- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
|
آفات الدين والتدين في نهج البلاغة
|
|
المقدمة قبل أن نبدأ بالبحث عن هذا الموضوع نتحدث عن: |
|
أوّلاً: مفهوم آفات
الدين والتديّن
|
|
الآفة لغةً هي: العاهة، أو عرض مفسد لما أصابه[القاموس المحيط: ج٣، ص١٧٧، ط١، دار إحياء التراث العربي، بيروت.]. الآفة اصطلاحاً هي: تلك الاُمور والمفاهيم التي من
شأنها أن تؤدّي إلى فساد الدين والانحراف عنه. وقد وردت هذه المفاهيم كراراً في كلام
الإمام عليّ(عليه السلام): •
«صن إيمانك من الشكّ، فإنّ الشكّ يفسد الإيمان كما يفسد الملح العسل»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣٠١.]. •
«آفة الدين سوء الظنّ»[
المصدر السابق: ص١٨٢.]. •
«سبب فساد الدين الهوى»[
المصدر السابق: ص٢٨١؛ مستدرك الوسائل: ج١٢، ص١٤٤.]. •
«غلبة الهوى تفسد الدين»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣٤٨.]. •
«طاعة الشهوة تفسد الدين»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣١٨؛ مستدرك الوسائل: ج١١، ص٣٤٤.]. •
«لا يسلّم الدين مع الطمع»[
المصدر السابق: ص٥٣٩.]. •
«فساد الدين الطمع»[ المصدر السابق: ص٣٥٧.]. •
«كثرة الكذب تفسد الدين وتعظم الوزر»[ المصدر السابق: ص٣٨٩.]. •
«دع الحسد والكذب والحقد؛ فإنّهنّ ثلاثة تشين الدين وتهلك الرجل»[
المصدر السابق: ص٢٥٠.]. |
|
ثانياً: أهمّية التعرّف على آفات الدين والتديّن
|
|
الدين هو: أجمل تجلّيات الرحمة الإلهيّة
لهداية البشر. والتديّن هو:
الإقبال على هذه الرحمة والسير في طريق هديها.
|
|
وللدين معنيان:
|
|
الأوّل: بمعنى التشريع الصادر من الله
سبحانه وتعالى، وهذا لا يمكن أن تصل إليه الآفات. الثاني: بمعنى تطبيق هذه الشريعة وفهمها،
وهذا هو المقصود منه في هذا البحث، والذي تصل إليه الآفات؛ لأنّه من الشؤون
البشرية. لذا فإنّ الآفات والمضارّ في مبحث
آفات الدين والتديّن إنّما ترجع إلى نمط توجّه الناس نحو الدين، أو فهم الإنسان
واستيعابه للدين، أو نوع المعرفة الدينية، أو اُسلوب التديّن؛ وهذه كلّها شؤون
كانت على الدوام موضع اختلاف وعرضه للآفات والمضارّ. وقد وضّح ذلك الإمام عليّ(عليه السلام)
حينما بعث عبد الله بن عبّاس لمحاورة الخوارج قائلاً له: »لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن
حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً»[ نهج البلاغة: الكتاب ٧٧.]. كان للخوارج توجّهات سطحية للدين
وفهم جامد للقرآن، الأمر الذي سار بهم في طريق الخطأ، ووضعهم على جادّة الضياع،
إلاّ أنّهم كانوا يعتبرون تصوّراتهم القرآنية والدينية هذه عين الصواب. |
|
مجالين التديّن
|
|
يستوعب التديّن مجالين في الحياة: الأوّل: النظري، وهو الأفكار والمعارف
والمعتقدات الدينية والإيمان. الثاني: العملي، وهو الإقرار والأفعال
والسلوك الديني. أي إنّه يشمل الأفكار والمعارف
والمعتقدات الدينية والإيمان، كذلك الإقرار والأفعال والسلوك الديني. ورد في حِكم أمير البيان: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل
بالأركان»[
المصدر السابق: الحكمة ٢٢٧.]. وكلا المجالين النظري والعملي، عضة
للإصابة بالآفات والمضارّ المختلفة. وبعد أن استعرضنا هذه المقدّمة، نذكر آفات الدين والتديّن
في نهج البلاغة، وأودّ أن أقول بأن الآفات
والأضرار التي تهدّد الدين والتديّن في أقوال وكتب الإمام(عليه السلام)، بعضها داخلية أي من داخل الدين، وبعضها خارجية أي من خارج الدين، ولأجل ذلك سيتمّ التعرّف في هذا الدرس على قسمين: |
|
أوّلاً: الآفات
الداخلية للدين والتديّن
|
|
المراد من الآفات الداخلية: فهم الدين فهماً خاطئاً، كالإكراه
والإجبار، وعدم التدرّج والتمكّن من الهداية والتربية، وجرّ التديّن إلى
التكلّف. ومن جملة هذه
الآفات: |
|
١ ـ
الإكراه في الدين
|
|
الدين حقيقة معنوية وجوهر روحاني
يتعامل ويتعاطى مع روح الإنسان وفؤاده، وما لم يحصل التقبّل والإقبال القلبي
عليه سينسلخ السلوك الديني عن هويّته الحقيقية، ويبتعد عن ماهيّته الفطرية. المعتقد الديني والإيماني ليس شيئاً
يحصل بالإكراه والإجبار، والتهديد والتطميع، والشدّة والعنف؛ لأنّهما من سنخ
الحبّ والارتباط القلبي للإنسان بأجمل التجلّيات الرحمانية للحقّ تعالى؛ وإذا
انقلبت أجمل التجلّيات الرحمانية هذه بواسطة الإكراه والإجبار والتهديد والتطميع
والشدّة والعنف، فلن يبقى معنى للحبّ، ولا قبول من أعماق الوجود والتسليم
الحقيقي والاتّباع الانتخابي الواعي. ليس للإكراه والإجبار معنىً في
الاُمور المتعلّقة بقلب الإنسان وروحه؛ والدين أمر يتعلّق بقلب الإنسان وروحه،
والتديّن حصيلة نمط من العلاقة يقيمها الإنسان مع الحقيقة المتعالية للدين. ومن هنا، كان الإكراه والإجبار في
الدين ممّا يؤدّي إلى أضرار أساسية في الدين والتديّن. قال تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ »[
البقرة: ٢٥٦.]. الإيمان معرفة واعتقاد قلبي،
والتديّن نابع من مثل هذا الإيمان، ولا سبيل إلى الإكراه والإجبار فيما هو من
سنخ المعرفة والاعتقاد القلبي. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في حكمة متألّقة
حول ماهيّة الإيمان وتجلّياته حينما سألوه عنه: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار
باللّسان، وعمل بالأركان»[
نهج البلاغة: الحكمة ٢٢٧.]. إذا كان للإكراه والإجبار دور في
الاُمور ذات العلاقة بقلب الإنسان وروحه، فسيؤدّي ذلك إلى نفور الفؤاد وعماه،
وما يرشح عن القلب الأعمى فهو مصاب بشتّى الآفات والأمراض. وللإمام عليّ(عليه السلام) في هذا الشأن كلام واضح وصريح حينما
قال: «إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً،
فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا اُكره عَمِي»[
المصدر السابق: الحكمة ١٩٣.]. |
|
٢ ـ
سوء فهم الدين
|
|
إذا لم يُفهم الدين
بصورة صحيحة عميقة، فسيحصل لدى الإنسان فهم عليل وتصوّرات ناقصة ومريضة، ومثل
هذا الفهم لا يقود إلى مقاصد الدين، إنّما يدور حول نفسه. قال أمير
المؤمنين(عليه السلام): «المتعبّد على غير
فقه، كحمار الطاحونة، يدور ولا يبرح»[ الاختصاص للشيخ المفيد:
ص٢٤٥.]. التديّن الفارغ من
الفهم الصحيح للدين، مسرحية لأعمال دينية في ظاهرها، لكنّها خالية من روح الدين
وحقيقته، وبالطبع فهي خالية من محتوى الدين ولا نصيب لها من النتائج المترتّبة
عليه. وعلى حدّ تعبير الإمام عليّ(عليه السلام): «كم من صائمٍ ليس له
من صيامه إلاّ الجوع والظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلاّ السهر والعناء،
حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم»[ نهج البلاغة: الحكمة ١٤٥.]. إذا كان الانشداد إلى
الدين خالياً من الفهم الصحيح، فإنّه سيؤدّي إلى الإضرار بالدين والتديّن، ومثل
هذا التديّن معناه تنسّك جاف وتعبّد بلا روح وفهم معوج. حذّر الإمام عليّ(عليه السلام) من هكذا تعامل مع الدين
قائلاً: «ولا
تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن اللَّه يعقلون، كقيض بيض
في أداحٍ يكون كسرها وزراً ويخرج حضانها شرّاً»[ المصدرالسابق: الخطبة
١٦٦.]. إنّ سوء فهم الدين
خطير وكارثي إلى درجة حذّر منه الإمام بهذه الصورة،
وشبّه عديمي الفهم العميق للدين بأنّهم وحالهم كبيضة
أفعى في عشّ طيور، كسرها ذنب؛ لأنّها قد تكون بيضة طائر، لكن ما يخرج
منها شرّ وضرر؛ لأنّها في الحقيقة بيضة أفعى. هكذا فهم
الإمام عليّ(عليه السلام) المتديّنين في
الظاهر، لكنّهم بسبب عدم فهمهم للدين يسيرون على جادة الجاهلية، أي أنّ معاقبتهم
والتصدّي لهم غير جائز؛ لأنّهم يظهرون الإسلام، ولكنّهم
لعدم فهمهم يتسبّبون في ألف شرًّ وفسادٍ، وقد عبّر(عليه السلام) عن هكذا تديّن وتنسّك بقوله: «ربّ
متنسّك ولا دين له»[ عيون الحكم والمواعظ: ص٢٦٥.]. |
|
٣ ـ
التكلّف في الدين والتديّن
|
|
ثانياً: الآفات
الخارجية للدين والتديّن
|
|
المقصود من الآفات
الخارجية هي: تلك الأعمال والتصرّفات المرتبطة بالعوامل الاجتماعية والسياسية
المؤثّرة على الواقع البشري، ومن تلك الآفات: |
|
١ ـ سلوك
العلماء وتأثيرهم على الدين والتديّن
|
|
إنّ سلوك الأفراد ـ الذين يُعرف عنهم
أنّهم رجال الدين ورموزه ـ له تأثير حاسم على الدين والتديّن لدى الناس، فإنّ
علماء الدين والمبلّغون والمربّون والمعلّمون، وكلّ من يراه الناس باعتباره من
الشخصيات الدينية بشكلٍ من الأشكال، يتوقّعون منهم تديّناً تامّاً كاملاً. بل إنّ الإنسان قبل أن يتأثّر بأقوال
الشخصيات الدينية وكلامهم وتبليغهم، يتأثّر بسلوكهم وأفعالهم وممارساتهم، لذا فإنّ سلوك الشخصيات الدينية ـ
ولاسيّما علماء الدين ـ على جانب كبير جدّاً من الأهمّية في تعزيز مكانة الدين أو تضعيفه أو
نشره أو تنفير الناس منه. |
|
أصناف
العلماء الذين يشكّلون خطراً على الدين وعلى سلوكيات المجتمع الإسلامي:
|
|
أ)
العلماء الذين لا يعملون بعلمهم
|
|
هؤلاء يشكّلون خطراً على الدين وعلى
سلوك المجتمع الإسلامي، وتوصية الإمام عليّ(عليه السلام)
في هذا الشأن مهمّة جدّاً: «مَن نصّب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه
قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها
أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم»[
نهج البلاغة: الحكمة ٧٣.]. إنّ صلاح المجتمعات وفسادها منوط بقوّة
سلوك الشخصيات الدينية. وفي المجتمعات التي تحكمها حكومة دينية يتحمّل علماء الدين
والفقهاء وكذلك المسؤولون والحكّام مسؤوليات أكبر من الجميع في هذا الميدان. روي عن الرسول الأكرم(ص) أنّه قال: «صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلحت اُمّتي، وإذا
فسدا فسدت اُمّتي. قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال: الفقهاء والاُمراء»[
الخصال للصدوق: ص٣٧، ح١٢.]. إذا لم يعمل علماء الدين بعلمهم، تضاعف خطر اهتزاز العقائد الدينية
والالتزام الديني لدى الناس، وحينما لا يعمل علماء الدين بعلمهم؛ فإنّهم في الواقع يعرّضون
الناس لمشكلات فكرية تتعلّق بالدين والتديّن، ومن ذلك أنّهم سيجرّون الناس إلى أسئلة من قبيل: ما الإشكال في ألاّ يعمل
علماء الدين بما يعلمون وما يدعون الآخرين إليه؟
ألا يجب على الدين بالدرجة الاُولى أن يؤدّبهم بآدابه ويجعلهم من أهل العمل
والالتزام بتلك الآداب؟ أليسوا يعلمون اُموراً هي التي تدفعهم إلى مثل هذا
السلوك والأعمال؟ لا يمكن للناس أن يفصلوا بسهولة بين
الدين والتديّن من ناحية، وبين العلماء غير العاملين، وهذا ما يعرّض معتقدات
الناس الدينية لأمواج التشكيك والغموض، وفي حال عدم توفّر ملاكات الدين والعُروة الوثقى، فإنّ تهرّب الناس
من الدين والتديّن سيكون ظاهرة طبيعية. قال الإمام الصادق(عليه السلام): في
توصية سامية: «إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم؛ فإنّ كلّ
محبّ لشيء يحوط ما أحبّ». وقال(عليه السلام): «أوحى الله إلى داوود(عليه السلام): لا تجعل
بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي، فإنّ أولئك قطّاع
طريق عبادي المريدين»[
الكافي: ج١، ص٤٦، ح٤.]. |
|
ب)
العلماء المنتهكون للقيم الدينية
|
|
إنّ سلوك وممارسات الشخصيات الدينية
لا تُفهم بطابعها الشخصي والفردي، وصلاحهم وفسادهم ينتقلان إلى المجتمع بحسب
مراتبهم ودوائر نفوذهم وعملهم. بالنظر للمكانة الخطيرة للشخصيات
الدينية في المجتمع وتوقّعات الناس منهم، فإنّ علماء الدين إذا أساؤوا العمل وتصرّفوا بخلاف ما يدعون إليه،
فستلحق الدين والتديّن أشدّ المضارّ والآفات. إذا انتهكت القيم والسلوكيات الدينية
من قبل الذين لا يتوقّع هذا منهم على الإطلاق، فإنّ العقيدة الدينية لدى الناس
ستتزعزع، وتتقوّض ميولهم نحو الدين والتديّن. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في حكمة نيّرة لجابر بن عبد الله
الأنصاري(رضوان الله عليه)[ جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أجلاّء صحابة الرسول، بايع بيعة
العقبة الثانية، وكان من أوّل المسلّمين في المدينة، شارك في بدر واُحد، وروي
عنه أنّه كان مع رسول الله في (١٧) غزوة، أو في (١٨) غزوة على بعض الروايات.
وكان من أصحاب الإمام علي(عليه السلام) في صفّين، كفّ بصره في أواخر عمره،
وتوفيّ سنة (٧٤ه) أو (٧٧ه) عن عمر يناهز (٩٤) عاماً. (انظر: أعلام نهج البلاغة، محمّد هادي
أميني: ص١٥).]: «يا جابر، قوام الدين والدنيا
بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم، وجواد لا يبخل بمعروفه،
وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم،
وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه»[
نهج البلاغة: الحكمة ٣٧٢]. فعلى هذا، يجب أن تتوفّر للدين
والتديّن معايير جلية مُحكمة، ولا تخلط أوراق قطّاع طرق الدين بأوراق الدين، إنّما ينبغي الفصل بكلّ صراحة بين
طريق الإسلام النبويّ والعلويّ، وطريق إسلام السلطويّين والمفسدين؛ حتّى لا تتلوّث
ساحة الدين ولا يتشوّه وجهه. قال الإمام عليّ(عليه السلام): «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له،
والناهين عن المنكر العاملين به»[
المصدر السابق: الخطبة ١٢٩.]. |
|
ج)
العلماء المتظاهرون بالعلم
|
|
وهؤلاء يشكّلون خطراً كبيراً على
الدين وعلى المجتمع الإسلامي. وقد تحدّث الإمام عليّ(عليه السلام) عن المتظاهرين بالعلم، وأنّهم أشخاص يسمّون أنفسهم علماء أو
يسمّيهم البعض علماء، لكنّهم لا نصيب لهم من العلم الحقيقي، إنّما هم خزّان الجهل والضلالة والعوج،
أولئك اُمّة خطيرة على الدين والتديّن. إنّ سلوكيات المتظاهرين بالعلم تزعزع
المعتقدات الدينية للناس، وتفسد تديّنهم، وتهدم قيمهم الإنسانية. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في وصف
هؤلاء قطّاع طرق الدين: «وآخرُ قد تسمّى عالماً وليس به،
فاقتبس جهائلَ من جُهّال وأضاليلَ من ضُلاّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور
وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه، يؤمِّن الناس من
العظائم ويهوِّن كبير الجرائم، يقول: أقِفُ عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل
البدع وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى
فيتّبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه، وذلك ميّت الأحياء»[ نهج البلاغة: الخطبة ٨٧.]. المتظاهرون بالعلم هم ناشرو ثقافة
الخداع والكذب، ومهدّمو اُسس الأخلاق في المجتمع، يطرحون كتاب الله والدين
والحقّ والحقيقة بما يحقّق مقاصدهم النفسية وميولهم الشيطانية، وكما قال الإمام علي(عليه السلام): «نصب للناس أشراكاً من حبائل غرور
وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه». ما يطابق إرادتهم وأهواءهم هو الحقّ،
وما يعارض ميولهم ورغباتهم باطل، هؤلاء هم أئمّة أنفسهم، بل يظنّون أنّهم محور
كلّ شيء، وكما عبر عنهم
الإمام عليّ(عليه السلام): «لا يقتصّون أثر نبيّ، ولا يقتدون بعمل وصيّ، ولا
يؤمنون بغيب، ولا يَعفُون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات،
المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى
أنفسهم، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم، كأنّ كلّ امرئٍ منهم إمامُ نفسه، قد
أخذ منها فيما يرى بعرىً ثقاتٍ وأسبابٍ محكماتٍ»[ المصدر السابق: الخطبة
٨٨.]. أدعياء العلم يؤمّنون الناس ممّا يستتبع العذاب
الأليم، ويهوّنون الذنوب العظام، ويسوِّغون أقبح القبائح، ويصغّرون أكبر
الجرائم: كما قال الإمام(عليه السلام): «يؤمِّن
الناس من العظائم ويهوِّن كبير الجرائم»[
المصدر السابق: الخطبة ٨٧.]، وهكذا فهو يهدم القيم الأخلاقية
والإنسانية، ويضرب الحرمات الدينية والشرعية عرض الجدار؛ لأنّ مصالحه ومقاصده لا
تتحقّق إلاّ عن هذا الطريق. |
|
٢ ـ
العنف المنسوب إلى الدين
|
|
الدين تجلّي رحمانية الله تعالى بحقّ
خلقه، فهو غير منسجم في أساسه ومبانيه مع العنف، ولا يوصي بالعنف، وما نطالعه
فيه من عقوبات وتطبيق للأحكام وإقامة للحدود إنّما هو تشدّد لحفظ القوانين،
والحدود ليس عنفاً وممارسات قبيحة وعنتاً وهتكاً لحرمات الناس. وليس في تطبيق
الحدود والقوانين من غاية سوى العطف والشفقة والرحمة على المجرم وعلى المجتمع
الإنساني. إنّ تطبيق الحدود والقوانين وبطريقة
دقيقة وشديدة، ممارسة يُراد منها: • صيانة الحرمات وحماية حقوق البشر. • الحيلولة دون تعدّي المعتدين. • صدّ الخونة والمجرمين عن الخيانة
والجريمة. وهذه اُمور عُقلائية ضرورية، بل هي أكثر
الممارسات إنسانية لحفظ سلامة الفرد والمجتمع. وهذا ما يشير إليه الإمام
عليّ(عليه السلام) في قوله: «فرض الله... إقامة الحدود إعظاماً للمحارم»[
نهج البلاغة: الحكمة ٢٥٢.]. الإمام عليّ(عليه السلام) نفسه كان يعظّم الحدود والقوانين
الدينية ويحترمها، إلى درجة لا يسمح معها لأيٍّ كان بأن يتجاوزها ويهملها حتّى
بمقدار شعرة؛ لأنّ في ذلك انتهاكاً لحرمات الناس وحقوقهم، وإضراراً بسلامة الفرد
والمجتمع. وقال في هذا الصدد: «والله لئن أبيت على حسك السعدان
مسهّداً، أو أجرّ في الأغلال مُصَفّداً، أحبّ إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم
القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفسٍ
يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها...». إلى أن قال: «والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما
تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته»[
نهج البلاغة: الخطبة ٢٢٤.]. هكذا يتكلّم أمير المؤمنين عليّ(عليه
السلام)ـ وهو مظهر رحمانية
الباري(عزّ وجلّ) ـ عن صيانة الحدود والقوانين بخصوص نفسه، ويبدي هذه الدرجة
الرفيعة من الالتزام بالقوانين والحدود. إنّ الإصرار على حفظ الحدود ورعاية
القانون والالتزام به، والنظر إلى الجميع على أنّهم متساوون قباله، وتطبيق
الحدود والقوانين بدقّة وشدّة، هو عين الرحمة والعطف على الجميع، وهذا لا يُسمّى عنفاً، فهل معاقبة المجرم والقاتل والمعتدي على حريم الآخرين وحقوقهم
عنف؟ ما يكتنفه الدين من عقوبات هو تطبيق للقوانين الإلزامية التي تسنّ بكثير من
الشروط والاعتبارات، فهي بمثابة الرحمة والشفقة والإخلاص الذي يدفع الطبيب الحاذق لإجراء
عملية جراحية للمريض. أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) أسمى ربيب في مدرسة الرسول
الأعظم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يحبّ جميع الناس ويطلب السعادة لهم جميعاً، لكنّه في الوقت نفسه لا يتنازل قيد ذرّة في تطبيق القانون
على المعتدين على حقوق الناس والخونة والمجرمين. فهو مثلاً قال في بداية عهده لمالك الأشتر: «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف
بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في
الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم
في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من
عفوه وصفحه»[ نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. واضح كم يوصّي الإمام(عليه السلام)
بالرحمة والمحبّة واللطف، ويحذّر من العنف والشدّة مع الناس، ويعتبر الأصالة
للسماحة والعفو، ولكن حينما ينتهك أحد القوانين ويتعدّى الحدود والحقوق فقد كان الإمام يتعامل معه بقوّة وشدّة، ويؤكّد على تطبيق القوانين رحمةً
بالآخرين، ولا يتردّد في معاقبة المعتدين على حرمات الناس وحقوقهم ومنتهكي حدود
الله وأحكامه. فقد كتب مثلاً رسالة لزياد بن أبيه نائب عبد الله بن عبّاس على
البصرة، قال فيها: «وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك
خنت مِن فيء المسلّمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدنّ عليك شدّةً تدعك قليل
الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر. والسلام»[ نهج
البلاغة: الكتاب ٢٠.]. إذا مورس العنف باسم الدين وتحت لواء التديّن، تغيّر وجه الدين عن حقيقته، وهذا تضعيف للدين والتديّن، وإضرار
حقيقي للإقبال على الدين، وإفساد للسلوك الديني. إنّ العنف والغلظة من قبل مسؤولي الدين
يغلق أبواب الهداية المفتّحة، ويخيف الناس من كلّ شيء يرتبط باسم الدين، ويجعلهم
يهربون من الدين والاُمور الدينية. قال الله في آية يخاطب بها رسول الرحمة الخاتم(صلّى الله عليه وآله
وسلّم): «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ»[
آل عمران: ١٥٩.]. لا يمكن كسب القلوب بالشدّة والحدّة، ولا يمكن مدّ الجسور بينها وبين محبّة الله
تعالى عن طريق العنف والإكراه، هذه حقيقة يذكّر بها الله تعالى بكلّ صراحة. الخُلق العظيم للرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي اجتذب القلوب وألّف بينها
واستقطب الأرواح الهاربة، ولولا ذلك لما بقيت للإسلام ولا للمسلّمين من باقية. كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ(عليه
السلام) بقوله: «مَن خشنت، عريكته أقفرت حاشيته»[
موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنّة والتاريخ: ج١٠، ص٢٢٧، ح٥٥٤٨.]. العنف والشدّة والغلظة والحدّة في
نظر الإمام عليّ(عليه السلام) من أقبح الاُمور وأسوأ الخصال، وقد جاء في بيانٍ له(عليه السلام): •
«الخُرقُ شرّ خُلُقٍ»[ عيون الحكم والمواعظ:
ص٥١.]. •
«أقبح شيءٍٍ الخُرق»[ المصدر السابق: ص١١٣.]. •
«أسوأ شيء الخُرق»[ مستدرك الوسائل: ج١٢،
ص٧٣.]. •
«لا خُلق أشين من الخُرق»[
غرر الحكم: ح١٠٣٦٠.]. إنّ العنف والغلظة في رأي الإمام
عليّ(عليه السلام) قبيح ومفسد، إلى درجه أنّه إذا ارتبط بأيّ شيء جعل ذلك الشيء
قبيحاً ومنفِّراً ومنبوذاً، وقد قال(عليه السلام): «ما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، ما كان الخُرق
في شيء إلاّ شانه»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٤٨١.]. وعليه، إذا فُرض العنف على الدين
والتديّن فسيعيبهما، ويمسخ جمال الدين ولطفه وهدايته قبحاً وتشويهاً وضلالاً،
وسيفضي بالتالي إلى نتائج وخيمة جدّاً. في حديث وتوصية نيّرة قالها الإمام الصادق(عليه السلام) لعمّار بن أبي الأحوص، يُفصل
بين الإسلام العلويّ، وبين الإسلام الأمويّ: «فلا تخرقوا بهم، أما علمت
أنّ إمارة بني اُميّة كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمارتنا بالرفق والتآلف
والوقار والتقيّة وحسن الخلطة والورع والاجتهاد؟ فرغِّبوا الناس في دينكم وفيما
أنتم فيه»[ الخصال: ص٣٥٤، ح٣٥؛
وسائل الشيعة: ج١٦، ص١٦٥، ح٢١٢٤٨.]. العنف باسم الدين ومن قبل المنسوبين
إلى الدين، له تبعات هدّامة على المعتقدات الدينية وأخلاق الناس وسلوكهم
ومعنوياتهم. ذكر الإمام عليّ(عليه السلام) عهداً
أعقب حياة الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)
تميّز بمثل هذه السمات، فقد ظهرت فيه سلوكيات عنيفة في المجالات السياسية
والحكومية من قبل رؤساء المجتمع والمنتسبين إلى الدين، فقد كان كلامهم غليظاً
حادّاً فيه كثير من التهديد والإرهاب، وتعاملهم عنيفاً وشديداً، وهذا ما ترك
تأثيرات سلبية عديدة على معتقدات الناس ومعنوياتهم وسلوكهم، حيث قال(عليه السلام): «فصيّرها
في حوزةٍ خشناء، يغلظ كَلمُها ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها،
فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنَقَ لها خَرَمَ، وإن أسلس لها تقحّم، فمُني الناس ـ
لعمر الله بخَبطٍ[الخبط:
هو السير على غير جادة ومحجّة. ] وشِماسٍ[الشماس: النفار] وتلوّن[التلوّن: هو التلفّت والتبدّل.]واعتراض[الاعتراض: فهو ها هنا أيضاً ضربان: التلوّن، والتغيّر وترك لزوم
القصد والجادة]»[ نهج البلاغة: الخطبة ٣.]. يُلخّص الإمام تبعات السياسة العنيفة
لتلك الحقبة بأربعة اُمور، هي: الخبط، الشماس، التلوّن، والاعتراض. وهذه تعابير تدلّ على أنّ الناس
اُصيبوا بالانحراف والخروج عن الطريق المستقيم والتلوّن والرياء والبعد التامّ
عن الحقّ. ويدلّ كلام أمير البيان عليّ(عليه
السلام) عن أنّ العنف
يجرّ الناس إلى أنواع الانحرافات والتمرّد، ويحضّهم على الرياء والتلوّن
والنفاق، وهي من أخطر الأمراض الروحية التي تصيب الإنسان، ويزيل السلامة عن سلوك
الناس والاعتدال عن أفعالهم، ويدفعهم إلى الانحراف يميناً ويساراً، وانتهاج طرق
الإفراط والتفريط. الغلظة منفِّرة بطبيعتها، وإذا مورست
ضدّ الناس باسم الدين فسينفر بعض الناس من الدين بعد أن تتشوّه صورته في
أنظارهم. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في رسالة إلى زياد بن أبيه حينما ولاّه على فارس خلفاً لعبد الله بن عبّاس: «استعمل العدل واحذر العسف والحيف؛ فإنّ العسف
يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف»[
نهج البلاغة: الحكمة ٤٧٦.]. ذكر الإمام هنا أنّ العنف والتعسّف يهرِّب الناس من
ديارهم وبيوتهم، كما أنّ العسف والعنف باسم الدين يشرّد الناس من ديارهم وبيوتهم
الحقيقية وأوطانهم الأصلية، أي الدين والتديّن. وما ترتّب على عنف الكنيسة في القرون الوسطى من تبعات وآثار نموذج بارز
لهذه الحقيقة. |
|
كتب الشهيد مرتضى
المطهري(رحمه الله) عن هذه القضية في كتابه الدوافع نحو المادّية:
|
|
«كان
للكنيسة مضافاً إلى معتقداتها الدينية الخاصّة، جملة من الاُصول العلمية
المتعلّقة بالعلم والإنسان، تضرب بجذورها غالباً في الفلسفات اليونانية وغير اليونانية،
وقد وجدت طريقها تدريجياً إلى أذهان كبار علماء الدين المسيحي، فاُلحقت باُصول
العقيدة المسيحية، حتّى أضحت معارضة هذه العلوم الرسمية مخالفة وجريمة يجب
التصدّي لها وللمنادين بها بكلّ شدّة. إنّنا هنا لا نروم مناقشة الحرّية الدينية
وحقّ الإنسان في اختيار عقيدته الدينية بشكلٍ حرّ، وأنّ اُصول العقيدة الدينية
يجب أن تُبحث وتُمحّص بنحوٍ حرّ، وإلاّ كان الإكراه على الضدّ من روح الدين
الّذي يقصد هداية الناس وإسعادهم. أن تكون اُصول الدين تحقيقية وليست تقليدية أو
إجبارية، فكرة ينحاز إليها الإسلام ويعاضدها، خلافاً للمسيحية التي اعتبرت اُصول
الدين منطقة محظورة على العقل. |
|
الكنيسة في خطئها
الأكبر من ناحيتين اُخريين:
|
|
وقد وقعت
الكنيسة في خطئها الأكبر من ناحيتين اُخريين: الاُولى: هي أنّ الكنيسة اعتبرت بعض
المعتقدات العلمية البشرية الموروثة عن فلاسفة أسلاف وعلماء كلام مسيحيّين في
عداد اُصول الدين المسيحي، ورأت أنّ معارضتها تعني الارتداد عن الدين. والثانية: هي أنّها لم تكتف بظهور الارتداد
على هذا الشخص أو ذاك، بحيث تُقصي كلّ من يثبت ويظهر ارتداده عن المجتمع
المسيحي، إنّما راحت تفتّش وتنقّب بطريقة بوليسية عنيفة عن ما في ضمائر الناس
وقراراتهم من عقائد. وأخذت تحاول بلطائف الحيل العثور على أبسط دليل أو علامة
على معارضة الفرد أو الجماعة لعقيدة دينية، حتّى تبادر إلى إيذائه بكلّ عنف
وشدّة. لذلك لم يكن العلماء والباحثون
ليتجرّؤوا على التفكير بما يعارض ما تعتبره الكنيسة علماً، أي إنّهم كانوا مرغمين على التفكير
كما تفكّر الكنيسة. هذه
الضغوط الشديدة على الأفكار التي شاعت منذ القرن الثاني عشر حتّى التاسع عشر في
بلدان فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا والبرتغال وبولندا وأسبانيا، تركت بطبيعة الحال ردود أفعال جدّ سيّئة حيال الدين»[ الدوافع نحو المادّية للشهيد مرتضى
مطهري: ص٨٥ ـ ٨٦، ط٨، دار حكمت، سنة ١٩٧٨م.]. وبعد أن ذكر الشهيد المطهري جانباً من جرائم محاكم التفتيش
وممارسات التعذيب والعنف والقتل التي انتهجتها هذه المحاكم باسم الدين، يكتب قائلاً: «الدين الذي يجب أن يكون دليل
الهداية ورسول المحبّة، بدأ في الغرب على الصورة التي رأيناها. كان تصوّر الجميع
عن الدين هو العنف والقمع والاستبداد، ومن البديهي ألاّ يكون ردّ فعل الناس قبال
هذا الاُسلوب سوى رفض الدين من الأساس ورفض الركيزة الرئيسية للدين، أي وجود
الله. رجال
الدين ـ الذين يعدّون بالتالي ممثلي الدين ـ إذا ارتدوا جلود النمور وكشّروا عن
أنياب الذئاب واستخدموا التكفير والتفسيق خصوصاً لأجل
أغراضهم الخاصّة، فإنّ الدين سيتلقّى أعنف الضربات لصالح النزعة
المادّية»[ الدوافع نحو المادّية: ص٩٢.]. لا مراء أنّه متى ما استُخدم العنف
باسم الدين وارتُكبت الجرائم لأجله، فإنّ خطر التملّص من الدين سيكون أكثر
مداهمة وحدّة. |
|
٣ ـ
السلوك الاستبدادي من قبل المسؤولين الدينيّين
|
|
السلوك الاستبدادي يتناقض بكلّ تأكيد
مع الدين والتديّن، وإذا ما انجرف المسؤولون الدينيون لأيّ سببٍ من الأسباب
ومهما كانت التبريرات إلى السلوك الاستبدادي، فستكون النتيجة ضعضعةً لأركان
الدين وإهداراً لماء وجهه، وتنفيراً للناس عنه. وللإمام عليّ(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر أمر عظيم القدر
والقيمة قال فيه: «ولا تقولنّ إنّي مُؤمَّرٌ، آمُرُ فاُطاع؛ فإنّ
ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرّب من الغير»[
نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. يعتبر الإمام عليّ(عليه السلام) استبداد الرؤساء باسم الدين تطرّقاً
للفساد إلى القلوب، وتخريباً للدين، واقتراباً لتغيّر الأحوال والأوضاع، وخراب
الدين في هذه الغمرة ليس بالشيء الذي يمكن تعويضه بسهولة وتلافي تبعاته بيسر. لذا يتوجّب على المنسوبين للدين
والمتولّين لزمام الاُمور تحاشي الاستبداد والدكتاتورية بكلّ دقّة؛ لأنّ النتيجة لن تكون سوى الهلاك، وقد قال الإمام عليّ(عليه السلام) بكلّ صراحة: «من استبدّ برأيه هلك»[
المصدر السابق: الحكمة ١٦١.]. وبالطبع فإنّ الاستبداد من قبل المسؤولين لا يهلكهم لوحدهم، إنّما يوجّه ضربات مهلكة للدين
والتديّن أيضاً، ذلك أنّ الاستبداد يجرّ الإنسان إلى التمرّد والتعدّي والحدّة
والتشدّد، لهذا فإنّ تبعاته المخرّبة ليست لها حدود. يطلق الإمام عليّ(عليه السلام) في
عهده لمالك الأشتر هذا التحذير قائلاً: «وإذا أحدثَ لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهةً أو
مخيلةً، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك،
فإنّ ذلك يطامِنُ إليك من طِماحِك، ويكفّ عنك من غَربِك ويفيء إليك بما عزب عنك
من عقلك»[
نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. المستبدّ من منظار الإمام عليّ(عليه
السلام) يفتقر للعقل
النيّر المميِّز، فتسلّطه على الناس وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم يدفعه إلى
الطغيان والحدّة والشدّة وانتهاك الحرمات والضراوة، وإذا تلبّس مثل هذا المستبدّ
بقناع الدين ومارس استبداده باسم الدين، فمن الواضح كم سيساعد على تهرّب الناس
من الدين ونفورهم من التديّن، وهذا أفظع ظلم للدين والتديّن. يحذّر الإمام عليّ(عليه السلام) مالك الأشتر في عهده إليه من
الاستبداد دوماً؛ لأنّه يدير الاُمور كحاكم إسلامي ومسؤول ديني، وكلّ سلوكياته
وأفعاله ستُحسب على الدين. ومن جملة تحذيرات الإمام وتوصياته: «ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم»[
المصدر السابق: الكتاب ٥٣.]. إنّ الاستبداد والدكتاتورية نزعة
ضارية ووحشية، ومثل هذه الممارسات إذا مورست باسم الدين وصدرت عن الشخصيات
الدينية، سيهرب الناس من الدين، كما يهربون من الحيوان المفترس. انتهى . |
|
|
آفات الدين والتدين في نهج البلاغة
|
|
المقدمة قبل أن نبدأ بالبحث عن هذا الموضوع نتحدث عن: |
|
أوّلاً: مفهوم آفات
الدين والتديّن
|
|
الآفة لغةً هي: العاهة، أو عرض مفسد لما أصابه[القاموس المحيط: ج٣، ص١٧٧، ط١، دار إحياء التراث العربي، بيروت.]. الآفة اصطلاحاً هي: تلك الاُمور والمفاهيم التي من
شأنها أن تؤدّي إلى فساد الدين والانحراف عنه. وقد وردت هذه المفاهيم كراراً في كلام
الإمام عليّ(عليه السلام): •
«صن إيمانك من الشكّ، فإنّ الشكّ يفسد الإيمان كما يفسد الملح العسل»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣٠١.]. •
«آفة الدين سوء الظنّ»[
المصدر السابق: ص١٨٢.]. •
«سبب فساد الدين الهوى»[
المصدر السابق: ص٢٨١؛ مستدرك الوسائل: ج١٢، ص١٤٤.]. •
«غلبة الهوى تفسد الدين»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣٤٨.]. •
«طاعة الشهوة تفسد الدين»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٣١٨؛ مستدرك الوسائل: ج١١، ص٣٤٤.]. •
«لا يسلّم الدين مع الطمع»[
المصدر السابق: ص٥٣٩.]. •
«فساد الدين الطمع»[ المصدر السابق: ص٣٥٧.]. •
«كثرة الكذب تفسد الدين وتعظم الوزر»[ المصدر السابق: ص٣٨٩.]. •
«دع الحسد والكذب والحقد؛ فإنّهنّ ثلاثة تشين الدين وتهلك الرجل»[
المصدر السابق: ص٢٥٠.]. |
|
ثانياً: أهمّية التعرّف على آفات الدين والتديّن
|
|
الدين هو: أجمل تجلّيات الرحمة الإلهيّة
لهداية البشر. والتديّن هو:
الإقبال على هذه الرحمة والسير في طريق هديها.
|
|
وللدين معنيان:
|
|
الأوّل: بمعنى التشريع الصادر من الله
سبحانه وتعالى، وهذا لا يمكن أن تصل إليه الآفات. الثاني: بمعنى تطبيق هذه الشريعة وفهمها،
وهذا هو المقصود منه في هذا البحث، والذي تصل إليه الآفات؛ لأنّه من الشؤون
البشرية. لذا فإنّ الآفات والمضارّ في مبحث
آفات الدين والتديّن إنّما ترجع إلى نمط توجّه الناس نحو الدين، أو فهم الإنسان
واستيعابه للدين، أو نوع المعرفة الدينية، أو اُسلوب التديّن؛ وهذه كلّها شؤون
كانت على الدوام موضع اختلاف وعرضه للآفات والمضارّ. وقد وضّح ذلك الإمام عليّ(عليه السلام)
حينما بعث عبد الله بن عبّاس لمحاورة الخوارج قائلاً له: »لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن
حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً»[ نهج البلاغة: الكتاب ٧٧.]. كان للخوارج توجّهات سطحية للدين
وفهم جامد للقرآن، الأمر الذي سار بهم في طريق الخطأ، ووضعهم على جادّة الضياع،
إلاّ أنّهم كانوا يعتبرون تصوّراتهم القرآنية والدينية هذه عين الصواب. |
|
مجالين التديّن
|
|
يستوعب التديّن مجالين في الحياة: الأوّل: النظري، وهو الأفكار والمعارف
والمعتقدات الدينية والإيمان. الثاني: العملي، وهو الإقرار والأفعال
والسلوك الديني. أي إنّه يشمل الأفكار والمعارف
والمعتقدات الدينية والإيمان، كذلك الإقرار والأفعال والسلوك الديني. ورد في حِكم أمير البيان: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللّسان، وعمل
بالأركان»[
المصدر السابق: الحكمة ٢٢٧.]. وكلا المجالين النظري والعملي، عضة
للإصابة بالآفات والمضارّ المختلفة. وبعد أن استعرضنا هذه المقدّمة، نذكر آفات الدين والتديّن
في نهج البلاغة، وأودّ أن أقول بأن الآفات
والأضرار التي تهدّد الدين والتديّن في أقوال وكتب الإمام(عليه السلام)، بعضها داخلية أي من داخل الدين، وبعضها خارجية أي من خارج الدين، ولأجل ذلك سيتمّ التعرّف في هذا الدرس على قسمين: |
|
أوّلاً: الآفات
الداخلية للدين والتديّن
|
|
المراد من الآفات الداخلية: فهم الدين فهماً خاطئاً، كالإكراه
والإجبار، وعدم التدرّج والتمكّن من الهداية والتربية، وجرّ التديّن إلى
التكلّف. ومن جملة هذه
الآفات: |
|
١ ـ
الإكراه في الدين
|
|
الدين حقيقة معنوية وجوهر روحاني
يتعامل ويتعاطى مع روح الإنسان وفؤاده، وما لم يحصل التقبّل والإقبال القلبي
عليه سينسلخ السلوك الديني عن هويّته الحقيقية، ويبتعد عن ماهيّته الفطرية. المعتقد الديني والإيماني ليس شيئاً
يحصل بالإكراه والإجبار، والتهديد والتطميع، والشدّة والعنف؛ لأنّهما من سنخ
الحبّ والارتباط القلبي للإنسان بأجمل التجلّيات الرحمانية للحقّ تعالى؛ وإذا
انقلبت أجمل التجلّيات الرحمانية هذه بواسطة الإكراه والإجبار والتهديد والتطميع
والشدّة والعنف، فلن يبقى معنى للحبّ، ولا قبول من أعماق الوجود والتسليم
الحقيقي والاتّباع الانتخابي الواعي. ليس للإكراه والإجبار معنىً في
الاُمور المتعلّقة بقلب الإنسان وروحه؛ والدين أمر يتعلّق بقلب الإنسان وروحه،
والتديّن حصيلة نمط من العلاقة يقيمها الإنسان مع الحقيقة المتعالية للدين. ومن هنا، كان الإكراه والإجبار في
الدين ممّا يؤدّي إلى أضرار أساسية في الدين والتديّن. قال تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ »[
البقرة: ٢٥٦.]. الإيمان معرفة واعتقاد قلبي،
والتديّن نابع من مثل هذا الإيمان، ولا سبيل إلى الإكراه والإجبار فيما هو من
سنخ المعرفة والاعتقاد القلبي. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في حكمة متألّقة
حول ماهيّة الإيمان وتجلّياته حينما سألوه عنه: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار
باللّسان، وعمل بالأركان»[
نهج البلاغة: الحكمة ٢٢٧.]. إذا كان للإكراه والإجبار دور في
الاُمور ذات العلاقة بقلب الإنسان وروحه، فسيؤدّي ذلك إلى نفور الفؤاد وعماه،
وما يرشح عن القلب الأعمى فهو مصاب بشتّى الآفات والأمراض. وللإمام عليّ(عليه السلام) في هذا الشأن كلام واضح وصريح حينما
قال: «إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً،
فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا اُكره عَمِي»[
المصدر السابق: الحكمة ١٩٣.]. |
|
٢ ـ
سوء فهم الدين
|
|
إذا لم يُفهم الدين
بصورة صحيحة عميقة، فسيحصل لدى الإنسان فهم عليل وتصوّرات ناقصة ومريضة، ومثل
هذا الفهم لا يقود إلى مقاصد الدين، إنّما يدور حول نفسه. قال أمير
المؤمنين(عليه السلام): «المتعبّد على غير
فقه، كحمار الطاحونة، يدور ولا يبرح»[ الاختصاص للشيخ المفيد:
ص٢٤٥.]. التديّن الفارغ من
الفهم الصحيح للدين، مسرحية لأعمال دينية في ظاهرها، لكنّها خالية من روح الدين
وحقيقته، وبالطبع فهي خالية من محتوى الدين ولا نصيب لها من النتائج المترتّبة
عليه. وعلى حدّ تعبير الإمام عليّ(عليه السلام): «كم من صائمٍ ليس له
من صيامه إلاّ الجوع والظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلاّ السهر والعناء،
حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم»[ نهج البلاغة: الحكمة ١٤٥.]. إذا كان الانشداد إلى
الدين خالياً من الفهم الصحيح، فإنّه سيؤدّي إلى الإضرار بالدين والتديّن، ومثل
هذا التديّن معناه تنسّك جاف وتعبّد بلا روح وفهم معوج. حذّر الإمام عليّ(عليه السلام) من هكذا تعامل مع الدين
قائلاً: «ولا
تكونوا كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن اللَّه يعقلون، كقيض بيض
في أداحٍ يكون كسرها وزراً ويخرج حضانها شرّاً»[ المصدرالسابق: الخطبة
١٦٦.]. إنّ سوء فهم الدين
خطير وكارثي إلى درجة حذّر منه الإمام بهذه الصورة،
وشبّه عديمي الفهم العميق للدين بأنّهم وحالهم كبيضة
أفعى في عشّ طيور، كسرها ذنب؛ لأنّها قد تكون بيضة طائر، لكن ما يخرج
منها شرّ وضرر؛ لأنّها في الحقيقة بيضة أفعى. هكذا فهم
الإمام عليّ(عليه السلام) المتديّنين في
الظاهر، لكنّهم بسبب عدم فهمهم للدين يسيرون على جادة الجاهلية، أي أنّ معاقبتهم
والتصدّي لهم غير جائز؛ لأنّهم يظهرون الإسلام، ولكنّهم
لعدم فهمهم يتسبّبون في ألف شرًّ وفسادٍ، وقد عبّر(عليه السلام) عن هكذا تديّن وتنسّك بقوله: «ربّ
متنسّك ولا دين له»[ عيون الحكم والمواعظ: ص٢٦٥.]. |
|
٣ ـ
التكلّف في الدين والتديّن
|
|
ثانياً: الآفات
الخارجية للدين والتديّن
|
|
المقصود من الآفات
الخارجية هي: تلك الأعمال والتصرّفات المرتبطة بالعوامل الاجتماعية والسياسية
المؤثّرة على الواقع البشري، ومن تلك الآفات: |
|
١ ـ سلوك
العلماء وتأثيرهم على الدين والتديّن
|
|
إنّ سلوك الأفراد ـ الذين يُعرف عنهم
أنّهم رجال الدين ورموزه ـ له تأثير حاسم على الدين والتديّن لدى الناس، فإنّ
علماء الدين والمبلّغون والمربّون والمعلّمون، وكلّ من يراه الناس باعتباره من
الشخصيات الدينية بشكلٍ من الأشكال، يتوقّعون منهم تديّناً تامّاً كاملاً. بل إنّ الإنسان قبل أن يتأثّر بأقوال
الشخصيات الدينية وكلامهم وتبليغهم، يتأثّر بسلوكهم وأفعالهم وممارساتهم، لذا فإنّ سلوك الشخصيات الدينية ـ
ولاسيّما علماء الدين ـ على جانب كبير جدّاً من الأهمّية في تعزيز مكانة الدين أو تضعيفه أو
نشره أو تنفير الناس منه. |
|
أصناف
العلماء الذين يشكّلون خطراً على الدين وعلى سلوكيات المجتمع الإسلامي:
|
|
أ)
العلماء الذين لا يعملون بعلمهم
|
|
هؤلاء يشكّلون خطراً على الدين وعلى
سلوك المجتمع الإسلامي، وتوصية الإمام عليّ(عليه السلام)
في هذا الشأن مهمّة جدّاً: «مَن نصّب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه
قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها
أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم»[
نهج البلاغة: الحكمة ٧٣.]. إنّ صلاح المجتمعات وفسادها منوط بقوّة
سلوك الشخصيات الدينية. وفي المجتمعات التي تحكمها حكومة دينية يتحمّل علماء الدين
والفقهاء وكذلك المسؤولون والحكّام مسؤوليات أكبر من الجميع في هذا الميدان. روي عن الرسول الأكرم(ص) أنّه قال: «صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلحت اُمّتي، وإذا
فسدا فسدت اُمّتي. قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال: الفقهاء والاُمراء»[
الخصال للصدوق: ص٣٧، ح١٢.]. إذا لم يعمل علماء الدين بعلمهم، تضاعف خطر اهتزاز العقائد الدينية
والالتزام الديني لدى الناس، وحينما لا يعمل علماء الدين بعلمهم؛ فإنّهم في الواقع يعرّضون
الناس لمشكلات فكرية تتعلّق بالدين والتديّن، ومن ذلك أنّهم سيجرّون الناس إلى أسئلة من قبيل: ما الإشكال في ألاّ يعمل
علماء الدين بما يعلمون وما يدعون الآخرين إليه؟
ألا يجب على الدين بالدرجة الاُولى أن يؤدّبهم بآدابه ويجعلهم من أهل العمل
والالتزام بتلك الآداب؟ أليسوا يعلمون اُموراً هي التي تدفعهم إلى مثل هذا
السلوك والأعمال؟ لا يمكن للناس أن يفصلوا بسهولة بين
الدين والتديّن من ناحية، وبين العلماء غير العاملين، وهذا ما يعرّض معتقدات
الناس الدينية لأمواج التشكيك والغموض، وفي حال عدم توفّر ملاكات الدين والعُروة الوثقى، فإنّ تهرّب الناس
من الدين والتديّن سيكون ظاهرة طبيعية. قال الإمام الصادق(عليه السلام): في
توصية سامية: «إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم؛ فإنّ كلّ
محبّ لشيء يحوط ما أحبّ». وقال(عليه السلام): «أوحى الله إلى داوود(عليه السلام): لا تجعل
بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي، فإنّ أولئك قطّاع
طريق عبادي المريدين»[
الكافي: ج١، ص٤٦، ح٤.]. |
|
ب)
العلماء المنتهكون للقيم الدينية
|
|
إنّ سلوك وممارسات الشخصيات الدينية
لا تُفهم بطابعها الشخصي والفردي، وصلاحهم وفسادهم ينتقلان إلى المجتمع بحسب
مراتبهم ودوائر نفوذهم وعملهم. بالنظر للمكانة الخطيرة للشخصيات
الدينية في المجتمع وتوقّعات الناس منهم، فإنّ علماء الدين إذا أساؤوا العمل وتصرّفوا بخلاف ما يدعون إليه،
فستلحق الدين والتديّن أشدّ المضارّ والآفات. إذا انتهكت القيم والسلوكيات الدينية
من قبل الذين لا يتوقّع هذا منهم على الإطلاق، فإنّ العقيدة الدينية لدى الناس
ستتزعزع، وتتقوّض ميولهم نحو الدين والتديّن. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في حكمة نيّرة لجابر بن عبد الله
الأنصاري(رضوان الله عليه)[ جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أجلاّء صحابة الرسول، بايع بيعة
العقبة الثانية، وكان من أوّل المسلّمين في المدينة، شارك في بدر واُحد، وروي
عنه أنّه كان مع رسول الله في (١٧) غزوة، أو في (١٨) غزوة على بعض الروايات.
وكان من أصحاب الإمام علي(عليه السلام) في صفّين، كفّ بصره في أواخر عمره،
وتوفيّ سنة (٧٤ه) أو (٧٧ه) عن عمر يناهز (٩٤) عاماً. (انظر: أعلام نهج البلاغة، محمّد هادي
أميني: ص١٥).]: «يا جابر، قوام الدين والدنيا
بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم، وجواد لا يبخل بمعروفه،
وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم،
وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه»[
نهج البلاغة: الحكمة ٣٧٢]. فعلى هذا، يجب أن تتوفّر للدين
والتديّن معايير جلية مُحكمة، ولا تخلط أوراق قطّاع طرق الدين بأوراق الدين، إنّما ينبغي الفصل بكلّ صراحة بين
طريق الإسلام النبويّ والعلويّ، وطريق إسلام السلطويّين والمفسدين؛ حتّى لا تتلوّث
ساحة الدين ولا يتشوّه وجهه. قال الإمام عليّ(عليه السلام): «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له،
والناهين عن المنكر العاملين به»[
المصدر السابق: الخطبة ١٢٩.]. |
|
ج)
العلماء المتظاهرون بالعلم
|
|
وهؤلاء يشكّلون خطراً كبيراً على
الدين وعلى المجتمع الإسلامي. وقد تحدّث الإمام عليّ(عليه السلام) عن المتظاهرين بالعلم، وأنّهم أشخاص يسمّون أنفسهم علماء أو
يسمّيهم البعض علماء، لكنّهم لا نصيب لهم من العلم الحقيقي، إنّما هم خزّان الجهل والضلالة والعوج،
أولئك اُمّة خطيرة على الدين والتديّن. إنّ سلوكيات المتظاهرين بالعلم تزعزع
المعتقدات الدينية للناس، وتفسد تديّنهم، وتهدم قيمهم الإنسانية. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في وصف
هؤلاء قطّاع طرق الدين: «وآخرُ قد تسمّى عالماً وليس به،
فاقتبس جهائلَ من جُهّال وأضاليلَ من ضُلاّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور
وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه، يؤمِّن الناس من
العظائم ويهوِّن كبير الجرائم، يقول: أقِفُ عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل
البدع وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى
فيتّبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه، وذلك ميّت الأحياء»[ نهج البلاغة: الخطبة ٨٧.]. المتظاهرون بالعلم هم ناشرو ثقافة
الخداع والكذب، ومهدّمو اُسس الأخلاق في المجتمع، يطرحون كتاب الله والدين
والحقّ والحقيقة بما يحقّق مقاصدهم النفسية وميولهم الشيطانية، وكما قال الإمام علي(عليه السلام): «نصب للناس أشراكاً من حبائل غرور
وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه». ما يطابق إرادتهم وأهواءهم هو الحقّ،
وما يعارض ميولهم ورغباتهم باطل، هؤلاء هم أئمّة أنفسهم، بل يظنّون أنّهم محور
كلّ شيء، وكما عبر عنهم
الإمام عليّ(عليه السلام): «لا يقتصّون أثر نبيّ، ولا يقتدون بعمل وصيّ، ولا
يؤمنون بغيب، ولا يَعفُون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات،
المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى
أنفسهم، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم، كأنّ كلّ امرئٍ منهم إمامُ نفسه، قد
أخذ منها فيما يرى بعرىً ثقاتٍ وأسبابٍ محكماتٍ»[ المصدر السابق: الخطبة
٨٨.]. أدعياء العلم يؤمّنون الناس ممّا يستتبع العذاب
الأليم، ويهوّنون الذنوب العظام، ويسوِّغون أقبح القبائح، ويصغّرون أكبر
الجرائم: كما قال الإمام(عليه السلام): «يؤمِّن
الناس من العظائم ويهوِّن كبير الجرائم»[
المصدر السابق: الخطبة ٨٧.]، وهكذا فهو يهدم القيم الأخلاقية
والإنسانية، ويضرب الحرمات الدينية والشرعية عرض الجدار؛ لأنّ مصالحه ومقاصده لا
تتحقّق إلاّ عن هذا الطريق. |
|
٢ ـ
العنف المنسوب إلى الدين
|
|
الدين تجلّي رحمانية الله تعالى بحقّ
خلقه، فهو غير منسجم في أساسه ومبانيه مع العنف، ولا يوصي بالعنف، وما نطالعه
فيه من عقوبات وتطبيق للأحكام وإقامة للحدود إنّما هو تشدّد لحفظ القوانين،
والحدود ليس عنفاً وممارسات قبيحة وعنتاً وهتكاً لحرمات الناس. وليس في تطبيق
الحدود والقوانين من غاية سوى العطف والشفقة والرحمة على المجرم وعلى المجتمع
الإنساني. إنّ تطبيق الحدود والقوانين وبطريقة
دقيقة وشديدة، ممارسة يُراد منها: • صيانة الحرمات وحماية حقوق البشر. • الحيلولة دون تعدّي المعتدين. • صدّ الخونة والمجرمين عن الخيانة
والجريمة. وهذه اُمور عُقلائية ضرورية، بل هي أكثر
الممارسات إنسانية لحفظ سلامة الفرد والمجتمع. وهذا ما يشير إليه الإمام
عليّ(عليه السلام) في قوله: «فرض الله... إقامة الحدود إعظاماً للمحارم»[
نهج البلاغة: الحكمة ٢٥٢.]. الإمام عليّ(عليه السلام) نفسه كان يعظّم الحدود والقوانين
الدينية ويحترمها، إلى درجة لا يسمح معها لأيٍّ كان بأن يتجاوزها ويهملها حتّى
بمقدار شعرة؛ لأنّ في ذلك انتهاكاً لحرمات الناس وحقوقهم، وإضراراً بسلامة الفرد
والمجتمع. وقال في هذا الصدد: «والله لئن أبيت على حسك السعدان
مسهّداً، أو أجرّ في الأغلال مُصَفّداً، أحبّ إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم
القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفسٍ
يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها...». إلى أن قال: «والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما
تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته»[
نهج البلاغة: الخطبة ٢٢٤.]. هكذا يتكلّم أمير المؤمنين عليّ(عليه
السلام)ـ وهو مظهر رحمانية
الباري(عزّ وجلّ) ـ عن صيانة الحدود والقوانين بخصوص نفسه، ويبدي هذه الدرجة
الرفيعة من الالتزام بالقوانين والحدود. إنّ الإصرار على حفظ الحدود ورعاية
القانون والالتزام به، والنظر إلى الجميع على أنّهم متساوون قباله، وتطبيق
الحدود والقوانين بدقّة وشدّة، هو عين الرحمة والعطف على الجميع، وهذا لا يُسمّى عنفاً، فهل معاقبة المجرم والقاتل والمعتدي على حريم الآخرين وحقوقهم
عنف؟ ما يكتنفه الدين من عقوبات هو تطبيق للقوانين الإلزامية التي تسنّ بكثير من
الشروط والاعتبارات، فهي بمثابة الرحمة والشفقة والإخلاص الذي يدفع الطبيب الحاذق لإجراء
عملية جراحية للمريض. أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) أسمى ربيب في مدرسة الرسول
الأعظم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يحبّ جميع الناس ويطلب السعادة لهم جميعاً، لكنّه في الوقت نفسه لا يتنازل قيد ذرّة في تطبيق القانون
على المعتدين على حقوق الناس والخونة والمجرمين. فهو مثلاً قال في بداية عهده لمالك الأشتر: «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف
بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في
الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم
في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من
عفوه وصفحه»[ نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. واضح كم يوصّي الإمام(عليه السلام)
بالرحمة والمحبّة واللطف، ويحذّر من العنف والشدّة مع الناس، ويعتبر الأصالة
للسماحة والعفو، ولكن حينما ينتهك أحد القوانين ويتعدّى الحدود والحقوق فقد كان الإمام يتعامل معه بقوّة وشدّة، ويؤكّد على تطبيق القوانين رحمةً
بالآخرين، ولا يتردّد في معاقبة المعتدين على حرمات الناس وحقوقهم ومنتهكي حدود
الله وأحكامه. فقد كتب مثلاً رسالة لزياد بن أبيه نائب عبد الله بن عبّاس على
البصرة، قال فيها: «وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك
خنت مِن فيء المسلّمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدنّ عليك شدّةً تدعك قليل
الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر. والسلام»[ نهج
البلاغة: الكتاب ٢٠.]. إذا مورس العنف باسم الدين وتحت لواء التديّن، تغيّر وجه الدين عن حقيقته، وهذا تضعيف للدين والتديّن، وإضرار
حقيقي للإقبال على الدين، وإفساد للسلوك الديني. إنّ العنف والغلظة من قبل مسؤولي الدين
يغلق أبواب الهداية المفتّحة، ويخيف الناس من كلّ شيء يرتبط باسم الدين، ويجعلهم
يهربون من الدين والاُمور الدينية. قال الله في آية يخاطب بها رسول الرحمة الخاتم(صلّى الله عليه وآله
وسلّم): «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ»[
آل عمران: ١٥٩.]. لا يمكن كسب القلوب بالشدّة والحدّة، ولا يمكن مدّ الجسور بينها وبين محبّة الله
تعالى عن طريق العنف والإكراه، هذه حقيقة يذكّر بها الله تعالى بكلّ صراحة. الخُلق العظيم للرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي اجتذب القلوب وألّف بينها
واستقطب الأرواح الهاربة، ولولا ذلك لما بقيت للإسلام ولا للمسلّمين من باقية. كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ(عليه
السلام) بقوله: «مَن خشنت، عريكته أقفرت حاشيته»[
موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنّة والتاريخ: ج١٠، ص٢٢٧، ح٥٥٤٨.]. العنف والشدّة والغلظة والحدّة في
نظر الإمام عليّ(عليه السلام) من أقبح الاُمور وأسوأ الخصال، وقد جاء في بيانٍ له(عليه السلام): •
«الخُرقُ شرّ خُلُقٍ»[ عيون الحكم والمواعظ:
ص٥١.]. •
«أقبح شيءٍٍ الخُرق»[ المصدر السابق: ص١١٣.]. •
«أسوأ شيء الخُرق»[ مستدرك الوسائل: ج١٢،
ص٧٣.]. •
«لا خُلق أشين من الخُرق»[
غرر الحكم: ح١٠٣٦٠.]. إنّ العنف والغلظة في رأي الإمام
عليّ(عليه السلام) قبيح ومفسد، إلى درجه أنّه إذا ارتبط بأيّ شيء جعل ذلك الشيء
قبيحاً ومنفِّراً ومنبوذاً، وقد قال(عليه السلام): «ما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، ما كان الخُرق
في شيء إلاّ شانه»[
عيون الحكم والمواعظ: ص٤٨١.]. وعليه، إذا فُرض العنف على الدين
والتديّن فسيعيبهما، ويمسخ جمال الدين ولطفه وهدايته قبحاً وتشويهاً وضلالاً،
وسيفضي بالتالي إلى نتائج وخيمة جدّاً. في حديث وتوصية نيّرة قالها الإمام الصادق(عليه السلام) لعمّار بن أبي الأحوص، يُفصل
بين الإسلام العلويّ، وبين الإسلام الأمويّ: «فلا تخرقوا بهم، أما علمت
أنّ إمارة بني اُميّة كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمارتنا بالرفق والتآلف
والوقار والتقيّة وحسن الخلطة والورع والاجتهاد؟ فرغِّبوا الناس في دينكم وفيما
أنتم فيه»[ الخصال: ص٣٥٤، ح٣٥؛
وسائل الشيعة: ج١٦، ص١٦٥، ح٢١٢٤٨.]. العنف باسم الدين ومن قبل المنسوبين
إلى الدين، له تبعات هدّامة على المعتقدات الدينية وأخلاق الناس وسلوكهم
ومعنوياتهم. ذكر الإمام عليّ(عليه السلام) عهداً
أعقب حياة الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)
تميّز بمثل هذه السمات، فقد ظهرت فيه سلوكيات عنيفة في المجالات السياسية
والحكومية من قبل رؤساء المجتمع والمنتسبين إلى الدين، فقد كان كلامهم غليظاً
حادّاً فيه كثير من التهديد والإرهاب، وتعاملهم عنيفاً وشديداً، وهذا ما ترك
تأثيرات سلبية عديدة على معتقدات الناس ومعنوياتهم وسلوكهم، حيث قال(عليه السلام): «فصيّرها
في حوزةٍ خشناء، يغلظ كَلمُها ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها،
فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنَقَ لها خَرَمَ، وإن أسلس لها تقحّم، فمُني الناس ـ
لعمر الله بخَبطٍ[الخبط:
هو السير على غير جادة ومحجّة. ] وشِماسٍ[الشماس: النفار] وتلوّن[التلوّن: هو التلفّت والتبدّل.]واعتراض[الاعتراض: فهو ها هنا أيضاً ضربان: التلوّن، والتغيّر وترك لزوم
القصد والجادة]»[ نهج البلاغة: الخطبة ٣.]. يُلخّص الإمام تبعات السياسة العنيفة
لتلك الحقبة بأربعة اُمور، هي: الخبط، الشماس، التلوّن، والاعتراض. وهذه تعابير تدلّ على أنّ الناس
اُصيبوا بالانحراف والخروج عن الطريق المستقيم والتلوّن والرياء والبعد التامّ
عن الحقّ. ويدلّ كلام أمير البيان عليّ(عليه
السلام) عن أنّ العنف
يجرّ الناس إلى أنواع الانحرافات والتمرّد، ويحضّهم على الرياء والتلوّن
والنفاق، وهي من أخطر الأمراض الروحية التي تصيب الإنسان، ويزيل السلامة عن سلوك
الناس والاعتدال عن أفعالهم، ويدفعهم إلى الانحراف يميناً ويساراً، وانتهاج طرق
الإفراط والتفريط. الغلظة منفِّرة بطبيعتها، وإذا مورست
ضدّ الناس باسم الدين فسينفر بعض الناس من الدين بعد أن تتشوّه صورته في
أنظارهم. قال الإمام عليّ(عليه السلام) في رسالة إلى زياد بن أبيه حينما ولاّه على فارس خلفاً لعبد الله بن عبّاس: «استعمل العدل واحذر العسف والحيف؛ فإنّ العسف
يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف»[
نهج البلاغة: الحكمة ٤٧٦.]. ذكر الإمام هنا أنّ العنف والتعسّف يهرِّب الناس من
ديارهم وبيوتهم، كما أنّ العسف والعنف باسم الدين يشرّد الناس من ديارهم وبيوتهم
الحقيقية وأوطانهم الأصلية، أي الدين والتديّن. وما ترتّب على عنف الكنيسة في القرون الوسطى من تبعات وآثار نموذج بارز
لهذه الحقيقة. |
|
كتب الشهيد مرتضى
المطهري(رحمه الله) عن هذه القضية في كتابه الدوافع نحو المادّية:
|
|
«كان
للكنيسة مضافاً إلى معتقداتها الدينية الخاصّة، جملة من الاُصول العلمية
المتعلّقة بالعلم والإنسان، تضرب بجذورها غالباً في الفلسفات اليونانية وغير اليونانية،
وقد وجدت طريقها تدريجياً إلى أذهان كبار علماء الدين المسيحي، فاُلحقت باُصول
العقيدة المسيحية، حتّى أضحت معارضة هذه العلوم الرسمية مخالفة وجريمة يجب
التصدّي لها وللمنادين بها بكلّ شدّة. إنّنا هنا لا نروم مناقشة الحرّية الدينية
وحقّ الإنسان في اختيار عقيدته الدينية بشكلٍ حرّ، وأنّ اُصول العقيدة الدينية
يجب أن تُبحث وتُمحّص بنحوٍ حرّ، وإلاّ كان الإكراه على الضدّ من روح الدين
الّذي يقصد هداية الناس وإسعادهم. أن تكون اُصول الدين تحقيقية وليست تقليدية أو
إجبارية، فكرة ينحاز إليها الإسلام ويعاضدها، خلافاً للمسيحية التي اعتبرت اُصول
الدين منطقة محظورة على العقل. |
|
الكنيسة في خطئها
الأكبر من ناحيتين اُخريين:
|
|
وقد وقعت
الكنيسة في خطئها الأكبر من ناحيتين اُخريين: الاُولى: هي أنّ الكنيسة اعتبرت بعض
المعتقدات العلمية البشرية الموروثة عن فلاسفة أسلاف وعلماء كلام مسيحيّين في
عداد اُصول الدين المسيحي، ورأت أنّ معارضتها تعني الارتداد عن الدين. والثانية: هي أنّها لم تكتف بظهور الارتداد
على هذا الشخص أو ذاك، بحيث تُقصي كلّ من يثبت ويظهر ارتداده عن المجتمع
المسيحي، إنّما راحت تفتّش وتنقّب بطريقة بوليسية عنيفة عن ما في ضمائر الناس
وقراراتهم من عقائد. وأخذت تحاول بلطائف الحيل العثور على أبسط دليل أو علامة
على معارضة الفرد أو الجماعة لعقيدة دينية، حتّى تبادر إلى إيذائه بكلّ عنف
وشدّة. لذلك لم يكن العلماء والباحثون
ليتجرّؤوا على التفكير بما يعارض ما تعتبره الكنيسة علماً، أي إنّهم كانوا مرغمين على التفكير
كما تفكّر الكنيسة. هذه
الضغوط الشديدة على الأفكار التي شاعت منذ القرن الثاني عشر حتّى التاسع عشر في
بلدان فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا والبرتغال وبولندا وأسبانيا، تركت بطبيعة الحال ردود أفعال جدّ سيّئة حيال الدين»[ الدوافع نحو المادّية للشهيد مرتضى
مطهري: ص٨٥ ـ ٨٦، ط٨، دار حكمت، سنة ١٩٧٨م.]. وبعد أن ذكر الشهيد المطهري جانباً من جرائم محاكم التفتيش
وممارسات التعذيب والعنف والقتل التي انتهجتها هذه المحاكم باسم الدين، يكتب قائلاً: «الدين الذي يجب أن يكون دليل
الهداية ورسول المحبّة، بدأ في الغرب على الصورة التي رأيناها. كان تصوّر الجميع
عن الدين هو العنف والقمع والاستبداد، ومن البديهي ألاّ يكون ردّ فعل الناس قبال
هذا الاُسلوب سوى رفض الدين من الأساس ورفض الركيزة الرئيسية للدين، أي وجود
الله. رجال
الدين ـ الذين يعدّون بالتالي ممثلي الدين ـ إذا ارتدوا جلود النمور وكشّروا عن
أنياب الذئاب واستخدموا التكفير والتفسيق خصوصاً لأجل
أغراضهم الخاصّة، فإنّ الدين سيتلقّى أعنف الضربات لصالح النزعة
المادّية»[ الدوافع نحو المادّية: ص٩٢.]. لا مراء أنّه متى ما استُخدم العنف
باسم الدين وارتُكبت الجرائم لأجله، فإنّ خطر التملّص من الدين سيكون أكثر
مداهمة وحدّة. |
|
٣ ـ
السلوك الاستبدادي من قبل المسؤولين الدينيّين
|
|
السلوك الاستبدادي يتناقض بكلّ تأكيد
مع الدين والتديّن، وإذا ما انجرف المسؤولون الدينيون لأيّ سببٍ من الأسباب
ومهما كانت التبريرات إلى السلوك الاستبدادي، فستكون النتيجة ضعضعةً لأركان
الدين وإهداراً لماء وجهه، وتنفيراً للناس عنه. وللإمام عليّ(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر أمر عظيم القدر
والقيمة قال فيه: «ولا تقولنّ إنّي مُؤمَّرٌ، آمُرُ فاُطاع؛ فإنّ
ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرّب من الغير»[
نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. يعتبر الإمام عليّ(عليه السلام) استبداد الرؤساء باسم الدين تطرّقاً
للفساد إلى القلوب، وتخريباً للدين، واقتراباً لتغيّر الأحوال والأوضاع، وخراب
الدين في هذه الغمرة ليس بالشيء الذي يمكن تعويضه بسهولة وتلافي تبعاته بيسر. لذا يتوجّب على المنسوبين للدين
والمتولّين لزمام الاُمور تحاشي الاستبداد والدكتاتورية بكلّ دقّة؛ لأنّ النتيجة لن تكون سوى الهلاك، وقد قال الإمام عليّ(عليه السلام) بكلّ صراحة: «من استبدّ برأيه هلك»[
المصدر السابق: الحكمة ١٦١.]. وبالطبع فإنّ الاستبداد من قبل المسؤولين لا يهلكهم لوحدهم، إنّما يوجّه ضربات مهلكة للدين
والتديّن أيضاً، ذلك أنّ الاستبداد يجرّ الإنسان إلى التمرّد والتعدّي والحدّة
والتشدّد، لهذا فإنّ تبعاته المخرّبة ليست لها حدود. يطلق الإمام عليّ(عليه السلام) في
عهده لمالك الأشتر هذا التحذير قائلاً: «وإذا أحدثَ لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهةً أو
مخيلةً، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك،
فإنّ ذلك يطامِنُ إليك من طِماحِك، ويكفّ عنك من غَربِك ويفيء إليك بما عزب عنك
من عقلك»[
نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.]. المستبدّ من منظار الإمام عليّ(عليه
السلام) يفتقر للعقل
النيّر المميِّز، فتسلّطه على الناس وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم يدفعه إلى
الطغيان والحدّة والشدّة وانتهاك الحرمات والضراوة، وإذا تلبّس مثل هذا المستبدّ
بقناع الدين ومارس استبداده باسم الدين، فمن الواضح كم سيساعد على تهرّب الناس
من الدين ونفورهم من التديّن، وهذا أفظع ظلم للدين والتديّن. يحذّر الإمام عليّ(عليه السلام) مالك الأشتر في عهده إليه من
الاستبداد دوماً؛ لأنّه يدير الاُمور كحاكم إسلامي ومسؤول ديني، وكلّ سلوكياته
وأفعاله ستُحسب على الدين. ومن جملة تحذيرات الإمام وتوصياته: «ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم»[
المصدر السابق: الكتاب ٥٣.]. إنّ الاستبداد والدكتاتورية نزعة
ضارية ووحشية، ومثل هذه الممارسات إذا مورست باسم الدين وصدرت عن الشخصيات
الدينية، سيهرب الناس من الدين، كما يهربون من الحيوان المفترس. انتهى . |
|