض: يا عجباً! المهر على
النساء للرجال فغضب أبو طالب، وقال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال
بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلاّ بالمهر الغالي).
وتفيد بعض المصادر أن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه قد أمهرها، ولا مانع من ذلك حينما يكون قد أمهرها بواسطة أبي
طالب، ومن خطبة أبي طالب يمكننا أن نستشف علو مكانة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في قلوب الناس، وما كان يتمتع به بنو هاشم من شرف وسؤدد.
خديجة قبل أن
يتزوّجها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم:
ولدت
خديجة وسط اُسرة عريقة النسب كانت تتمتّع بالذكر الطيب والخلق الكريم وتميل إلى
التدين بالحنيفية ـ دين إبراهيم الخليل عليهالسلام ـ فأبوها خويلد نازع ملك اليمن حين أراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن، ولم ترهبه
كثرة أنصاره دفاعاً عن معتقده ومناسك دينه، وأسد بن عبد العزى ـ جد خديجة ـ كان من المبرّزين في حلف
الفضول الذي قام على أساس نصرة المظلوم، وقد شهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهمية هذا الحلف وأيّد القيم التي قام عليها (السيرة النبوية: 1 / 141.) . وابن عمها ورقة بن نوفل كان قد عاشر النصارى واليهود ودرس كتبهم.
إن
التأريخ لا
يعطينا تفاصيل دقيقة عن حياة خديجة قبل زواجها من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقد
روي أنها تزوجت قبله صلىاللهعليهوآلهوسلم برجلين وكان لها منهما بعض الأولاد وهما عتيق بن عائد المخزومي وأبو هالة التميمي (للإطلاع على اختلاف الروايات راجع الاصابة: 3 / 611، السيرة
الحلبية: 1 / 140، أسد الغابة: 5 / 71 و 121 .) ، في حين تروي مصادر أُخرى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حين تزوج بها كانت بكراً، وحينئذ تكون زينب ورقية ابنتي هالة أخت خديجة قد تبنّتهما خديجة بعد فقدهما لاُمّهما (مناقب آل أبي طالب: 1 / 159. وراجع أيضاً أعلام الهداية
الجزء 3 ، والصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم : 1 / 121 ـ 126 .) .
واختلف المؤرّخون في
تحديد عمر خديجة (رضي الله عنها) حين زواجها مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فهناك من روى أن عمرها كان (25) عاماً وآخر (28) عاماً وثالث (30)
عاماً ورابع (35) عاماً وخامس (40) عاماً (راجع السيرة الحلبية: 1 / 140، البداية والنهاية: 2 / 295،
بحار الأنوار: 16 / 12، سيرة مغلطاي: 12. والصحيح من سيرة النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم : 1 / 126 .) .
2 ـ
إعادة وضع الحجر الأسود :
كان
للكعبة منزلة كبيرة لدى العرب إذ كانت تعتني بها وتحج إليها في الجاهلية. وقبل
البعثة النبوية بخمسة أعوام هدم السيل الكعبة فاجتمعت قريش وقررت بناءها وتوسعتها
وباشر أشراف القريشيين والمكيين العمل، ولما تكامل البناء وبلغوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في مَن يضعه في
مكانه; فكل قبيلة كانت تريد أن تختص بشرف ذلك
واستعدوا للقتال وانضم كل حليف إلى حليفه وتركوا العمل في بنائها ثم اجتمعوا في
المسجد فتشاوروا واتفقوا على ان يكون أول داخل على الاجتماع هو الحكم بينهم
وتعاهدوا على الالتزام بحكمه فكان أول داخل محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأقدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على حلّ النزاع حين جعل الحجر في ثوب وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من
الثوب، ثمّ قال: ارفعوا جميعاً ففعلوا فلما حاذوا موضعه أخذه بيده الشريفة ووضعه
حيث يجب أن يكون، وبعد ذلك أتمّوا بناءها (راجع تاريخ اليعقوبي: 2 / 19، سيرة ابن هشام: 1 / 204،
البداية والنهاية: 2 / 300، تاريخ الطبري: 2 / 37 (ط. الاستقامة).) .
وروى
بعض المؤرخين: أنهم كانوا يتحاكمون إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجاهلية لأنّه كان لا يداري ولا يماري (السيرة الحلبية: / 1 / 145.) .
لقد كان
لهذا الموقف أثر كبير في نفوس تلك القبائل وأعطى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم رصيداً
كبيراً وعمقاً جديداً لتثبيت مكانته الاجتماعية ولفت انتباههم إلى قدراته القيادية
وكفاءته الإدارية مما ركّز ثقتهم بسموّ حكمته وحنكته وعظيم أمانته.
3 ـ ولادة عليّ عليهالسلام وتربية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم له :
إنّ
العلاقة بين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ بن أبي طالب عليهالسلام لا
تقتصر على النسب بل تتميّز بأنّها علاقة فكرية وعاطفية عميقة جداً، فما ان خرجت
فاطمة بنت أسد تحمل وليدها الذي وضعته في بطن الكعبة (قال الحاكم النيسابوري: (فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت
أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة) المستدرك
على الصحيحين : 3 / 483.) حتى تقدّم إليها محمّد المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخذ علياً فضمَّه إلى صدره (الفصول المهمة لإبن الصباغ: 13 .) وكانت هذه بداية العناية به والإعداد الخاص له.
ونشأ الوليد في أحضان والديه وابن عمه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي
كان يتردد كثيراً على دار عمّه حتى بعد زواجه من خديجة (رضي الله عنها)، يشمله
بفيض خاص من العواطف والاهتمام الفائق يناغيه في يقظته ويحمله على صدره، ويحرك
مهده عند نومه. وقد انعكست هذه الرعاية المستمرة لسنوات طويلة وهذا الحنان العظيم
الملفت للنظر بآثارها على سلوك عليّ وشعوره حتّى طفح على لسانه وكلامه فأشار إلى
شدة قربه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله عليهالسلام: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني
إلى صدره ويكنفني في فراشه ويُمِسُّني جسده ويُشمّني عَرْفه وكان يمضغ الشيء ثم
يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل
أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) (نهج البلاغة: الخطبة القاصعة رقم (192).) .
وحين
اشتدت الأزمة الاقتصادية على قريش سارع محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
مقترحاً على
عمّيه حمزة والعباس أن يعينوا أبا طالب في شدّته فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة
جعفراً واستبقى أبو طالب عقيلاً وأخذ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً وقال لهم: قد اخترت من اختار الله لي عليكم: علياً (مقاتل الطالبيين : 36، الكامل في التأريخ: 1 / 37.) .
وهكذا انتقل عليّ عليهالسلام إلى دار ابن عمه ورعايته وأخذت تتبلور شخصيته ولم يفارقه
حتى آخر لحظات عمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم . أن
اهتمام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعلي عليهالسلام لم
يقتصر على فترة الأزمة الاقتصادية وهذا يفيدنا بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يهدف أمراً آخر هو أن يتربى عليّ عليهالسلام في حجره صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعدّه إعداداً خاصاً كي يتسنى له القيام بدور رسالي عظيم في صيانة
شريعة الرسول الخاتم التي كان الله قد اختار لها خير خلقه وصفوة عباده.
وهكذا هيأ الله لعلي عليهالسلام أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يحظى بمودّته وحنانه، ويقتبس من أخلاقه وعظيم سجاياه. هذا وقد عامله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما لو كان ولده الحبيب .. وعاش علي عليهالسلام مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ التحولات الغيبية التي جرت لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ لم يفارقه في كل يومه (نهج البلاغة : الخطبة 192 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 /
315 .) .
إن ما
حفظه لنا التأريخ من سيرة الإمام علي عليهالسلام يجسد
لنا ـ بعمق وقوة ـ المدى الذي كان الإمام عليهالسلام قد حظي به في مضمار الإعداد الرسالي على يد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة وبعدها وما خصّه به من إعداد روحي ونفسي ممّ جعله جديراً
بالمرجعية الفكرية والعلمية فضلاً عن المرجعية السياسية بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
4 ـ ملامح من شخصية
خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل
البعثة :
لقد سطع
اسم محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجتمع الجزيرة العربية في وقت كان الوهن والتفكك قد بدا على أواصر
ذلك المجتمع بكل نواحيه وكانت شخصيّة محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تزداد تألّقاً وسموّاً.
وبدأت
تظهر استقامة شخصيته في كل جوانب سلوكه وكمالاته الاخلاقية. إلى جانب الأصالة
العائلية المتمثلة في كرم المحتد وطهارة المولد يرفده الإمداد الغيبي والتسديد
الإلهي الذي يصونه عن كلّ المعاصي والمساوئ.
ولقد
كان علي بن أبي طالب أكثر الناس التصاقاً ومعرفة بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكلامه عن الرسول أصدق قول حيث قال: (ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لَدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم،
ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره) (نهج البلاغة : الخطبة 192.) .
وقد روي
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم مدى بغضه للأصنام منذ الطفولة ففي قصة سفره إلى الشام مع عمه أبي
طالب نجده يرفض أن يقيم وزناً للأوثان (السيرة النبوية: 1 / 182، الطبقات الكبرى: 1 / 154.) .
لقد
اختار محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم لنفسه
ولبناء شخصيته منهجاً خاصّاً حقّق له حياة زاخرة بالمعنوية والقيم السامية فلم يكن
كَلاًّ على أحد ولا عاطلاً عن العمل، فقد رعى الأغنام لأهله حين كان فتىً يافعاً (السيرة الحلبية: 1 / 125، سفينة البحار، مادة نبأ، السيرة
النبوية لابن هشام: 1 / 166.) وسافر للتجارة في
عنفوان شبابه (بحار الأنوار: 16 / 22 ، كشف الغمة: 2 / 13 ، الكامل في التأريخ: 2 /
24.) ; وفي جانب آخر من شخصيته الفذّة نلمس جمال الإنسانية متجليّاً في
كمال الرحمة وغاية
العطف على الضعفاء والفقراء وخير نموذج على ذلك تعامله مع زيد بن حارثة الذي رفض
العودة إلى أبيه وفضّل الحياة الكريمة مع محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (الإصابة: 1 / 545، أسد الغابة: 2 / 225.) .
وهكذا
نعرف أن محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
قبل بعثته رجلاً لبيباً فاضلاً رشيداً طوى سنوات شبابه وهو يملك أسمى مقوّمات
التعامل الإنساني والاجتماعي في مجتمع الجزيرة الجاهلي وقد فاق بشخصيته المُثلى
جميع من سواه في عامة المجتمع الإنساني آنذاك، وبذلك شهد له التنزيل قائلاً له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم (68): 4.).
الباب
الثالث: فيه فصول:
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها.
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي.
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم وأبي طالب من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة.
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها
تمثل
نصوص القرآن الكريم أقدم النصوص التأريخية التي تتمتع بالصحة والدقة والمعاصرة لأحداث
عصر الرسالة الإسلامية، والمنهج العلمي يفرض علينا أن لا نتجاوز نصوص القرآن
الكريم فيما يخص عصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي نزلت فيه الآيات حين بعثته واستمرت بالنزول حتى وفاته.
وإذا
عرفنا أن الروايات التأريخية المتمثلة في كتب الحديث والسيرة قد تأخّر تدوينها عن
عصر وقوع الحوادث أوّلاً، كما أنّها قريبة من الدس وتطرق التزوير إليها ثانياً;
كان من الطبيعي والمنطقي أن نعرضها على محكمات الكتاب والسنة والعقل لنأخذ ما
يوافقها ونرفض ما يخالفها.
وينبغي
أن لا يغيب عنا أن النبوة سفارة ربّانية ومهمة إلهية تتعيّن من قبله سبحانه وتعالى
لغرض رفد البشرية بالهداية اللازمة لها على مدى الحياة. وأن الله إنما يصطفي من
عباده مَن يتمتّع بخصائص فذة تجعله قادراً على أداء المهامّ الكبرى المرادة منه
وتحقيقها بالنحو اللائق.
اذن
لابدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالى مستوعباً للرسالة وأهدافها وقادراً على أداء
الدور المطلوب منه على مستوى التلقيّ والتبليغ والتبيين والتطبيق والدفاع والصيانة
وكل هذه المستويات من المسؤولية تتطلب العلم والبصيرة ( والمعرفة ) وسلامة النفس
وصلاح الضمير والصبر والاستقامة والشجاعة والحلم والانابة والعبوديّة لله والخشية
منه والإخلاص له والعصمة (والتسديد الرباني ) على طول الخط. ولم يكن خاتم المرسلين
بدعاً من الرسل بل هو أكملهم وأعظمهم فهو أجمع لصفات كمالهم والله أعلم حيث يجعل
رسالته.
ومن
أبده القضايا ومن مقتضيات طبائع الأشياء أن يكون المرشَّح لمهمّة ربانيّة كبرى على
استعداد تام لتقبّلها وتنفيذها قبل أن يتولّى تلك المهمة أو يرشّح لأدائها. إذن،
لابد للنبي الخاتم أن يكون قد أحرز كل متطلّبات حمل هذه المسؤولية الإلهية وتوفّر
على كل الخصائص اللازمة لتحقيق هذه المهمة الربانية قبل البعثة المباركة. وهذا هو
الّذي تؤيده نصوص القرآن الكريم.
1 ـ قال
تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى (42): 3.) .
2 ـ
وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف (12) : 109.) .
3 ـ
وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء (21) : 25.) .
4 ـ
وقال أيضاً: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء (21): 73.) .
اذن
مصدر الوحي هو الله العزيز الحكيم. والمرسَلون رجالٌ يُوحي اليهم الله سبحانه
معالم توحيده وعبادته ويجعلهم أئمةً يهدون بأمره كما يوحي إليهم تفاصيل الشريعة من
فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهم القدوة لغيرهم في العبادة والتجسيد
الحي للاسلام الحقيقي لله سبحانه.
وفيما
يخص خاتم النبيين يقول سبحانه وتعالى :
1 ـ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً
عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ... ) (1) .
2 ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * ... فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (2) .
3 ـ (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (3) .
4 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ
الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (4) .
5 ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (5) .
(1 ـ 5) الشورى (42): 7 و13 و15 و17 و24 و51 و52.
إنّ
الذين عاصروا الرسول الكريم قبل بعثته وحتى وفاته لم يقدّموا لنا تصويراً صحيحاً
وواضحاً عن الرسول قبل بعثته بل وحين البعثة. ولعلّ أقدم النصوص وأتقنها هو ما جاء
عن ربيب الرسول وابن عمه ووصيّه الذي لم يفارقه قبل بعثته وعاشره طيلة حياته، إلى
جانب أمانته في النقل ودقته في تصوير هذه الشخصية الفذة. فقد قال عن الفترة التي
سبقت البعثة النبوية وهو يتحدّث عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم:
(ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآلهوسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم
ومحاسن أخلاق العالم. ليله ونهاره. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثَر أمه. يرفع
لي في كل يوم من أخلاقه علماً. وقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري) (نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة: 292.) .
ويتوافق
هذا النص مع قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم (68) : 4 .) . فقد نزل هذا النص في بداية البعثة. والخُلق ملكة نفسية متجذرة في
النفس لا تستحدث خلال أيام، فوصفه بعظمة خُلُقه يكشف عن سبق اتصافه بهذه الصفة قبل
البعثة المباركة.
وتتضح
بجلاء بعض معالم شخصيته صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة من خلال نص حفيده الإمام الصادق عليهالسلام : إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له
الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوسَ عباده (الكافي : 1 / 66 / الحديث 4.) .
على أنّ
الخلق العظيم جامع لتمام المكارم التي فسّرها النص الوارد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث يقول: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فكيف يراد له تتميم
مكارم الأخلاق وهو لم يتصف بها بعدُ؟! إذن لابدّ من القول بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قبل البعثة قد أحرز جميع المكارم ليكون وصفه بالخلق العظيم وصفاً
صحيحاً ومنطقياً.
فالرسول
قبل بعثته كان مثال الشخصية المتّزنة المتعادلة والواعية المتكاملة والجامعة
لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وحميد الأفعال.
والنصوص
القرآنية التي تشير إلى ظاهرة الوحي الرسالي وكيفية تلقي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم له تصرّح بشكل لايقبل الترديد بما كان عليه الرسول من الطمأنينة
والثبات والاستجابة التامة لأوامر الله تعالى ونواهيه التي كان يتلقّاها قلبه
الكريم.
لاحظ ما
سقناه اليك من نصوص سورة الشورى، واقرأ أيضاً ما جاء في غيرها مثل قوله تعالى:
1 ـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا
رَأَى) (النجم (53) : 1 ـ 11.) .
2 ـ ( (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي) (الأنعام (6): 57.) .
3 ـ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ) (الكهف (18): 110.) .
4 ـ (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (الأنبياء (21): 45.) .
5 ـ (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنبياء (21): 108.) .
6 ـ (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه (20) : 114.) .
7 ـ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي) (سبأ (34): 50.) .
8 ـ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف (12): 108.) .
واذا
عرفت ما جاء في هذه النصوص القرآنية المباركة تستطيع أن تولّي وجهك شطر المصادر
الحديثية والتأريخية لتقف على محكماتها ومتشابهاتها.
قال الامام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنّها قالت: (أول ما بدئ به
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل
فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع إلى
خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
وليس في بداية هذا النص ما يدعو للاستغراب سوى أن عائشة لم تكن حين بدء
الوحي، والنص لا يفصح أنّها عمّن استقت هذه
المعلومات؟ وهي لم تروه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مباشرة. ولكن في ذيل النص ما هو مدعاة للاستغراب طبعاً.
قالت:
(ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن
عم خديجة أخي أبيها، وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي
فكتب بالعربيّة من الإنجيل ـ ما شاء الله أن يكتب ـ وكان شيخاً كبيراً قد عمي،
فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ما ترى؟ فأخبره
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما
رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى عليهالسلام ، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك، فقال رسول
الله: (أَو َمُخرِجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم
ينشب ورقة أن توفي) (مسند أحمد، الحديث رقم : 24681.) .
إن ورقة
الذي لم يُسلِم بعد هو عارفٌ بما سيجري على النبي فضلاً عن علمه بنبوته! بينما
صاحب الدعوة والرسالة نفسه لم يتضح له الامر بعد! وكأنّ ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة! والقرآن قد صرّح بأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على بيّنة من ربّه، كما عرفت ذلك في أكثر من آية تنصّ على أن الرسل
هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البيّنات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث إلى أن ورقة هو الذي عرف رسالة
النبي قبله فبعث فيه الطمأنينة.
وهذا هو
الذي فتح الطريق لأهل الكتاب للغمز في رسالة النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ قالوا بأن نبيّكم ـ بموجب نصوصكم هذه ـ لم يطمئن إلى أنه رسول من الله إلاّ بعد تطمين ورقة المسيحي له، وقد
تجرأ البعض حتى ادعى أن محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة استناداً إلى هذا النص الذي
نقلته كتب الحديث وتداوله المؤرخون! وهذه ثغرة حصلت من الابتعاد عن محكمات العقل
والكتاب والسنة جميعاً.
وهل
يصدّق بهذا عاقل عرف المنطق القرآني وتعرّف على شخصية الأنبياء في القرآن الكريم؟
وكيف يمكن له أن يؤمن بمضمون هذا النص على أنه حقيقة; لمجرد زعم انتسابه إلى عائشة
زوجة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟!
وثمة
نصّ آخر في تاريخ الطبري هو أكثر فظاعة من هذا وأدعى للريب في محتواه حيث يذكر أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان نائماً وجاءه الملك وعلّمه مطلع سورة العلق.. يقول النص بعد ذلك:
(وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً. قال:
ولم يكن
من خلق الله أحدٌ أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر اليهما، قال:
قلت: إن الأبعد ـ يعنى نفسه ـ لشاعر أو مجنون! لا تحدّث بها عني قريش أبداً!
لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها فلأستريحن. قال: فخرجت
أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول
الله وأنا جبريل) (تاريخ الطبري : 2 / 201 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط
دار سويدان. بيروت .) .
إن
اضطراب النبي وخوفه يبلغ به النهاية حتى يريد الانتحار بينما يريد الله اختياره
للنبوة وهداية الناس ودعوتهم إلى الحق، فهل يتناسب ما في الرواية مع هذا الأفق
الذي هو من الوضوح بمكان ؟ !
وهكذا
نستطيع أن نعرض نصوص التاريخ على محكمات العقل والكتاب والسنّة لنخرج بنتائج واضحة
تاركين ما لا يصمد أمام النقد العلمي البنّاء.
وبعد
ملاحظة النصوص الصريحة من الكتاب العزيز إذا لاحظنا ما ورد في بعض مصادر الحديث
والسيرة مما يرتبط باللقاء الأول للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مع الوحي الإلهي وما رافقه من غرائب تأباها النصوص القرآنية، جاز لنا
أن نطمئن إلى تَسرّب الإسرائيليات اليها.
ويحسن
بنا أن نقارن بين هذا النص الروائي وبين نص آخر ورد في بحار الأنوار للعلاّمة
المجلسي (رضوان الله تعالى عليه ) فيما يخصّ إرهاصات الوحي الرسالي وما تبعه من
نتائج لوحظت على نفس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وشخصيته وسلوكه.
فعن
الإمام علي بن محمد الهادي عليهماالسلام: أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا ترك التجارة إلى الشام وتصدّق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك
التجارات كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى
أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار
والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكّر بتلك الآيات، ويعبد الله حقّ عبادته.
فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها
وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا
ومحمّد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد
وغرّته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ
بضبعه (الضبع: وسط العضد وفي المصدر: بضبعيه. وهزه: حركه.) وهزّه وقال:
يا محمد
اقرأ، قال: وما اقرأ ؟ قال يا محمّد (اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم *
الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم) (العلق (96): 1 ـ 5.) .
ثمّ أوحى إليه ما
أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ثمّ صعد إلى العلو.
ونزل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير شأنه ما
ركبه الحمّى والنافض ... وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم
إيّاه إلى الجنون، وإنّه يعتريه شياطين، وكان من أوّل أمره أعقل خلق الله، وأكرم
براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزّ
وجلّ أن يشرح صدره; ويشجّع قلبه، فأنطق الله الجبال والصخور والمدر، وكلّما وصل
إلى شيء منها ناداه: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك
يا رسول الله أبشر، فإنّ الله عزّ وجلّ قد فضّلك وجمّلك وزيّنك وأكرمك فوق الخلائق
أجمعين من الأوّلين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش إنّك مجنون، وعن الدين مفتون،
فإنّ الفاضل من فضّله ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا
يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربّك أقصى منتهى الكرامات،
ويرفعك إلى أرفع الدرجات، وسوف ينعّم ويفرّح أولياءك بوصيّك عليّ بن أبي طالب،
وسوف يبثّ علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك: علي بن أبي طالب،
وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة، وسوف يخرج منها ومن عليّ : الحسن والحسين سيّدي شباب
أهل الجنّة، وسوف ينشر في البلاد دينك وسوف يعظّم اُجور المحبّين لك ولأخيك، وسوف
يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك عليّ، فيكون تحته كلّ نبيّ وصدّيق وشهيد،
يكون قائدهم أجمعين إلى جنّات النعيم (بحار الأنوار : 18 / 207 ـ 208 .) .
وحين
نقارن بين هذا النص الروائي وما سبقه مما رواه الطبري نلاحظ البون الشاسع والفرق
الكبير بين الصورتين عن بداية البعثة وشخصية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. فبينما
كانت تصوّره الرواية الاُولى : شاكّاً
ومضطرباً ـ اضطراباً ناشئاً عن الجهل بحقيقة ما يجري له! ـ تصوّره الرواية الأخيرة
: عالماً مطمئناً متفائلاً بمستقبل رسالته منذ بداية الطريق . وهذه الصورة هي التي تنسجم مع محكمات الكتاب والسنّة
والتاريخ .
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي
1 ـ
بناء الخلية الإيمانية الأولى :
وبعد
اللقاء الأوّل مع وحي النبوّة أخذت تتدرّج الآيات القرآنية بالنزول، ويبدو أنه بعد
أن نزلت عليه الآيات الأولى من سورة المزمل شرع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يهيّء نفسه للخطوات التالية في طريق نشر الرسالة الإسلامية وبناء
المجتمع الإسلامي، وكان عليه أن يعدّ العدّة لمواجهة الصعاب الكثيرة والمشاكل
المتوقّعة، وأن يُحكم خطّته وأسلوبه في العمل.
إنّ
أوّل ما بدأ به هو دعوة أهل بيته. أمّا خديجة (رضي الله عنها) فكان من الطبيعي أن
تصدّق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث عاشرته عمراً طويلاً ووجدت فيه منتهى السموّ الأخلاقي والطهر
الروحي والتعلق بالسماء.
ولم
يتكلّف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جهداً في دعوة ابن عمه وربيبه علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي كان يحمل بين جوانحه قلباً طاهراً لم تلوّثه عبادة الأصنام قطّ،
فبادر إلى التصديق به فكان أوّل القوم إسلاماً (السيرة النبوية لابن هشام : 1/245 باب ان علي بن أبي طالب رضياللهعنه أوّل ذكر أسلم.) .
وكان
اختيار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلي
صائباً وموفّقاً لما كان يملكه عليّ عليهالسلام من مؤهلات الطاعة
والانقياد والقوة والاندفاع في الوقت الذي كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأَمسّ الحاجة
إلى الناصر والمؤازر، فكان علي عليهالسلام يمثّل
ذراع النبوة في تبليغ الرسالة منذ انطلاقتها والعين الباصرة، ولسان الدعوة الناطق
بها.
فأوّل
من آمن علي عليهالسلام حيث
كان يرافق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في
خلواته في حراء ثمّ خديجة وهما أوّل من صلّى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن كانا يوحّدان الله كالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متحدّين قوى الشرك والضلالة. (أسد الغابة: 4 / 18، حلية الأولياء: 1 / 66، شرح ابن أبي
الحديد: 3 / 256، مستدرك الحاكم: 3 / 112.) ثم التحق بهم زيد بن حارثة فكانوا هم المجموعة الخيّرة والنواة الأولى
التي انفلق منها المجتمع الإسلامي .
2 ـ
أدوار العصر المكّي :
لقد مرّ
تبليغ الرّسالة الإسلامية على يدي النبيّ العظيم بثلاثة أدوار على الأقل حتى
تهيّأت الظروف لتأسيس أوّل دولة إسلامية مباركة وهي كما يلي:
1 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى للرسالة الإسلامية. واصطلح البعض على هذا الدور بدور الخفاء
أو دور الدعوة الخاصة.
2 ـ دور
الدعوة المحدودة بالأقربين والصراع المحدود مع الوثنية.
3 ـ دور
الصراع الشامل.
3 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى :
تحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم داعياً إلى الإسلام بعد أن أمره الله تعالى بالقيام والإنذار (كما ورد في مطلع سورة المدّثر.) ساعياً لبناء كتلة إيمانية تكون بؤرة نور وإشعاع لهداية المجتمع
واستمر الحال هكذا حوالي ثلاث سنين مسدداً بالغيب معصوماً من الزلل.
وكان
التحرك الرسالي هذا محفوفاً بالمخاطر والصعوبات ولكنه كان متقناً متكاملاً.
وكان من
أسلوب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرحلة من الدعوة أن ينوّع الاختيار من حيث الانتماء القبلي
والموقع الجغرافي والعمر لأتباعه ليوضح شمولية الرسالة ويضمن لها الانتشار في
المجتمع إلى أقصى ما يمكن; فاستجاب له ـ في بداية البعثة ـ المستضعفون والفقراء إذ
كانت الرسالة الإسلامية منطلقاً نحو التسامي والحياة الكريمة والأمان، كما استجاب
له من الأشراف من كان ذا نفس طيّبة وعقل منفتح ورغبة ففي السلوك النزيه.
ولم
يتحسّس جبابرة قريش خطورة الرسالة وحسبوا أن الأمر لا يعدو تكهّنات وتأملات لها
سوابق اندثرت; فلم يشدّدوا على محاربتهم للرسالة للقضاء عليها في مهدها.
وفي هذا
الوقت القصير استطاع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصوغ من النفوس التي آمنت برسالته عناصر فعالة تحمل قيم الرسالة
لتنطلق بها للناس، وهم أشد حرصاً على إسلامهم وأكثر يقيناً بإيمانهم مستنكرين بذلك
ما كان عليه آباؤهم من شرك وخلق منحرف حتى تزايد الاستعداد لديهم لتحمل آثار الجهر
بالرسالة.
ويروى أن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه ـ في هذه الفترة ـ كانوا
إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشِعاب فصلّوا فرادى ومثنى، فبينما رجلان من
المسلمين يصليان في بعض شعاب مكة اِذ ظهر عليهما رجلان من المشركين ـ كانا فاحشين
ـ فناكراهما وعابا عليهما ما يصنعان ثم تضاربوا، وانصرفا (أنساب الاشراف: 1 / 117، السيرة الحلبية: 1 / 456.) .
ويبدو
تكرر مثل هذه المواجهة مع المشركين (السيرة النبوية: 1 / 263 و 282.) . من هنا استعان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ببعض الدور للتخفي لممارسة العبادة والاتصال المنتظم به صلىاللهعليهوآلهوسلم بعيداً عن
أنظار قريش فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم (السيرة الحلبية: 1 / 283، اُسد الغابة: 4 / 44.) خير ملجأ للمسلمين حينئذ.
4 ـ دور
المواجهة الأولى وإنذار الأقربين:
وحين
شاع خبر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية وفي الوقت الذي بلغت فيه الفئة المؤمنة
المستوى الروحي الذي يؤهلها لخوض الصراع كان لابد من الانتقال إلى مرحلة الإعلان
العام وأول خطواته إنذار الأقربين في مجتمع تسوده الاعتبارات القبلية فمن الأولى
إنذارهم قبل إنذار الناس كافة، فكان نزول الأمر الإلهي: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء (26) : 214.) ; من هنا دعا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عشيرته الأقربين وأوضح لهم أمر الرسالة وهدفها ومستقبلها وكان فيهم من يرتجى خيره
ويؤمل إيمانه. ولئن نهض أبو لهب معلناً المعاداة والكراهية فقد تبنّى أبو طالب
عليهالسلام دعم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحماية رسالته.
وقد روي
أنّه ما إن نزلت الآية المباركة أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً بإعداد وليمة
ثمّ دعا عشيرته وكانوا أربعين رجلاً، وما إن تأهب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للحديث حتى قاطعه
عمه عبد العُزّى ـ المعروف بأبي لهب ـ وحذّره من الاستمرار في التبليغ والإنذار،
وحال دون تحقيق هدف الرسول فانفضّ المجلس. ولمّا كان من غد جدّد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره لعلي ودعوته
لعشيرته وبعد أن فرغوا من الطعام بادرهم صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله: (يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل
مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عَزَّ وجَلَّ أن
أدعوكم إليه فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي
فيكم؟) فسكتوا جميعاً إلاّ علي بن أبي طالب إذ نهض قائلاً: (أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله). فأمره
رسول الله بالجلوس، وكرر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوته; فلم يجبه غير على عليهالسلام ملبياً
الدعوة معلناً المؤازرة والنصرة. وعندها التفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الحاضرين من عشيرته وقال: (إن هذا أخي ووصيي
وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له وأطيعوا). فنهض القوم من مجلسهم وهم يخاطبون أبا
طالب ساخرين: (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (روي هذا الحديث في مصادر عديدة وبألفاظ متقاربة في: تاريخ
الطبري: 2 / 404، السيرة الحلبية: 1 / 460، شرح نهج البلاغة: 13 / 210 . وراجع
أيضاً : حياة محمد: 104، لمحمد حسين هيكل، الطبعة الأولى.) .
5 ـ دور
المواجهة الشاملة
ورغم
احتياطات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرحلة السابقة وتجنّبه الدخول في مواجهة مباشرة له أو لأحد من
المسلمين مع قوى الشرك والوثنية فإنه كان يتعرّض خلالها للنقد واللوم اللاذع له
ولبقيّة المسلمين.
وكان
لدعوة بني هاشم إلى الدين الجديد الأثر البالغ والذكر الشائع في أوساط القبائل
العربية فقد تبين لهم صدق وجدّية النبوة التي أعلنها محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وآمن بها من آمن.
وبانقضاء
السنوات الثلاث ـ أو الخمس ـ من بداية الدعوة نزل الأمر الإلهي بالصدع بالرسالة
الإلهية والإنذار العام ليخرج الأمر عن الاتصال الفردي الذي كان يتمّ بعيداً عن
الأنظار، فيدعو الجميع إلى رسالة الإسلام والايمان بالله الواحد الأحد، وقد وعد
الله نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بتسديد خُطاه في مواجهة المستهزئين والمعاندين في قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر (15): 94 ـ 95.) .
فتحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صادعاً
بأمر الله بثقة مطلقة وعزيمة راسخة متحدياً كل قوى الشر والشرك، وقام
على الصفا ونادى قريشاً من كل ناحية فأقبلوا نحوه فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما
كنتم تصدقونني؟) قالوا: بلى، قال: (فإني نذير لكم بين
يدي عذاب شديد). فنهض أبو لهب ليرد على رسول الله فقال: تباً لك!
سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟! ـ فأنزل الله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المناقب: 1 / 46، تاريخ الطبري: 2 / 403.) .
لقد كان
هذا إنذاراً صارخاً أفزع قريشاً إذ أصبح تهديداً علنياً لكل معتقداتهم وتحذيراً من
عاقبة مخالفتهم لأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ...
واتضح أمر الدين الجديد لأهل مكة بل كل أطراف الجزيرة إذ أدركوا أنّ انقلاباً
حقيقياً سيحلّ بمسيرة البشرية ويرفع من شأنها في القيم والثقافة والمعايير
والمواقع الاجتماعية وفق تعاليم السماء وينسف الشر من جذوره فكانت المواجهة مع
قادة الشرك والطغيان مواجهة حقيقية لا يمكن أن تنتهي إلى نقاط وفاق.
وخلال هذه الفترة دخل في
الإسلام عدد من العرب وغير العرب حتى بلغوا أربعين رجلاً، ولم تتمكن قريش من تحطيم
هذه النهضة الفتية إذن المؤمنين ينتمون إلى قبائل شتى، من هنا توسّلت قريش
بالمواجهة السلميّة ابتداءً.
ولكن
أبا طالب ردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (سيرة ابن هشام: 1 / 264 ـ 265، تأريخ الطبري: 2 / 406.) .
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ
دفاع أبي طالب عن الرسول والرسالة :
لم ينثن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية بل اتسع نشاطه وكثرت تحركاته
وتحركات أتباعه المؤمنين به وازدادت جاذبية الدين الجديد في نظر الناس، وقد بدت
قريش تظهر غيظها وتسعى لتجد السبل لإيقاف هذا المدّ الجديد (الإسلام)، والقضاء
عليه فعاودت مساعيها عند أبي طالب مرّة أخرى باذلة مغرياتها تارة لإقناع الرسول
بالعدول عن دعوته والتراجع عن دينه وتارة أخرى بالتهديد والوعيد فقالوا له: يا أبا
طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا
وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه
عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
ومن
جهته أدرك زعيم بني هاشم قرار قريش الصارم وعدم تورعها عن سلوك كل السبل للقضاء
على ابن أخيه ورسالته الفتية فحاول تهدئة الموقف مرة ثانية وتسكين غضب قريش حتى
يعالج الموقف مع ابن اخيه ، ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصرّ
على مواصلة تبليغه للرسالة الإسلامية تنفيذاً لأوامر الله مهما كانت الظروف
والنتائج فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك
هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)، ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بالدموع وقام ليذهب فتأثر أبو طالب لذلك وهو يعلم صدق ابن
أخيه ويؤمن به فقال له: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
ولم تفتر قريش عن غيّها فمشت مرة أخرى إلى أبي طالب عليهالسلام تطمعه
بخذلان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتعطيه أجمل فتيان مكة بدل ابن أخيه ليسلّمه أبو طالب إليهم فقالوا له: يا
أبا طالب هذا عمارة بن
الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله
ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي فرّق جماعة قومك،
وسفّه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل، فردّهم أبوطالب مستاء من هذه المساومة
الظالمة فقال: هذا والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني إبنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني
تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل: والله يا أبا
طالب لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فأجابه أبو طالب قائلاً :
والله ما أنصفوني ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك(تاريخ الطبري: 2 / 409، السيرة النبوية: 1 / 286.).
وبذا
أيقنت قريش بأنّه لا سبيل لهم لإرضاء أبي طالب بخذلان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسارع أبو طالب لاتخاذ تدابير احترازية ليضمن سلامة ابن أخيه
واستمراره في نشر رسالته حين وجد الشرّ في نفوس قريش، فدعى بني هاشم وبني عبد
المطلب لمنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحفظه
والقيام دونه، فاستجابوا له سوى أبي لهب، وأَكْبَرَ أبو طالب موقف بني هاشم فشجعهم
وأثار فيهم العزيمة على الاستمرار في حماية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (تاريخ الطبري: 2 / 410 ، السيرة النبوية: 1 / 269.).
2 ـ
موقف قريش من الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم:
نزلت
آيات كثيرة من القرآن الكريم خلال أربع سنوات من حركة الرسالة تضمنت بيان عظمة
التوحيد والدعوة إليه والإعجاز البلاغي والإنذار والوعيد لمخالفيه فتناقلتها
الألسن وحوتها قلوب المؤمنين وانجذب إليها القاصي والداني لاستماعها واستيعابها.
ولما
كان للبلاغة أكبر الأثر في النفوس قررت قريش وهي تحاول احتواء حركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بوسائل متعددة أن تمنع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاتصال بالجماهير وعرض دعوته عليهم أن لا يستمع القادم إلى مكة
لما نزل من آيات القرآن، بعد أن فشلت في محاولة إغراء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالملك والسلطان عليهم والأموال الطائلة والشرف والسؤدد. ثم أردفوا
ذلك بتشكيكهم في صحة دعوته; زاعمين أن الذي يعتري النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما هو حالة مرضية يسعون لعلاجها، فأجابهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جواباً فيه كل الخير والشرف والنجاة لهم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: كلمة واحدة تقولونها تدين لكم بها العرب وتؤدي إليكم
بها العجم الجزية... ففزعوا لكلمته وحسبوا أنها نهاية المطاف
فقالوا: نعم وأبيك عشراً... قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: لا إله إلا الله ... فكان الردّ مفاجئة
قوية خذلتهم فقاموا مستكبرين وهم يردّدون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (السيرة الحلبية: 1 / 303، تاريخ الطبري: 2 / 409.).
وعندها
قرروا أن يلجأوا إلى الإهانة والسخرية من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأتباعه الذين بدأوا يتزايدون كل يوم وتتعمق دعوته المباركة في
النفوس فكان من أفعالهم قيام أبي لهب وزوجته أم جميل بطرح الشوك على باب بيت
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اذ كان بيته يجاورهم(السيرة النبوية: 1 / 380.). وأخذ
أبو جهل يتعرض للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيؤذيه بقوله الفاحش ولكن الله كان للظالمين بالمرصاد إذ ما كان من
حمزة عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين علم بذلك إلاّ أن ردّ على أبي جهل إهانته أمام الملأ من قريش
معلناً إسلامه وتحدّيه لجمعهم أن يردّوا عليه أو أن يتعرضوا ثانية للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية: 1 / 313، تاريخ الطبري: 2 / 416.).
3 ـ
الكفر يأبى الانصياع لصوت العقل :
تصورت
قريش أنها بدهائها تستطيع أن تثني النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن رسالته، وقد بان لها استجابة الناس لدعوته المباركة. من هنا اقترح
عتبة بن ربيعة ـ حين اجتمعت وجوه قريش ـ أن يذهب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليحدّثه كي يكفّ عن دعوته، فمشى إليه والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جالس ـ وحده ـ في المسجد، وامتدح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومكانته في قريش وعرض عليه عروضه والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ينصت مستمعاً فقال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر
مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك
علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا
الذي يأتيك رَ ئِيّاً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه
أموالنا حتى نبرئك منه... ولما أتم كلامه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم ، قال
صلىاللهعليهوآلهوسلم: فاسمع مني ثم تلا قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً
وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) (فصلت (41): 1 ـ 5 .) واستمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرأ الآيات الكريمة فانبهر عتبة لما سمع وألقى يديه خلف ظهره
معتمداً عليها. ثم سجد رسول الله عند آية السجدة. ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.
فلم يحر
عتبة جواباً وقام إلى قومه فلما جلس إليهم قال: إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت
مثله قط، والله ما هو بالشّعر وبالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني
واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه).
ولكن
أنى للقلوب الميتة أن تستجيب فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال: هذا
رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(راجع السيرة النبوية: 1 / 293.).
4 ـ
الاتّهام بالسّحر :
أرادت
قريش أن لا تختلف كلمتها ولا تفقد مكانتها في محاربة الرسالة الإسلامية وفي نفس
الوقت أن توقف سريان الرسالة إلى نفوس الناس وموسم الحج على الأبواب فرأت أن تتخذ
وسيلة تبدو فيها محافظتها على مكانتها الوثنية وإضعاف دور الرسول ومكانته فاجتمعوا
إلى الوليد بن المغيرة لكبر سنّه وسعة معرفته لاتخاذ قرار بذلك فاختلفت أقوالهم
بين أن يدّعوا أنّه كاهن أو مجنون أو شاعر أو مريض تعتريه الوسوسة أو ساحر، ثم
أرجعوا القول للوليد فقال: والله إنّ لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة
وما أنتم بقائلين في هذا شيئاً إلاّ عُرف أنّه باطل وإنّ أقرب القول فيه أن
تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يُفرّق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين
المرء وزوجه، فتفرّقوا يندسّون بين الناس يبثّون شائعتهم الخبيثة(السيرة النبوية: 1 / 289.).
5 ـ
التعذيب وسيلة لقمع المؤمنين :
لقد
عجزت قوى الكفر والشرك أن تثني الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحاب الحق عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية، مثلما عجزت
عقولهم عن إدراك التوحيد والإيمان، وراحت كل جهودهم لإيقاف الرسالة أو تشويهها سدى
فلم يجدوا بُدّاً من اتخاذ العنف والقسوة والتعذيب وسيلة لمحاربة أصحاب العقيدة
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب وفرض
الجوع والعطش عليهم، محاولين أن يفتنوهم عن دينهم ورسالة ربّهم.
فهذا أمية بن خلف يخرج بلالاً إلى رمضاء مكة إذا حميت الظهيرة ليمارس تعذيبه بأبشع
صورة، وهذا عمر بن الخطاب يعذب جارية له ـ لإسلامها ـ ضرباً حتى إذا عجز قال: إني أعتذر إليك،
إني لم أتركك إلاّ ملالة، وهذه بنو مخزوم يخرجون عمّاراً وأباه وأمه يعذبونهم في
رمضاء مكة فيمرّ بهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقول:
(صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة)، حتى بلغ من تعذيبهم أن استشهدت سمية أم عمار(السيرة النبوية : 1 / 317 ـ 320 .) على أيديهم فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وإذا حاولنا أن نرسم صورة عامّة لأساليب مواجهة قريش للرسالة والرسول
وأتباعه فنستطيع أن نلخّص مراحل المواجهة في ما يلي:
1 ـ كان
الاستهزاء والسخرية بشخصية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإضعاف مكانته في نفوس الناس من أبسط الأساليب. وقد مارس هذا الدور
الوليد بن المغيرة (والد خالد)، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن العاص بن أمية، وأبو
جهل.
ولكن
التسديد الإلهي أحبط كل مساعيهم فقد قال القرآن الكريم:
(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر (15): 95.)، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام (6) : 10.) .
2 ـ
إهانة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شخصياً
لإضعافه. فقد روي أنّهم ألقوا الفرث والسلى عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فغضب عمه أبو طالب حين علم بذلك وردّ الإهانة عليهم، ويعتبر موقف
أبي جهل وردّ حمزة بن عبدالمطلب عليه شاهداً آخر.
3 ـ
محاولات الإغراء بالملك والسيادة وبذل الأموال الطائلة.
4 ـ
الاتهامات الباطلة: بالكذب والسحر والجنون والشعر والكهانة. وقد تحدث القرآن عن
كلّ ذلك.
5 ـ
الطعن في القرآن الكريم، فقد اتهموا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتقوّله وافترائه على الله فتحدّاهم القرآن بأن يأتوا بمثله. على أن
النبيّ كان قد أمضى عمراً بينهم لم يعرف بما اتهموه به.
6 ـ
استخدام التعذيب وقتل المؤمنين برسالته.
7 ـ
الحصار والمقاطعة الشاملة.
8 ـ
التخطيط لقتل صاحب الرسالة(الأنفال (8) :30.).
وقد تصدّى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لكل هذه الأساليب بما يحقق للرسالة أهدافها مسدّداً بالوحي
الذي كان يرعى حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم خير رعاية.
6 ـ
الهجرة إلى الحبشة وإيجاد قاعدة آمنة :
لقد
أدرك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد عامين من الجهر بالرسالة أن لا قدرة له على حماية المسلمين من
العناء الذي يصيبهم من طغاة قريش وزعماء الوثنية.
وحيث
اشتدَّ العنف من المشركين وصناديدهم تجاه المستضعفين من المسلمين حثّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين المضطهدين على الهجرة إلى الحبشة ليعطيهم بذلك فترة استراحة
واستعادة نشاط ليعودوا ثانية لمواصلة مسيرة الرسالة الإسلامية أو يفتحوا جبهة
جديدة للصراع مع قريش بعد أن يحدثوا مركزاً للضغط من خارج الجزيرة على مواقع قريش
وعسى الله أن يحدث ـ خلال ذلك ـ أمراً كان مفعولاً إذ أخبرهم صلىاللهعليهوآلهوسلم (أن في
الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد)
فاستجاب المسلمون لذلك وتسلل عدد منهم صوب الساحل فعبروا البحر غير أن قريشاً
لاحقتهم ولكن لم يدركهم طلبها وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهليهم، حتى اجتمعوا
بأرض الحبشة بضعة وثمانين مهاجراً عدا أبنائهم الصغار وأمَّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم جعفر بن أبي طالب(السيرة النبوية: 1 / 321، تاريخ اليعقوبي: 2 / 29، بحار الأنوار: 18 /
412.1).
لقد كان
اختيار الحبشة داراً للهجرة خطوة موفقة من خطوات الرسول القيادية نظراً للصفة التي
وصف بها ملكها في الحديث المروي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتيسّر السفر إليها بالسفن، فضلاً عن العلاقات المذهبية الطيبة
التي أرادها الإسلام أن تكون بين الإسلام والنصرانية.
وقد أقلق قريشاً أمر الهجرة إلى الحبشة فخشيت العاقبة وساءها أن يأمن
حملة الرسالة الإسلامية هناك، فأرسلت عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي
وحمّلتهما الهدايا في محاولة منها لإقناع النجاشي بالتخلي عن جوارهم وإعادتهم
إليها، واستطاعا أن ينفذا إلى بطارقة الملك
وإقناعهم بضرورة مساعدتهم لاسترداد المسلمين، لكن الملك أبى ذلك إلاّ بعد أن يسمع
رأي المسلمين في التهمة الموجهة إليهم بأنهم قد ابتدعوا ديناً جديداً لهم.
وشملت
العناية الإلهية ذلك اللقاء، فقد انبرى جعفر بن أبي طالب ليجيب بكلام رائع ينفذ
إلى قلب النجاشي عن ماهية الدين الجديد فيزداد اقتناعه بحمايتهم. وكانت كلمات جعفر
بن أبي طالب كالصاعقة على رؤوس الوفد القرشي الذي لم تنفعه هداياه لإنجاح خطته الشيطانية،
وأصبحوا في موقف الذليل أمام النجاشي في الوقت الذي سطع فيه نجم المسلمين وقويت
حجتهم مما دلّ على عظيم أثر التربية التي كان قد بذلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للنهوض بالإنسان في الفكر والمعتقد والسلوك، فلم يهتز المسلمون ثانية
عند ما حاول وفد قريش أن يثير فتنة عن ما جاء به القرآن حول عيسى عليهالسلام ، ولكن النجاشي قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، عندما سمع آيات الله يرددها جعفر بن أبي طالب
ردّاً على سؤاله(السيرة النبوية: 1 / 335، تاريخ اليعقوبي: 2 / 29.).
عندها
أيقنت قريش بفشل مساعيها لاسترداد المسلمين حين عاد إليها وفدها خائباً، وقرّر
زعماؤها أن يضيّقوا على من عندهم من المسلمين بالمأكل والمشرب وأن يحظروا كل أنواع
التعامل الاجتماعي معهم حيث لم يتخلّ أبو طالب وبنو هاشم عن نصرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعمه الشامل.
7 ـ
الحصار الظالم وموقف بني هاشم :
ولمّا
لم يستجب أبو طالب لقريش، وأصرّ على حماية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مهما كان الثمن، كتبت قريش صحيفتها الظالمة(جاء في أعيان الشيعة ، ان الصحيفة الظالمة كتبت في غرّة
محرم من السنة السابعة للبعثة.) بالمقاطعة
الشاملة في البيع والشراء والمخالطة والزواج.
ووُقّعت
الصحيفة من قبل أربعين زعيماً من زعماء قريش.
وعمد
أبو طالب إلى الشِعب مع ابن أخيه وبني هاشم وبني المطلب حيث كان أمرهم واحداً.
وقال: نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني المطلب، ودخل الشعب من كان
من هؤلاء مؤمناً كان أو كافراً(السيرة النبوية: 1 / 350، أعيان الشيعة: 1 / 235.).
وكان لا
يصل إلى المسلمين خلالها شيء إلاّ سرّاً، يحمله إليهم مستخفياً من أراد مساعدتهم
من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف.
وبعد أن مضت على المقاطعة ثلاث سنين وقاسى خلالها المسلمون والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم آلاماً قاسية من الجوع والعزلة والحرب النفسية، أرسل الله دودة
الأرضة على صحيفتهم المعلقة في جوف الكعبة فأكلتها جميعاً غير كلمة (باسمك اللهم).
وأنبأ الله رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبر عمه أبا طالب بالأمر فخرج مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
المسجد الحرام فاستقبله وجهاء قريش ظناً منهم بأن الاستسلام يقودهم إلى التخلّي عن
موقفهم من الرسالة فقال لهم أبو طالب: إن ابن
أخي أخبرني بأن الله قد سلّط على صحيفتكم الأرضة فأكلتها غير اسم الله، فإن كان
صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم
وإن كان كاذباً دفعته إليكم... قالوا: قد أنصفتنا، ففتحوها، فوجدوا الأمر كما قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنكسوا رؤوسهم حياء وخجلاً لما حلّ بهم(تاريخ اليعقوبي: 2 / 21، طبقات ابن سعد: 1 / 173، السيرة
النبوية: 1 / 377.).
وروي
أيضاً أن بعض رجال قريش وشبابها ساءهم أمر القطيعة ومعاناة بني هاشم من المتاعب
والشدائد في الشعب فتعاقدوا فيما بينهم لتمزيق الصحيفة وإنهاء المقاطعة وواجهوا
المتعنتين منهم، ففتحوا الصحيفة فوجدوا حشرة
الأرضة قد أكلتها(السيرة النبوية: 1 / 375، تاريخ الطبري: 2 / 423.).
ومهما
كان فإن قريشاً قد أخزاها الله مرة أخرى ولكنها لم ترتدع عن عداوتها للرسول
والرسالة.
8 ـ عام
الحزن :
وفي السنة العاشرة من البعثة خرج المسلمون من الحصار وهم أصلب عوداً وأغنى تجربة وأكثر قدرة على
التحرك صوب الهدف الذي آلوا على أنفسهم أن لا يتخلوا عنه رغم كل الصعاب. وكان من
أثر الحصار أن اشتهر ذكر الإسلام والمسلمين وانتشر في كل أرجاء الجزيرة العربية
وكانت أمام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مهام صعبة، منها: الانفتاح بصورة أوسع خارج نطاق مكة، ومحاولة إيجاد
أكثر من مكان آمن تتحرك من خلاله الرسالة الإسلامية.
ولكن
الرسالة الإسلامية تعرضت لأخطر محنة في مسيرتها في مكة عندما توفّي أبو طالب،
سندها الاجتماعي الأول والمدافع القوي عن الرسول والرسالة، وبعده بأيام توفيت اُمّ
المؤمنين خديجة ثاني سندي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولشدة تأثير الحادثتين في مسيرة الرسالة الإسلامية سمّى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك
العام بـ (عام الحزن)، وصرّح
قائلاً: (مازالت قريش كاعّة عنّي حتى مات أبو طالب)( كشف الغمة: 1 / 61، مستدرك الحاكم: 2 / 622 ، وكاعّة بمعنى
وكعّ عنه: إذ اهابه وجبن عنه.).
ومن جرأة
قريش على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند
ذاك أن قام أحدهم ونثر التراب على رأسه الشريف وهو مارّ إلى بيته. فقامت إليه
ابنته فاطمة عليهاالسلام لتنفض
التراب عنه وهي تبكي فقال لها صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك)( السيرة النبوية: 1 / 416، تاريخ الطبري: 2 / 426.).
9 ـ
الإسراء والمعراج :
وفي هذه
الفترة كانت حادثة الإسراء والمعراج تثبيتاً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على طريق المقاومة الطويل، وتكريماً له في أعقاب سنين طويلة من العمل
والصمود، وتتويجاً لهذه المصاعب والآلام المريرة مع قوى الشرك والضلالة، رفعه الله
إلى قلب السموات، ليريه جوانب من عظمة ملكه الباهرة في الكون الشاسع وليطلعه على
أسرار الخليقة ومصير الإنسان الصالح والطالح.
وفي الوقت نفسه كانت
بمثابة امتحان لقدرات أصحابه على تصور المدى الذي يكافحون فيه مع رسولهم وقائدهم
من أجل إبلاغ الرسالة وبناء الإنسان الصالح، وإبتلاءاً صعباً لأصحاب النفوس
الضعيفة.
ولم تستطع قريش المشركة أن تدرك المعاني السامية في أمر الإسراء فما بحدّثهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك
حتى راحوا يسألون عن الصورة المادية من أمر الإسراء وإمكانية تحققها والأدلة على
ذلك ـ فقال
بعضهم: والله إن العِير
لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة وشهراً مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع؟! ووصف لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسجد الأقصى وصفاً دقيقاً، وذكر لهم أنّه مرّ بقافلة وهم يطلبون
بعيراً قد ضلّ لهم، وفي رحلهم قعب ماء كان مكشوفاً وقد غطّاه كما كان.
وسألوه عن قافلة اُخرى فقال: مررت بها بالتنعيم، وبيّن لهم أحمالها وهيئاتها وقال: يقدمها بعير
بصفة كذا وسيطلع عليكم عند طلوع الشمس. فجاء كل ما قاله صحيحاً كما أخبر به(السير النبوية: 1 / 396.).
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة
1 ـ
الطائف ترفض الرسالة الإسلامية(كان خروجه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الطائف لليال بقين من شوال سنة عشرة من البعثة.) :
أدرك
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن أذى قريش سيزداد ، وأن خطط المشركين ومساعيهم للقضاء على الرسالة
لن تتوقف، فقد زال غطاؤها الأمني بوفاة أبي طالب ولابد للرسالة الإسلامية أن تنفتح
على جبهة أوسع. وفي الوقت الذي استطاع فيه رسول الله أن يبني الإنسان الرسالي سعى
لتهيئة قاعدة تتضح فيها معالم الاستقرار والنظام في محيط يمارس فيه الفرد حياته
وعلاقاته مع ربه والناس ولينطلق بعد ذلك إلى بناء الحضارة الإسلامية الإنسانية وفق
تعاليم السماء، فوقع اختياره على الطائف حيث تقطن ثقيف كبرى القبائل العربية بعد
قريش. ولما انتهى إليها وحده أو بمرافقة زيد بن حارثة أو بمرافقة زيد وعلي(راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 127 و 14 / 97
.)، عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادتها وأشرافها، فجلس إليهم ودعاهم
إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه في دعوته ويمنعوه من
قومه فلم يعبأوا لدعوته وردوا عليه ساخرين فقال أحدهم: إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال آخر: والله لا أكلمك
أبداً ولئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وردّ الآخر قائلاً: أعجزٌ على الله
أن يرسل غيرك؟!( السيرة النبوية: 1 / 420 ، بحار الأنوار: 19 / 6 و7 و22 ،
إعلام الورى: 1 / 133.).
بعد هذا
الرد الجاف والعنيف قام صلىاللهعليهوآلهوسلم من عندهم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى بينه وبينهم; إذ كره أن
يبلغ قريش ذلك فيجرّئهم عليه، لكن زعماء ثقيف لم يستجيبوا لطلبه وأغروا به سفهاءهم
وعبيدهم فأخذوا يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، فلم يكن يرفع قدماً ويضع
اُخرى إلاّ على الحجارة حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني
ربيعة، وكانا هناك فتفرق عنه سفهاء الطائف، وقدماه تنزفان دماً، فعمد إلى ظل كرمة
ونادى ربّه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على
الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد
يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي
أوسع لي).
ولم يلق
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ التفاتة عطف من رجل نصراني ضعيف وجد في رسول الله ملامح النبوة(الطبري: 2 / 426، أنساب الأشراف: 1 / 227، تأريخ اليعقوبي:
2 / 36 السيرة النبوية: 1 / 420.).
وحين
انصرف رسول الله من الطائف راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من خير ثقيف كان محزوناً حيث
لم يستجب له أحد فنزل نخلة (بين مكة والطائف). وفي جوف الليل وحين كان يصلّي مرّ
به نفر من الجن واستمعوا للقرآن فلمّا فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين بعد أن
آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، وقصّ الله خبرهم عليه قائلاً: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إلى قوله تعالى: (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (تاريخ الطبري : 2 / 346، وسيرة ابن هشام: 2 / 63، والطبقات:
1 / 312. راجع سورة الأحقاف : 29 ـ 31 .).
2 ـ
الانفتاح على الرسالة ومعوّقاتها في مكة :
لقد
كانت حركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جهاداً رسالياً متكاملاً، وكان منطقه وسلوكه وخلقه يحاكي الفطرة
السليمة والأخلاق السامية، يناشد الحق في النفوس ليحييها ويدعو إلى الفضيلة لتنعم
البشرية بها ولهذا لم ييأس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم رغم اضطهاد قريش وقسوتها معه وصد الطائف وجفوتها، إذ كان يتحرك بين
الناس ويدعو الجميع إلى دين الله ولا سيّما في مواسم العمرة والحج حيث تتوفّر فيها
فرص تبليغية عظيمة فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقف على منازل القبائل من العرب ويقول: (يا بني فلان إني
رسول الله إليكم يأمركم أن تتعبدوا إليه ولا تشركوا به شيئاً وأن تؤمنوا بي
وتصدقوني وتمنعوني حتى اُبيّن عن الله ما بعثني به)( السيرة النبوية: 1 / 423، تأريخ الطبري: 2 / 429، أنساب
الأشراف: 1 / 237.).
وكرّر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مساعيه بالتحرّك على عدة قبائل غير آبه بما يلاقي من ردّ قاس أو
اعتذار جميل. على أن بعضهم وجد في الانتماء إلى الإسلام مشروعاً سياسياً لبلوغ
السلطان فحاول أن يساوم ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ردّهم بلسان لا يعرف المساومة والتخاذل ولم يرد انتهاز الفرص على
حساب المبادئ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)( السيرة النبوية: 1 / 424، تأريخ الطبري: 2 / 431.).
وفي
أثناء ذلك ربما مشى (أبو لهب) خلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يثبّط
الناس عن متابعته فيقول: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى
من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه(السيرة النبوية: 1 / 423، تاريخ الطبري: 2 / 430.).
وفي جانب آخر تقوم
أم جميل في وسط النساء فتسخر من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعوته المباركة لتمنع النساء من متابعته.
ولم
يتيسر للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن
يقنع القبائل بالرسالة الإسلامية إذ أن قريشاً كانت تتمتع بالمكانة الدينية من بين
القبائل الأخرى لما كانت تقوم به من سدانة البيت الحرام كما أنّها كانت تدير
مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً في الجزيرة العربية وكانت لقريش أيضاً شبكات من
العلاقات والأحلاف مع ما كان يحيط بها من القبائل الأخرى التي كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عرض عليهم دعوته، فكان من الصعب كسر كل تلك القيود وإلغاء هيمنة
قريش فكان تردد الناس في قبول الرسالة الإسلامية واضحاً، وخشيت قريش رغم ذلك من
تحرّك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقوة
دعوته فالتجأت إلى أسلوب مبرمج يمكن أن تقبله العقول الوثنية فاتفقوا على دعاية
ينشرونها بين الناس فقالوا: إنه ساحر في بيانه يفرّق بين المرء وزوجه وبين الإنسان
وأخيه. ولم تفلح قريش في مسعاها حين كانت تنكشف عظمة الرسول والرسالة لكل من يلتقي
بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (السيرة النبوية: 1 / 270.).
3 ـ
بيعة العقبة الأولى :
كان
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يدّخر وسعاً ولا يتوانى في السعي لنشر الرسالة الإسلامية ودعوة أي
عنصر يرى فيه الأمل والخير أو يجد فيه التأثير والنفوذ ممن كان يقدم إلى مكة لحاجة
ما. وقد كانت مدينة يثرب تعيش صراعاً سياسياً وعسكرياً بين أقوى قطبين فيها وهما
الأوس والخزرج، وكان يؤجج هذا الصراع عناصر من اليهود ـ بخبثهم ودسائسهم ـ في جو
من ضياع القانون الإلهي.
والتقى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع بعض
شخصيات يثرب ممن جاء يبحث عن تحالف يزيد قوته، فما برحوا حتى تغلغل أثر الرسالة وصدق النبوة في
نفوسهم، ففي إحدى اللقاءات تحدث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى جماعة من بني عفراء ـ وهم ينتسبون إلى الخزرج ـ فعرض عليهم
الإسلام وتلا عليهم شيئاً من القرآن، فوجد في عيونهم التجاوب وفي قلوبهم اللهفة
لسماع المزيد من الآيات... وتأكدوا من حديث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه هو
النبي الذي يقصده اليهود حينما كانوا يتوعدون به المشركين في يثرب كلما وقع شر
بينهم فيقولون لهم: إن نبياً قد بعث الآن وقد أطلّ زمانه وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم(السيرة النبوية: 1 / 428، بحار الأنوار: 19 / 25.).
فأعلنوا
في الحال إسلامهم وكانوا ستة أشخاص وقالوا للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم
وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك وإلى الدين الذي أجبناك
عليه.
ثم انصرفوا راجعين إلى يثرب وشرعوا يتحدثون عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والرسالة والأمل القادم لبناء حياة يسودها الأمن والسعادة، حتى فشا
أمر الرسالة الإسلامية بينهم ولم يبق دار من دور يثرب إلاّ وفيها ذكر لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (تاريخ اليعقوبي: 2 / 37 ـ 38، السيرة النبوية: 1 / 429،
بحار الأنوار: 19 / 23.).
وما
أسرع ما انقضت الأيام فلما كان موسم الحج للعام الحادي عشر من البعثة النبوية قدم وفد من أوس يثرب وخزرجها ـ وهم اثنا عشر رجلاً ـ من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل
والتقوا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سراً في العقبة ـ وهي
المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب مكة ـ وأعلنوا هذه المرة بيعتهم للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على أن
لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا
ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوه في معروف(السيرة النبوية: 1 / 433، تأريخ الطبري: 2 / 436.).
ولم يشأ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحملهم أكثر من ذلك، وأرسل معهم الشاب المسلم مصعب بن عمير إلى
يثرب لكي يتولى شؤون التبليغ والتثقيف العقائدي بينهم، وبذا تمّت بيعة العقبة الأولى.
4 ـ
بيعة العقبة الثانية :
تحرك
مصعب بين أزقة يثرب وفي مجتمعاتها يتلو آيات الله ويحرك الأفئدة والعقول بالقرآن
حتى آمن بالرسالة الإسلامية عدد كبير من الناس.
وقد
أحدث الإسلام في النفوس شوقاً كبيراً للقاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والتزود من معينه والطلب الجادّ بالهجرة إليهم.
وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة من البعثة خرجت وفود الحجيج من يثرب ومعها وفد المسلمين البالغ ثلاثاً وسبعين
رجلاً وامرأتين فواعدهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يلتقي بهم عند العقبة ـ جوف الليل في أواسط أيام التشريق ـ وكتم
مسلمو يثرب أمرهم.
وما إن
مضى من الليل ثلثه وفي غفلة عن العيون حتى تسلل المسلمون من أخبيتهم واجتمعوا في
انتظار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء ومعه بعض أهل بيته فبدأ الاجتماع وتكلم القوم، ثم تحدث رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتلا شيئاً من القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام.
وتمّت البيعة هذه المرّة صريحة واضحة مكتملة على كلّ جوانب الإسلام
وأحكامه وفي السلم والحرب معاً. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أبايعكم على أن
تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فقاموا وبايعوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وظهر
شعور بالقلق من جانب مسلمي يثرب فقال أبو الهيثم ابن التيهان: يا رسول الله إنّ
بيننا وبين الرجال ـ يعني اليهود ـ حبالاً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا
ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم أحارب من حاربتم
وأسالم من سالمتم(السيرة النبوية: 1 / 438، تأريخ الطبري: 2 / 441، مناقب آل أبي طالب: 1
/ 181.).
ثم ان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال: (أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على
قومهم بما فيهم) فأخرجوا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال
لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى
بن مريم وأنا كفيل على قومي(تأريخ الطبري: 2 / 442، السيرة النبوية: 1 / 443، المناقب:
1 / 182.).
وبالإرشاد
الحكيم والاستخدام الحصيف لكل الإمكانات وبالوعي السياسي العميق خطا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة نحو الأمام يسدده الوحي الإلهي في كل ذلك، وأذن صلىاللهعليهوآلهوسلم للمبايعين أن يعودوا إلى رحالهم من دون أن يواجهوا المشركين بالقوة
فلم يأذن الله بالقتال.
وأدركت
قريش بوادر الخطر المحدق بها من نصرة مسلمي يثرب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبلوا والشر والغضب يتملّكانهم كي يحولوا بين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين لكن حمزة وعلياً عليهماالسلام كانا بوّابة الأمان لاجتماع العقبة فرجعت قريش خائبة منكسرة(تفسير القمي: 1 / 272.).
5 ـ
الاستعداد للهجرة إلى يثرب :
انتبهت
قريش وخرجت من غفلتها فقد انفتح باب الرجاء في الغلبة، في وجه المسلمين فراحت تزيد
من استخدام القسوة والتنكيل والاضطهاد للمسلمين في محاولة منها للقضاء عليهم قبل
استفحال الأمر، فشكا المسلمون ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم واستأذنوه للخروج من مكة فاستمهلهم أياماً ثم قال: (لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن أراد الخروج فليخرج إليها)
(الطبقات الكبرى: 1 / 226.)، وفي رواية أخرى: (إن الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها
وإخواناً)( مناقب آل أبي طالب: 1 / 182، السيرة النبوية : 1 / 468.).
وشرع
بعض المسلمين يخرجون من مكة إلى يثرب سرّاً كي لا يثيروا هواجس قريش، وبدأت طرقات
مكة وبيوتها ونواديها تشهد يوماً بعد يوماً غياباً مستمراً لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. أمّا هو فكان ينتظر الأمر الإلهي بالهجرة وليضمن سلامة ودقة هجرة
المسلمين. وأدركت قريش هدف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخطته
فسعت إلى منع المسلمين من الخروج من مكة ولحقت بالمهاجرين مستخدمة أساليب الإغراء
والتعذيب لإعادتهم إلى مكة.
وكانت
قريش حريصة في أن يبقى الأمن سائداً في مكة مما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين
خشية وقوع الحرب بينها وبينهم فاكتفت بالتعذيب والحبس للمسلمين.
نعم كانت قريش تحسب
ألف حساب لخروج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
يثرب فقد أصبح للمسلمين اليد العليا هناك فإذا لحق بهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو المعروف بالثبات وحسن الرأي والتدبير والقوة والشجاعة حينئذ سوف
تحل الكارثة
بالمشركين عامة وبقريش بشكل خاص.
وسارع
رؤساء قريش لعقد اجتماع لهم في دار الندوة للبحث عن حلّ يواجهون به الخطر المحدق
بهم فتعددت الأراء وتضاربت وكان من بين الحلول المقترحة حبسه وتكبيله بالأغلال أو
نفيه بعيداً عن مكة في منقطع الصحراء، ولكن رأياً بقتله وتفريق دمه بين القبائل ـ
لتعجز بنو هاشم عن المطالبة بدمه ـ هو الذي حاز الموافقة والإعجاب(السيرة النبوية: 1 / 480، الطبقات الكبرى: 1 / 227، تفسير
العياشي: 2 / 54.)، فإنهم إن قتلوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد قضوا على الرسالة الإسلامية وهي في مهدها.
وجاء
الأمر الإلهي يأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتحرك والهجرة إلى يثرب وكانت تلك الإشارة التي ينتظرها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بشوق بالغ ليحطّ قدمه على أرض يتمكن فيها من بناء دولة على أعمدة
التقوى وتعاليم السماء وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح.
وبعد أن دبّر المشركون خطّتهم وأحكموها نزل أمين الوحي (جبرئيل) على
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبره بما حاك المشركون ضدّه من مؤامرة إذ قرأ عليه قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (المناقب: 1 / 182 ـ 183، الأنفال: 8 / 3.).
ورغم
يقينه الكامل بأن الإمداد الغيبي يرعاه ويسدد خطاه
لم
يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات بل خطط ودبّر ببصيرة وحنكة وسرية تامة.
6 ـ
المؤاخاة قبل الهجرة :
لقد آخى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المهاجرين كنقطة انطلاق نحو المجتمع الإسلامي المتماسك يتعاونون
كجسد واحد لمصلحة الإسلام وإعلاء كلمة الله حيث سيواجه المسلمون مصاعب جمّة يستلزم
تجاوزها التعاون والتعاضد بأعلى مراتبه.
وكخطوة أولى في طريق الهجرة المباركة آخى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المهاجرين بعلاقة إيمانية إلهية على الحق والمؤاساة مؤاخاة ينعكس
أثرها على التعامل فيما بينهم بالانسجام والصمود بعيداً عن النوازع النفسية، فلقد
آخى صلىاللهعليهوآلهوسلم بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين الزبير وابن مسعود
وبين عبيدة بن الحارث وبلال.
كما آخى بين علي عليهالسلام ونفسه الشريفة صلىاللهعليهوآلهوسلم ... وقال
لعلي عليهالسلام: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال عليهالسلام: بلى يا رسول الله
رضيت. وهنا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فأنت أخي في الدنيا
والآخرة(السيرة الحلبية: 2 / 20، مستدرك الحاكم: 3 / 14.).
الباب
الرابع: فيه فصول:
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى.
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية.
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم.
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى
1 ـ
الهجرة إلى يثرب :
لكي
تتكامل حركة الرسالة وتتحقق النبوّة أهدافها الربّانية المنشودة لابد أن تسدد
وتؤيد بقوى الخير وعناصر تملك اليقين المطلق بالعقيدة وتنذر نفسها لتلك العقيدة
وتستعد للتضحية على الدوام مع مؤهلات تصونها من الانحراف.
لقد كان
علي بن أبي طالب عليهالسلام ذلك
العنصر الفذّ الذي قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا علي، إنّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه
أوحي إليّ عن ربي أن أهجر دار قومي، فنُم على فراشي والتحف ببردي الحضرمي لتخفي
بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟)
فقال
علي عليهالسلام: أَوَ تَسلَمنَّ بمبيتي هناك يا نبي
الله؟
قال: نعم، فتبسم علي عليهالسلام ضاحكاً
مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله تعالى لما أنبأه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من سلامته وقال عليهالسلام: إمض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي(راجع إحقاق الحق : 3/23 ـ 45 مع تعليقات المرعشي النجفي
لتقف على مصادر هذا الحدث التاريخي وموقف علي الرساليّ عند علماء أهل السنة. وراجع
أيضاً: مسند الإمام أحمد : 1/331 الطبعة الأولى بمصر، وتفسير الطبري : 9/140
الطبعة الميمنية بمصر ومستدرك الحاكم : 3/4 طبعة حيدرآباد الدكن.).
وخرج
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
منتصف الليل من داره تحيط به العناية الإلهية مخترقاً طوق قوات الشرك المحيطة
بداره تاركاً علياً في فراشه.
وكم
كانت خيبة أعداء الله حين اقتحموا دار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
صباحاً شاهرين سيوفهم تفوح منها رائحة الموت، ويفيض الحقد من وجوههم يتقدمهم خالد
بن الوليد، فوثب علي عليهالسلام من مضجعه في
شجاعة فائقة فارتد القوم على أدبارهم وتملّكتهم دهشة وذهول وهم يرون كيف خيّب الله
سعيهم وأنقذ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وتوسّلت
قريش بطغيانها بكل حيلة لتردّ هيبتها الضائعة لعلّها تدرك محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأرسلت العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول حتّى وضعت مئة ناقة جائزة لمن يأتي
بمحمد حياً أو ميتاً. وقادهم الدليل الحاذق مقتفياً أثر قدم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى باب غار ثور ـ حيث كان قد اختبأ فيه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومعه أبو بكر ـ فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن
يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا في الأرض.
وفي داخل الغار كان أبو بكر قد غلبه خوف كبير وهو يسمع صوت قريش تنادي: أُخرج يا محمد، ويرى أقدامهم تقترب من باب الغار ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
وعادت
قريش بخفيّ حنين فهي لم تدرك أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الغار إذ رأت العنكبوت قد نسج بيته على باب الغار وعندها بَنت الحمامة عشها وباضت
فيه.
وفي
المساء التقى علي وهند بن أبي هالة بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن علما بمكانه
وقد أدلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بوصاياه لعلي عليهالسلام بحفظ ذمته وأداء
أمانته ـ إذ كان محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مستودع أمانات
العرب ـ وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ويلحق به
صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له مطَمْئِناً: (إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأدِّ
أمانتي على أعين الناس ظاهراً ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما
ومستحفظه فيكما)( أعيان الشيعة: 1 / 237.).
وبعد
ثلاثة أيام حين عرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قد سكن الناس عن طلبه، تحرّك نحو يثرب يغذو السير ولا يعبأ
بمشقة مستعيناً بالله واثقاً من نصره.
وحينما
وصل منطقة (قباء)( وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قباء في 8 ربيع الأول.) تريّث فيها أياماً ينتظر قدوم ابن عمّه علي ابن أبي طالب والفواطم عليه ليدخلوا جميعاً يثرب التي كانت تموج بالفرح والبهجة لقدوم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حين دخل صاحب النبي ورفيق سفره إلى يثرب تاركاً الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في قباء! وما إن وصل علي بن أبي طالب عليهالسلام منهكاً من تعب الطريق ومخاطره ـ حيث كانت قريش قد تعقّبتهم حين علمت
بخروجه بالفواطم ـ اعتنقه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبكى رحمةً لما به(راجع الكامل في التأريخ: 2 / 106.).
وأقام
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بـ (قباء) عدة أيام وكان أوّل عمل قام به هو كسر الأصنام(البدء والتأريخ: 4 / 176 ـ 177.) ثم أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته صلاة الظهر في بطن وادي
(رانوناء) فكانت أول صلاة جمعة في الإسلام وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسلاحهم
يستقبلون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحيطون بركبه وكلٌ يريد أن يتطلع إليه ويملأ عينيه من هذا الرجل
الذي آمن به وأحبه(وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مدينة يثرب في 12 ربيع الأول.).
وما كان
يمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمنزل
أحد من المسلمين إلاّ ويأخذ بزمام ناقته ويعرض عليه المقام عنده وهو يقابلهم
بطلاقة الوجه والبشر وتجنباً من إحراج أحد منهم كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: خلّوا الناقة إنّها
مأمورة.
وأخيراً بركت الناقة عند مربد يعود لغلامين يتيمين من بني النجار أمام
دار أبي أيوب الأنصاري فأسرعت
زوجته فأدخلت رحل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في دارها فنزل عندهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن تمّ بناء المسجد النبوي وبيته صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع السيرة النبوية: 1 / 494.).
وقد
غيّر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اسم
يثرب إلى (طيبة)( ابن خلدون: المقدمة / 283، وتاج العروس: 2 / 85 .) واعتبر هجرته إليها مبدءاً للتأريخ الإسلامي(تأريخ الطبري (الأمم والملوك) : 2 / 110 ـ 114.).
2 ـ
بناء المسجد :
لقد
اجتاز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين دائرة بناء الفرد ، وبوصوله إلى يثرب شرع في التخطيط
لتكوين الدولة التي تحكمها قوانين السماء والشريعة الإسلامية السمحاء ومن ثم بناء
الحضارة الإسلامية لتشمل كل الإنسانية في مرحلة ما بعد الدولة.
ومن
اُولى العقبات أمام تأسيس الدولة الإسلامية وجود النظام القبلي الذي كان يحكم
العلاقات في مجتمع الجزيرة، كما أن ضعف المسلمين كان لابد له من معالجة واقعية،
فكان المنطلق بناء المسجد ليكون مكاناً لمهام متعددة، ومركزاً للسلطة المركزية
التي تدير شؤون الدولة. وتمّ تعيين الأرض وشرع المسلمون بهمّة وشوق في العمل
الجادّ لبناء المسجد وما يتطلبه من مستلزمات، وكان الرسول هو القدوة والأسوة ومنبع
الطاقة التي تُحرِّك المسلمين في العمل فشارك بنفسه في حمل الحجارة واللبن، وبينما
هو صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله أُسيد بن حضير فقال: يا رسول
الله أعطني أحمل عنك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: لا،
اذهب فاحمل غيره.
وتمّ
أيضاً بناء دار للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولأهل بيته ولم يكن البناء ذا كلفة كبيرة فقد كان بسيطاً كحياتهم،
ولم ينس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكناً يأوون إليه فألحق لهم مكاناً
بجانب المسجد(بحار الأنوار : 19 / 112 ، السيرة النبوية : 1 / 496 .).
وأصبح
المسجد مرتكزاً في حياة المسلمين العبادية والحياتية فعّالاً في بناء الفرد
والمجتمع.
3 ـ
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
ثم خطا
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطوة اُخرى لإقامة الدولة الجديدة والقضاء على بعض قيم النظام القبلي
من دون أن يمس القبيلة بشيء ، مستثمراً حالة التعاطف وحرارة الإيمان التي بدت من
المسلمين فجعل أساس العلاقة بين الأفراد رابطة العقيدة والدين متجاوزاً علقة الدم
والعصبية، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا
أخي(السيرة النبوية: 1 / 504.)، وأخذ كل رجل من الأنصار أخاً له من المهاجرين يشاركه الحياة. وبذا
طوت المدينة صفحة دامية من تأريخها إذ كانت لا تخلو أيامها من صراع مرير بين الأوس
والخزرج يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم وانفتح على العالم عهد جديد من الحياة
الإنسانية الراقية حيث زرع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك عنصر بقاء الأمة، وفاعليتها الإيمانية.
أبعاد ونتائج
التآخي بين المسلمين
البعد الاقتصادي :
1 ـ
إعالة المهاجرين وإعادة تأهيلهم اقتصادياً للعودة لممارسة حياتهم الطبيعية.
2 ـ
إزالة الفوارق الطبقية في محاولة للقضاء على الفقر.
3 ـ
السعي للاستقلال الاقتصادي بعيداً عن مركز الثروة غير المشروعة وقطع أيادي اليهود
المرابية.
4 ـ
إنجاز مشاريع اقتصادية: زراعية مع تنشيط حركة التجارة ـ من خلال تلاقح فاعلية
المهاجرين والأنصار وأفكارهم وترابط جهودهم واستثمار كل الموارد المتاحة في
المدينة.
البعد الاجتماعي :
1 ـ
القضاء على الأمراض الاجتماعية المتأصلة في المجتمع ومخلفات التناحر القبلي وإشاعة
روح الحب والود والتآلف لسد الثغرات لئلاّ يستغلّها المتآمرون على الإسلام، وتوفير
الجهود والطاقات البشرية لخدمة الإسلام في مراحله اللاحقة.
2 ـ
إلغاء النظام القبلي وإحلال النظام والقيم الإسلامية محله في التعامل اليومي.
3 ـ
تهيئة المسلمين نفسياً وتربيتهم على التضحية والإيثار للانفتاح على العالم لنشر
الرسالة الإسلامية الذي يتطلب مرونة عالية وقيم رفيعة تتوفر في الداعية المسلم.
البعد
السياسي :
1 ـ
تكوين نسيج مترابط من المسلمين يتحرك مستجيباً لأوامر الرسول والرسالة كفرد واحد
في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية ولم تتوقف عن دسائسها.
2 ـ
تناقل الخبرات التنظيمية ووسائل المقاومة والصمود والتجربة الإيمانية وطرق التحرك
وسط المهاجرين والأنصار إذ لم يعش الأنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم.
3 ـ بناء
الفرد كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها الإداري.
4 ـ
إشعار المسلمين بالقوّة في الدفاع عن أنفسهم وفق قيم الإسلام بعيداً عن الروح
القبلية والعنصرية.
4 ـ معاهدة المدينة :
ولكي
ينتقل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة البناء وتطبيق الشريعة
الإسلامية كان لابد من توفير أجواء الأمن والاستقرار ـ ولو نسبياً ـ فالصراع قد
يعيق انتشارها في الوسط الجماهيري.
وفي
يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود، فاليهود كانوا يشكلون عبئاً كبيراً
بقوتهم الاقتصادية وخبثهم السياسي المعروف إضافة إلى عُدّتهم وعددهم الذي لا
يستهان به. والمشركون أيضاً قوة أخرى وإن ضعف دورهم بقدوم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمهاجرين ولكنه لم ينته تماماً ـ فجاملهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقابلهم بالحسنى.
وكان
لابد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً أن يحتوي وجود المنافقين.
وفي
خارج المدينة كانت قريش وسائر القبائل المشركة تمثل تهديداً حقيقياً للكيان
الإسلامي الفتيّ وكان على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم.
وهنا
تجلت عظمة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة مُظهراً النوايا
الحسنة والطيبة تجاه الآخرين، داعياً جميعهم إلى السلام والأمان.
وكتبت
معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يتمتع الجميع فيها بالحقوق الإنسانية على السواء.
ويمكن
القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أوّل مشروع دستوري لبناء دولة إسلامية متحضرة في
مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي
لتقبل النظام الإسلامي الجديد.
وأهم ما تضمنته الصحيفة هو ما يلي:
1 ـ
إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.
2 ـ
الإبقاء على الوجود القبلي ـ مع تحجيم دوره وصلاحياته ـ لتخفيف العب عن كاهل
الدولة، بإشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات.
3 ـ
التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم
واعتبارهم مواطنين في الدولة الإسلامية الجديدة.
4 ـ
ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرماً آمناً لا يجوز القتال فيه.
5 ـ
إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرار الفصل في الخصومات إلى القيادة
الإسلامية المتمثلة في شخص الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
6 ـ
توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أنّ المسلمين واليهود يتعايشون في نظام سياسي
واحد ويدافعون عنه.
7 ـ
الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي
تعترضه.
5 ـ
النفاق وبدايات الاستقرار في المدينة :
اهتم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ببناء المجتمع المسلم ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم إلاّ بعذر وذلك
لاستقطاب كل الطاقات والكفاءات وسحبها إلى المدينة. وقد تمتعت المدينة في هذا
العهد الجديد بحياة الأمن والاستقرار فأصبح الأمر مزعجاً لسائر القوى التي رفضت
دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أولاً ورأت فيه طرفاً يهدد معتقدها واليوم أصبح كياناً يرتقي
بالإنسان نحو الفضائل وقوة تنمو باطّراد لا يصدّه أحد عن نشر رسالته فأسلمت أعداد
كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط للابتعاد عنه أو التحالف معه.
ومن جانب آخر كان
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يرصد حركة النفاق ومساعي اليهود الحاقدة لتقويض الكيان الإسلامي
الفتيّ بتمزيق صفوفه بالتفرقة في ما بين المسلمين. ولم تمض فترة طويلة حتى دخل
الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة(السيرة النبوية: 1 / 500.)، واتسق
النظام الاجتماعي العام تحت حكم الإسلام وقيادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي هذه الفترة شرّعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام إقامة الحدود، كما شرع الأذان
لإقامة الصلاة وقبل ذلك كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أعدّ منادياً ينادي للصلاة إذا جاء وقتها ، ونزل الوحي الإلهي
يعلّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صيغة الأذان(الكافي: 1 / 83 ، تهذيب الأحكام: 1 / 215.) فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه بلالاً وعلّمه كيفية الأذان.
6 ـ
تحويل القبلة:
وكان
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طوال فترة تواجده في مكة يتجه في صلاته نحو بيت المقدس ولم يغيّر من
اتجاه صلاته بعد هجرته المباركة إلى سبعة عشر شهراً ثم أمره الله أن يتجه في صلاته
نحو الكعبة.
وقد
أمعن اليهود في عدائهم للدين الإسلامي واستهزائهم بالرسول والرسالة حتّى أنهم
كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيّتهم لقبلة اليهود فكان هذا يحزن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصبح ينتظر نزول الوحي الإلهي بتغيير القبلة ، وخرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في جوف الليل يطيل النظر إلى آفاق السماء فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة
الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل عليهالسلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة (2): 144 .) .
وقد
كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين في مدى طاعتهم وانقيادهم لأوامر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وتحدّياً لعناد اليهود واستهزائهم وردّاً لكيدهم كما كانت منطلقاً جديداً من
منطلقات بناء الشخصية المسلمة(راجع مجمع البيان: 1 / 413 .).
7 ـ
بدايات الصراع العسكري :
لقد
كانت القوّة هي التي تحكم الناس وتسودهم، وفي هذا الظرف تحرّك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون ـ بعد الاستقرار النسبي في المدينة ـ ليؤكّد لكل القوى
المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم وفارس ـ إصراره على نشر الرسالة الإسلامية
وبناء الحضارة وفق تعاليم السماء، وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه
غيرهم، فهم أصحاب عقيدة وفكر وطلاّب حقٍّ وعدل، ومشرّعي سلام وأمان، وأهل سيف
وقتال.
وقد
توقع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ قريشاً ومن نصب له العداء سيلجأون لمحاولة استئصال المسلمين ولو
بعد حين فكان طلبه من الأنصار في بيعة العقبة الثانية النصرة والقتال كما أن
قريشاً هي التي تمادت في التعدي والظلم بل وخرجت تتتبّع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين للقضاء عليهم، وفي مكة قد صادرت الأملاك ونهبت البيوت.
وكانت الرغبة لدى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين ـ المهاجرين خصوصاً ـ أن تدخل قريش في الإسلام طواعية أو
أن لا تمضي في غيّها على أقل تقدير.
من هنا بدأ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعث (السرايا) وهي عبارة عن مجاميع صغيرة تتحرك لتعلن عن
وجودها وعدم استسلامها. وإذا
نظرنا إلى عدّتها البسيطة وعددها القليل الذي لا يتجاوز الستين فرداً وكلهم من
المهاجرين وليس فيهم من الأنصار الذين بايعوا على القتال والنصرة، ندرك أنها لم
تكن مرشّحة للقتال وإنّما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط على قريش اقتصادياً(إذ إن مصدرها المالي هو التجارة من خلال حركة القوافل بين
مكة والشام واليمن.) أيضاً لعلّها تسمع
نداء الحق بأُذُن صاغية وبقلب مفتوح أو تهادن المسلمين فلا تتعرض لهم لينتشر
الإسلام في أطراف أخرى، وفي الوقت نفسه كان ينبغي إشعار اليهود والمنافقين بقوة
الإسلام وهيبة المسلمين.
وهكذا بعد مضيّ سبعة أشهر على الهجرة المباركة انطلقت أول سريّة وكان عدد أفرادها ثلاثين رجلاً بقيادة حمزة عم النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثم تلتها سرية أخرى بقيادة عبيدة بن الحارث. وسرية ثالثة بقيادة سعد
بن أبي وقاص.
وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في صفر من العام الثاني للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه
لاعتراض قوافل قريش ولكن لم
يحصل الصدام بين الطرفين في حركته نحو الأبواء وبواط . وفي خروجه إلى ذي العشيرة
وادَعَ بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .
وتحرك
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لردّ الاعتبار ومعاقبة المعتدي حين أغار كرز بن جابر الفهري على
أطراف المدينة لسلب الإبل والمواشي فخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لملاحقته وخلّف زيد بن حارثة على المدينة(السيرة النبوية: 1 / 598، المغازي: 1 / 11 ـ 12.).
وانطلق
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في
حركته العسكرية من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل الدين بدلاً عن مفهوم العصبية
والثأر ، محترماً أعراف وتقاليد الصلح والمواعدة وحرمة الأشهر الحرم .
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية
1 ـ
غزوة بدر الكبرى :
بنزول
الأمر الإلهي بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من الصراع مع قوى
الشرك والضلالة، وتحركت في نفوس المهاجرين الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة
من قبل والتي استلبتها قريش منهم لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله وحده.
ورصد
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة
وخرج في عدّة خفيفة وعدد قليل يرتجي ملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجارية ضخمة لأغلب
المكيين. ولم تكن حركة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سرّية فقد بلغ خبرها إلى مكة وإلى أبي سفيان قائد القافلة فتحوّل في
مسيره إلى اتجاه آخر حيث لا يدركه المسلمون... وخرجت قريش فزعة تطلب مالها تلهبها
مشاعر الحقد والحسد للمسلمين، على أن عدداً من كبارها نظر إلى الأمر بتدبّر ورويّة
وآثر عدم الخروج لملاقاة المسلمين وخصوصاً بعد أن ورد خبر نجاة أبي سفيان بالقافلة
التجاريّة.
خرجت
قريش بعدد يناهز الألف في عدّة ثقيلة يدفعها تجبّرها، والاغترار بمنزلتها بين
العرب ومع جموع أخرى هبّت لنصرتها مصرّةً على لقاء المسلمين أو لتثبت أنها لا تخذل
كي لا يتعرض لها المسلمون ثانية، فقريش ما ذلّت مذ عزّت، كما أعرب عن ذلك بعض
أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أراد مواجهة قريش لأوّل مرة(راجع المغازي للواقدي: 1 / 48، السيرة الحلبية: 2 / 160،
وبحار الأنوار: 19 / 217.).
نزلت
قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة
وثلاثة عشر رجلاً وهيّأ الله لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وللمسلمين مقدمات النصر وأسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال
وألقى عليهم الأمن والاطمئنان ووعدهم بالنصر على أعدائهم وإظهار دين الحق(الانفال (8): 7 ـ 16.).
وبالرغم
من أن المسلمين لم يتوقعوا خروج قريش لملاقاتهم ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحول
الهدف إلى القتال أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار فوقف وقال: (أشيروا عليّ أيها الناس) .
فقام
بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدل على الخوف والجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد
بن عمرو فقال: يا رسول الله إمضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت
بنو إسرائيل لنبيها: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو
سرت بنا إلى برك الغِماد(برك الغماد : موضع وراء مكة مما يلي البحر.) لسرنا معك.
فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيراً.
ثم كرر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله: أشيروا عليّ أيها الناس، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار إذ كانوا قد بايعوه على الدفاع والذبّ عنه بالنفس والنفيس في العقبة
قبل الهجرة.
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يارسول الله تريدنا؟
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أجل. قال: إنّا قد آمنا بك وصدقّناك وشهدنا أن كل ما جئت به حق.
وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يانبي الله، فوالذي بعثك بالحق
لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وما نكره أن يلقانا عدونا
غداً; إنا لصُبّر عند الحرب، صِدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به
عينك.
عندها
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى
الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)( المغازي: 1 / 48 ـ 49.).
وفي كل
موقف كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب وقاموا
بالإعدادات اللازمة بدءاً باختيار الموقع المناسب وإعداد الماء واتّخاذ التحوّطات
لملاقاة العدو، والنبي القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم كان دائماً هو الطاقة المتدفقة التي تبعث في نفوسهم الصبر والجلد،
والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم ويخبرهم بالمدد الإلهي(الأنفال (8): 65.).
واحتفّ المسلمون حول النبي وهم يظهرون أروع صور الاستعداد للتضحية من
أجل العقيدة ويفكّرون في خطة بديلة لودارت الحرب على غير ما يحبون فأعدّوا عريشاً كمقرّ لقيادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لِيشرف من خلاله على المعركة. وخرجت سرية الاستطلاع لمعرفة أحوال
قريش وعادوا بالأخبار الّلازمة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقدّر
عددهم ما بين (950 ـ 1000) مقاتل(راجع المغازي: 1 / 50.).
وقف
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصفّ
المسلمين صفوفاً وأعطى رايته الكبرى لعلي ابن أبي طالب عليهالسلام وأرسل إلى قريش طالباً منها أن ترجع، فهو يكره قتالها، فدبّ الخلاف بين صفوف المشركين بين راغب في السلم ومصرّ على العدوان(المغازي: 1 / 61، بحار الأنوار: 19 / 252.).
وأمر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم).
وكما هو المعتاد في كل الحروب القديمة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون نظراء لهم من قريش ليبارزوهم. فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعبيدة
بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب: (يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم
إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله)( المغازي: 1 / 68.).
فقُتل
من برز من قريش والتحم الجيشان ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعث الحماس في نفوس المسلمين. ثم أخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كفاً من الحصى ورمى بها على قريش وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم
أحد إلاّ اشتغل بفرك عينيه(إعلام الورى: 1 / 169، السيرة النبوية: 1 / 628.) فكانت هزيمة قريش ووقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على قليب بدر بعد طرح جثث المشركين فيه، وناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: إنهم ليسمعون كما
تسمعون ولكن منعوا من الجواب(إعلام الورى: 1 / 171، السيرة النبوية: 1 / 638.).
نتائج المعركة :
خلّفت
معركة بدر نتائج عظيمة فقد فرّ المشركون نحو مكة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل
جانب تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة... وبدت بين صفوف
المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفية تقسيم
الغنائم فأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجمعها حتى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهي في سورة الأنفال بتقسيم
الغنائم وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكل فرد مقاتل حصته على قدم المساواة
مع غيره(المغازي: 1 / 104، السيرة النبوية: 1 / 642.).
وبشأن
الأسرى أعلن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ من علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة فذلك
فداؤه مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعلم وبناء الإنسان
المتحضّر. وأما الباقي من الأسرى فجعل فداء كل واحد منهم أربعة آلاف درهم، وشمل
هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من دون تمييز له عن غيره من المشركين.
وحين
أرسلت زينب قلادتها لفداء زوجها بكى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لرؤية القلادة متذكراً زوجته خديجة فالتفت صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المسلمين قائلاً: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها
مالها فافعلوا(السيرة النبوية: 1 / 652، البحار: 19 / 348.). وما أيسر هذا الطلب لنبي الرحمة من المسلمين . وأسرع أبو العاص إلى مكة ليرسل زينب إلى المدينة كما وعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وسرت بشائر النصر والفتح المبين نحو المدينة فأوجفت قلوب
اليهود والمنافقين خيفة ورعباً
وسَعَوا لتكذيب الخبر في حين انتشى المسلمون فرحاً وسروراً وخرجوا لاستقبال النبي
القائد المنتصر.
وحلّت
الكارثة بأهل مكة وخيّم الحزن على أجوائها وصعق المشركون من هول الصدمة وعمّت
الأحزان بيوتات مكة وأطرافها.
وتضمّنت
آيات الذكر الحكيم نصوصاً صريحة عن هذه المعركة المصيرية وهي تذكر تفاصيل الأحداث
وتظهر الإمداد الإلهي للأُمة المسلمة المخلصة لربها في سبيل نشر رسالته(الانفال (8): 9، 11، 12 ، 42، 44، وآل عمران (3): 13 و123
و127.).
وقد
استبسل علي بن أبي طالب عليهالسلام للدفاع
في هذه الغزوة الكبرى حين قتل الوليد بن عتبة وأعان عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث
على قتل شيبة وعتبة منازلاً لهما. وقد عدّ الشيخ المفيد ستة
وثلاثين نفراً ممن
قتلهم علي عليهالسلام يوم
بدر سوى من اشترك في قتله(الإرشاد : 39 ـ 40 .)، وقال
ابن اسحاق : اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّ(المناقب : 3 / 120 .).
وألجأت
هذه الهزيمة قريشاً إلى تحويل مسير تجارتها من الشام إلى العراق بعد أن أصبح
للمسلمين كيان قوي، له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة حيث بدت تظهر بالتدريج
وبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل في الوقت الذي أخذت تشتد أواصر المسلمين فيما
بينهم وبين الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
2 ـ
اهتمام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بزواج
الزهراء عليهاالسلام:
حلّت
الزهراء من قلب النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم المنزلة الرفيعة إذ كان يجد فيها السلوة والعزاء ، والصورة الطيبة
التي تركتها خديجة عليهاالسلام ،
والذرية الطاهرة. وشاركت الزهراء عليهاالسلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هموم الرسالة وعملت كثيراً للتخفيف عنه حتى قال عنها: (إنها أم أبيها).
وحين
بلغت الزهراء عليهاالسلام في بيت
النبوة مبلغ النساء وقد نهلت من معين النبوة وسلسبيل الرسالة خطبها أكابر قريش من
أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يردّهم بحكمة ردّاً جميلاً بقوله: إني انتظر فيها
القضاء أو يقول: أنتظر أمر السماء(حياة النبي وسيرته: 1 / 309، نقلاً عن المنتقى للكازروني اليماني.).
وفرح
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتقدم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام لخطبة
فاطمة الزهراء عليهاالسلام وقال له: اُبشرك يا عليَّ فإن الله عزّوجلّ قد زوجكها
في السماء من قبل أن أزوجكها في الأرض، وقد هبط عليَّ من قبل أن تأتيني ملك من
السماء فقال: يا محمد إن الله ـ عزّوجلّ ـ اطّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارك من خلقه
فبعثك برسالته، ثم اطّلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً
وختناً فزوّجه ابنتك فاطمة عليهاالسلام ، وقد احتفلت بذلك ملائكة السماء. يا محمد إن الله ـ عزّ وجلّ ـ أمرني أن
آمرك أن تزوّج علياً في الأرض فاطمة، وتبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين
فاضلين في الدنيا والآخرة(كشف الغمة : 1 / 356 ـ 358.).
وأمام
جمع من المهاجرين والأنصار أجرى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عقد
الزواج لقاء مهر يسير ليجعله سنّة تقتدي به الأمة. وحين وضع أثاث بيت الزهراء عليهاالسلام بين يدي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان
أكثر أوعيته من الخزف دمعت عيناه وهو يقول: اللهم بارك لأهل بيت جلّ آنيتهم من
الخزف(كشف الغمة: 1 / 359.) وأبدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
اهتماماً بالغاً في زواج ابنته الزهراء عليهاالسلام في كل تفاصيله، وقد تجلت ناحية من نواحي اهتمامه صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك في دعائه للزوجين يوم الزفاف إذ قال: (اللهم اجمع شملهما وألّف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنّة
النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيّبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة
يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما رضيت).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً: (يا ربّ إنك لم تبعث نبياً إلاّ وقد جعلت له
عترة اللهم فاجعل عترتي الهادية من علي وفاطمة) ثم قال: (طهّركما الله وطهّر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما وحرب لمن حاربكما)( كشف الغمة: 1 / 362، مناقب آل أبي طالب: 3 / 355.).
3 ـ
الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع :
لمس
اليهود خطر تنامي قوة الإسلام والمسلمين في المدينة. فالكيان الطري أصبح أشد عوداً
وأقوى شكيمةً وتحولت الرسالة الإسلامية إلى قوة تحكم.
وقبل
بدر كانت معاهدة الصلح صمّام الأمان الذي يقبض على طرفي الصراع ويحول دون
الانفجار، لكن النصر المؤزر للمسلمين فجّر روح العداء وألهب نزعة الشرّ اليهودية
تعينها أطراف النفاق الاُخرى، وجعلوا يتغامزون ويتآمرون، ويرسلون الأشعار ويجهدون
في التحريض على المسلمين الذين أصبح لهم سلطان جديد مضافاً إلى دينهم الجديد.
ولم تكن
أخبارهم لتخفى على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. وتحركت في نفوس المسلمين الجرأة في الدفاع والحرص على الإسلام
والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلم يتمالك الفدائي المسلم ـ هو سالم بن عمير ـ نفسه حين سمع رجلاً
مشركاً ـ هو أبو
عفك من بني عوف ـ يسيء للنبي فقتله(المغازي: 1 / 174.) وتكرَّرت
المحاولة مع مشركة حاقدة ـ هي عصماء بنت مروان ـ (المصدر السابق : 1 / 172.) وتمكن المسلمون أيضاً من اغتيال كعب بن الأشرف إذ تمادى في التعريض والاستهزاء والنيل من أعراض المسلمين(السيرة النبوية: 2 / 51.).
ولم
تتوقف مساعي اليهود التحريضية ونشر الأباطيل والدعايات الكاذبة والتشهير بالمسلمين
ناقضين بذلك عهد
الموادعة والتعايش السلمي وأراد
نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلص وإياهم إلى الاستقرار فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى يهود بني قينقاع يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وينذرهم من مغبّة
سياساتهم وتصرّفاتهم اللامحمودة فقال
لهم بعد أن جمعهم في سوقهم: (يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل
بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني رسول الله تجدون ذلك في كتابكم وعهد
الله إليكم).
ولم
يزدهم ذلك إلاّ علوّا واستكباراً فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك
مَن لقيت، إنّك قهرت أقواماً وإنّا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن إنّك لم
تقاتل مثلنا(المغازي: 1 / 176.).
وتجلّت
خسّة اليهود حين أساؤوا إلى امرأة من المسلمين ونالوا من كرامتها وانتهى الأمر إلى
قتل يهودي ومسلم فعندها سار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالمسلمين فحاصر يهود بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم
أحد ولا يدخل عليهم أحد، فلم يبق لهم إلاّ الاستسلام والنزول على حكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجلائهم عن المدينة تاركين عدّتهم وأدواتهم، فخلت المدينة من أهم
عناصر الشر وساد الهدوء السياسي فيها إذ تضاءل تواجد ودور غير المسلمين في
المدينة، بعد أن لمسوا قوة المسلمين وتطوّر التنظيم الإداري وازدياد قوّة القيادة
والدولة الإسلامية التي كانت تعمل وفق مخطط حكيم.
4 ـ
ردود فعل قريش بعد انتصارات المسلمين :
جمع أبو
سفيان عدداً من فرسان قريش وقادهم نحو المدينة تدفعهم نواياهم الغادرة إلى الفتك
بالمسلمين وردّ اعتبار قريش المفقود في بدر. وعلى مقربة من المدينة عاثوا في الأرض
فساداً وكرّوا فارّين خوفاً من أن تنالهم سيوف المسلمين.
وخفّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في أثر المشركين يدفعهم ولاؤهم لدينهم تأكيداً منهم على الدفاع عن سيادة الدولة الفتية وحفظها من أيادي
السوء...
وقد
اتخذ المشركون كل ما يعينهم على الهرب فألقوا ما معهم من (سويق) وهو مؤونتهم،
والتقطه المسلمون من خلفهم وسميت الغزوة بذلك غزوة السويق وكان هذا خزياً آخر لحق
قريشاً. وتأكيداً للقبائل التي تطاير الخبر إليها أنّ وجود الإسلام كقوة منظمة قد
أصبح واقعاً مفروضاً .
وكان همّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه المرحلة توفير الأمان في أوساط المجتمع المسلم في المدينة وصدّ أيّ عدوان محتمل. على أن بعض القبائل التي كانت تأبى الدخول في
الإسلام وتبطن العداء له لم تكن لتهتدي إلى تصرف مناسب مع الرسول والمسلمين،
فكانوا يعدون العدّة للهجوم على المدينة ويفرّون حين يسمعون بخروج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم.
وخرجت سرية اُخرى بقيادة
زيد بن حارثة بعد أن وجهها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقطع
الطريق الجديد لتجارة قريش عن طريق العراق. وقد نجحت السرية في مهمتها.
5 ـ
غزوة أُحد(وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.) :
مرّت
الأيام التي تلت معركة بدر ثقيلة على قريش والمشركين. وفي المدينة لم يزل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يواصل عمليّة بناء الإنسان والدولة حيث كانت الآيات الإلهية تترى وهي
تشرّع للإنسان سلوكه وحياته والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يفصّل
التعاليم ويطبق الأحكام ويهدي إلى طاعة الله.
وتظافرت
الأسباب والدواعي عند مشركي مكة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن
كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر وتطفىء غليل الحقد الذي مازال يؤجّجه أبو سفيان زعيم
البيت الأُموي والخاسر الأكبر في بدر، كما كان عويل النساء ومطامع التجار الذين
فقدوا كل الطرق الآمنة للتجارة عاملين آخرين لذلك.
فكانت
الحرب محاولة لإضعاف المسلمين وتأمين طرق التجارة إلى الشام، والحدّ من تنامي قوة
المسلمين العسكرية لتجنيب مكة من خطر الاحتلال والقضاء على الشرك فيها. ومما أسهم
في إعداد الحرب أيضاً تحريض يهود ومنافقي المدينة لقريش وغيرها لغزو المدينة
والقضاء على الإسلام.
وسارع
العباس بن عبد المطلب إلى الكتابة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب وتهيئتهم للعدّة والعدد حيث
استنفروا معهم القبائل واتخذوا عدة أساليب لإثارة الحرب والعزيمة على القتال إذ
خرجت النسوة معهم.
ووصل الكتاب سرّاً إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فكتم الخبر عن المسلمين حتى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة
اللازمة.
واقتربت
جحافل الشرك من المدينة فبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الحباب بن المنذر سراً ليستطلع العدو ـ بعد أن بعث أنساً ومؤنساً
ابني فضالة ـ فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس وخبر ابني فضالة، وبات
عدد من المسلمين من الذين أخبرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخبر في حيطة وحذر خشية مداهمة العدو.
ثم
استشار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه
بعد أن أعلن قدوم قريش للحرب فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج
لملاقاة العدو خارجها. ولم يكن عسيراً على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحدد الخطة مسبقاً لكنه أراد أن يشعر المسلمين بمسؤوليتهم. ثم كان
الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو وقتاله خارج المدينة. ثم صلّى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة الجمعة وصعد المنبر وخطب وأخذ يعظ الناس ويذكّرهم بطاعة الله
وأمرهم بالجد والجهاد والصبر. ثم نزل ودخل داره ولبس لامته مما أثار المسلمين وهزهم بشدة وظنوا أنهم أكرهوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على الخروج من المدينة فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك،
فاصنع ما بدا لك. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل(السيرة النبوية: 2 / 23، المغازي: 1 / 214.).
وخرج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ألف مقاتل من المسلمين ورفض أن يستعين باليهود ضد المشركين قائلاً:
لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك(الطبقات لابن سعد: 2 / 39.). ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبد الله بن أبي عن رسول
الله بثلاثمئة وبقي رسول الله بسبعمئة وكان المشركون أكثر من ثلاثة آلاف(الطبري: 3 / 107.).
وعند جبل أحد وضع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطة محكمة ليضمن النصر المؤزر ثم قام صلىاللهعليهوآلهوسلم فخطب الناس قائلاً: (أيها
الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثمّ
إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين
والجد والنشاط فإنّ جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلاّ من عزم الله
رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على
الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم
فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمرِ العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي
عليه النصر ولا الظفر)( المغازي: 1 / 221.).
واصطف
المشركون للقتال الذي سرعان ما نشب ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار،
وكادت نساؤهم أن تقع بأيدى المسلمين سبايا، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة
المعركة حتى وسوس الشيطان في نفوس بعض الرماة الذين وضعهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فوق الجبل وأمرهم بعدم ترك مكانهم مهما كانت نتيجة المعركة حتّى
يتلقّوا أمراً جديداً منه فَعَصَوْا أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم فكرّت قوى الشرك ثانية بقيادة
خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تركها.
فذهل
المسلمون لذلك وتفرّقت جموعهم وعادت فلول قريش المنهزمة إلى الحرب وقتل عدد كبير
من المسلمين وأشاع المشركون نبأ مقتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكادت كتائب الشرك أن تصل إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لولا استبسال علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسهل بن حنيف وقلة
قليلة ثبتت في ساحة المعركة إذ فرّت البقية الباقية من المسلمين بما فيهم كبار
الصحابة(المغازي: 1 / 237، السيرة النبوية: 2 / 83 ، شرح نهج
البلاغة: 15 / 20.)، حتى أن بعضهم بدرت منه فكرة التبرّي من الإسلام فقال: ليت لنا
رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان(بحار الأنوار : 20 / 27. وقد وردت آيات القرآن تبين القتال
ونوازع المسلمين في سورة آل عمران: 3 / 121 ـ 180.).
واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعرض
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
للإصابة فكسرت رباعيته السفلى وشقت شفته وسال الدم على وجهه فجعل يمسحه وهو يقول: كيف
يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله(تاريخ الطبري : 3 / 117 ، بحار الأنوار: 20 / 102.) وقاتل صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى
صارت قوسه شظايا. وطعن أُبي بن خلف حين هجم عليه يريد قتله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومات أُبي على أثرها واستبسل علي ابن أبي طالب بصورة لا نظير لها وهو
يفرق كل من يتقدم نحو رسول الله ويهده بسيفه فنزل جبرئيل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: يا رسول الله هذه
المواساة، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إنه مني وأنا منه).
فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً يقول: (لا سيف إلاّ ذو
الفقار ولا فتى إلاّ علي)( تأريخ الطبري: 3 / 116، مجمع الزوائد: 6 / 114، بحار
الأنوار: 20 / 71.).
وانسحب
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والبقية الباقية معه من المسلمين إلى الجبل وهدأت المعركة وجاء أبو
سفيان يستهزئ ويسخر بالمسلمين قائلاً: اعل هبل. وأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرد على الكفر مظهراً بذلك عدم انكسار العقيدة رغم الانكسار في
ساحة المعركة فقال قولوا: (الله أعلى وأجل).
وأمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالردّ ثانية على شعار أبي سفيان الكافر حين قال: نحن لنا العزّى ولا
عزّى لكم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم)( السيرة النبوية: 2 / 94.).
ورجع
المشركون إلى مكّة وقام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع الذي تركته قريش فقد
مثّلت بجثث الشهداء. ولما أبصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي وقد أُخرج كبده ومُثّل به بوحشية
وحقد; حزن حزناً شديداً وقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا.
ولم تكن
التضحيات الجسام والخسارة الكبيرة في ساحة المعركة لتثني أهل العقيدة والرسول
القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
الاستمرار في الدفاع عن حياض الإسلام وكيان الدولة الفتية، ففي اليوم التالي من
رجوعهم إلى المدينة أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باستنفار
المسلمين لطلب العدو ومطاردته على أن لا يخرج إلاّ من حضر الغزوة فخرج المسلمون
على ما بهم من جُراح إلى منطقة حمراء الأسد وبهذا اتّبع الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم أسلوباً جديداً لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف يسيطر عليهم فأسرعوا في
مسيرهم نحو مكّة(السيرة النبوية: 2 / 102، الطبقات الكبرى: 2 / 49.) ورجع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيراً من معنوياتهم.
6 ـ
محاولات الغدر بالمسلمين :
كان من
الطبيعي في مجتمع تحكمه القوة والغلبة بالسيف أن يطمع المشركون في المسلمين بعد
النكسة في اُحد، لكن النبي القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقظاً ومدركاً لكل المتغيرات حريصاً على سلامة الرسالة وقوّتها
مجتهداً في بناء الدولة والمحافظة عليها، فكان يتحسّس الأخبار ويستطلع النوايا
ويسرع في الرّد قبل أن يدرك المشركون أهدافهم فخرجت سرية أبي سلمة ترد غدر بني أسد
بالمدينة ونجحت السرية في مهمتها(المغازي: 1 / 340.) وتمكن
المسلمون أيضاً من رد كيد مشرك كان يعدّ لغزو المدينة.
وقد تمكنت جماعة من المشركين من الغدر بالمسلمين حين قدم جمع من قبيلتي
(عضل) و(القارة) إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تطلب
من يفقّهها الدين واستجاب نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم سعياً
منه لنشر الرسالة الإسلامية ولكن يد الغدر فتكت بالمسلمين الدعاة عند منطقة (ماء
الرجيع). وقبل أن يبلغ خبر مصرعهم إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اقترح أبو براء العامري على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرسل مبلغين إلى أهل (نجد) يدعون إلى الإسلام بعد أن رفض هو
الدخول في الإسلام، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد .. قال
أبو براء: (لا تخف، أنا لهم جار). وقد كان للجوار اعتبار وأهمية تعدل النسب في عرف
الجزيرة العربية لذا اطمأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأرسل
وفداً من الدعاة للتبليغ ولكن الغدر طالهم فعدا عليهم عامر بن الطفيل وقبائل بني
سليم في منطقة (بئر معونة) وفتكوا بهم ولم يسلم منهم إلا عمرو بن أمية الذي أطلقوه
فعاد إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخبر
ولكنه في طريقه قتل رجلين ظنّاً منه أنهما من العامريين، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حزن لذلك وقال له: بئس ما
صنعت قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار، لأدفعنّ ديتهما)( السيرة النبوية 3 : 193 ـ 195 .).
7 ـ
غزوة بني النضير(وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة .) :
تتابعت
النكبات على المسلمين حتى بدى للمنافقين وليهود المدينة أن هيبة المسلمين قد ضاعت،
وأراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بحكمته السياسية أن يحدّد ملامح التصرف الصحيح مع يهود (بني النضير)
مبرزاً نواياهم، فاستعان بهم على دفع دية القتيلين. فتلقوه قرب مساكنهم مرحّبين به
وبجماعة من المسلمين وهم يضمرون السوء، فطلبوا منه الجلوس ريثما يحققون له طلبه.
فجلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم فأسرعوا ـ مستغلّين الفرصة ـ لإلقاء حجر عليه
وقتله، فهبط الوحي عليه يخبره، فانسلّ من بينهم تاركاً الصحابة معهم، فاضطرب بنو
النضير وأمسوا في حيرة من أمرهم وباتوا قلقين بشدة من سوء فعلتهم، وأسرع الصحابة
إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد يستطلعون سرّ عودته فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت)( الطبقات الكبرى: 2 / 57 ، امتاع الاسماع: 1 / 187.).
وبذلك
استحلّ الله دماءهم إذ نقضوا عهد الموادعة مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهمّوا بالغدر به فلم يكن لهم إلاّ الجلاء عن المدينة. وتدخّل زعيم
النفاق عبد الله بن اُبي وغيره يمنّون بني النضير بعدم الامتثال لأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والثبات له ووعدهم بأ نّه وجماعته سيمدونهم مقابل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولن يخذلوهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم متمرّدين على أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واستخلف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن اُم مكتوم على المدينة حين علم بمساعي المنافقين وخرج لمحاصرة
بني النضير واتّبع معهم اسلوباً اضطرّهم إلى التسليم والخروج بما تحمله إبلهم فقط
أذلّةً خاسئين(وصفت سورة الحشر احداث جلاء بني النضير.).
وغنم
المسلمون أموالاً وسلاحاً كثيراً ولكن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع المسلمين وعرض عليهم رأيه في أن تكون الغنائم للمهاجرين خاصة كي يتحقّق لهم الاستقلال الاقتصادي إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة وهما من فقراء الأنصار فأعطاهما النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من هذه الغنائم(الإرشاد: 47.).
8 ـ
مناوشات عسكرية بعد اُحد :
ساد
الهدوء والاستقرار أجواء المدينة واضطرب المنافقون قلقاً من انكشاف أساليبهم
وأيقنوا أن الدور القادم هو دور تحطيمهم. وفي هذا الظرف وردت أخبار للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّ غطفان تعدّ العدّة لغزو المدينة فأسرع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في الخروج إليهم ولكنهم فوجئوا بالعدو قد أعدّ
واستعدّ لملاقاتهم فتهيّب
كل من الفريقين الآخر ولم يقع أي قتال. وفي هذه الغزوة صلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاة الخوف بالمسلمين إذ لم يتسنَّ لهم الغفلة عن العدو برهة من
الزمن، وعاد المسلمون إلى المدينة دون قتال(راجع السيرة النبوية: 2 / 204.)، وسميت هذه الغزوة بـ (ذات الرقاع).
بدر
الموعد ( بدر الصفراء ) مرّت الأيام الحرجة على المسلمين بسرعة وقد ازدادوا خبرة قتالية
وتنزّلت عليهم أحكام الشريعة فتهذّبت العلاقات وانتظمت شؤون حياتهم في عامة
جوانبها وازداد الإيمان رسوخاً وثباتاً وبرزت نماذج رائعة من الصمود والتضحية
والفداء والإخلاص للدين الإسلامي وللاُمة المسلمة وأوشكت أن تنمحي آثار الانكسار
في اُحد. وحلّ موعد التهديد الذي أطلقه زعيم الكفر أبو سفيان في اُحد حين قال:
موعدنا وموعدكم بدر، قاصداً الانتقام لقتلى المشركين يوم بدر. فخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه وعسكر هناك ثمانية أيام ولم تفلح
مساعي المشركين لتخويف المسلمين وثنيهم عن الخروج بل تملّكهم الخوف حين علموا بما
عزم عليه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون فاضطر أبو سفيان إلى أن يخرج إلى الموعد المحدد ولكنه كرّ
راجعاً بحجّة الجفاف والجدب المؤثر على الاستعداد العسكري. وبذلك وصمت قريش بعار
الهزيمة والجبن وارتفعت معنويات المسلمين واستردّوا عافيتهم ونشاطهم.
وبعد فترة قليلة أفادت الأخبار
بأنّ سكان دومة الجندل يقطعون الطريق ويتجهزون لغزو المدينة، فخرج اليهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بألف من المسلمين للقائهم، وما أن سمعوا بخروجه إليهم حتّى لاذوا بالفرار مخلّفين وراءهم ما كان
معهم من غنائم فاستولى عليها المسلمون دون قتال(السيرة النبوية لابن كثير: 3 / 177، الطبقات الكبرى: 2 /
62.).
9 ـ
غزوة بني المصطلق ودور النفاق :
ووردت
أخبار جديدة تفيد بأن الحارث بن أبي ضرار ـ زعيم بني المصطلق ـ يعدّ لغزو المدينة
فاستوثق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كعادته قبل كل تحرك ـ من صدق الخبر وندب المسلمين فخرجوا إليهم
والتقوا عند ماء يدعى (المريسيع) ونشبت
الحرب ففر المشركون بعد قتل عشرة اشخاص منهم، وغنم المسلمون غنائم كثيرة وسُبيت
أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث فأعتقها النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولها(تاريخ الطبري: 3 / 204، إمتاع الأسماع: 1 / 195.).
وفي هذه
الغزوة كادت أن تقع فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب بعض النعرات القبليّة ولما
علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك
قال (دعوها فإنها فتنة)( السيرة النبوية: 1 / 290.). وأسرع عبد الله
بن اُبي رأس النفاق يبتغي الفتنة ويؤجج الخلاف فوجّه اللّوم لمن حوله من أهل
المدينة إذ آووا ونصروا المهاجرين ثم قال: أما
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وكادت أن تفلح مساعى ابن
اُبي لولا أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بعد
أن توثق من تحريض ابن أبيّ ونفاقه ـ أمر بالعودة إلى المدينة على وجه السرعة
رافضاً رأي عمر بن الخطاب بقتل ابن أبي فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (فكيف يا عمر إذا
تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! لا)( إمتاع الأسماع: 1 / 202.). ولم يأذن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالاستراحة في الطريق فسار بالمسلمين يوماً وليلة ثم أذن لهم بالاستراحة فأخلد
الجميع للنوم من شدة التعب ولم تتح فرصة للتحدث وتعميق الخلاف. وعلى أبواب المدينة
طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي الإذن من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في قتل أبيه بيده دون أحد من المسلمين خشية أن تثيره العاطفة فيثأر
لأبيه فقال نبي الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم: (بل نترفق به ونحسن
صحبته ما بقي معنا). ثم وقف عبد الله
(الأبن) ليمنع أباه من دخول المدينة إلاّ بإذن من الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم (راجع السيرة النبوية: 2 / 292.)، وفي هذا الظرف نزلت سورة المنافقين لتفضح سلوكهم ونواياهم.
10 ـ
إبطال أعراف جاهلية :
برحمته
الفياضة وبطيب قلبه المفعم حباً للإنسانية وقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات يوم وقال لقريش: (يا من حضر إشهدوا
أن زيداً هذا ابني)( أسد الغابة: 2 / 235، الاستيعاب مادة: زيد.). وانتقل زيد من رقّ العبودية إلى بنوة أكرم خلق الله وآمن زيد بالنبي
المرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم من أول أيام البعثة المباركة إيماناً صادقاً. ومضت الأيام حتى بلغ
زيد مرحلة الرجولة في ظل رعاية النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وبجرأة الثائر العظيم والمصلح الكبير اختار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم زينب بنت جحش (ابنة عمته) زوجاً لزيد، فامتنعت أن تتنازل عن مكانتها
الاجتماعية ونسبها الرفيع لتتزوج رجلاً سبق له أن كان رقّاً. ولكن إيمانها الصادق
دفعها لتستجيب لأمر الله تعالى حيث يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب (33): 36.2).
وبذلك ضرب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهلية البالية
تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن
تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح تجربة رائدة في مجتمع كان لا يزال
يعاني من ترسّبات الجاهلية وتدخل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليصلح ما فسد محاولاً أن لا يصل إلى طريق مسدود فقال لزيد: (أمسك عليك زوجك واتق الله) وتكررت شكوى زيد من زينب فكان
آخرها الطلاق.
ثم نزل
الأمر الإلهي ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادعي بنوّتهم)
أبناءً فقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ
بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب (33) : 4.)، وأبقى لهم حقّ الموالاة والأخوة في الدين.
وأراد
الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل فأمر نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وإكمال عدّتها بعد أن نزلت الآيات
الكريمة تحثّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على إبطال هذا العرف الجاهلي وأن لا يخشى الناس بل يمضي في تطبيق
أحكام الله تعالى بكل شجاعة(راجع سورة الأحزاب (33) : 37 ـ 40 ، وراجع تفسير الميزان: 16 / 290 ،
مفاتيح الغيب: 25 / 212 ، روح المعاني: 22 / 23.).
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم
1 ـ
تحالف قوى الشرك وغزوة الخندق :
أشرفت
السنة الخامسة على الانقضاء وكانت كل الأحداث والتحركات العسكرية التي خاضها
المسلمون تهدف إلى الدفاع عن كيان الدولة الفتيّة، وتوفير الأمن في محيط المدينة
وأفرزت الأحداث تنوعاً وتعدداً في الجهات والأطراف المعادية للدين وللدولة
الإسلامية. فسعى اليهود لاستثمار هذا التنوع بتجميعه وتمويله وإثارة النزعة
العدائية فيه لاستئصال الوجود الإسلامي من الجزيرة، ومن ذلك أنهم أوهموا المشركين
الذين تساءلوا عن مدى أفضلية الدين الإسلامي على الشرك ، بأن الوثنية خير من دين
الإسلام(كما ورد في قوله تعالى في الآية : 51 من سورة النساء.) وتمكنوا من جمع قبائل المشركين وتعبئتهم وسوقهم صوب المدينة عاصمة
الدولة الإسلامية. وسرعان ما وصل الخبر إلى مسامع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو القائد المتحفز اليقظ والمدرك لكل التحركات السياسية، من خلال
العيون الثقات.
واستشار
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه في معالجة الأمر وتوصلوا إلى فكرة حفر خندق يحصّن الجانب
المكشوف من المدينة. وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع
المسلمين ليشاركهم في حفر ذلك الخندق بعد تقسيم العمل بينهم وكان يحضّهم بقوله:
(لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم إغفر للأنصار
والمهاجرة)( راجع البداية والنهاية لابن كثير: 4 / 96 ، والمغازي: 1 /
453.).
ولم يخل
الأمر عن دور للمنافقين والمتقاعسين عن العمل رغم الهمة والحماس الذي أظهره
المخلصون من المسلمين(نزلت آيات من القرآن الكريم تفضح السلوك التخاذلي وتدعم مركزية العمل
بوجود الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم. راجع سورة الأحزاب ، الآيات : 12 ـ 20 .).
وأحاطت
قوى الأحزاب المشركة البالغة نحو عشرة آلاف مقاتل بالمدينة يمنعها الخندق وتسيطر عليها الدهشة لهذا الأسلوب الدفاعي الذي لم تكن
تألفه من قبل. وخرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ثلاثة
آلاف مقاتل ونزل في سفح جبل
سلع ووزّع المهام والأدوار لمواجهة الطوارئ.
وبقيت
الأحزاب تحاصر المدينة ما يقرب من شهر عاجزين
عن اقتحامها، وكانت هناك مواقف رائعة للمسلمين وكان بطلها الأوحد علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وقد توّج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم موقف علي بن أبي طالب البطولي عندما خرج لمبارزة صنديد من صناديد
العرب ـ هو عمرو بن عبد ود ـ بعد أن أحجم المسلمون عن الخروج إليه بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)( بحار الأنوار: 20 / 215. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
: 13 / 283 و 14 / 291 ـ 292 و 19/63 ـ 64 والسيرة النبوية : 3 / 281 وراجع مستدرك
الحاكم : 3 / 32 .).
وحاول
المشركون الاستعانة بيهود بني قريظة بالرغم من انهم كانوا قد تعاهدوا مع رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يدخلوا في حرب ضد المسلمين، وتيقّن الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم من عزيمة اليهود على المشاركة في القتال وفتح جبهة داخليّة ضدّ
المسلمين فأرسل
إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فرجعوا
مؤكدين الخبر فكبّر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائلاً: (الله أكبر أبشروا
يا معشر المسلمين بالفتح)( المغازي: 1 / 456 ، بحار الأنوار: 20 / 222.).
2 ـ
الضغط على المسلمين :
لقد
تعرض المسلمون لضغوط عديدة أثناء الحصار منها:
1 ـ
تناقص الأقوات (المواد الغذائية) حتى بدى شبح المجاعة يدنو من المسلمين(راجع المغازي: 2 / 465، 475، 489.).
2 ـ
صعوبة الظروف الجوّية حيث البرد القارس في ليالي الشتاء الطويلة.
3 ـ
الحرب النفسيّة المريرة التي شنّتها جيوب المنافقين في صفوف المسلمين وتخذيلهم عن
القتال وتخويفهم من مغبّة الاستمرار في الصمود.
4 ـ
السهر المستمر طوال مدة الحصار حذراً من الهجوم المباغت، فقد أتعب ذلك المسلمين
بالنظر إلى عددهم القليل إذا ما قيس إلى كثرة قوّات الأحزاب.
5 ـ غدر
بني قريظة حيث أصبح خطراً حقيقياً يهدد قوات المسلمين داخلياً ويزيدهم قلقاً على
سلامة أهاليهم داخل المدينة.
3 ـ
هزيمة العدو :
لقد
كانت قوى الأحزاب ذات نوايا وأهداف متخالفة، فاليهود كانوا يحاولون استعادة نفوذهم
على المدينة بينما كانت قريش مندفعة بعدائها للرسول والرسالة وكانت غطفان وفزارة
وغيرها طامعة في محاصيل خيبر التي وعدها اليهود. هذا من جانب. ومن جانب آخر أحدثت
قسوة ظروف الحصار كللاً ومللاً في نفوس الأحزاب إلى جانب ما واجههوه من التحصين
وقوة المسلمين التي أبدوها وما قام به (نُعيم بن مسعود) من إحداث شرخ في تحالف
الأحزاب واليهود إذ أقدم ـ بعد إسلامه ـ إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلاً: مرني ما شئت. فقال له صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أنت فينا رجل واحد، فَخَذِّل عنا ما استطعت فإنّ
الحرب خدعة).
وأرسل
الله سبحانه وتعالى على الأحزاب ريحاً عاتية باردة أحدثت فيهم رعباً وقلقاً
فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، فنادى أبو سفيان بقريش للرحيل فأخذوا معهم من المتاع
ما استطاعوا حمله وفرّوا هاربين وتبعتهم سائر القبائل حتى إذا أصبح الصباح لم يبق
أحد منهم (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (نزلت سورة الأحزاب وفيها تفاصيل ما جرى يوم الخندق.).
4 ـ غزو
بني قريظة وتصفية يهود المدينة :
لقد كشف
يهود قريظة عن الحقد والعداء الذي انطوت عليه نفوسهم يوم الخندق ولولا أن الله
أخزى الأحزاب لتمكن يهود بني قريظة من الفتك بالمسلمين من خلف ظهورهم فكان لابد
للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من معالجة موقفهم الخياني، ولهذا أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتحرك المسلمون لمحاصرة اليهود في حصونهم من دون أن يعطي فرصة
للاستراحة مظهراً بذلك أهمية الحركة العسكرية الجديدة فأذّن المؤذن في الناس: من
كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة(الطبري: 3 / 179.).
وأعطى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رايته لعلي عليهالسلام وتبعه
المسلمون مع ما بهم من ألم الجوع والسهر والجهد من أثر محاصرة الأحزاب... واستولى
الهلع والخوف على اليهود حين رأوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين يحيطون بهم وأيقنوا أن النبي غير منصرف عنهم حتى يناجزهم.
وطلب
اليهود أبا لبابة بن عبد المنذر ـ وكان من حلفائهم الأوس ـ يستشيرونه في أمرهم ولكنه كشف لهم عمّا كان يعلمه من مصيرهم حين
قاموا إليه صغاراً وكباراً يبكون(السيرة النبوية: 2 / 237.). ولم
يقبل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عرض بني قريظة وهو الارتحال عن المدينة من دون عقوبة بسبب موقفهم
الخياني السابق وأبى إلاّ النزول على حكم الله ورسوله، وحاول الأوس التوسط ـ بطلب
من اليهود ـ لدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من شاءوا.
فاختار اليهود سعد بن معاذ(السيرة النبوية: 2 / 239، الإرشاد: 50.) حَكَماً وكان هذا من سوء حظ اليهود; لأن سعداً جاءهم يوم تجمعت
الأحزاب طالباً منهم الحياد في الموقف فأبوا ذلك. وكان سعد جريحاً
فحملوه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاستقبله وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن حوله: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه. ثم حكم سعد بقتل الرجال وسبي النساء
والذراري وتقسيم الأموال على المسلمين، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة(راجع السيرة النبوية: 2 / 240 ، المغازي: 2 / 510.).
ثم إن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد ما أخرج
الخمس، للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، ثم أعطى الخمس إلى زيد بن حارثة وأمره أن
يشتري بها خيلاً وسلاحاً وغيرها من عدّة الحرب استعداداً للمهام اللاحقة(السيرة النبوية: 2 / 241 .).
الباب
الخامس: فيه فصول:
الفصل
الأول: مرحلة الفتح.
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة.
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة.
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة.
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخالدة.
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الفصل
الأول: مرحلة الفتح
1 ـ صلح
الحديبية :
كادت
تنقضي السنة السادسة للهجرة وكانت تلك السّنة سنة جهاد مستمر ودفاع مستميت بالنسبة
للمسلمين. واهتم المسلمون بنشر الرسالة الإسلامية وبناء الإنسان والمجتمع الإسلامي
وتكوين الحضارة الإسلامية. وقد ادرك كل من كان في الجزيرة العربية عظمة هذا الدين
وعرف أن من المستحيل استئصاله والقضاء عليه، فالصراع مع قريش ـ وهي أكبر قوة
سياسية وعسكرية آنذاك ـ ومع اليهود وباقي القوى المشركة لم يمنع من انتشار الإسلام
وسطوع معانيه وبلوغ أهدافه.
ولم يكن
البيت الحرام ملكاً لأحد أو حكراً لمذهب أو أصحاب معتقد معيّن، فقد كانت هنالك
أصنام وأوثان متعددة يحج إليها من يعتقد بها، إلاّ أن طغيان قريش وعتوّها صدّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين عن زيارة البيت الحرام.
وفي هذه
الفترة أدرك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حرج
قريش في موقفها تجاه الإسلام فقرر أن ينطلق بالمسلمين في رحلة عبادية مؤدياً
العمرة، ليعلن من خلالها مواصلته للدعوة الإسلامية ويوضح ما يمكنه من مفاهيم
العقيدة الإسلامية ومعالمها واحترامها وتقديسها للبيت الحرام، وتكون حركته هذه
مرحلة انفتاح رسالي جديد وعهد انتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الانتشار والهجوم.
سلك
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه طريقاً وعراً ثم هبطوا إلى منطقة سهلة تدعى بـ(الحديبية)
فبركت ناقة رسول الله فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل بمكة)( بحار الأنوار : 20 / 229.)، فأمر صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين بالنزول فيها ـ وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة
الرحم إلاّ أعطيتهم إياها)( الطبري: 3 / 216.)، ولكنّ قريشاً بقيت تترصد المسلمين ووقف فرسانها في طريقهم، ثم بعثت
إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بديل بن ورقاء في وفد من خزاعة لتستعلم هدف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتصده عن دخول مكة، وعاد الوفد ليقنع قريشاً أن السلم والعمرة هدف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. واستكبرت قريش وبعثت بوفد آخر يرأسه الحليس ـ سيد الأحابيش ـ فلما
رآه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مقبلاً قال: (إن هذا من قوم يتألهون) (أي يعظمون الله). فلما رأى
الحليس الهدي رجع إلى قريش من دون أن يلتقي بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليقنع قريشاً ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين جاءوا معتمرين . ولكن لم تقتنع قريش فأرسلت مسعود بن عروة
الثقفي الذي انبهر من مشهد المسلمين وهم يتسابقون لالتقاط القطرات المتناثرة من
وضوئه صلىاللهعليهوآلهوسلم فعاد إلى قريش قائلاً: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر
في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل (محمد) في
أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(المغازي: 2 / 598.).
وقد
أعرب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن
احترامه للأشهر الحرم من خلال رحلة المسلمين العباديّة حيث لم يحملوا معهم سوى
سلاح المسافر، كما دعا القبائل المجاورة أن يكونوا إلى جانب المسلمين في هذه
الرحلة رغم أنهم لم يكونوا مسلمين مؤكداً أن العلاقة بين الإسلام وباقي القوى غير
قائمة على أساس الحرب.
واستنفر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ألفاً وأربعمائة مسلم ـ على أقل التقادير ـ وساق الهدي أمامه (سبعين
بعيراً). وبلغ قريشاً نبأ خروج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين لأداء العمرة فأصبحت قريش في ضيق من أمرها وكان أمامها
طريقان: إما أن تسمح للمسلمين بأداء العمرة وبذلك يتحقق للمسلمين أملهم في زيارة
البيت الحرام ويحظى المهاجرون بالاتصال بأهلهم وذويهم وربما دعوتهم إلى الإسلام،
أو أن تمنع قريش المسلمين عن دخول مكة وبذلك ستتعرض مكانة قريش للاهتزاز وتكون
محطّاً للوم القبائل الأُُخرى بسبب سوء معاملتها لقوم مسالمين يبتغون أداء مناسك
العمرة وتعظيم الكعبة المشرفة لا غير.
لقد أبت
قريش إلاّ العتو والمعاندة فأخرجت مجموعة من فرسانها تقدّر بمئتي فارس بقيادة خالد
بن الوليد لمواجهة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين. ولما كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد خرج محرماً لا غازياً قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني
وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في
الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال
أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثمّ أمر
بالعدول عن طريق فرسان قريش تجنباً لوقوع قتال تتخذه قريش ذريعة لصحة موقفها
وفخراً لها. وأرسل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خراش
بن أمية الخزاعي ليفاوض قريشاً في الأمر، فعقروا ناقته وكادوا أن يقتلوه. ولم ترع
قريش حرمة ولاذمة للأعراف والتقاليد. ولم تلبث قريش أن كلفت خمسين رجلاً للتحرش
بالمسلمين عسى أن يبدر منهم ما ينفي صفة السلم عنهم. وفشلت خطتهم وتمكن المسلمون
من أسرهم فعفا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عنهم
مؤكداً بذلك هدفه السلمي(تأريخ الطبري: 3 / 223.).
وأراد
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبعث إلى قريش رسولاً آخر ـ ولم يتمكن من إرسال علي بن أبي طالب
ممثلاً عنه; لأنّ علياً كان قد وتر قريش بقتل صناديدها في معارك الدفاع عن
الإسلام، فانتدب عمر بن الخطاب ولكن عمر خاف من قريش على نفسه رغم أنه لم يقتل
فرداً من أفرادها واقترح على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يرسل عثمان بن عفان(السيرة النبوية: 2 / 315.) ;
لكونه أموياً وذا قرابة مع أبي سفيان. وتأخر عثمان في العودة من قريش وأشيع خبر
مقتله، فكان هذا إنذاراً بفشل كل المساعي السلمية لدخول مكة. ولم يجد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بدّاً من التهيّؤ للقتال، وهنا كانت بيعة الرضوان إذ جلس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات مهما كلف
الأمر، وهدأ استنفار المسلمين بعودة عثمان. وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لمفاوضة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
شروط الصلح :
وبسبب
تشدد (سهيل) في شروط الصلح كادت المفاوضات أن تفشل، وأخيراً تمّ الاتفاق على عدّة
شروط للصلح، هي:
1 ـ
تعهّد الطرفين بترك الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.
2 ـ من
أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع ( محمّد )
لم يردّوه عليه.
3 ـ من
أحب أن يدخل في عقد (محمّد) وعهده دخل فيه ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم
دخل فيه.
4 ـ
يرجع ( محمّد ) بأصحابه إلى المدينة عامه هذا فلا يدخل مكة، وإنما يدخل مكة في
العام القادم فيقيم فيها ثلاثة أيام ليس معه سوى سلاح الراكب، والسيوف في القِرَب(السيرة الحلبية: 3 / 21.).
5 ـ لا
يُستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية وأن يكون
الإسلام ظاهراً بمكة وأن لا يؤذى أحد ولا يعيّر(بحار الأنوار: 20 / 352.).
6 ـ لا
إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر(مجمع البيان: 9 / 117.).
7 ـ لا
تعين قريش على ( محمّد ) وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(بحار الأنوار: 20 / 352.).
ولم
يرضَ نفر من المسلمين ببنود الصلح، فاعترضوا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متصوّرين أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تراجع أمام قريش ولم يدركوا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مسدد من الله وأنه ينظر بعين متطلّعة إلى مستقبل الرسالة الإسلامية
ومصالحها العليا. وردّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على المعترضين بقوله: (أنا
عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني). وأقرّ النبي ما كرهه بعض المسلمين، وجاءت قضية تسليم أبي جندل لقريش(السيرة الحلبية: 3 / 21، السيرة النبوية: 2 / 218، بحار
الأنوار: 20 / 252.) إثارة جديدة في
ظرف توتّر فيه الوضع النفسي عند بعضهم.
ولكن
هذا الصلح كان في الواقع فتحاً مبيناً وكبيراً للمسلمين على خلاف ما كان يبدو
للبعض من ظاهر بنود الصلح ; إذ انقلبت شروط المعاهدة لصالح المسلمين بعد قليل.
وفي طريق الرجوع
إلى المدينة نزلت آيات القرآن الكريم(راجع سورة الفتح (48): 1 ـ 7 و 18 ـ 28 .) لتؤكد البعد
الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية، وتبشّر المسلمين بدخول مكة قريباً.
نتائج صلح الحديبية
:
1 ـ
اعترفت قريش بكيان المسلمين كقوة عسكرية وسياسية منظمة، وكدولة حقيقية جديدة.
2 ـ
دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتصاغر دورهم، وظهر ضعفهم عند المواجهة.
3 ـ
أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام ودخلت قبائل كثيرة في الإسلام. وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يتوقّع منذ بدء حركته الرسالية الإسلامية أن تترك قريش له فرصة يعبّر
فيها بحرّية عن موقفه، ويشرح الإسلام للناس بأمان.
4 ـ أمن
المسلمون جانب قريش فحوّلوا ثقلهم وجهودهم لمواجهة اليهود وسائر المناوئين.
5 ـ
جعلت مفاوضات الصلح حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليهم.
6 ـ
مكّن الصلح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من أن يراسل الملوك ورؤساء الدول خارج الجزيرة لدعوتهم إلى الإسلام،
وأن يستعدّ لغزوة مؤتة، كخطوة لنقل الإسلام خارج منطقة الجزيرة العربية.
7 ـ
مهّد الصلح لفتح مكة ـ الّتي كانت أهم قلاع الوثنية حين ذاك ـ في مراحل لاحقة.
2 ـ
انطلاقة الرسالة الإسلامية إلى خارج المدينة :
لقد كانت محاولات
قريش للقضاء على الإسلام فيما مضى عاملاً لانشغال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين في معارك الدفاع والتحصين وتثبيت أركان الدولة والمجتمع الإسلامي عدة سنين فلم يستطع خلالها أن يبلّغ بحريّة تامّة
رسالته السماوية العالمية والخاتمة لكل الأديان. ولكن بتوقيع معاهدة صلح الحديبية
أمن الرسول جانب قريش وأتاحت هذه العملية فرصة مناسبة لأن يبعث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم سفراءه إلى زعماء القوى الكبرى المحيطة بالجزيرة العربية والى كل
رؤساء المجاميع في الجزيرة وخارجها يدعوهم إلى الإسلام بعد بيان التعاليم الإلهية
لهم.
فقد روي
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في أصحابه: (أيها
الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على
عيسى بن مريم).
فقال أصحابه:
وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثاً
قريباً فرضي وسلّم وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل)( السيرة النبوية : 2 / 606 ، والطبقات الكبرى : 1 / 264 .).
وانطلقت
رسل الدعوة والهداية تنقل أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
نقاط العالم المختلفة(قد عدّ علماء الإسلام ما يقارب من ( 185 ) كتاباً ورسالة بعثها رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى كل القوى يدعوها إلى الإسلام. راجع : مكاتيب الرسول
لعلي بن حسين علي الأحمدي .).
3 ـ غزوة خيبر (وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الآخرة من السنة السابعة
للهجرة، راجع الطبقات الكبرى : 2 / 77.) :
بجهود
صادقة وبحنكة كبرى وشجاعة فائقة وتسديد إلهي ارتقى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمسلمين سُلّم الوعي الرسالي والثبات والخير وزرع فيهم روح الصبر
والتواصل.. وانطلق صلىاللهعليهوآلهوسلم
برسالته السماوية إلى العالم الإنساني خارج الجزيرة العربية من خلال كتبه ورسله
إلى زعماء القوى المجاورة.
وتوقع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تكون ردود الفعل مختلفة فقد يكون بعضها هجوماً عسكرياً يقصد
المدينة مستعيناً بما فيها من بقية جيوب المنافقين واليهود وهم الذين حفل تأريخهم
بالغدر والخيانة .
وكانت
خيبر تمثّل حصناً قوياً ومركزاً كبيراً لليهود ولهذا قرر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقضي على هذه القوة المتبقّية، فلم يلبث بعد عودته من الحديبية
إلاّ أياماً قلائل حتى جهّز جيشاً بلغ تعداده ألفاً وستمائة من المسلمين مؤكداً
لهم أن لا يخرجوا في ابتغاء الغنيمة وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا يخرجنّ معنا إلاّ راغب في الجهاد)( الطبقات الكبرى: 2 / 106.).
واتّبع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اسلوباً يوهم حلفاء اليهود ويمنعهم عن المبادرة لنصرتهم; تجنباً
لمزيد من القتال.
فباغتت
قوات المسلمين حصون اليهود يتقدمها علي بن أبي طالب عليهالسلام حاملاً راية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وامتنعت
اليهود في حصونهم المنيعة بخطة محكمة كانوا قد اتّبعوها، ثم دارت مناوشات متعددة تمكّن
المسلمون خلالها من احتلال عدة مواقع مهمة. على أن القتال اشتدّ وطالت مدّة الحصار
وعانى المسلمون من قسوة الجوع حتى أنهم أكلوا طعاماً غير مستساغ.
وأعطى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رايته إلى عدد من الصحابة ليتم الفتح على أيديهم فلم يأتوا إلاّ
بالفرار والفشل. ولمّا بلغ الجهد بالمسلمين قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)( السيرة النبوية : 2/337 . صحيح مسلم 15/176 ـ 177 وفضائل
الصحابة : 2/603 ومسند الإمام أحمد : 3/384 والمواهب اللدنيّة : 1/284 ،
والاستيعاب : 3/203، كنز العمال: 13/123.).
ودعا في
اليوم التالي علياً وأعطاه الراية فتمّ الفتح على يديه وسرّ المسلمون والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جميعاً، وصالح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم البقية الباقية من اليهود بعد استسلامهم على نصف ثمار مزارعهم التي
أصبحت ملكاً للمسلمين، ولم يعاملهم كما عامل بني النضير وبني القينقاع وبني قريظة;
إذ لم تعد قوة اليهود الباقية ذات أثر مهم في المدينة.
4 ـ محاولة اغتيال
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
لقد
قررت جماعة في الخفاء قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غيلةً شفاءً لحقدهم الدفين وإرضاءً لنزعاتهم العدوانية ولهذا أهدت
زينب بنت الحارث ـ زوجة سلام بن مشكم اليهودي ـ إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم شاة مشوية ودسّت السمّ فيها وأكثرت منه في ذراعها إذ كانت تعلم أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحب الذراع من الشاة.
فلمّا
وضعتها بين يديه أخذ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ولفظها، بينما مات بشر بن البراء بن
معرور بعد أن ابتلع مضغة أُخرى منها .
وعفا
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها بعدما اعترفت له بذلك زاعمة أنها كانت تريد اختبار نبوّته، ولم
يلاحق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذين تواطئوا معها(السيرة النبوية: 2 / 337، المغازي: 2 / 677.).
5 ـ
استسلام أهالي فدك :
وتهاوت
أوكار الخيانة أمام صولات الحق والعدل، فما أن تم نصر الله في خيبر حتى قذف الله
الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصالحونه على نصف محاصيل فدك وأن يعيشوا تحت راية الحكم الإسلامي،
مطيعين مسالمين فوافق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ذلك.
وبهذا
أصبحت فدك ملكاً لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة بحكم القرآن لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا سلاح إذ أعلنت
استسلامها للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من دون تهديد أو قتال. وقد وهب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدكاً لابنته فاطمة الزهراء عليهاالسلام (مجمع البيان: 3 / 411، شرح ابن أبي الحديد: 16 / 268، الدر المنثور:
4 / 177.).
وبهذا
تمّ تطهير أرض الجزيرة العربية من جيوب الخيانة وتخلّصت من فتن اليهود الذين
جُرّدوا من أسلحتهم ووضعوا تحت حماية القانون والدولة الإسلامية.
وفي يوم
فتح خيبر أقبل جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فاستقبله رسول الله وقبّل ما بين عينيه
وقال: بأيهما أُسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر(الطبقات الكبرى: 2 / 108، والسنن الكبرى للبيهقي: 7 / 101،
والسيرة النبوية لابن كثير: 3 / 398.).
6 ـ
عمرة القضاء :
انقضت
أيام الهدنة والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون في عمل دؤوب متواصل لتركيز دعائم الحكم الإسلامي، ولم تحدث
تحركات عسكرية مهمة بعد فتح خيبر سوى خروج سرايا تبليغية أو تأديبية لبعض العناصر
التي كانت تظهر الشغب.
ومضى
عام على صلح الحديبية إلتزم خلاله الطرفان ببنود الاتفاق وحلّ الوقت الذي أصبح
النبي والمسلمون في حلٍّ من عهدهم لزيارة بيت الله الحرام، فنادى منادي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتجهز المسلمون لأداء عمرة القضاء. وخرج مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ألفان من المسلمين لا يحملون سلاحاً إلاّ السيوف في القِرب، وكان من
حيطة النبي وحذره من احتمال الغدر أن جهّز مجموعة مسلحة عند (مرّ الظهران) ليكونوا
القوّة المستعدة للدفاع عند الطوارئ.
ولما
وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذا
الحليفة أحرم هو وأصحابه وساق معه ستين بدنة، وقدّم الخيل أمامه، وكانت نحواً من مائة بقيادة محمد بن مسلمة. وخرج
زعماء مكة ومن تبعهم إلى رؤوس الجبال والتلال المجاورة المطلة على مكة زاعمين أنهم
لا يريدون النظر إلى وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا إلى أصحابه، ولكن جلالة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وهيبة منظر المسلمين الذين كانوا قد احتفّوا بالرسول وهم يردّدون
التلبية بهرت عيونهم وتركتهم مذهولين ينظرون إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين وهم يؤدون مناسكهم.
وطاف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حول البيت على راحلته التي كان يقودها عبد الله بن رواحة وأمر أن
ينادي المسلمون بصوت عال: (لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده،
وأعَزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده).
فدوّى
النداء في مكة وشعابها فانصدعت قلوب المشركين رعباً وتملّكهم الغيظ والحقد من
مظاهر النصر الإلهي للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي خرج منهم طريداً قبل سبع سنين.
وأتم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون مناسك العمرة، وأيقنت قريش بقوة الإسلام والمسلمين وأيقنت
بكذب من أخبرها أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن
معه في جهد وتعب وضيق وحرج بسبب الهجرة إلى المدينة.
وصعد
بلال على ظهر الكعبة وأعلن نداء التوحيد مؤذّناً لصلاة الظهر بمظهر روحاني بهيج
أغاظ رؤوس الكفر من قريش... وقد كانت مكة كلّها تحت تصرف المسلمين.
وتفرق
المهاجرون فيها وهم يصحبون إخوتهم الأنصار يزورون دورهم التي غادروها في سبيل الله
ويلتقون بأهليهم وذويهم بعد فراق طويل.
وأمضى
المسلمون ثلاثة أيام في مكة ثم غادروها بموجب الاتفاق الذي كان بينهم وبين قريش
بعد أن رفضت طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يتم مراسم زواجه من (ميمونة) خائفين من ازدياد قوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واختراق الإسلام لمجتمع مكة من خلال طول مكث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها.
وخلّف
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا رافع ليحمل إليه زوجته (ميمونة) حين يمسي، إذ خرج المسلمون قبل
صلاة الظهر من مكّة(السيرة النبوية: 2 / 372.).
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة
1 ـ
معركة مؤتة(وقعت معركة مؤتة في جمادى الاُولى من السنة الثامنة للهجرة.) :
عزم
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على بسط الأمن في شمال الجزيرة العربية، ودعوة أهلها إلى الإسلام
والانطلاق نحو الشام. من هنا بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى الحارث ابن أبي شمر
الغساني فاعترضه شرحبيل بن عمرو الغسّاني فقتله.
وفي
الفترة نفسها بعث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مجموعة من المسلمين يدعون إلى الإسلام فعدا عليهم أهل منطقة (ذات
أطلاح) من الشام وقتلوهم وبلغ خبر مقتلهم الرسول فتألم لذلك كثيراً وانتدب صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين للخروج، فأعد جيشاً من ثلاثة ألاف مقاتل وأمّر عليه زيد بن
حارثة ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبد الله بن رواحة. وخطب فيهم قائلاً: (اُغزوا بسم الله ... أدعوهم إلى الدخول في الإسلام ... فإن فعلوا
فاقبل منهم واكفف عنهم ... وإلاّ فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام وستجدون فيها
رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في
رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً مرضعاً ولا كبيراً
فانياً، لا تغرقنّ نخلاً ولا تقطعنّ شجراً ولاتهدموا بيتاً)( المغازي: 2 / 758، راجع السيرة النبوية: 2 / 374.).
وخرج
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معهم مودّعاً حتى بلغ ثنية الوداع.
ولما
بلغ جيش المسلمين منطقة (مشارق) فوجئ بالعدة والعدد الضخم لجيش الروم إذ بلغ عددهم
مائتي ألف مقاتل فانحاز المسلمون إلى مؤتة وعزموا على مقاومة العدو. ولأسباب عديدة
بان الانكسار في جيش المسلمين فقتل القادة الثلاثة جميعاً. وكان من عوامل الانكسار
أنهم كانوا يقاتلون في منطقة غريبة عليهم وبعيدة عن مركز الإمدادات كما أنهم كانوا
يقاتلون مهاجمين والروم بالعدد الضخم يقاتلون مدافعين، هذا مضافاً إلى التفاوت في
الخبرة القتالية فجيش الروم قوة منظمة مارست حروباً سجالاً أما جيش المسلمين فكان
قليل العدد والخبرة، فتيّاً في تكوينه (السيرة النبوية: 2 / 381.).
ولقد تأ
لّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمقتل جعفر بن أبي طالب وبكاه بشدة، وذهب صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى بيت جعفر يعزّي أهله ويواسي أبناءه، كما حزن كثيراً على زيد ابن
حارثة(بحار الأنوار: 21 / 54، المغازي: 2 / 766، السيرة الحلبية:
3 / 68.).
2 ـ فتح
مكة(تم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.) :
لقد
اختلفت ردود فعل القوى في المنطقة بعد معركة مؤتة، فالروم فرحوامن انسحاب المسلمين
وعدم تمكّنهم من دخول الشام.
أما قريش فقد سادهم
الفرح وانبعثت فيهم الجرأة على المسلمين وأخذوا يسعون لنقض صلح الحديبية عبر
الإخلال بالأمن فحرّضوا قبيلة بني بكر على بني خزاعة (بعد أن دخلت قبيلة بني بكر
في حلف قريش وخزاعة في حلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اثر صلح الحديبية) وأمدّوها بالسلاح فعدت بكر على خزاعة غيلة وقتلوا عدداً من أفرادها وهم في ديارهم آمنين، وكان بعضهم
في حال العبادة ففزعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طالبين النصرة، ووقف عمرو بن سالم بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وهو جالس في المسجد ـ ينشد أبياتاً يعرض فيها نقض العهد. فتأثر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم. أما قريش فقد انتبهت وأدركت سوء فعلتها
وقد تملّكها الخوف والهلع من المسلمين فاجتمع رأيهم على إيفاد أبي سفيان إلى
المدينة ليجدد الصلح ويطلب تمديد المدة من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولكن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يصغ لطلب أبي سفيان وسأله قائلاً: هل كان من حدث؟ قال
أبو سفيان: معاذ الله ، فأجابه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: نحن على مدّتنا وصلحنا.
لكن أبا
سفيان لم يهدأ له بال ولم يقنع بل أراد أن يستوثق ويأخذ عهداً وأماناً من رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسعى لتوسيط مَن يؤثّر على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقابله الجميع بالرفض واللامبالاة.
فلم يجد
إلاّ أن يقفل راجعاً بالخيبة إلى مكة وقد ضاقت الأمور على قوى الشرك حيث تبدلت
الظروف ، فالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يطلب مكة فاتحاً، بعدّة تتزايد وإيمان يترسخ ، وقريش تطلب الأمان
والسلامة في دمائها وأموالها، وقد سنحت الفرصة بنقض الصلح. وتكاد تكون مكة آخر
خطوة لتتم سيطرة الإسلام على الجزيرة العربية برمّتها. وأعلن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم النفير العام، وتوافدت عليه جموع المسلمين ملبية نداءه، فجهّز جيشاً
قارب عدده عشرة آلاف رجل. واجتهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكتم قصده وهدفه إلاّ على الخاصة وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الله قائلاً : (اللهم
خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها)( السيرة النبوية: 3 / 397، المغازي : 2 / 796.). ويبدو أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
يود أن يتحقق النصر المؤزّر سريعاً دون إراقة قطرة دم ، متخذاً أسلوب المباغته.
ولكن الخبر تسرب إلى رجل كان قد ضعف أمام عواطفه فكتب إلى قريش كتاباً بذلك وبعثه
مع امرأة توصله. ونزل الوحي يخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك فأمر علياً والزبير بأن يلحقا المرأة ويسترجعا الكتاب، وانتزع
علي بن أبي طالب بقوة إيمانه برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الكتاب من المرأة(السيرة النبوية: 2 / 398.). ولمّا استلم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الكتاب
جمع المسلمين في المسجد ليثير هممهم ويحذر من مسألة الخيانة من جانب ويبيّن من
جانب آخر أهمية كبت العواطف مرضاةً لله. وقام المسلمون يدفعون حاطب بن أبي بلتعة
صاحب الكتاب الذي حلف بالله أنه لم يقصد الخيانة وانفعل عمر بن الخطاب وطلب من
النبيّ أن يقتله فقال له : (وما
يُدريك يا عمر لعلَّ الله اطلع على أهل بدر وقال لهم إعملوا ما شئتم فلقد غفرت
لكم)( امتاع الاسماع: 1 / 363، المغازي: 2 / 798. ويرى بعض
المحققين أن هذا الحديث من الموضوعات. راجع سيرة المصطفى: 592.).
تحرك الجيش
الإسلامي نحو مكة :
وتحرك
جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان باتجاه مكة المكرمة، ولما بلغ مكاناً يدعى
(الكديد) طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ماءاً فأفطر به أمام المسلمين وأمرهم أن يفطروا لكن بعضاً منهم عصوا
الرسول القائد ولم يفطروا فغضب من عصيانهم وقال: (أولئك العصاة)
وأمرهم أن يفطروا(وسائل الشيعة: 7 / 124، السيرة الحلبية: 3 / 290، المغازي:
2 / 802، وصحيح مسلم 3/141 ـ 142، كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان
للمسافر في غير معصية، ط دار الفكر ، بيروت.).
ولما
وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى مرّ الظهران أمر المسلمين أن ينتشروا في الصحراء ويوقد كل منهم
ناراً. وهكذا أضاء الليل البهيم وظهر المسلمون كجيش عظيم تضيع أمامه كل قوى قريش
مما أقلق العباس بن عبد المطلب ـ وهو آخر المهاجرين إذ التحق بركب رسول الله في
منطقة الجحفة ـ فتحرك يبحث عن وسيلة يبلغ بها قريشاً أن تأتي مسلمة قبل دخول الجيش
عليها.
وفجأة
سمع صوت أبي سفيان يحادث بديل بن ورقاء مستغرباً وجود هذه القوة الكبيرة على مشارف
مكة. وارتعد أبو سفيان خوفاً حين أخبره العباس بزحف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بجيشه لفتح مكة، ولم يجد أبو سفيان بدّاً من اصطحاب العباس لأخذ
الأمان من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولم يكن
بوسع ينبوع العفو والاخلاق السامية أن يبخل بإجازة جوار عمّه لأبي سفيان فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إذهب فقد أمناه
حتى تغدو به عليّ).
استسلام أبي سفيان
:
ولما
مثل أبو سفيان بين يدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال له : (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا
إله إلاّ الله؟) فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك
وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)
قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما والله فإنّ في النفس منها حتى الآن
شيئاً(السيرة النبوية: 3 / 40، مجمع البيان: 10 / 554 .).
وتدارك
العباس الموقف ليضغط على أبي سفيان ليسلم وقال له: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلاّ
الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تقتل. فشهد أبو سفيان الشهادتين خوفاً من القتل،
ودخل في عداد المسلمين.
واستسلم
من بقي من زعماء المشركين بعد استسلام أبي سفيان، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم استتماماً للضغط النفسي على قريش كي تستسلم دون إراقة دماء قال
للعباس: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ
به جنود الله فيراها).
ولإشاعة
الاطمئنان والثقة برحمة الإسلام ورحمة الرسول القائد وإرضاء لغرور أبي سفيان كي لا
يكابر قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو
آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن).
ومرّت
جنود الله تعبر المضيق والعباس يعرّف الكتائب التي تمر وأبو سفيان قد أخذته الدهشة
حتى قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً فأجابه العباس: يا أبا
سفيان إنها النبوة. وتردد أبو سفيان في الجواب فقال: فنعم إذن. ثم انطلق أبو سفيان
إلى مكة ليحذّر أهلها ويعلن أمان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (المغازي ، للواقدي : 2 / 816 ، السيرة النبوية : 3 / 47 .).
دخول مكة :
أصدر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أوامره الحكيمة بتوزيع مداخل القوات إلى مكة مؤكداً عدم اللجوء إلى
القتال إلاّ رداً عليه. وأهدر صلىاللهعليهوآلهوسلم دماء عدد من المشركين ـ في كلّ الحالات ـ حتّى لو وجدوهم متعلقين
بأستار الكعبة، لعظيم جنايتهم ومعاداتهم للإسلام وللنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وما إن
لاحت بيوت مكة حتّى إغرورقت عينا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالدموع، ودخلت قوّات الإسلام الظافرة مكة من جهاتها الأربع ومظاهر العز والنصر
تجلّلها ودخل الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة مطأطئاً رأسه تعظيماً لله وشكراً له على ما منحه من الفضل
والنعمة حيث دانت لرسالته ودولته أم القرى، بعد طول جهد وعناء تحمله صلىاللهعليهوآلهوسلم في سبيل إعلاء كلمة الله.
ورفض
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يدخل دار أحد من أهالي مكة رغم كثرة عروضهم له، واغتسل بعد
استراحة قصيرة وركب راحلته وكبّر فكبّر المسلمون فدوّى الصوت في الجبال والوهاد ـ
التي فرّ إليها بعض رؤوس الشرك خوفاً من الإسلام ونصره ـ وجعل يشير وهو يطوف في
البيت إلى كل صنم موجود حوله ويقول: قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقاً، فيسقط الصنم لوجهه.
ثم أمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً أن يجلس ليصعد صلىاللهعليهوآلهوسلم على كتفه ولكن لم يستطع علي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحمل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على كتفه لكسر الاصنام فوق الكعبة، من هنا صعد عليّ على كتف ابن عمّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وكسر الأصنام. ثم طلب النبيّ مفاتيح الكعبة وفتح بابها ودخلها ومسح
ما فيها من صور. ثم وقف على بابها يخطب الجموع المتكاثرة خطبة الفتح العظيم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر
عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين،
إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج... ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية
وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب...)( مسند أحمد : 1 / 151 ، فرائد السمطين : 1 / 249 ، كنز
العمّال : 13 / 171 ، السيرة الحلبية : 3 / 86 .) ثم تلا قوله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات (49) : 13.) يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم)؟.
قالوا:
أخ كريم وابن أخ كريم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إذهبوا فأنتم الطلقاء)( بحار الأنوار: 21 / 106، والسيرة النبوية: 2 / 412.).
ثم
ارتقى بلال سطح الكعبة ليؤذّن لصلاة الظهر فصلى المسلمون بإمامة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد الحرام أوّل صلاة بعد هذا الفتح.
ووقف
المشركون والحيرة تملكهم وتعلوهم الدهشة مشوبة بالخوف والحَذر. وخشيت الأنصار أن
لا يرجع معها الرسول الكريم حين رأوا تفاعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أهل مكة ووقفوا والأسئلة تدور فى مخيّلتهم والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واقف يدعو الله وقد علم ما يدور بينهم فالتفت إليهم قائلاً: معاذ
الله المحيا محياكم والممات مماتكم، معلناً بذلك أن المدينة ستبقى عاصمة الإسلام.
ثم أقبل
الناس يبايعونه فبايعه الرجال ـ وتشفع عدد من المسلمين لدى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعفو عمن أهدر دمه فعفا وصفح.
وجاءت
النساء لتبايع ـ فكانت المرأة تدخل يدها في قدح فيه ماء قد وضع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يده فيه ـ ( على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف) (بحار الأنوار: 21 / 113، وسورة الممتحنة: الآية 12.).
وغضب
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حين عدت خزاعة ـ حليفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ على رجل من المشركين فقتلته وقام صلىاللهعليهوآلهوسلم خطيباً فقال: (يا أيها الناس إن الله حرّم مكة يوم خلق
السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرىً يؤمن بالله واليوم الآخر
أن يسفك دماً أو يعضد فيها شجراً ..)( سنن ابن ماجة ، الحديث 3109 ، كنز العمال ، الحديث 34682،
الدر المنثور : 1 / 122، ط دار الفكر.).
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن
الله قد أحلّها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة). وأكبرت قريش
جميع مواقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكة وأهلها من عطف ورحمة وسماحة وعفو واحترام وتقديس فمالت قلوبهم
إليه وأقبلوا على الإسلام آمنين مطمئنين.
وأرسل
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سراياه
إلى اطراف مكة وما حولها لهدم ما تبقّى من الأصنام وأماكن عبادة المشركين فأخطأ
خالد بن الوليد إذ قتل عدداً من قبيلة بنى جذيمة بعد استسلامهم ثأراً لعمّه(السيرة النبوية: 2 / 420، الخصال: 562، أمالي الطوسي: 318.) وغضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين علم بذلك وأمر علياً أن يأخذ أموالاً ويدفع دية المقتولين ثم قام
صلىاللهعليهوآلهوسلم واستقبل القبلة رافعاً يديه وهو يقول: (اللهم إني أبرأ
إليك مما صنع خالد بن الوليد)، وبذلك هدأت نفوس بني جذيمة )( الطبقات الكبرى: 2/148 .).
3 ـ غزوة
حنين وحصار الطائف(وقعت معركة حنين فى شوال من السنة الثامنة للهجرة.) :
أمضى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خمسة عشر يوماً في مكة فاتحاً فيها عهداً جديداً من التوحيد بعد طول
فترة من الشرك، والغبطة والسرور يعمّان المسلمين، والأمان يلفّ أم القرى، وترامت
إلى أسماع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن قبيلتي هوازن وثقيف قد أعدّتا العدّة لمحاربة الإسلام ظنّاً منهما
أنّهما يُحققان ما عجزت عنه سائر قوى الشرك والنفاق من تدمير الإسلام، وعزم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على الخروج لملاقاتهم ولكنه وطّد دعائم الإدارة في مكة قبل خروجه كما
هي سيرته عند كل فتح، فعيّن معاذ بن جبل ليعلّم الناس القرآن وأحكام الإسلام كما
عيّن عتاب بن أسيد للصلاة بالناس وإدارة الأمور.
وخرج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باثني عشر ألفاً من المقاتلين، وهي قوة لم يشهد المسلمون مثلها ممّا
أدّى بهم إلى الغرور والغفلة حتى أن أبا بكر قال: لو لقينا بني شيبان لن نغلب
اليوم من قلّة(الطبقات الكبرى: 2 / 150، المغازي: 2 / 889 .).
أما (
هوازن ) و ( ثقيف ) فقد تحالفتا وخرجتا بكامل عدّتهم مع نسائهم وأطفالهم وكمنوا
لإرباك جيش المسلمين، وحين وصلت طلائع جيش المسلمين أطراف الكمين أرغموها على
الفرار حتّى فرّت باقي قوّات المسلمين فزعاً من أسلحة العدو، ولم يثبت مع رسول
الله إلا تسعة أشخاص من بني هاشم عاشرهم أيمن (ابن أم أيمن). وفرح المنافقون
وسرّوا سروراً عظيماً فخرج أبو سفيان يقول شامتاً: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر،
وقال آخر: ألا بطل السحر اليوم. وعزم آخر على قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك الوضع المضطرب(السيرة النبوية: 2 / 443، المغازي: 3 / 99.).
وأمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عمه العباس أن يصعد على صخرة وينادي فلول المهاجرين والأنصار المدبرة
قائلاً: يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إليّ. أين تفرّون؟ هذا رسول
الله! وكأن وعياً قد عاد بعد غفلة وحماساً دبّ بعد فتور فعادوا يوفون بوعود النصرة
والدفاع عن الإسلام والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم... ولما رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حماسهم قال: الآن حمي الوطيس، أنا النبيّ لا كَذِب أنا ابن
عبد المطلب. فأنزل الله السكينة على المسلمين وأيدهم بالنصر فولّت
جموع الكفر منهزمة تاركة وراءها ستة الآف أسير وغنائم كبيرة جداً(نزلت آيات من سورة التوبة وهي توضح تأييد الله ونصره، وتلوم
من اعتمد العدة والعدد واعتبارهما سبباً للنصر.)، وأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تحفظ الغنائم وتراعى أحوال الأسرى حتى تتم ملاحقة العدو الغارّ
إلى منطقة أوطاس ونخلة والطائف.
وكان من
سمو أخلاق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعظيم عفوه وسعة رحمته أن قال لأم سليم: (يا أم سليم قد كفى
الله، عافية الله أوسع) حين طلبت منه قتل الذين فرّوا عنه وخذلوه.
وفى
موقف آخر، غضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين
علم أن بعض المسلمين يقتل ذرّية المشركين غيظاً منهم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ما بال أقوام ذهب
بهم القتل حتى بلغ الذرية، أَلا لا نقتل الذرية)، فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله أليس هم أولاد المشركين. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أوليس خياركم أولاد المشركين، كل نسمة تولد على
الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها(إمتاع الأسماع: 1 / 409.).
وواصلت
قوات المسلمين ملاحقتها للعدو حتى الطائف فحاصروهم بضعاً وعشرين يوماً يترامون
بالنبل من خلف الجدران والبساتين، ثم عدل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الطائف لاعتبارات كثيرة.
وعند
وصوله إلى الجعرانة (محل تجميع الأسرى والغنائم) قام إليه وفد هوازن يلتمسون العفو
عنده فقالوا: يا رسول الله إنما في هذه الأسرى عمّاتك وخالاتك اللاتي كن يكفلنك ـ
حيث كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد رضع في بني سعد وهم من هوازن ـ ولو أنا مالحنا الحارث بن أبي شمر
أو النعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت
خير المكفولين. فخيّرهم الرسول بين الأسرى والمال فاختاروا الأسرى، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم).
وأسرع المسلمون جميعاً يقتدون بالرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم ويهبون له مالهم من نصيب(سيد المرسلين : 2 / 53 ، المغازي : 3 / 949 ـ 953 .).
وبحكمة
بالغة ودراية عميقة بنفوس الناس وسعياً لهداية الجميع وإطفاءاً لنار الحرب منّ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعفوه
حتى على (مالك بن عوف) مثير هذه الحرب إن جاءه مسلماً فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أخبروا مالكاً
إنّه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل). وسرعان ما أسلم مالك(المغازي : 3 / 954 ـ 955 .).
توزيع الغنائم :
تدافع
المسلمون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يلحّون عليه أن يقسّم الغنائم حتى ألجأوه إلى شجرة وأخذوا رداءه;
فقال: (ردّوا عليّ ردائي فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة
نعماً لقسّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذّاباً).
ثم قام
وأخذ وبرة من سنام بعيره فجعلها بين أصبعيه ثم رفعها وقال: (ايها الناس والله مالي
في فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) ثم أمر أن يُردّ كل ما
غنم حتى تكون القسمة عدلاً.
وبدأ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بإعطاء المؤلفة قلوبهم كأبي سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام.
والحارث بن الحارث، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن امية وغيرهم
ممّن كان يعاديه ويحاربه بالأمس القريب من رؤوس الكفر والشرك ثم قسّم عليهم حقّه
من الخمس. على أن هذا الموقف قد أثار الحفيظة في نفوس بعض المسلمين جهلاً منهم
بمصالح الإسلام وأهداف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى قال أحدهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: لم أرك عدلت. فقال: ويحك إذالم يكن
العدل عندي فعند من يكون؟ فأراد عمر بن الخطاب أن يقتله، فلم يأذن
له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: (دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى
يخرجوا منه كما يخرج السهم من رميته)( السيرة النبوية: 2 / 496، وراجع المغازي : 3 / 948.).
اعتراض الأنصار :
ورأى
سعد بن عبادة أن يخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يدور بين الأنصار من قولهم: لقي رسول الله قومه ونسي أصحابه.
فجمع سعد الأنصار وأقبل الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم يحدّثهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(يا معشر الأنصار
ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله
وعالة فاغناكم الله وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى الله ورسوله آمَنُ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول
الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: أما والله لو شئتم قلتم فصدقتم: أتيتنا مكذَّباً
فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك. وجدتم في أنفسكم يا
معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألّفتُ به قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم،
أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى
رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس
شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شِعب الأنصار).
فأثارت
هذه الكلمات في قلوب الأنصار العاطفة والشعور بالخطأ في تصورهم عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فضجوا بالبكاء وقالوا: رضينا يا رسول الله حظّاً وقسماً.
وخرج النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم بمن معه من الجعرانة متّجهاً إلى مكة في شهر ذي القعدة فأتمّ عمرته
وحلّ من إحرامه واستخلف على مكة عتّاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل وخرج متّجهاً إلى
المدينة بمن معه من المهاجرين والأنصار(السيرة النبوية: 2 / 498، المغازي: 3 / 957.).
4 ـ
غزوة تبوك(كانت غزوة تبوك في رجب سنة ( 9 ) من الهجرة .) :
أصبحت
الدولة الإسلامية كياناً يهاب جانبه، وكان على المسلمين الحفاظ على حدوده وأراضيه
حتى تبلغ الرسالة الإسلامية أرجاء الأرض.
واستنفر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين من جميع نقاط الدولة الإسلامية استعداداً لحرب الروم إذ
وردت أخبار تؤكد استعدادهم لغزو الجزيرة واسقاط الدولة ومحق الدين الإسلامي وصادف
أن كان ذلك العام عام جدب وقلّة ثمار وكان الوقت صيفاً حاراً مما زاد من صعوبة
الخروج لملاقاة عدو قوي متمرّس كبير العدد والعدة. فتقاعس ذوو النفوس الضعيفة
والمعنويات المتدنّية وبرز النفاق ثانية علانية ليثبّط العزائم ويخذل الإسلام.
وتخلّف
بعض عن الالتحاق بالجيش لشدّة تعلّقهم بالدنيا، وبعض آخر احتجّ بشدّة الحر وآخرون
لم يستطيعوا لشدّة ضعفهم وقلة إمكانات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لحملهم معه رغم بذل المؤمنين الصادقين أموالهم للجهاد في سبيل الله.
وبلغ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن المنافقين يجتمعون في بيت أحد اليهود يثبّطون الناس ويخوّفونهم من
اللقاء، فتعامل معهم بحزم وشدة فأرسل إليهم من يحرق عليهم دارهم ليكونوا عبرة
لغيرهم.
وقد
أنزل الله آيات تفضح خطط المنافقين وتؤنّب المتقاعسين وتعذر الضعفاء; وبلغ عدد جيش
المسلمين ثلاثين ألف مقاتل ـ على أقل تقدير ـ واستخلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علي بن أبي طالب في المدينة لما يعلم منه من حنكة وحسن تدبير وقوة
يقين; إذ خشي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من
قيام المنافقين بعمل تخريبي في المدينة، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (يا علي إن المدينة
لا تصلح إلاّ بي أو بك)( الإرشاد للمفيد 1 / 115، أنساب الأشراف: 1 / 94 ـ 95، كنز العمّال ج11
/ باب فضائل علي عليهالسلام.).
الإعلان عن مكانة
علي عليهالسلام لدى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وأشاع
المنافقون والذين في قلوبهم مرض حول بقاء علي بن أبي طالب في المدينة اُموراً إذ
قالوا: إنما تركه رسول الله استثقالاً له وتخففاً منه، سعْياً منهم للإثارة رجاء
أن يخلو جو المدينة لهم فأسرع عليّ عليهالسلام
للالتحاق برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلحق به على مقربة من المدينة وقال: يا نبي الله زعم
المنافقون أنك إنما خلّفتني أنك استثقلتني وتخفّفت مني.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (كذبوا ولكنني
خلّفتك لما تركت ورائي فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي
بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)( امتاع الأسماع: 1 / 449، صحيح البخاري: 3 / 1359 الحديث
3503، صحيح مسلم: 5 / 23 الحديث 2404، سنن ابن ماجة: 1 / 42 الحديث 115 ، مسند
أحمد: 1 / 284 الحديث 1508 .).
جيش العسرة :
وانطلق
جيش المسلمين في طريق وعر طويل وقد أوضح لهم الرسول هدف المسيرة خلافاً لما كان في
الغزوات الماضية. وكان يتخلف عنه في الطريق جماعة ممن خرجوا معه من المدينة فكان
يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه: دعوه فإن يكن به خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد
أراحكم الله منه.
وأسرع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم السير حين مرّ على أطلال قوم صالح وقال لأصحابه وهو يعظهم: (لا
تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، ونهاهم
عن استعمال الماء من هذه المنطقة وحذّرهم من خطورة الظروف الجوية فيها(السيرة النبوية: 2 / 521، السيرة الحلبية: 3 / 134.)، وللصعوبات التي أحاطت هذه الغزوة من حيث الماء والغذاء والنفقة
والظهر (الخيل والإبل) فقد سمّي هذا الجيش بـ (جيش العسرة).
ولم يجد
المسلمون جيش الروم; إذ قد تفرّق جمعهم، وهنا استشار الرسول القائد أصحابه في
ملاحقة العدو أو العودة إلى المدينة فقالوا: إن كنت اُمِرت بالسير فسِرْ. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لو اُمرت به ما
استشرتكم فيه)( المغازي: 3 / 1019.). وهنا قرّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العودة إلى المدينة.
واتصل
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بزعماء المنطقة الشمالية للجزيرة وعقد معهم معاهدة عدم تعرّض واعتداء
بين الجانبين وبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن الوليد إلى دومة الجندل خوفاً من تعاون زعيمها مع الروم في
هجوم آخر وتمكّن المسلمون من أسر زعيمهم وحمل الغنائم الكثيرة(الطبقات الكبرى: 2 / 166، بحار الأنوار: 21 / 246.).
محاولة اغتيال النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أقفل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون راجعين إلى المدينة بعد أن أمضوا بضع عشرة يوماً في تبوك،
وتحرك الشيطان في نفوس جمع ممّن لم يؤمن بالله ورسوله فعزموا على اغتيال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك بتنفير ناقته عند مرورها عليهم ليطرحوه في واد كان هناك.
وحين
وصل الجيش إلى العقبة (بين المدينة والشام) قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم) فأخذ
الناس بطن الواديوسلك هو طريق العقبة وكان يقود ناقته عمار بن ياسر ويسوقها حذيفة
بن اليمان، فرأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في ضوء القمر فرساناً قد تلثّموا ولحقوا به من ورائه في حركة مريبة
فغضب صلىاللهعليهوآلهوسلم وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم; فتمالكهم الرعب وعرفوا
بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد علم بما أضمرته نفوسهم ومؤامرتهم فاسرعوا تاركين العقبة ليخالطوا الناس ولا تنكشف هويّتهم .
وطلب
حذيفة من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبعث اليهم من يقتلهم بعد ما عرفهم من رواحلهم ولكن رسول الرحمة
عفا عنهم وأوكل أمرهم إلى الله تعالى(المغازي: 3 / 1042، مجمع البيان: 3 / 46، بحار الأنوار: 21
/ 247.).
من نتائج غزوة تبوك
:
1 ـ لقد
برز المسلمون كقوة كبيرة منظمة، تملك العقيدة القوية فتهابهم الدول المجاورة
والديانات الأخرى وكان هذا إنذاراً حقيقياً لكل القوى في خارج البلاد الإسلامية
وداخلها بعدم التعرض للإسلام والمسلمين.
2 ـ ضمن
المسلمون عن طريق المعاهدات مع زعماء المناطق الحدودية (من جهة الشمال) أمن هذه
المنطقة.
3 ـ
استفاد المسلمون من قدرتهم على تعبئة جيش كبير في العدة والعدد وازدادت خبرتهم في
التنظيم والإعداد، وكانت الرحلة إلى تبوك بمثابة استطلاع ميداني استفاد منه
المسلمون في المراحل اللاحقة.
4 ـ
كانت غزوة تبوك اختباراً لمعنويات المسلمين وتمييزاً للمنافقين وفرزهم عن سائر
المسلمين.
5 ـ
مسجد ضرار : لقد جاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشريعة السمحاء ودين التوحيد وعمل جاهداً أن يبني الإنسان الصالح
والمجتمع السليم وفق التعاليم الربانية، ولقد خاض كل المحن والابتلاءات والمعارك
من أجل تطهير الإنسان من دنس الشرك ووساوس الشيطان والأمراض النفسية.
وتحركت نوازع الحسد والبغض لدى مجموعة من المنافقين فعمدوا إلى بناء مسجد في مقابل مسجد ( قباء ) زاعمين أنّه لذوي العلة
والحاجة والليلة المطيرة، وأسرعوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يطلبون منه أن يصلّي فيه ليضفي الشرعية على عملهم فأخّر الاستجابة
لأنه كان على استعداد للخروج إلى تبوك، فلمّا رجع من تبوك نزل الأمر الإلهي بالنهي
عن الصلاة في هذا المسجد لأنّه كان عاملاً لتفريق كلمة المسلمين والإضرار بالاُمة،
وشتان بين بنيان أسس على التقوى وآخر للإضرار بالمسلمين ومن هنا أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بهدمه وإحراقه(السيرة النبوية: 20 / 530، بحار الأنوار: 20 / 253.).
6 ـ عام
الوفود :
بدت
سيطرة الإسلام على الجزيرة واضحة . ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلجأ إلى القوة والقتال إلاّ بعد إعذار وإنذار، بل وفي أكثر الوقائع
كان قتال المسلمين دفاعاً، على أن بعض قوى الشرك لا تعي الحق ولا تهتدي سبيلاً
إلاّ بعد عنف وقوة وتهديد ووعيد.
وحين
عاد المسلمون إلى عاصمة دولتهم ـ المدينة المنورة ـ سيّر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عدة سرايا لتطهير البلاد من أماكن الوثنية وأصنام الشرك.
ولقوة
المسلمين والانتصارات المتلاحقة بدأت كل قبائل الجزيرة وزعمائها يسمعون بآذان
صاغية نداء الإسلام ووضوح أهدافه وهدايته، فأخذت الوفود تقدم إلى المدينة لتعلن
إسلامها بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لذلك سمي هذا العام بعام الوفود(السيرة النبوية لابن هشام : ذكر سنة تسع وتسميتها سنة
الوفود .) ـ وكان النبي يستقبلهم ويحسن إليهم ويرسل لهم من يعلمهم فرائض القرآن
وشرائع الإسلام.
إسلام قبيلة ثقيف :
أملت
ظروف النصر الإلهي على كل عاقل أن يتدبر أمره ويحكّم عقله تجاه الإسلام. وكانت
حكمة الرسول بالغة إذ أجّل فتح الطائف يوم امتنعت ثقيف فيها وها هي اليوم ترسل
وفدها لتعلن إسلامها بعد أن عاندت وكابرت وقتلت سيداً من سادتها (عروة بن مسعود
الثقفي) يوم جاءها مسلماً يدعوها إلى الدين الجديد.
ورحب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمقدم الوفد الثقفي وضربت لهم قبة في ناحية المسجد النبوي وكلّف صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن سعيد ليقوم بمهام التشريفات ثم بدأ الوفد يفاوض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على الإسلام بشروط هي: أنه يترك صنم القبيلة مدة من الزمن وأبى النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا التوحيد الناصع الخالص لله وتنازل القوم شيئاً فشيئاً حتى قبلوا
الإسلام بشرط أن يعفيهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كسر أصنامهم بأنفسهم كما شرطوا عليه أن يعفيهم من الصلاة فقال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، فقبلوا
الإسلام وبقي الوفد مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مدة من الزمن يتعلمون أحكام الدين. ثم كلف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة أن يذهبا إلى الطائف لهدم الأصنام
فيها(السيرة النبوية: 2 / 537، السيرة الحلبية: 3 / 216.).
7 ـ
وفاة إبراهيم ابن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم:
في غمرة
أفراح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بنجاح الإسلام وانتشار الرسالة حيث كان الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً، وعك إبراهيم بعد أن دخل في عامه الثاني وجعلت أُمّه (ماريا) تمرّضه ولم
ينفع معه شيء فأبلغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باحتضار ولده فأقبل وإبراهيم يجود بنفسه في حضن اُمه فأخذه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال: (يا إبراهيم إنا لن
نغني عنك من الله شيئاً إنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط
الرّب ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع فإن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا
إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه)( السيرة الحلبية: 3 / 311، بحار الأنوار: 22 / 157.).
وبدت
علامات الحزن واضحة على قسمات وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقيل
له: يا رسول الله أولست
قد نهيتنا عن هذا؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (ماعن الحزن نهيت ولكني نهيت عن خمش الوجوه وشق الجيوب
ورنّة الشيطان(السيرة الحلبية: 3 / 311.).
وروي
أنه قال: (إنما هذا رحمة ومن لا يَرحم لا يُرحم)( بحار الأنوار: 22 / 151.).
ولعظيم
منزلة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند الله سبحانه وما أظهر من معجزات للعالمين حتى آمنوا به ظن بعض المسلمين أنّ كسوف الشمس في يوم وفاة إبراهيم إنما كان من
آيات الله لموته.
وسرعان
ما ردّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على
هذا الزعم خشية أن تتحول الخرافة إلى سُنّة ومعتقد يتخذها الجاهلون. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أيها الناس إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته)( تاريخ اليعقوبي : 2 / 87 .).
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة
1 ـ
إعلان البراءة من المشركين :
لم يبق
في الجزيرة العربية من بقي على الشرك والوثنية سوى أفراد قلائل بعد أن انتشرت
العقيدة الإسلامية والشريعة السمحاء في أرجائها واعتنقها كثير من الناس. وهنا كان
لابد من إعلان صريح حازم يلغي كل مظاهر الشرك والوثنية في مناسك أكبر تجمع عبادي
سياسي.
وحان
الوقت المناسب لتعلن الدولة الإسلامية شعاراتها في كل مكان وتنهي مرحلة المداراة
وتأليف القلوب التي تطلبتها المرحلة السابقة.
واختار
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم النحر زماناً ومنطقة منى(العاشر من ذي الحجة عام ( 9 هـ ) .) مكاناً لهذا الإعلان واختار أبا بكر ليقرأ مطلع سورة التوبة(التوبة (9) : 1 ـ 13 .) التي نزلت لذلك وتضمّنت إعلان البراءة من المشركين جميعاً بصراحة
وتمثّلت بنود البراءة في ما يلي:
1 ـ لا
يدخل الجنة كافر.
2 ـ لا
يطوف في البيت الحرام عُريان; إذ كانت تقاليد الجاهلية تسمح بذلك.
3 ـ لا
يحج بعد هذا العام مشرك.
4 ـ من كان بينه
وبين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عهد
فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فإلى أربعة أشهر ثم يقتل من وُجِدَ في دار الإسلام مشركاً.
ونزل
الوحي الإلهي ليبلّغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مبدأً مهمّاً نصّه: (أنّه لا يؤدي عنك
إلا أنت أو رجل منك). فاستدعى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء ويلحق بأبي بكر ويأخذ منه البلاغ
ويؤديه للناس(الكافي: 1 / 326، الإرشاد: 37، الواقدي: 3 / 1077، خصائص
النسائي: 20، صحيح الترمذي: 2 / 183، مسند أحمد: 3 / 283، فضائل الخمسة من الصحاح
الستة: 2 / 343.).
ووقف
علي بن أبي طالب بين جموع الحجيج وهو يتلو البيان الإلهي بقوة وجرأة تتوائم مع حزم
القرار ووضوحه. ووقف الناس ينصتون إليه بحذر ودقة. وكان أثر الإعلان على المشركين
أن قدموا مسلمين على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
2 ـ
مباهلة نصارى نجران :
اجتمع
زعماء نصارى نجران وحكماؤهم يتدارسون أمر كتاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي يدعوهم فيه إلى الإسلام. ولم يتوصلوا إلى رأي قاطع إذ كانت في
أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسى عليهالسلام ، وما
ظهر من محمد فهو يشير إلى نبوّته. من هنا قرّروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحاوره.
واستقبل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الوفد الكبير وقد بدى عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع
الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في
أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدّلوا مظهرهم فرحّب بهم واحترمهم وفسح لهم
المجال ليمارسوا طقوسهم(السيرة الحلبية: 3 / 211، السيرة النبوية: 1 / 574.).
ثم عرض
عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلى
أن يباهلهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان ذلك بأمر من الله عزّ وجلّ واتفقوا على اليوم اللاحق موعداً.
وخرج
إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي
طالب امتثالاً لأمر الله تعالى الذي نصّ عليه الذكر الحكيم قائلاً: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران (3) : 61.) ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته
وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل
جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني.
وحين
أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قال لهم الرسول: أمّا إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على
المسلمين، فأبوا، فقال : إني أناجزكم القتال. فقالوا: ما لنا بحرب
العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك
في كل عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد،
فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل
نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل
نجران وأهله حتى الطّير على رؤوس الشّجر، ولما حال الحول على
النصارى كلهم حتى يهلكوا. فرجعوا إلى بلادهم دون أن يسلموا(التفسير الكبير (للرازي): 8 / 85 .).
وروي أن
السيد والعاقب من زعمائهم لم يلبثا إلاّ يسيراً حتى عادا إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعلنا إسلامهما(الطبقات الكبرى: 1 / 357.).
3 ـ حجة
الوداع :
كان
الرسول الأكرم القدوة الحسنة للإنسانية جمعاء، يبلّغ آيات الله ويفسّرها ويفصّل
أحكامها ببيان جلي، وجماهير المسلمين حريصة على الاقتداء به في القول والعمل.
وبحلول شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة عزم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على أداء فريضة الحج ـ ولم يكن قد حج من قبل وذلك ليطلع الأمة على
أحكام الله في فريضة الحج فتقاطرت ألوف المسلمين على المدينة وتجهّزوا للخروج مع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى بلغ عددهم ما يقارب مائة ألف مسلم من مختلف الحواضر والبوادي
والقبائل، تجمعهم المودة الصادقة والاُخوة الإسلامية والاستجابة لنداء الرسول
القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن كانوا بالأمس القريب أعداءاً متنافرين، جُهّالاً كافرين.
واصطحب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم معه كل نسائه وابنته الصديقة فاطمة الزهراء، وتخلّف زوجها علي بن أبي
طالب في مهمة بعثه بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري.
وفي
منطقة ذي الحليفة أحرم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلبس قطعتين من قماش أبيض ولبّى عند الإحرام قائلاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك،
لبيك لا شريك لك لبيك).
وفي
الرابع من شهر ذي الحجة الحرام شارف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة وقطع التلبية، ثم دخل المسجد الحرام وهو يكثر الثناء على الله
ويحمده ويشكره فأستلم الحجر وطاف سبعاً وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم ثم سعى بين
الصفا والمروة والتفت إلى الحجيج قائلاً: (من لم يَسُق منكم
هدياً فليحلّ وليجعلها عُمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه).
ولم
يستجب بعض المسلمين لأمر الرسول هذا ظناً منهم أنّ عليهم أن يفعلوا كما يفعل
الرسول القائد صلىاللهعليهوآلهوسلم من عدم التحلّل من الإحرام، فغضب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لموقفهم وقال: (لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما
أمرتكم)( بحار الأنوار: 21 / 319.).
وأقفل
علي بن أبي طالب عليهالسلام راجعاً
من اليمن إلى مكة ليلتحق برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد ساق معه (34) هدياً. وعلى مقربة من مكة تعجل لدخولها واستخلف أحد
افراد سريته عليها. وسرّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بلقاء عليّ وما حقّقه من نجاح باهر في اليمن وقال له: انطلق فطف بالبيت وحِلّ كما حلّ أصحابك. فقال عليهالسلام: يا رسول الله اني أهللت كما أهللت، ثم
قال عليهالسلام: إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهلّ بما
اهل به عبدك ونبيك ورسولك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثمّ أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعود إلى سريته ويصحبها إلى مكة، ولما قدموا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اشتكوا علياً عليهالسلام لأنه
كان قد رفض تصرّفاً خاطئاً فعلوه في غيابه، فأجابهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلاً: (أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن
في ذات الله من أن يشتكى)( السيرة النبوية: 2 / 603، بحار الأنوار: 21 / 385.).
وفي
اليوم التاسع من ذي الحجة توجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع جموع المسلمين نحو عرفات.
ومكث
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، ومع الظلام ركب ناقته وأفاض إلى
المزدلفة وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في
المشعر الحرام. ثمّ توجّه في اليوم العاشر إلى (منى) وأدّى مناسكها من رمي الجمرات
والنحر والحلق ثمّ توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.
وقد
سمّيت هذه الحجة بـ (حجة الوداع) لأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودّع المسلمين في هذه الحجة التي اشار فيها إلى دنوّ وفاته كما
سُمّيت بـ (حجة البلاغ) لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بلّغ فيها ما اُنزل إليه من ربّه في شأن الخلافة من بعده، ومنهم
من سمّاها بـ (حجة الإسلام) لأنها الحجّة الاُولى للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والتي بيّن فيها أحكام الإسلام الثابتة في مناسك الحج.
خطبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع :
وروي أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطب خطاباً جامعاً فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس اسمعوا مني اُبين لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي
هذا في موقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده
أمانة فليؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها وإنّ ربا الجاهلية موضوع، وإن أوّل رباً
أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم
أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير
السدانة والسقاية، والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمن
زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إنّ
الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحتقرون
من أعمالكم.
أيها الناس إنما
النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً
ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات
والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب
الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن
لنساءكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا
يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد
أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين
وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن
لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في
النساء واستوصوا بهنّ خيراً .
أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة فلا يحلّ لامرىً مال أخيه إلاّ عن طيب نفس. ألا هل بلغت؟ اللهم
اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض; فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم
به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن ربكم
واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس
لعربي على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: فليبلّغ الشاهد منكم الغائب(بحار الأنوار: 21 / 405.).
أيها الناس إن الله
قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد
للفراش وللعاهر الحجر، من ادّعي إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً... والسلام عليكم
ورحمة الله)( العقد الفريد: 4 / 57، الطبقات الكبرى: 2 / 184، الخصال:
ص487، بحار الأنوار: 21 / 405، وقد ورد النص في مصادر السيرة والتأريخ مع اختلاف
بالزيادة والنقصان.).
4 ـ
تعيين الوصي(للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء الأوّل.) :
أتمّ
المسلمون حجّهم الأكبر وهم يحتفّون بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد
أخذوا مناسكهم عنه، وقرّر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعود إلى المدينة، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة (رابغ)
قرب (غدير خم) وقبل أن يتفرّق الحجيج ويرجعوا إلى بلدانهم من هذه المنطقة نزل
الوحي الإلهي بآية التبليغ الآمرة والمحذّرة: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة (5) : 67 .).
لقد حمل
هذا الخطاب الإلهي أمراً مهماً جدّاً فأي تبليغ مهم هذا قد طُلب من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم انجازه ولم يكن قد أنجزه إلى ذلك الحين؟ وقد أمضى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً يبلّغ آيات الله وأحكامه ويدعو الناس
إلى دين الله! وقد نال ما نال من عظيم المحن والبلاء والجهد، كي يقال له: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
وهنا
أصدر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوامره بأن تقف القوافل حتى يلحق آخرها بأولها في يوم قائظ يضطر
المرء فيه أن يلفّ رأسه وقدميه من شدة حرّ الرمضاء ليتلو عليهم أمر السماء ويتمم
تبليغ الرسالة الخاتمة. إنها الحكمة الإلهية أن يتم التبليغ في هذا المكان وفي هذا
الظرف كي يبقى عالقاً في وجدان الأمة، حيّاً في ذاكرتها على مرّ الزمن حفاظاً على
الرسالة والأمة الإسلامية.
وجمعت
الرحال وصنع منها منبر صعد عليه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن صلّى في جموع المسلمين فحمد الله واثنى عليه وقال بصوت رفيع
يسمعه كل من حضر: (أيها الناس يوشك أن اُدعى فأجيب وإني مسؤول وأنتم
مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك
الله خيراً. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده
ورسوله وأن جنته حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: اللهم أشهد.
ثم قال: صلىاللهعليهوآلهوسلم فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض وإنّ
عرضه مابين صنعاء وبُصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في
الثقلين.
فنادى
مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: الثقل الأكبر كتاب
الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا. والآخر الأصغر
عترتي. وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك
لهما ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ
بيد علي بن أبي طالب حتى رؤي بياض أبطيهما وعرفه الناس أجمعون. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟)
قالوا: الله ورسوله أعلم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من
أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه) ـ يقولها ثلاث مرات ـ .
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض
من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد
الغائب).
ثم لم
يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً) (المائدة (5): 3 .) فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب
برسالتي والولاية لعلي بعدي).
ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تنصب خيمة لعلي عليهالسلام وأن
يدخل عليه المسلمون فوجاً فوجاً ليسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس كلهم ذلك
وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك.
وكان في
مقدمة المهنّئين أبو بكر وعمر بن الخطاب، كلٌ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب
أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(راجع تأريخ اليعقوبي: 3 / 112، ومسند أحمد: 4 / 281،
البداية والنهاية: 5 / 213، وموسوعة الغدير: 1 / 43، 165، 196، 215، 230، 238،
276، 283، 285، 297، 379، 392، 402، والجزء: 11 / 131.).
5 ـ
ظهور المتنبئين :
تفرّقت
جموع الحجيج من منطقة غدير خم متّجهة نحو العراق والشام واليمن، واتّجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحو المدينة. وحمل الجميع وصية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخلافة والقيادة من بعده لربيبه علي بن أبي طالب عليهالسلام لتستمر حركة الرسالة الإسلامية بنهج نبويّ وتجتاز العقبات بعد رحيل
القائد الأوّل وذلك بعد أن عرّف بعليّ عليهالسلام في ذلك
اليوم التاريخي الخالد بل منذ يوم الدار حيث أ نّه وصفه بالوزير الناصح والأخ
المؤازر والعضد المدافع والخليفة الذي يجب على الناس من بعده أن يطيعوه ويتّبعوه
ويتّخذوه لأنفسهم قائداً وزعيماً.
وبعد أن
انبسط سلطان الدين وقويت مركزية القرار في المدينة لم يعد بأمر خطير نفور جماعة عن
الدين أو ارتداد أفراد عن التسليم لما جاء به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو وجود أفراد في الأطراف البعيدة عن المدينة يرون في عنصر الدين
وسيلة لتحقيق بعض آمالهم ورغباتهم المريضة.
من هنا
أخذ مسيلمة يدّعي النبوّة كذباً وكتب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كتاباً ذكر فيه أ نّه بُعث أيضاً ويطلب فيه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يشاركه في سلطان الأرض. ولما وقف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على مضمون الرسالة التفت إلى من حملها إليه وقال: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما
برسالتي فلِمَ اتّبعتما هذا الأحمق وتركتما دينكما؟).
ثم ردّ
على مسيلمة الكذّاب برسالة كتب فيها: (بسم الله الرحمن
الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. السلام على من اتّبع الهدى، أما
بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)( السيرة النبوية: 2 / 600.).
وقد
أفلح المسلمون في القضاء على حركات الارتداد التي قام بها بعض الدجّالين مثل
الأسود العنسي ومسيلمة وطلحة.
6 ـ
التعبئة العامّة لغزو الروم(عقد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اللواء لاُسامة في صفر عام ( 11 هـ ) .) :
أبدى
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اهتماماً كبيراً للحدود الشمالية للدولة الإسلامية حيث تتواجد دولة
الروم المنظمة وصاحبة الجيش القوي. ولم تكن دولة فارس ذات أثر مُقلق على الدولة
الإسلامية لأنّ علامات الانهيار كانت قد بدت عليها، كما أنها لم تكن تملك عقيدة
روحية تدافع عنها كالمسيحية لدى الروم، فهي التي كانت تشكّل خطراً على الكيان
الإسلامي الفتيّ، خاصة وأن بعض عناصر الشغب والنفاق قد أجليت عن الدولة الإسلامية
فذهبت إلى الشام ولحق بها آخرون، وكان وجود نصارى نجران عاملاً سياسياً يدفع الروم
لنصرتهم.
ومع ذلك
فإنّ كل هذه الاُمور لم تكن عوامل آنيّة تستدعي الاهتمام الكبير الذي ظهر واضحاً
من إعداد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لجيش كبير
ضمّ وجوه كبار الصحابة ما خلا علياً وبعض المخلصين معه فقد أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلو الجو السياسي من أمور قد تعيق عمليّة انتقال السلطة إلى علي
بن أبي طالب عليهالسلام للقيام
بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبيّ تحسّساً وانزعاجاً من بعض الأطراف بعد
تأكيده المستمر على مرجعيّة عليّ عليهالسلام
وصلاحيّته لإتمام مسيرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخصوصاً بعد بيعة الغدير، فأراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام علي عليهالسلام لزمام الدولة من بعده دون صِدام وشجار; ولهذا عقد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لواءً وسلّمه إلى أُسامة بن زيد ـ القائد الشاب الذي نصبه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في إشارة بليغة إلى أهمية الكفاءة في القيادة ـ وجعل تحت إمرته شيوخ
الأنصار والمهاجرين، وقال له: (سر إلى
موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فاُغز صباحاً على أهل اُبنى).
ولكنّ
روح التمرد والطمع في السلطان وقلّة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسليم
التام لأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعلّها كانت عارفة بالأهداف التي قصدها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن هنا حاولت أن تؤخّر حركة الجيش المجتمع في معسكر (الجرف). وبلغ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك فغضب وخرج ـ وهو ملتحف قطيفة، وقد عصَّبَ جبهته بعصابة من ألم
الحمّى التي أصابته ـ إلى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: ( أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن
طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان
للإمارة لَخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ
وإنّهما لمخيلان لكل خير(بمعنى أنهما ممن يتفرّس فيهما كل خير. والخوليّ: هو الراعي الحسن
القيام على المال.)، واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم)( الطبقات الكبرى: 2 / 190، ط دار الفكر.).
واشتدت
الحمى برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يُغفله ثقل المرض عن الاهتمام الكبير لخروج الجيش فكان يقول: (أنفذوا جيش أُسامة)( المصدر السابق.) لكل من
كان يعوده من أصحابه ويزيد إصراراً بقوله: (جهّزوا جيش أُسامة
لعن الله من تخلف عنه)( الملل والنحل : 1 / 23.). وأوصل
بعض المسلمين أنباء تدهور صحة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى معسكر المسلمين في الجرف فرجع أُسامة لِيعود النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فحثّه النبيّ على المضيّ نحو هدفه الذي رسمه له وقال له: (اُغد على بركة الله).
فعاد
أُسامة مسرعاً إلى جيشه يحثه على الرحيل والتوجه للقيام بالمهمة المخوّلة إليه
ولكن المتقاعسين وذوي الأطماع في الخلافة تمكّنوا من عرقلة مسيرة الجيش زاعمين أنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحتضر، بالرغم من تأكيد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتعجيل في المسير وعدم التردّد في المهمّة التي جعلها على عاتق جيش
أُسامة.
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة
1 ـ
الحيلولة دون كتابة الوصية :
ورغم
ثقل الحمى وألم المرض خرج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مستنداً على علي عليهالسلام والفضل
بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق على الوصوليين الذين خطّطوا لمصادرة
الخلافة والزعامة التي طمحوا لها من قبل حيث تمرّدوا على أوامر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخروج مع جيش أُسامة بكل بساطة والتفت النبيّ ـ بعد الصلاة ـ إلى
الناس فقال: (أيها الناس سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل
المظلم، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولم
اُحرّم إلا ما حرّم الله)( السيرة النبوية: 2 / 954، الطبقات الكبرى: 2 / 215.) فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا
السيئة التي ستجلب الويلات للأُمة حين يتزعّمها جهّالها.
واشتد
مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واجتمع
الصحابة في داره ولحق بهم من تخلّف عن جيش أُسامة فلامهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على تخلّفهم واعتذروا بأعذار واهية. وحاول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطريقة أخرى أن يصون الأمة من التردّي والسقوط فقال لهم: ايتوني
بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر ابن الخطاب: إنّ رسول الله
قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله(صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد باب
جوائز الوفد.).
وهكذا
وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكن
وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: هن خير منكم(الطبقات الكبرى : 2 / 244 ، كنز العمال: 3 / 138.).
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.
وكم
كانت الأمة بحاجة ماسة إلى كتاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا، حتى أن إبن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل
الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله(صحيح البخاري كتاب العلم: 1 / 22 و 2 / 14، الملل والنحل: 1
/ 22، الطبقات الكبرى: 2 / 244.).
ولم
يصرّ نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة
وإنكارهم لما هو أكبر، فقد علم صلىاللهعليهوآلهوسلم بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قال صلىاللهعليهوآلهوسلم: (أبعد الذي قلتم؟!)( بحار الأنوار: 22 / 469.) وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنتين منها وهما:
إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد كما كان يجيزهم.
وعلّق
السيد محسن الأمين العاملي على ذلك قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشكّ في أن الثالثة
سكت عنها المحدّثون عمداً لا نسياناً وأنّ السياسة قد اضطرتهم إلى السكوت عنها
وتناسيها وأنّها هي طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم(أعيان الشيعة: 1 / 294 . راجع صحيح البخاري: باب مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.).
2 ـ الزهراء عليهاالسلام تزور أباها صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أقبلت
الزهراء عليهاالسلام وهي
تجر أذيال الحزن وتتطلع إلى أبيها وهو على وشك الالتحاق بربّه فجلست عنده منكسرة
القلب دامعة العين وهي تردد:
وأبيض
يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمالَ
اليتامى عصمة للأرامل |
وفي هذه
اللحظات فتح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عينيه وقال بصوت خافت: يا بنية هذا قول عمك
أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ) (آل عمران (3): 144 .).
وكأنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يريد بذلك أن يهيّىء ابنته فاطمة عليهاالسلام لما سيجري من أحداث مؤسفة فإن ذلك كان هو الأنسب لتلك من قول أبي
طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم إنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أومأ إلى حبيبته الزهراء عليهاالسلام أن
تدنو منه ليحدثها فانحنت عليه فسارّها بشيء فبكت ثم سارّها ثانية فضحكت. وقد أثارت
هذه الظاهرة فضول بعض الحاضرين فسألوها عن سرّ ذلك فقالت عليهاالسلام: ما كنت لاُفشي سرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولكنّها
سئلت بعد وفاة أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك
فقالت: أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قد حضر أجله وأنه يقبض في وجعه هذا، فبكيت ثم أخبرني أني أول
أهله لحوقاً به فضحكت(الطبقات الكبرى: 2 / 247، الكامل في التأريخ: 2 / 219.).
3 ـ اللحظات
الأخيرة من عمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وكان
علي عليهالسلام ملازماً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ملازمة ذي الظل لظلّه حتى آخر لحظات حياته الشريفة وهو يوصيه ويعلّمه
ويضع سرّه عنده. وفي الساعة الأخيرة قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ادعوا لي أخي ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بعثه في حاجة فجاءه بعض المسلمين فلم يعبأ بهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى جاء علي عليهالسلام فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم له: اُدن مني. فدنا علي عليهالسلام فاستند
إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه حتى بدت عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم علامات الاحتضار(الطبقات الكبرى: 2 / 263.)،
وتوفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في حجر علي عليهالسلام . كما
قد صرّح بذلك علي عليهالسلام نفسه
في إحدى خطبه(نهج البلاغة: خطبة 197.) الشهيرة.
4 ـ وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومراسم دفنه :
ولم يكن
حول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في اللحظات الأخيرة إلاّ علي بن أبي طالب وبنو هاشم ونساؤه. وقد علم
الناس بوفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم من الضجيج والصراخ الذي علا من بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حزناً على فراق الحبيب، وخفقت القلوب هلعة لرحيل أشرف خلق الله.
وانتشر خبر الوفاة في المدينة انتشار النار في الهشيم ودخل الناس في حزن وذهول رغم
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد مهّد لذلك ونعى نفسه الشريفة عدّة مرات وأوصى الأمة بما
يلزمها من طاعة وليّها وخليفته من بعده علي ابن أبي طالب. لقد كانت وفاته صدمة
عنيفة هزّت وجدان المسلمين، فهاجت المدينة بسكانها وازدادت حيرة المجتمعين حول دار
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمام كلمة عمر بن الخطاب التي قالها وهو يهدد بالسيف: إنّ رجالاً من
المنافقين يزعمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد مات، إنه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن
عمران(الكامل في التأريخ: 2 / 323، الطبقات الكبرى : 2 / 266،
السيرة النبوية لزيني دحلان: 2 / 306.).
ورغم أ
نّه لا تشابه بين غياب موسى عليهالسلام ووفاة
النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكن
مواقف عمر التالية لعلّها تكشف النقاب عن إصراره على هذه المقارنة.
نعم ،
لم يهدأ عمر حتى قدم أبو بكر من السنح ودخل إلى بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فكشف عن وجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخرج مسرعاً وقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات
ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت وتلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وهنا
هدأت فورة عمر وزعم أنه لم يلتفت إلى وجود مثل هذه الآية في القرآن الكريم(الطبقات الكبرى: 2 / القسم الثاني: 53 ـ 56.).
وأسرع
أبو بكر وعمر بن الخطاب مع بعض أصحابهما إلى سقيفة بني ساعدة بعد أن عرفا أنّ اجتماعاً
طارئاً قد حصل في السقيفة فيما يخصّ الخلافة بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. متناسين نصبُ عليّ بن أبي طالب وكذا بيعتهم إيّاه بالخلافة وغير
مدركين أنّ تصرفهم هذا يعدّ استخفافاً بحرمة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجسده المسجّى.
وأمّا
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وأهل
بيته فقد انشغلوا بتجهيز الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ودفنه فقد غسّله عليّ من دون أن ينزع قميصه وأعانه على ذلك العباس بن
عبد المطلب ابنه والفضل وكان يقول: بأبي أنت وأمي ما
أطيبك حيّاً وميّتاً(السيرة النبوية لابن كثير: 4 / 518.).
ثم
وضعوا جسد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على
سرير وقال علي عليهالسلام: إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إمامنا
حياً وميتاً فليدخل عليه فوج بعد فوج فيصلّون عليه بغير إمام وينصرفون. وأوّل من صلى على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علي عليهالسلام وبنو
هاشم ثم صلّت الأنصار من بعدهم(الإرشاد : 1 / 187 واعيان الشيعة : 1 / 295 .).
ووقف
علي عليهالسلام بحيال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم
إنّا نشهد أن قد بلّغ ما اُنزل إليه ونصح لأُمته وجاهد في سبيل الله حتى أعزّ الله
دينه وتمّت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتّبع ما أنزل الله إليه وثبّتنا بعده واجمع
بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، حتى صلّى عليه الرجال ثم النساء ثم
الصبيان(الطبقات الكبرى : 2 / 291 .).
وحفر
قبر للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحجرة التي توفي فيها. وحين أراد علي عليهالسلام أن ينزله في القبر نادت الأنصار من خلف الجدار: يا علي نذكرك الله
وحقّنا اليوم من رسول الله أن يذهب، أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة
رسول الله. فقال عليهالسلام: ليدخل أوس بن خولي، وكان بدرياً فاضلاً من بني عوف.
ونزل
عليّ عليهالسلام إلى القبر فكشف عن وجه رسول الله ووضع خدّه على التراب، ثم أهال عليه
التراب.
ولم
يحضر دفن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
والصلاة عليه أحد من الصحابة الذين ذهبوا إلى السقيفة.
فسلامٌ
عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً.
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخاتمة
1 ـ
بماذا بعث النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (تجد هذا البحث في سيرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للسيد محسن الأمين العاملي في كتابه أعيان الشيعة.) ؟
بعث
الله تعالى نبيّه محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم على حين فترة من الرسل خاتماً للنبيين وناسخاً لشرائع من كان قبله من
المرسلين إلى الناس كافة أسودهم وأبيضهم عربيهم وعجميهم وقد ملئت الأرض من مشرقها
إلى مغربها بالخرافات والسخافات والبدع والقبائح وعبادة الأوثان.
فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم في وجه العالم كافة ودعا إلى الإيمان بإله واحد خالق رازق مالك لكل
أمر، بيده النفع والضر، لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ولم يتخذ
صاحبة، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
بعثه
آمراً بعبادته وحده لا شريك له مبطلاً عبادة الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا
تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تدفع عن أنفسها ولا عن غيرها ضراً ولا ضيماً، متمماً
لمكارم الأخلاق حاثاً على محاسن الصفات آمراً بكل حسن ناهياً عن كل قبيح.
2 ـ
سهولة الشريعة الإسلامية وسماحتها
واكتفى
من الناس بأن يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا بأحكام الإسلام. وكان قول هاتين
الكلمتين ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ) يكفي لأن يكون لقائله ما للمسلمين
وعليه ما عليهم .
3 ـ سمو
التعاليم الإسلامية
وبعث
بالمساواة في الحقوق بين جميع الخلق، وأنّ أحداً ليس خيراً من أحد إلا بالتقوى.
وبالإخوة بين جميع المؤمنين وبالكفاءة بينهم: تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم،
وبالعفو العام عمن دخل في الإسلام.
وسنّ
شريعة باهرة وقانوناً عادلاً تلقّاه عن الله تعالى فكان هذا القانون جامعاً لأحكام
عباداتهم ومعاملاتهم وما يحتاجونه في معاشهم ومعادهم وكان عبادياً اجتماعياً
سياسياً أخلاقياً لا يشذّ عنه شيء مما يمكن وقوعه في حياة البشر مستقبلاً ويحتاج
إليه بنو آدم، فما من واقعة تقع ولا حادثة تحدث إلاّ ولها فى الشريعة الإسلامية
أصل مسلّم عند المسلمين ترجع إليه .
على أن
العبادات في الدين الإسلامي لا تتمحض لمجرد العبادة ففيها منافع بدنية واجتماعية
وسياسية فالطهارة تفيد النظافة، وفي الصلاة رياضة روحية وبدنية، وفي صلاة الجماعة
والحج فوائد اجتماعية وسياسية ظاهرة، وفي الصوم فوائد صحية لا تنكر، والإحاطة
بفوائد الأحكام الإسلامية الظاهرة فضلاً عن الخفية أمر متعذّر أو عسير.
ولما في
هذا الدين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ورفع الحرج فيه
والاكتفاء بإظهار الشهادتين ولما في تعاليمه من السمو والحزم والجد دخل الناس فيه
أفواجاً وساد أهله على أعظم ممالك الأرض واخترق نوره شرق الأرض وغربها ودخل جميع
أقاليمها وأقطارها تحت لوائه ودانت به الأمم على اختلاف عناصرها ولغاتها.
ولم يمض
زمن قليل حتى أصبح ذلك الرجل الذي خرج من مكة مستخفياً وأصحابه يعذّبون ويستذلون
ويفتنون عن دينهم ، يعتصمون تارة بالخروج إلى الحبشة مستخفين واُخرى بالخروج إلى
المدينة متسللين، يدخل مكة بأصحابه هؤلاء في عمرة القضاء ظاهراً لا يستطيعون دفعه
ولا منعه ولم تمض إلاّ مدة قليلة حتى دخل مكة فاتحاً لها وسيطر على أهلها من دون
أن تراق محجمة دم بل ولا قطرة دم فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً وتوافدت عليه
رؤساء العرب ملقيةً إليه عنان طاعتها وكان من قبل هذا الفتح بلغ من القوة أن بعث
برسله وسفرائه إلى ملوك الأرض مثل كسرى وقيصر ومن دونهما ودعاهم إلى الإسلام وغزا
بلاد قيصر مع بُعد الشقة وظهر دينه على الدين كله كما وعده ربه حسبما صرّح تعالى
بذلك في سورة النصر، والفتح وغيرهما وكما تخبرنا بذلك كتب التاريخ.
ولم يقم
هذا الدين بالسيف والقهر كما يصوّره من يريد الوقيعة فيه بل كما أمر الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل (16): 125 .). ولم يحارب أهل مكة وسائر العرب حتى حاربوه وأرادوا قتله وأخرجوه،
وأقر أهل الأديان التي نزلت بها الكتب السماوية على أديانهم ولم يجبرهم على الدخول
في الإسلام .
4 ـ
القرآن الكريم
وانزل
الله تعالى على نبيّه حين بعثه بالنبوّة قرآناً عربيّاً مبيّناً لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه، وقد أعجز النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم به البلغاء وأخرس الفصحاء وتحدّاهم فيه فلم يستطيعوا معارضته وهم
أفصح العرب بل واليهم تنتهي الفصاحة والبلاغة، وقد حوى هذا الكتاب العزيز المنزل
من لدن حكيم عليم من أحكام الدين وأخبار الماضين وتهذيب الأخلاق والأمر بالعدل
والنهي عن الظلم وتبيان كل شيء ما جعله يختلف عن كل الكتب حتّى المنزّلة منها وهو
ما يزال يتلى على كر الدهور ومر الأيام وهو غض طري يحيّر ببيانه العقول ولا تملّه
الطباع مهما تكررت تلاوته وتقادم عهده.
وقد كان
القرآن الكريم معجزة فيما أبدع من ثورة علمية وثقافية في ظلمات الجاهلية الجهلاء
وقد أرسى قواعد نهضته على منهج علمي قويم ، فحثّ على العلم وجعله العامل الأوّل
لتسامي الإنسان نحو الكمال اللائق به وحثّ على التفكير والتعقّل والتجربة والبحث
عن ظواهر الطبيعة والتعمق فيها لاكتشاف قوانينها وسننها وأوجب تعلّم كل علم تتوقف
عليه الحياة الاجتماعية للإنسان واهتم بالعلوم النظرية من كلام وفلسفة وتاريخ وفقه
وأخلاق، ونهى عن التقليد واتباع الظن وأرسى قواعد التمسك بالبرهان .
وحثّ
القرآن على السعي والجد والتسابق في الخيرات ونهى عن البطالة والكسل ودعا إلى
الوحدة ونبذ الفرقة . وشجب العنصرية والتعصبات القبلية الجاهلية .
وأقرّ
الإسلام العدل كأساس في الخلق والتكوين والتشريع والمسؤولية وفي الجزاء والمكافأة
، وهو أوّل من نادى بحق المساواة بين أبناء الإنسان أمام قانون الله وشريعته وأدان
الطبقية والتمييز العنصري وجعل ملاك التفاضل عند الله أمراً معنويّاً هو التقوى
والاستباق إلى الخيرات، من دون أن يجعل هذا التفاضل سبباً للتمايز الطبقي بين
أبناء المجتمع البشري .
وبالغ
الإسلام في حفظ الأمن والمحافظة على الأموال والدماء والأعراض وفرض العقوبات
الشديدة على سلب الأمن بعد أن شيّد الأرضية اللازمة لاستقرار الأمن والعدل وجعل
العقوبة آخر دواء لعلاج هذه الأمراض الاجتماعية بنحو ينسجم مع الحرية التي شرّعها
للإنسان . ومن هنا كان القضاء في الشريعة الإسلامية مرتكزاً على إقرار العدل
والأمن وإحقاق الحقوق المشروعة مع كل الضمانات اللازمة لذلك .
واعتنى
الإسلام بحفظ الصحة والسلامة البدنية والنفسية غاية الاعتناء وجعل تشريعاته كلها
منسجمة مع هذا الأصل المهم في الحياة .
5 ـ
الواجبات والمحرمات في الشريعة الإسلامية :
وترتكز
الواجبات والمحرّمات في الشريعة الإسلامية على أسس فطرية واقعية وأمور تستلزمها
طبيعة الأهداف السامية للشريعة التي جاءت لإخراج هذا الإنسان من ظلمات الجاهلية
وهدايته إلى نور الحق والكمال ، ولا تحتاج الإنسانية إلى شيء يرتكز عليه الكمال
البشري إلاّ وأوجبته الشريعة الإسلامية على الإنسان وهيّأت له سبل الوصول إليه ،
وحرّمت كل شيء يعيق الإنسان عن السعادة الحقيقية المنشودة له وسدّت كل منافذ
السقوط إلى هوّة الشقاء .
وأباحت
الطيبات ولذائذ الحياة الدنيا وزينتها ممّا لا يخلّ بأصول الشريعة ومدارج الكمال
البشري وحدّدت قنواتها حين حدّدت الأهداف السامية وحرّمت ما يضرّ وأوجبت ما ينبغي
للإنسان امتثاله .
ومع ذلك
كله فقد اعتبرت الشريعة مكارم الأخلاق أهدافاً أساسيّة ينبغي للإنسان الذكي اللبيب
أن يحصل عليها في هذه الحياة الدنيا ليسعد بها في الدنيا ويحيا بها في الآخرة ذات
الحياة الأبدية الدائمة.
واعتنى
الإسلام بالمرأة اعتناءً بالغاً وجعلها ركن العائلة وأساس السعادة في الحياة الزوجية
وشرّع لها من الحقوق والواجبات ما يضمن لها عزّتها وكرامتها وتحقيق سعادتها وسعادة
أبنائها ومجتمعها الإنساني .
وصفوة
القول أنّ الإسلام لم يغفل عن تشريع كل ما يحتاجه المجتمع البشري في تكامله
وارتقائه.
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال
تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة (62): 2 .).
لقد
تجلت لنا ـ من خلال دراسة التاريخ الإسلامي ـ الثمار العظيمة لهذه البعثة الإلهية
لخاتم النبيين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث
أسفرت نبوته عن:
1 ـ
رسالة إلهية شاملة قام بتبليغها إلى البشرية عامّة.
2 ـ
اُمّة مسلمة تحمل مشعل الرسالة وعبير النبوة إلى سائر الأُمم.
3 ـ
ودولة إسلامية ذات كيان سياسي مستقل ونظام إلهي فريد.
4 ـ
وقيادة معصومة تخلف الرسول القائد وتمثّله خير تمثيل.
وإذا
قصرنا النظر على التراث المسموع أو المكتوب والمدوّن وكان تعريفنا لتراث الرسول
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه: كل ما قدّمه إلى البشرية والأمة الإسلامية من عطاء مقروء أو
مسموع، فينبغي لنا أن نصنّف ما قدّمه
إليهم إلى :
1 ـ
القرآن الكريم .
2 ـ
السنّة الشريفة.
ويشترك
العطاءان بأنهما من فيض السماء على الإنسان بتوسط هذا الرسول الكريم. فهما وحي
الله على قلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي لم ينطق عن الهوى.
ويتميّز
القرآن الحكيم أولاً بأن شكله ومحتواه (نصّه ومضمونه) معاً من الله تعالى،
فالصياغة إلهية معجزة كما أنّ مضمونه كذلك. على أن جمعه وتدوينه ـ كما هو الصحيح
والثابت تأريخياً ـ قد تمّ في عصر الرسول نفسه وقد تواتر إلينا نصّه بشكل كامل غير
محرّف.
والوثائق
التاريخية الدالّة على تدوين النص القرآني في عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم غير قليلة، نكتفي بنص قرآني وآخر غير قرآني على ذلك.
فالأول: قوله
تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان (25): 5.).
والثاني: ما روي
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام حيث
قال: (... ما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني
تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها، ودعا الله
أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ
دعا لي بما دعا)( الكافي : 1 / 62 ـ 63 كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.).
والمسلمون
جميعاً متفقون على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بلّغ
القرآن كاملاً، وأن القرآن المتداول اليوم بين المسلمين هو الذي كان متداولاً في
عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم
يُزَد فيه شيء ولم ينقص منه شيء.
وأمّا
السنة الشريفة والحديث النبوي، فهو بشريّ الصياغة إلهيّ المضمون، ويتميّز بالفصاحة
الكاملة وتتجلى فيه عظمة الرسول وكماله وعصمته والتسديد الإلهي له.
ومن هنا
كان القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للتشريع والينبوع الأساسي للمعرفة التي
تحتاجها البشرية على مدى الحياة. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة (2): 120 .).
واعتبر
القرآن الكريم السُنّة الشريفة ثاني مصدر للتشريع الربّاني حيث اعتبرت سنّة النبي
الكريم مصدراً تشريعياً تالياً للقرآن باعتبار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مفسّراً للذكر الحكيم وأسوة حسنة يُقتدى بها، وعلى الناس أن يأخذوا
بأوامره وينتهوا عن نواهيه(النحل (16): 44 ، والأحزاب (33): 21 والحشر (59): 7 .).
ولكن
السنّة النبوية ـ وللأسف ـ لقيت بعد عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وبالذات عصر الخلفاء الأوائل وضعاً سيئاً حيث أقدم أبو بكر وعمر على
منع تدوين حديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقاما بحرق ما دوّنه بعض الصحابة بحجة أن ذلك النهي جاء منهما ـ
ومن عمر بالذات ـ حرصاً منهما على القرآن الكريم لأن تدوين السنّة والاهتمام بها
يؤدي بالتدريج إلى الغفلة عن القرآن أو إلى ضياع القرآن من حيث التباسه بالحديث .
ولكن
أهل البيت وأتباعهم وكثير من المسلمين قد تعاملوا مع سنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم التعامل اللائق بها من الاحترام والتقديس مستلهمين ذلك من القرآن
الكريم، ومن هنا أخذوا يتداولونها حفظاً وتحديثاً وتدويناً وتطبيقاً بالرغم من
الحظر الرسمي للتدوين. الذي كان لسبب آخر ـ كما يبدوـ غير ما ذكر من الأسباب. حيث خالف العلماء والخلفاء فيما بعد ذلك الحظر
وراحوا يحثّون على التدوين.
وأول من
بادر إلى تدوين السنة الشريفة واعتنى بها أشدّ الاعتناء هو ربيب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ووصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام. قال: (وقد كنت أدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها، أدور معه حيثما دار. وقد
علم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه لم
يصنع ذلك بأحد من الناس غيري... وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ وفنيت مسائلي
ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية من
القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها... وما
ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون منزلاً على
أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علّمنيه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً...)( بصائر الدرجات : 198 والكافي: 1 / 62 ـ 63 .).
وتمثّلت
مدوّنات الامام عليّ عليهالسلام مما
أملاه عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ما يسمّى بكتاب علي وما يسمّى بالجامعة أو الصحيفة.
قال أبو
العباس النجاشي المتوفى سنة ( 450 هـ ) : أخبرنا محمد بن جعفر (النحوي التميمي وهو
شيخه في الإجازة) مسنداً إلى عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي
جعفر عليهالسلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر عليهالسلام له مكرّماً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر عليهالسلام: يا بني قم فاخرج
كتاب علي عليهالسلام ،
فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة فقال أبو جعفر عليهالسلام: هذا خط علي عليهالسلام وإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقبل على الحكم وقال: يا أبا
محمد، اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم
أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل عليهالسلام (تاريخ التشريع الإسلامي: 31 .).
وعن
إبراهيم بن هاشم مسنداً إلى أبي جعفر عليهالسلام: في كتاب علي كل شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش(المصدر السابق : 33 .).
وأما
صحيفة عليّ عليهالسلام أو
الجامعة فهي مدوّنة أخرى لعلي عليهالسلام على
جلد طوله سبعون ذراعاً فعن أبي بصير: أنه قال له الإمام الصادق عليهالسلام فيما قال له: وأن عندنا الجامعة، صحيفة طولها سبعون ذراعاً
بذراع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي عليهالسلام
بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش(تاريخ التشريع الإسلامي : 32 .).
هذا هو
موقف أهل البيت عليهمالسلام من
السنّة الشريفة .
وأما
الموقف الحكومي الرسمي في خلافة الشيخين فقد ترك آثاراً سلبية كبيرة حيث استمرّ
هذا الحظر إلى ما لا يقلّ عن قرن واحد وأدّى إلى ضياع كثير منها، وفتح الباب أمام
تسرّب الإسرائيليات إلى مصادر الثقافة عند المسلمين، كما وأنتج انفتاح باب الرأي
والاستحسان على مصراعيه حتى غدا الرأي مصدراً من مصادر التشريع بل قد قدّمه البعض
حتى على نصوص السنّة النبوية الشريفة; إذ لم يصمد كثير من النصوص أمام النقد
العلمي. وهذا قد أدّى بدوره إلى شحّة النصوص النبوية الصحيحة عند أهل السنّة وعدم
وفائها بما تحتاجه الأمة في عصورها المقبلة.
ولكن
أهل البيت عليهمالسلام قد وقفوا أمام هذا التيّار الجارف بكل حزم واستطاعوا أن يحفظوا
السنّة الشريفة من الضياع عند المؤمنين من خلال توجيهاتهم وحسب ما تقتضيه إمامتهم
وخلافتهم الشرعية فإنّ أولى مهامّ الإمام والخليفة المنصوص هو حفظ الشريعة ونصوصها
من الضياع.
ومن هنا
لزم على الباحث عن السنّة النبوية الرجوع إلى مصادر السنّة عند أهل البيت عليهمالسلام وأتباعهم فإنهم أدرى بما في البيت.
والسنة
الشريفة عند أهل البيت عليهمالسلام تغطّي
جميع أبواب العقيدة والفقه والأخلاق والتربية وكل ما تحتاجه البشرية في كل مجالات
الحياة.
وقد
صرّح الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام حفيد
الرسول الأعظم بهذه الحقيقة فقال: (ما من
شيء إلاّ وفيه كتاب أو سُنّةٌ ) (الكافي : 1 / 48 .).
نماذج من تراث سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
1 ـ
العقل والعلم :
1 ـ لقد
اهتم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعقل أشدّ الاهتمام، فعرّفه وبيّن وظيفته ودوره في الحياة: على
مستوى التكليف والمسؤولية، وعلى مستوى العمل والجزاء، كما بيّن عوامل رشده
وتكامله، فقال:
(إن العقل عقالٌ من
الجهل، والنفس مثل أخبث الدوّاب، فإن لم يعقل حارت، فالعقل عقالٌ من الجهل، وإن
الله خلق العقل، فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال له الله تبارك
وتعالى: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعظم منك ولا أطوع منك، بك أُبدي وأعيد، لك
الثواب وعليك العقاب.
فتشعّب من العقل
الحلم، ومن الحلم العلم، ومن العلم الرشد، ومن الرشد العفاف، ومن العفاف الصيّانة،
ومن الصيّانة الحياء، ومن الحياء الرزانة، ومن الرزانة المداومة على الخير،
وكراهية الشر، ومن كراهية الشرّ طاعة الناصح.
فهذه عشرة أصناف من
أنواع الخير، ولكل واحد من هذه العشرة الأصناف عشرة أنواع...)( راجع تمام الحديث في تحف العقول، باب مواعظ النبي وحكمه.
وروي أنّ شمعون بن لاوي المسيحي دخل على رسول الله وناقشه طويلا ثم اعتنق الإسلام
فقال: أخبرني عن العقل ما هو؟ وكيف هو؟ وما يتشعب منه وما لا يتشعب، وصفه وصف لي
طوائفه كلها، فقال الرسول: ... إن العقل عقال من الجهل ... . راجع أيضاً كلمة الرسول الأعظم: 91.).
2 ـ واهتم الرسول
الرائد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعلم والمعرفة، مبيّناً دور العلم في الحياة وقيمته اذا ما قيس إلى
سائر أنواع الكمال، فقال:
(طلب العلم فريضة
على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانِّه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعليمه لله حسنة،
وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة،
وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى; لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنّة،
والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على
السّرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاّء. يرفع الله به
أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم، ويُهتدى بفعالهم، وينتهى إلى
رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم. بأجنحتها تمسحهم ، وفي صلاتها تبارك عليهم.
يستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامّه، وسباع البر وأنعامه. إن العلم
حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظُّلمة، وقوة الأبدان من الضعف. يبلغ
بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العُلى في الدنيا والآخرة. الذكر
فيه يُعدَل بالصيام، ومدارسته بالقيام. به يطاع الرب، وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف
الحلال والحرام. العلم إمام العمل والعمل تابعه. يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء،
فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظّه.
وصفة
العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه، ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق من
فوقه في طلب البر. وإذا أراد أن يتكلم تدبّر، فإن كان خيراً تكلم فغنم، وإن كان
شرّاً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى
فضيلة انتهز بها. لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يُعرف بها
العاقل.
وصفة
الجاهل أن يظلم من خالطه، ويتعدّى على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه. كلامه
بغير تدبّر، إن تكلّم أثم، وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنة سارع إليها فأردته، وإن رأى
فضيلة أعرض عنها وأبطأ عنها. لا يخاف ذنوبه القديمة، ولا يرتدع فيما بقي من عمره
من الذنوب. يتوانى عن البرّ ويبطئ عنه، غير مكترث لما فاته من ذلك أو ضيّعه، فتلك عشر
خصال من صفة الجاهل الذي حُرِم العقل(بحار الأنوار: 1 / 171 طبعة مؤسسة الوفاء، وراجع تحف العقول
: 28 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.).
2 ـ
مصادر التشريع :
3 ـ لقد
رسم خاتم الرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم للناس جميعاً طريق السعادة الحقيقية وضمن لهم الوصول اليها فيما اذا
التزموا بالتعليمات التي بيّنها لهم. ويتلخّص طريق السعادة عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسك بأصلين أساسيين لا غنى بأحدهما عن الآخر وهما الثقلان، حيث
قال:
(أيّها النّاس!
إنّي فرطكم، وانتم واردون عليّ الحوض، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين، فانظروا: كيف
تخلّفوني فيهما؟ فإن اللّطيف الخبير نبّأني: أنّهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت
ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لا
تسبقوهم فتفرَّقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم، فإنهم أعلم منكم.
أّيها الناس! لا
ألفينّكم بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، فتلقوني في كتيبة كمجرّ السيل
الجرّار. ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما
قاتلت على تنزيله)( أعيان الشيعة : 2 / 226 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 101 ـ 102 .).
القرآن
ودوره المتميّز :
4 ـ
وأفصح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تبليغ بيانه عن عظمة القرآن الكريم مبيّناً دوره في الحياة وقيمة
التمسك التامّ به حيث خاطب عامّة البشرية قائلاً:
(أيّها الناس! إنكم
في دار هدنة، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار،
والشمس والقمر، يبليان كل جديد، ويقرِّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكل وعد ووعيد، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز. إنّها دار بلاء
وابتلاء، وانقطاع وفناء، فإذا التبست عليكم الاُمور كقطع
الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق. من جعله أمامه قاده
إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار، ومن جعله الدليل يدلّه على السبيل. وهو
كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل. هو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم
الله، وباطنه علم الله تعالى، فظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه
تخوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على
المعرفة لمن عرف الصفة، فليُجِلْ جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب،
ويتخلّص من نشب; فإن التفكّر حياة قلب البصر، كما يمشي المستنير في الظلمات
بالنّور، فعليكم بحسن التخلّص، وقلة التربص)( تفسير
العياشي : 1/ 2 ـ 3 ، كنز العمّال : 2/288 ، الحديث 4027.).
أهل البيت عليهمالسلام أركان الدين
5 ـ
وعرّف الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم الثقل الكبير ـ أي أهل بيت الرسالة: عليٌ وبنوه الأحد عشر ـ بأنواع
التعريف، وكان مما قاله في آخر خطبة خطبها:
(يا معشر المهاجرين
والأنصار! ومن حضرني في يومي هذا، وفي ساعتي هذه، من الجنّ والإنس فليبلغ شاهدكم
الغائب: ألا قد خلّفت فيكم كتاب الله. فيه النّور، والهدى، والبيان، ما فرّط الله
فيه من شيء، حجة الله لي عليكم. وخلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين، ونور الهدى،
وصيّي: علي بن أبي طالب، ألا وهو حبل الله، فاعتصموا به جميعاً، ولا تفرقوا عنه، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) )( آل عمران (3): 103 .).
أيّها الناس! هذا
عليّ بن أبي طالب، كنز الله، اليوم وما بعد اليوم، من أحبّه وتولاّه اليوم وما بعد
اليوم، فقد أوفى بما عاهد عليه، وأدَّى ما وجب عليه، ومن عاداه اليوم وما بعد
اليوم، جاء يوم القيامة أعمى وأصمّ، لا حجّة له عند الله.
أيّها الناس! لا
تأتوني غداً بالدنيا، تزفّونها زفّاً، ويأتي أهل بيتي شعثاء غبراء، مقهورين
مظلومين، تسيل دماؤهم أمامكم، وبيعات الضلالة والشورى للجهالة في رقابكم.ألا وإن
هذا الأمر له أصحاب وآيات، قد سمّاهم الله في كتابه، وعرّفتكم، وبلّغتكم ما أرسلت
به إليكم، ولكنّي أراكم قوماً تجهلون. لا ترجعنّ بعدي كفّاراً مرتدّين، متأوّلين
للكتاب على غير معرفة، وتبتدعون السّنّة بالهوى; لأنّ كل سنّة وحديث وكلام خالف
القرآن فهو ردّ وباطل.
القرآن إمام هدى،
وله قائد يهدي إليه، ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. وهو وليّ الأمر بعدي،
ووارث علمي وحكمتي، وسرّي وعلانيتي، وما ورّثه النبيّون من قبلي، وأنا وارث ومورث،
فلا يكذبنّكم أنفسكم.
أيّها الناس! الله
الله في أهل بيتي; فإنّهم أركان الدين، ومصابيح الظلم، ومعدن العلم; عليّ أخي،
ووارثي، ووزيري، وأميني، والقائم بأمري، والموفي بعهدي على سنّتي. أوّل النّاس بي
إيماناً، وآخرهم عهداً عند الموت، وأوسطهم لي لقاءاً يوم القيامة، فليبلّغ شاهدكم
غائبكم ألا ومن أمّ قوماً إمامة عمياء، وفي الأمة من هو أعلم، فقد كفر.
أيّها النّاس! ومن
كانت له قبلي تبعةٌ فيما أنا، ومن كانت له عدة، فليأت فيها عليّ بن أبي طالب،
فإنّه ضامن لذلك كلّه، حتى لا يبقى لأحد عليّ تباعة)( آخر خطبة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. راجع بحار الأنوار : 22/484 ـ 487.).
3 ـ
أصول العقيدة الإسلامية
الخالق لا يوصف:
(إنّ الخالق لا
يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام
أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به ؟ جلّ عمّا يصفه الواصفون،
ناء في قربه، وقريب في نأيه، كيّف الكيفيَّة فلا يقال له كيف؟ وأيَّن الأين فلا يقال
له أين؟ هو منقطع الكيفوفيَّة والأينونيَّة، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه،
والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)( بحار الأنوار : 2 / 94 ، الكفاية، أبو المفضل الشيباني عن
أحمد بن مطوق بن سوار عن المغيرة بن محمد ابن المهلب عن عبد الغفار بن كثير عن
إبراهيم بن حميد عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال: قدم يهودي على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يقال له: نعثل. فقال: يا محمد إني أسألك عن أشياء تلجلج
في صدري منذ حين، فإن أنت أجبتني عنها، أسلمت على يدك. قال: سل يا أبا عمارة!
فقال: يا محمد صف لي ربك. فقال:..).
شروط التوحيد :
(إذا قال العبد:
(لا إله إلاّ الله) فينبغي أن يكون معه تصديق وتعظيم، وحلاوة وحرمة، فإذا قال: (لا
إله إلاّ الله) ولم يكن معه تعظيم، فهو مبتدع. وإذا لم يكن معه حلاوة فهو مراء.
وإذا لم يكن معه حرمة فهو فاسق)( كلمة الرسول الأعظم : 30 .).
رحمة الله :
(إن رجلين كانا في
بني إسرائيل، أحدهما مجتهد في العبادة والآخر مذنب، فجعل يقول المجتهد: أقصر عمّا
أنت فيه، فيقول: خلّني وربي، حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه، فقال: أقصر، قال:
خلّني وربي، أبُعثت عليّ رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة.
فبعث الله إليهما ملكاً، فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: اُدخلالجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على
عبدي رحمتي ؟ فقال: لا يا ربّ. قال: اذهبوا به إلى النّار)( كلمة
الرسول الأعظم : 31 .).
لا جبر ولا اختيار
:
(إنّ الله لا يطاع
جبراً، ولا يعصى مغلوباً، ولم يهمل العباد من المملكة، ولكنه القادر على ما أقدرهم
عليه، والمالك لما ملّكهم إياه; فإن العباد إن ائتمروا بطاعة الله لم يكن منها
مانع، ولا عنها صاد، وإن عملوا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبينها فعل، وليس من
شاء أن يحول بينك وبين شيء ولم يفعله، فأتاه الذي فعله كان هو الذي أدخله فيه)( بحار الأنوار : 77/140.).
الخاتمية:
(فُضِّلت على
الأنبياء بستّ : اُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب من مسيرة شهر، واُحلّت لي
الغنائم. وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. واُرسلت إلى الخلق كافّة. وخُتم بي
النبيّون)( المصدر السابق : 16/324 .).
إنّ الله اصطفاني :
(إن الله اصطفى من
وُلد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة
قريشاً. واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، قال الله تبارك وتعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))( كلمة الرسول الأعظم : 35 . راجع بحار الأنوار : 16/323.).
مثلي مثل الغيث :
(إنّ مثل ما بعثني
به ربّي من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، منها طائفة طيّبة، فقبلت الماء
فأنبتت العشب والكلأ الكبير، وكانت منها أجادب امسكت الماء، فنفع الله بها الناس
فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنّما هي قيعات، لا تمسك ولا
تُنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، وتفقّه فيما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل
من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي اُرسلت به)( بحار الأنوار : 1/184.).
الإمام بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
(يا عمّار! إنّه
سيكون بعدي هنات، حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يبرأ
بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني: عليّ بن أبي طالب، فإن
سلك الناس كلّهم وادياً، وسلك عليُّ وادياً فاسلك وادي عليّ، وخلّ عن الناس.
يا عمّار! إن
عليّاً لا يردّك عن هدى، ولا يدلّك على ردى.
يا عمّار! طاعة
عليّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله)( مجمع البيان : 3 / 534 ، روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعمار بن ياسر: ...).
(من ظلم عليّاً
مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي، ونبوّة الأنبياء قبلي)( المصدر السابق : 3 / 534 ، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم
أبي القاسم الحسكاني عن أبي الحمد مهدي ابن نزار الحسني حدثني محمد بن القاسم بن
أحمد عن أبي سعيد محمد بن الفضيل بن محمد عن محمد بن صالح العرزمي عن عبد الرحمن
بن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (وَاتَّقُوا فِتْنَةً): قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم: ...).
فضل عليّ عليهالسلام :
(لولا أنّني أشفق
أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا
تمرُّ بملأ منهم إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك).( الإرشاد : 1 / 165 ، قاله لأمير المؤمنين، بعد ما فتح الله
على يديه في غزوة ذات السلاسل.)
الأئمة بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
(الأئمة بعدي من
عترتي بعدد نقباء بني إسرائيل، وحواريي عيسى، من أحبهم فهو مؤمن ومن أبغضهم فهو
منافق، هم حجج الله في خلقه وأعلامه في بريّته)( كفاية الأثر: 166، أبو المفضل الشيباني عن أحمد بن عامر بن
سليمان الطائي عن محمد بن عمران الكوفي عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن صفوان بن
يحيى عن إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين
عن أبيه الحسين بن علي عن أخيه الحسن ابن علي عليهمالسلام ، قال: قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ...).
أئمة الحق :
(يا علي! أنت
الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذامضيت فابنك الحسن أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى
الحسين فابنه عليّ بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
فإذا مضى جعفر فابنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى موسى فابنه عليّ
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
فإذا مضى محمد فابنه عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن
أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، يفتح الله به مشارق الأرض ومغاربها، فهم أئمة الحق، وألسنة الصدق، منصورٌ
مننصرهم، مخذول من
خذلهم)( كفاية الأثر : 195 ـ 196، عن الحسين بن علي، عن هارون بن
موسى عن محمد بن إسماعيل الفزاري، عن عبد الله بن الصالح كاتب الليث، عن رشد بن
سعد، عن الحسين بن يوسف الأنصاري، عن سهل بن سعد الأنصاري قال: سئلت فاطمة بنت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الأئمة فقالت: كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لعلي: ... وروى نصّين آخرين عن جابر الأنصاري فراجع.).
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يبشّر بالمهديّ عليهالسلام :
روى
أحمد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً
وعدواناً ثمّ يخرج من عترتي من يملأها قسطاً وعدلاً...)( راجع مسند أحمد : 3 / 425 ، الحديث 10920 ..
وجاء عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: دفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الراية يوم خيبر إلى علي ففتح الله على يده ثم في غدير خم أعلم الناس
أنه مولى كل مؤمن ومؤمنة. وساق الحديث وذكر شيئاً من فضائل علي وفاطمة والحسن
والحسين إلى أن قال: (أخبرني جبرئيل أنهم يُظلمون بعدي وأنّ ذلك
الظلم يبقى حتى إذا قام قائمهم وعلت كلمتهم واجتمعت الأمة على محبتهم وكان الشانئ
لهم قليلاً والكاره لهم ذليلاً وكثر المادح لهم وذلك حين تغيّر البلاد وضعف العباد
واليأس من الفرج فعند ذلك يظهر القائم المهدي من ولدي بقوم يظهر الله الحق بهم
ويخمد الباطل بأسيافهم ـ إلى أن قال ـ: (معاشر الناس أبشروا بالفرج فإن وعد الله
حق لا يخلف ، وقضاءه لا يرد وهو الحكيم الخبير وان فتح الله قريب)( ينابيع المودّة : 440.).
وعن أم
سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)( المصدر السابق : 430 عن أبي داود في صحيحه : 4 / 87 .).
وجاء عن
حذيفة بن اليمان أنه قال: خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فذكر لنا ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى
يبعث الله رجلاً من ولدي اسمه اسمي، فقام سلمان وقال: يا رسول الله
إنه من أي ولدك؟ قال: هو من ولدي هذا وضرب بيده على الحسين(البيان في أخبار صاحب الزمان للحافظ أبي عبد الله محمد بن
يوسف بن محمد النوفلي : 129.).
4 ـ أصول التشريع
الإسلامي في تراث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم (تراجع هذه النصوص وغيرها في أعيان الشيعة : 1/303ـ306.)
ألف ـ خصائص
الإسلام :
1 ـ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه .
2 ـ الإسلام يجُبّ ما قبله .
3 ـ الناس في سعة ما لم يعلموا .
4 ـ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
5 ـ رفع القلم عن ثلاثة : الصبي والمجنون والنائم .
ب ـ العلم ومسؤولية
العلماء :
1 ـ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
2 ـ من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.
3 ـ من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار .
4 ـ من أفتى بما لا يعلم لعنته ملائكة السماء والأرض .
5 ـ كل مفت ضامن
.
6 ـ كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سببها إلى النار .
7 ـ من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين .
8 ـ تعلّموا الفرائض وعلّموها الناس فإنها نصف العلم .
9 ـ إذا أتاكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه
فاضربوا به عرض الحائط .
10 ـ إذا ظهرت البدعة فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله .
ج ـ قواعد عامة
للسلوك الإسلامي :
1 ـ لا رهبانية في الإسلام .
2 ـ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
3 ـ لا دين لمن لا تقيّة له .
4 ـ لا خير في النوافل إذا أضرّت بالفرائض .
5 ـ في كل أمر مشكل القرعة .
6 ـ إنّما الأعمال بالنّيات .
7 ـ نيّة المرء أبلغ من عمله .
8 ـ أفضل الأعمال أحمزها .
9 ـ من دان بدين قوم لزمه حكمهم .
10 ـ من سنّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر العامل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ
سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر العامل بها إلى يوم القيامة .
د ـ خطوط عامة في
القضاء والمحاكمات :
1 ـ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران .
2 ـ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز .
3 ـ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر .
4 ـ لا يمين إلاّ بالله .
5 ـ ادرؤا الحدود بالشبهات .
6 ـ من قتل دون ماله فهو شهيد .
7 ـ على اليد ما أخذت حتى تؤدّي .
8 ـ جناية العجماوات جبار .
9 ـ لا يؤاخذ الرجل بجريرة ابنه، ولا ابن بجريرة أبيه .
10 ـ الناس مسلّطون على أموالهم .
هـ ـ العبادات في
خطوطها العريضة :
1 ـ إنّ عمود الدين الصلاة .
2 ـ خذوا عني مناسككم .
3 ـ صلّوا كما رأيتموني أصلي .
4 ـ زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم .
5 ـ زكاة الفطرة على كل ذكر وأنثى .
6 ـ جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً
.
7 ـ جنّبوا مساجدكم بيعكم وشراءكم وخصوماتكم .
8 ـ سياحة أمتي الصوم .
9 ـ كل معروف صدقة .
10 ـ أفضل الجهاد كلمة حق بين يدي سلطان جائر .
و ـ من أصول النظام
العائلي :
1 ـ النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي .
2 ـ تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأُمم يوم القيامة .
3 ـ تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه عرش الرحمن .
4 ـ تخيّروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم .
5 ـ الولد للفراش وللعاهر الحجر .
6 ـ جهاد المرأة حسن التّبعّل لزوجها .
7 ـ ليس على النساء جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا عيادة مريض ولا
هرولة بين الصفا والمروة ولا جهاد ولا استلام الحجر ولا تولّي القضاء ولا الحلق
.
8 ـ المتلاعنان لا يجتمعان أبداً .
9 ـ قذف المحصنة يحبط عمل مئة سخينة .
10 ـ الرضاع ما أنبت اللحم وشدّ العظم .
11 ـ علّموا أولادكم السباحة والرمي .
12 ـ من كان عنده صبيّ فليتصابّ له .
ز ـ نقاط مضيئة من
النظام الاقتصادي الإسلامي :
1 ـ العبادة سبعة أجزاء أفضلها طلب الحلال .
2 ـ الفقه ثم المتجر .
3 ـ ملعون من ألقى كلّه على الناس .
4 ـ ابدأ بمن تعول .
5 ـ اعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه .
6 ـ على كل ذي كبد حرّى أجر .
7 ـ المسلمون عند شروطهم .
8 ـ المسلم أحق بماله أينما وجده .
9 ـ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها .
10 ـ لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه منه .
11 ـ الكفن ثم الدَّيْن ثم الوصية ثم الميراث .
12 ـ الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً
.
13 ـ مطل الموسر المسلم ظلم للمسلم .
14 ـ البيّعان بالخيار ما داما في المجلس .
15 ـ شرّ المكاسب الرّبا .
16 ـ لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب .
ح ـ من أصول
التعايش الاجتماعي :
1 ـ قتال المؤمن كفر وأكل لحمه معصية .
2 ـ حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً .
3 ـ كرامة الميت تعجيله في التجهيز
.
4 ـ المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يد على مَن سواهم.
5 ـ الولاء للعتق .
6 ـ الولاء لحمة كلحمة النسب .
7 ـ سباب المؤمن فسوق .
8 ـ كل مسكر حرام .
9 ـ ما اسكر كثيره فالجرعة منه حرام .
10 ـ عذاب القبر من النميمة والغيبة والكذب .
11 ـ لا غيبة لفاسق .
12 ـ حرّم لباس الذهب على ذكور أمتي وحلّ لإناثهم .
5 ـ من جوامع الكلم
في تراث الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم :
1 ـ إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
.
2 ـ أنا مدينة العلم وعليٌّ بابُها .
3 ـ أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ .
4 ـ إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن .
5 ـ الإيمان نصفان: نصف في الصبر ونصف في الشكر .
6 ـ استعينوا على أموركم بالكتمان .
7 ـ الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر .
8 ـ الأيدي ثلاثة : سائلة ومنفقة وممسكة، فخير الأيادي المنفقة .
9 ـ إذا ساد القوم فاسقهم وكان زعيم القوم أذلّهم وأكرم الرجل الفاسق فلينتظر
البلاء .
10 ـ أعجل الشر عقوبة البغي .
11 ـ ألا إنّ شرار أمتي الذين يكرمون مخافة شرّهم. ألا ومن أكرمه الناس اتّقاء
شرّه فليس منيّ .
12 ـ بالبرّ يستعبد الحرّ .
13 ـ بشّروا ولا تنفّروا .
14 ـ بادر بأربع قبل أربع : شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سُقمك وغناك قبل فقرك
وحياتك قبل موتك .
15 ـ ثلاث من مكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة : أن تعفو عمّن ظلمك وتصل من
قطعك وتحلم على من جهل عليك .
16 ـ ثلاث تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي الله : صرير أقلام العلماء ووطئ
المجاهدين وصوت مغازل المحصنات .
17 ـ ثلاث تقسي القلب : استماع اللهو ، وطلب الصيد واتيان باب السلطان
.
18 ـ جبلت القلوب على: حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها .
19 ـ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
.
20 ـ حب الدنيا رأس كل خطيئة .
21 ـ الحكمة ضالة المؤمن. رأس الحكمة مخافة الله .
22 ـ حُفت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات .
23 ـ حسّنوا أخلاقكم والطفوا بجيرانكم واكرموا نساءكم تدخلوا الجنة بغير حساب،
داووا أمراضكم بالصدقة .
24 ـ رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق .
25 ـ سادة الناس في الدنيا الأسخياء، سادة الناس في الآخرة الأتقياء. السعيد
من وُعظ بغيره .
26 ـ شر الناس من باع آخرته بدنياه ، وشرٌ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره .
27 ـ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس .
28 ـ عليك بالجماعة فإن الذئب يأخذ القاصية .
29 ـ عليكم بالاقتصاد فما افتقر قوم اقتصدوا .
30 ـ عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء ، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة
النار.
31 ـ عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس .
32 ـ عُد من لا يعودك، واهد لمن لم يهد إليك .
33 ـ الغني غني النفس
.
34 ـ كن عالماً أو متعلّماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامس فتهلك
.
35 ـ لا مال أعود من العقل .
36 ـ لا فقر أشدّ من الجهل .
37 ـ لا عقل كالتدبير .
38 ـ ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره .
39 ـ من المروءة إصلاح المال .
40 ـ من أحبّ عمل قوم أشرك معهم في عملهم .
41 ـ من أحب قوماً حشر معهم .
42 ـ من عمل بما علم ورّثه الله ما لم يعلم .
43 ـ من أعان ظالماً على ظلمه سلّطه الله عليه .
44 ـ من يصلح ما بينه وبين الله يصلح الله ما بينه وبين
الناس .
45 ـ من لا يرحم لا يُرحَم .
46 ـ مَن غَشّ غُشّ
.
47 ـ من تساوى يوماه فهو مغبون .
48 ـ ما عال من اقتصد.
49 ـ المؤمن من أمن الناس من يده ولسانه .
50 ـ المسلم من سلم الناس من أذاه .
51 ـ المجالس بالأمانة .
52 ـ المسلم مرآة لأخيه المسلم .
53 ـ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه .
54 ـ المستشار مؤتمن .
55 ـ ما هلك امرؤٌ عرف قدر نفسه .
56 ـ من تفاقر افتقر .
57 ـ من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح .
58 ـ من أذاع فاحشةً كان كمبدئها .
59 ـ ومن عيّر مؤمناً بشيء لم يمت حتى يركبه .
60 ـ من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت .
61 ـ من أرضى سُلطاناً بما يسخط الله خرج من دين الله .
62 ـ مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش .
63 ـ يسّروا ولا تعسّروا .
64 ـ يطبع المؤمن على كل خصلة ولا يطبع على الكذب ولا على الخيانة .
6 ـ نماذج من
ادعيته الشريفة صلىاللهعليهوآلهوسلم
ألف ـ
من دعائه في شهر رمضان بعد المكتوبة : (اللهم أدخل على أهل
القبور السرور، اللهم أغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم
اقض دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم فك كل أسير،
اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم اشف كل مريض، اللهم سدّ فقرنا بغناك،
اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر إنّك على
كل شيء قدير).
ب ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر : (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل
شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقلّ فيه
الحيلة، ويخذل فيه القريب، ويشمت به العدو، وتعييني فيه الأُمور، أنزلته بك وشكوته
إليك راغباً فيه إليك عمن سواك ففرّجته وكشفته عني وكفيتنيه، فأنت ولي كل نعمة،
وصاحب كل حاجة، ومنتهى كل رغبة، فلك الحمد كثيراً ولك المنّ فاضلاً).
ج ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الأحزاب : (يا
صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين اكشف عني همي وغمي وكربي فإنّك تعلم حالي
وحال أصحابي فاكفني حول عدوي فإنه لا يكشف ذلك غيرك).
د ـ
دعاء علّمه صلىاللهعليهوآلهوسلم لبعض أصحابه يتّقي به شرّ العدو :
ذكر ابن
طاوس في مهج الدعوات هذا الدعاء كما يلي: (يا سامع كل صوت، يا
محيي النفوس بعد الموت، يا من لا يعجل لأنه لا يخاف الفوت، يا دائم الثبات، يا
مخرج النبات يا محيي العظام الرميم الدارسات. بسم الله، اعتصمت بالله وتوكلت على
الحي الذي لا يموت، ورميت كل من يؤذيني بلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
هـ ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم لقضاء الدين علّمه علي بن أبي طالب عليهالسلام: (اللهم اغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك).
و ـ
دعاؤه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا وضعت المائدة بين يديه : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا وضعت المائدة بين يديه قال: (سبحانك اللهم ما أحسن ما تبتلينا، سبحانك اللهم ما أكثر ما تعطينا،
سبحانك اللهم ما أكثر ما تعافينا، اللهم أوسع علينا وعلى فقراء المؤمنين
والمسلمين) (أعيان الشيعة : 1 / 306 .).
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
ــــــــــــ
المدخل:
المنهج القرآني في عرض ودراسة التأريخ والسيرة 14
الفصل
الأول: النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم في سطور 18
الفصل
الثاني: سنّة البشارة على مدى العصور 21
الفصل
الثالث: مظاهر من شخصية خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 27
3 ـ الثقة
المطلقة بالله تعالى: 29
الفصل
الأول: دور الولادة والنشأة 34
الفصل
الثاني: دور الفتوّة والشباب.. 40
2 ـ السفرة
الأولى إلى الشام : 41
الفصل
الثالث: من الزواج إلى البعثة 44
2 ـ إعادة
وضع الحجر الأسود : 46
الفصل
الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها 50
الفصل
الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي. 57
1 ـ بناء
الخلية الإيمانية الأولى : 57
3 ـ دور
إعداد القاعدة الأولى : 58
4 ـ دور
المواجهة الأولى وإنذار الأقربين: 59
الفصل
الثالث: موقف بني هاشم من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. 61
1 ـ دفاع
أبي طالب عن الرسول والرسالة : 61
2 ـ موقف
قريش من الرسالة والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم: 62
3 ـ الكفر
يأبى الانصياع لصوت العقل : 63
5 ـ التعذيب
وسيلة لقمع المؤمنين : 64
6 ـ الهجرة
إلى الحبشة وإيجاد قاعدة آمنة : 65
7 ـ الحصار
الظالم وموقف بني هاشم : 67
الفصل
الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة 69
2 ـ الانفتاح
على الرسالة ومعوّقاتها في مكة : 70
5 ـ الاستعداد
للهجرة إلى يثرب : 74
الفصل
الأول: تأسيس الدولة الإسلامية الأولى. 76
3 ـ المؤاخاة
بين المهاجرين والأنصار: 79
5 ـ النفاق
وبدايات الاستقرار في المدينة : 81
7 ـ بدايات
الصراع العسكري : 82
الفصل
الثاني: الدفاع عن كيان الدولة الفتية 84
2 ـ اهتمام
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بزواج الزهراء عليهاالسلام: 87
3 ـ الصدام
المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع : 88
4 ـ ردود
فعل قريش بعد انتصارات المسلمين : 89
5 ـ غزوة
أُحد(وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.)
: 90
6 ـ محاولات
الغدر بالمسلمين : 93
7 ـ غزوة
بني النضير(وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة
.) : 94
8 ـ مناوشات
عسكرية بعد اُحد : 95
9 ـ غزوة
بني المصطلق ودور النفاق : 95
الفصل
الثالث: تظاهر قوى الشرك والرد الإلهي الحاسم. 97
1 ـ تحالف
قوى الشرك وغزوة الخندق : 97
4 ـ غزو
بني قريظة وتصفية يهود المدينة : 100
2 ـ انطلاقة
الرسالة الإسلامية إلى خارج المدينة : 105
الفصل
الثاني: الإسلام خارج الجزيرة 109
1 ـ معركة
مؤتة(وقعت معركة مؤتة في جمادى الاُولى من السنة الثامنة للهجرة.)
: 109
2 ـ فتح
مكة(تم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.)
: 110
3 ـ غزوة
حنين وحصار الطائف(وقعت معركة حنين فى شوال من السنة الثامنة للهجرة.)
: 115
4 ـ غزوة
تبوك(كانت غزوة تبوك في رجب سنة ( 9 ) من الهجرة .) : 118
7 ـ وفاة
إبراهيم ابن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم: 122
الفصل
الثالث: تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة 122
1 ـ إعلان
البراءة من المشركين : 123
4 ـ تعيين
الوصي(للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء
الأوّل.) : 128
الفصل
الرابع: أيام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأخيرة 132
1 ـ الحيلولة
دون كتابة الوصية : 132
الفصل
الخامس: من معالم الرسالة الإسلامية الخاتمة 135
2 ـ سهولة
الشريعة الإسلامية وسماحتها 136
3 ـ سمو
التعاليم الإسلامية 136
5 ـ الواجبات
والمحرمات في الشريعة الإسلامية : 138
الفصل
السادس: تراث خاتم المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 139
نماذج
من تراث سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم. 142
3 ـ أصول
العقيدة الإسلامية 146